الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: السلم بين البلاد العربية قبل السلم مع إسرائيل
إسرائيل بقوتها الحالية تستطيع مواجهة القوة العسكرية العربية بل تملك في نواح كثيرة تفوقاً بعيداً، والقول بأن أي دولة عربية تستطيع منفردة مجابهة إسرائيل والتصدي لها قول بعيد عن الصواب، ولذلك فالوحدة الإسلامية شرط أساسي لأي نصر حازم مع اليهود سواء في حرب شاملة أو حرب محدودة والحرب الرابعة مع اليهود التي لم تكن على الأقل هزيمة للدول العربية التي اشتركت: مصر وسوريا والعراق والمغرب والقوات الفلسطينية والكويتية، هذا إلى جانب الشعور العام الذي غمر العالم الإسلامي بفرحة الوحدة وفرحة المجابهة مع العدو الأبدي لهذه الأمة، ولهذا الشعور أثره في شد عزائم جنودنا وتثبيط عزائم العدو..
ويستحيل مستقبلاً أقدام أي دولة عربية منفردة على مجابهة اليهود لأسباب كثيرة لا تغيب عن الصبيان فضلاً عن أهل الرأي والمشورة. ولذلك فإن اليهود وأعوانهم يرمون بكل ثقلهم لتوهين الرابطة الأخوية والدينية والتاريخية
والمصيرية التي تربط بين كل دولة عربية وأختها. وذلك لأن أعظم خطر من الممكن أن تواجهه الصهيونية وإسرائيل هو أن يصبح المسلمون في هذه الأرض قوة واحدة وأن يكون بينهم تعاون أو حتى مجرد تنسيق في قضاياهم الأمنية أو الاقتصادية أو حتى السياسية الشكلية، ولذلك فالباحثون عن الفرقة في أوطاننا إنما يخدمون أمن إسرائيل وسلامها وبقاءها في هذه الأرض المغتصبة فإن كانوا جاهلين بذلك فهي مصيبة وإن كانوا عالمين فالمصيبة أدهى وأعظم.
ولقد صحت الدول العربية الإسلامية بعد انفراط عقد الخلافة العثمانية (الشكلية) التي كانت تجمع بينها، صحت على تمزيق أوطانها على هذا النحو في هذه الخريطة السياسية الملونة بعشرين لوناً إلى الوقت الحاضر، والتي من الممكن أن تستقبل ألواناً كثيرة أخرى في كل هزة وطنية كما حدث في لبنان.
هذا الواقع السيء الذي استيقظت هذه الأمة عليه هو أفضل واقع يبشر إسرائيل بالخير والأمن والاستقرار، وبالرغم من أنه قد ظهر في المحيط السياسي والاجتماعي دعوات وصرخات وأحزاب كثيرة تنادي بالوحدة السياسية على أساس العروبة أحياناً والدين أحياناً أخرى ودعوات أخرى على المستوى العسكري فقط وعلى المستوى الاقتصادي فقط، إلا أن كل هذه الدعوات قد جوبهت بما يجعلها مجرد حبر على ورق أو أمان فارغة تجد من المثبطات والعراقيل أضعاف ما تجد من المروجات والتسهيلات، فالدول العربية الإسلامية ما زالت إلى اليوم فاشلة فشلاً ذريعاً أمام وحدة اقتصادية حقيقية أو وحدة عسكرية حقيقية أو حتى تنسيق سياسي موحد يظهر المسلمين جميعاً برأي واحد في المحافل الدولية وأمام الرأي العام العالمي، ولا تتعدى العلاقات السياسية
والاقتصادية بين الدول العربية شبيهتها من العلاقات مع الدول الأجنبية إلا في قضايا شكلية (بروتوكولية) لا تسمن ولا تغني..
والادهى من ذلك كله أن الفكر الإقليمي العنصري قد بدأ يأخذ مجرى آخر في تعميق الخلافات وإظهار الفروق وتنافر المصالح بين الدول العربية، وهذا الفكر الإقليمي السيء قد كان فكراً نشازاً قبل أعوام فقط، ولكنه الآن فكر بدأ يأخذ طابع الرسمية والرضى العام ويطالعنا كل يوم على صفحات الجرائد والمجلات فقد ظهر الآن من يقول بأن مصالح مصر تتعارض مع مصالح العرب، ومن يقول مصالح الكويت الغنية تتعارض مع مصالح الفقراء من العرب ومن يطالب صراحة لا تلميحاً بانصراف كل أقاليم من هذه الأقاليم الإسلامية العربية إلى معالجة مشاكله بعيداً عن المشاكل العامة التي تهدد الجميع، وهذه الإقليمية من أكبر عوامل الخطر المستقبلي على هذه الأمة ابتدأت تنزلق من أقلام الكتاب (العميان أو العملاء) إلى قلوب الجهلة والغوغاء ويوشك إن ظل الحبل على الغارب أن يتحول هذا الفساد إلى رأي عام تضيع في وسطه، الآراء القليلة الصائبة التي لم تعمها بعد عصبية الإقليم عن الخطر الواحد الذي يهددنا جميعاً.
وليس هناك من خطر أكبر من إسرائيل يهدد الأمة وإذا لم نفلح أمام هذا الخطر في أن نوحد صفوفنا فليس هناك أمل قط في أن نجتمع على كلمة واحدة إزاء أي خطر مستقبلي.
ومنذ تصدع الخلافة العثمانية -ولسنا بصدد بيان إيجابياتها وسلبياتها على الأوطان العربية- والعرب يعيشون على أمل الوحدة والاتحاد، وكل التجارب الوحدوية التي مورست عبر نصف القرن الماضي لم تحقق أهدافها وذلك أما
لأنها أهملت العامل الأول التي ألف الأمة العربية قديماً وهو الإسلام، أو لأنها نقلت جرثومة (الاشتراكية العلمية) وهي دعوة أممية تتناقض مع القوميات ولذلك كان الداعون إليها إلى جانب القومية العربية متناقضون، وأما لأنها وقعت بيد الانتهازيين الشعوبيين الذين لا يدينون أصلاً بالولاء للعروبة وإنما اتخذوها مطية لمآربهم في الانفصال والسيادة.
وبالرغم من هذا أيضاً فقد جوبهت هذه الدعوات للوحدة بتحزب الغرب والشرق ضدها وذلك لأنه من أكبر الخطر على كلا المعسكرين قيام دولة منافسة أو على الأقل قوية تكتفي بنفسها في هذا الجزء المهم من العالم.
وما دمنا بصدد التنبيه والتحذير من حرب خامسة مع اليهود، فإننا نقول إن الأمر الثاني في هذا الاستعداد لهذه الحرب هو تحقيق نوع من الوحدة إزاء هذا الخطر، ولا شك أننا نيأس سريعاً إذا علقنا النصر في الحرب الآتية مع اليهود على الوحدة وذلك لتصورنا أن الوحدة الآن أمر متعذر أو مستحيل وذلك بالنظر إلى تجاربنا المريرة السابقة، ولكن إذا أصبحت هذه الوحدة هدفاً دينياً وقومياً وهاجساً وجدانياً عند كل من يحمل ضميراً في هذه الأمة وارتقى شعورنا من الإحساس الإقليمي العنصري إلى الإحساس الديني الوحدوي، فلن يكون هذا بعيداً أبداً، بل إن هذا لا يحتاج فقط إلا إلى صدق القادة وإيمانهم عندما يطلقون صراخ الوحدة لمجابهة العدو المشترك، فهذه الصيحة الصادقة وحدها كافية لإزالة كل هذه التناقضات والعراقيل التي تمنعنا من أن نجابه عدونا صفاً واحداً.
وإذا كان لنا أن نطالب بمطلب دون هذا فإننا نطالب الذين (يفلسفون) ثمار الصلح والسلام مع اليهود في أن يستخدمون بلاغتهم الجهنمية في بيان ثمار الصلح والسلام
بين البلاد العربية وذلك حتى يجتمع رأس المال العربي مع الخبرة العربية وتلتقي الوفرة الاقتصادية مع الوفرة البشرية وبذلك يكون هناك بركات حقيقية تعود علينا بالخير..
على الذين ينادون بالصلح مع إسرائيل أن يستخدموا بلاغتهم في إرساء قواعد الصلح بين البلاد العربية حتى لا يطرد عربي من مكان في بلاد العرب إلى مكان آخر، لأن حكومتين قطعت العلاقات وطردت الرعايا.. بل علينا أيضاً أن ننهي حالة الحرب بين البلاد العربية بعضها البعض قبل أن نفكر، -ولا يجوز بتاتاً أن نفكر- في إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل علماً بأن التفسير الإسرائيلي لإنهاء حالة الحرب هو الكف عن السباب والشتائم والاتهام والتحريض، فهل نطمع أولاً في إرساء قواعد السلم بين البلاد العربية قبل أن يتحول هذا (الخبث) الإعلامي إلى شعور عام بالكراهية والنفور وبذلك نعمق الإقليمية والانفصالية ولا تخدم بهذا إلا الشعوبية واليهودية..