الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحو رحلة جديدة للبحث عن الذات
* لم يتخل الله بعد عن هذا العالم، ولن يتركه سدى أو عبثاً في أي يوم آت، فأمور العباد كلها بيده "يخفض القسط ويرفعه، يرفع له عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار"، ويقول عن نفسه جل وعلا:{كل يوم هو في شأن} ، ويقول صلى الله عليه وسلم في معنى الآية:[من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع أقواماً ويضع آخرين] ، وهذه الرؤيا الإيمانية لفعل الله في الكون والناس جزء من العقيدة وجزء من تفسير سنن الله في الكون والذين يفسرون أحداث الكون وتقلب الزمان دون نظر واعتبار إلى سنن الله فيه يضلون ويعمهون.
* والأمة الإسلامية التي انطلقت شرارتها من هذه الجزيرة المقدسة (أرض العرب) فبشرت بالإسلام ديناً وبالحق والعدل ميزاناً للحكم بين الناس، ورفعت الظلم عن المظلومين، وأزالت غشاوات الجاهلية عن أعين الشعوب المضللة المظلومة، وصهرت من انضوى تحت لوائها بأخوة عجيبة لم تفرق فيها بين الناس لأجناسهم وأوطانهم، هذه الأمة لا يمكن أن نفهم تاريخها على وجهه الصحيح دون نظر إلى الجانب الإلهي من تاريخها، فالجوانب المادية وحدها لا تفسر بتاتاً انتصار هذه الأمة على قوى الظلم
الغاشمة في العالم والتي قوضتها في مدة يسيرة من الزمان، ولا يمكن أن نفهم أيضاً بقاء هذه الأمة إلى الوقت الحاضر وحفظ دينها وكتابها دون نظر وفهم إلى دفاع الله عنها وحفظه لها بالمقدار الذي يحفظ المؤمنين من هذه الأمة دينهم وعقيدتهم، باختصار كان الله مع هذه الأمة يوم كانت معه، وتخلى الله عنها يوم تخلت عنه.
* والهزائم العسكرية والسياسية ليست شراً كلها، بل قد تكون الهزيمة فرصة نادرة لتعديل المسار، والبحث عن الأخطاء والرجوع عن الغرور، وتنقية الصفوف، والمسلمون حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن أيامهم عسلاً كلها أعني نصراً على الأعداء وظهوراً في كل معركة، بل كانت أيامهم دولاً.. يدالون مرة، ويدال عليهم أخرى، فقد انتصروا في بدر فكان هذا براعة استهلال وحسن طالع لأمة ناشئة، وهزموا في أحد فكان هذا تمحيصاً وتربية وتنقية للصفوف، ومعرفة حقيقية بأهداف الجهاد وأنه لله وليس للدنيا، وضاقت بهم الأرض في الخندق وزلزلوا زلزالاً شديداً حتى جهر المنافقون بعداوتهم للرسول وأسمعوه ما يكره وقالوا:{ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} ثم كان النصر الذي لم يبذل له المسلمون صغيرة ولا كبيرة: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال} ثم كان الفتح ويومها توج النصر ثم كانت حنين لكسر الغرور والتعريف بالله.
وهكذا في كل تاريخ الأمة كانت أيامها دولاً وهزائمها دروساً، وتاريخ الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد على ما نقول، فالهزيمة العسكرية الساحقة للخلافة العباسية على أيدي المغول جعلت الأمة، تضيق من ترفها الفكري، وخلافها العقائدي، وتمزقها الاجتماعي، ليقوم المصلحون من الدعاة
لتصحيح مسار الأمة وإعادته نحو الكتاب والسنة، فكانت الحركة السلفية الكبرى التي قادها الإمام المصلح المجدد ابن تيمية وتلامذته المخلصون أمثال ابن القيم، وابن كثير، والذهبي، والحافظ المزي، ثم الإمام الفذ العز بن عبد السلام الذي باع مماليك مصر ودفع الأمير قطز تلميذه لأن يقود الحملة ضد التتار والتي انتهت بهزيمتهم الساحقة، ثم قامت جموع الدعاة إلى الإسلام لتحول الجيوش التترية البربرية الغازية إلى الإسلام والحضارة والمدنية، واندفعت قوافل الدعاة إلى الله لتحول شعوب شرق آسيا إلى الإسلام بالدعوة فقط، فدخلت جزر أندونيسيا وشعب الهند الصينية في الإسلام بالدعوة إلى الله فقط، ودون جيوش غازية وهذا في عقب أعظم هزيمة مني بها العالم الإسلامي وهي هزيمته أمام التتار.
* ولم تكن الحروب الصليبية بأقل عبرة للأمة من حروب التتار، فقد فتحت الحروب الصليبية عين الشعوب الإسلامية على مدى التمزق السياسي الذي تعيشه الأمة ووجود إمارات متنازعة على السلطة والسيادة في كل مدينة من مدن الشام تقريباً وكذلك فتحت عينها على مدى الانحراف الطائفي الخرافي الذي عاشته مصر في عهد الفاطميين فكانت نهضة صلاح الدين الأيوبي البطل المجدد الإسلامي الذي أنهى تمزق الأمة السياسية واضطرابها الفكري والثقافي وردها إلى الكتاب والسنة وإلى الوحدة بمعناها الصحيح فكانت الهزيمة الساحقة للصليبيين وبداية عهد جديد من العزة والسيادة الإسلامية.
* ولكن الصليبيين الجدد استفادوا من الحروب الصليبية أيما فائدة فعرفوا مكمن القوة في الأمة وهي العودة إلى الكتاب والسنة، والوحدة السياسية فعملوا قبل غزوهم
الصليبي الاستعماري الجديد إلى الحيلولة بين عودة الأمة إلى إسلامها وعودتها أيضاً إلى وحدة سياسية واحدة تستطيع بها الوقوف في وجه زحفهم الاستعماري الجديد ولذلك فقد حالوا وإلى اليوم بين الأمة وبين هذين المطلبين الأساسيين في أي نصر قادم: العودة إلى الكتاب والسنة، ووجود وحدة سياسية تنظم بلاد الإسلام وخاصة من يتكلمون بالعربية منهم.
* ومشكلة المشكلات التي تعترض إفاقة الأمة واستفادتها من هزائمها العسكرية والسياسية المتلاحقة في العصر الحاضر هو في هذه القدرة الخرافية التي تملكها أجهزة الهزيمة والتي تستطيع بها تحويل الهزائم المتكررة للأمة إلى نصر في عيون الشعوب المسكينة المقهورة المغلوب على أمرها، ولكن ذلك لن يستمر أيضاً إلى الأبد، فعملية (غسيل المخ) المستمرة للأمة وفصلها عن تاريخها الإسلامي وعقيدتها الصحيحة لابد وأن تنهار أمام اليقظة الحتمية.. إن شاء الله.
* هذه اليقظة الحتمية هي في حقيقتها عملية بحث عن الذات يجب أن يمارسها كل فرد في الأمة وعندما نعرف ذواتنا وندرك تماماً أننا مسلمون وأن لا عيش لنا ولا وجود لنا على هذه الرفعة إلا بالإسلام، فعند ذلك تصحح جميع الأوضاع الفاسدة، ولعل أعظم الأمور خطراً على رحلة الأمة اليوم نحو عودتها للذات تتمثل في صبغ الحاضر الفاسد والمواقف الفاسدة بغطاء إسلامي وهذا أعظم تحريف للكلم عن مواضعه وأعظم تزوير في التاريخ، فالذين يعمدون إلى جبة الرسول وعمامته وردائه ويلبسونه لكل الزعماء ولكل الرجال على اختلاف عقائدهم وموقفهم وأهوائهم يزورون تاريخ أعظم رجل عرفته الأرض، وأشرف
إنسان عرفه العالم فليتقوا الله في أنفسهم، وإذا كان علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قد أنكروا أن يقوم ممثل ما نعلم يقيناً أنه ممثل بتمثيل أدوار الرسول الحقيقية فمن باب أولى أن نستنكر أن يخلع ثوب الرسول الحقيقي ومواقفه البطولية لخدمة باطل نعلم يقيناً أنه باطل، أقول.. تشوبه الإسلام الحق وذلك بإلباسه بالباطل سينفر الناس منه وهذا من أعظم الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ولذلك فيجب على الأمة وهي تخطو في رحلتها الجديدة نحو ذاتها الحقيقية أن تتجنب المزورين الغاشين، وأن تعلم أن الذات الإسلامية الحقيقية تبحث دائماً عن العزة في غير غرور، وعن كشف الباطل وحذره في غير خبث ومكر، وأنا لإسلام يعني دائماً إنكار الظلم وإقرار العدل، وأن تكون دائماً كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
13 يناير 1978