الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل حقاً سيعيد التاريخ نفسه
؟
* اليهود يحاولون إعادة التاريخ للوراء لإنشاء دولة على غرار دولتهم في فلسطين منذ ثلاثة آلاف سنة، وهم في سبيل ذلك يحيون الأسماء القديمة نفسها قبل هذا التاريخ ويحملون معهم في عبورهم نحو هذا الماضي السحيق تصميماً لهيكل سليمان بنفس المواصفات التي كانت له يوم كان، وينشئون المستعمرات بنفس أسمائها القديمة، ومواصفاتها التي حملها التاريخ لهم، ويبنون الإنسان اليهودي تماماً كما كان ذلك الإنسان اليهودي في هذا التاريخ الغابر حيث يدرس نصوص التوراة نفسها وتعاليم حكماء اليهود في هذه الحقبة البعيدة.
* ولو كان اليهود يصنعون ما يصنعون في فراغ لما اهتم أحد بشأنهم، ولكن اليهود لا يتم لهم ذلك إلا باستئصال الشعب الذي كان يسكن في تلك البقعة من أرض الشام (فلسطين) وإلا بأن تقطع كل يد تحمل مدداً لهذا الشعب، ولن يتم لهم القرار في هذه الأرض إلا بأن يدفنوا تاريخ هذه البقعة منذ شتاتهم منها وإلى عودتهم فيها، والوصول إلى هذه الغاية المذهلة يعني اقتطاع هذا الشعب عن أمته العريضة التي كان ينسب إليها ثم بناء سور من الكراهية والنفور حوله، ثم تمزيقه وضرب بعضه ببعض ثم القضاء عليه
وتذويبه تذويباً بطيئاً حتى يكون أثراً بعد عين، ثم في النهاية قطع آمال الأمة العريضة التي ينتسب هذا الشعب إليها أن تتطلع إلى هذه الأرض مرة ثانية، أو تفكر مجرد تفكير في العودة إليها، ولا يتم ذلك إلا بقطع الصلات الدينية والفكرية والثقافية التي تربط بين الأمة وهذه الأرض.
* إنه عمل رهيب حقاً، وهو نوع من الخيال لولا أن أجزاء كثيرة من هذه الخطة الجهنمية قد نفذت بالفعل ولم تبق إلا خطوات يسيرة وعقبات صغيرة يسهل اجتيازها والعبور فوقها.
* لم يكن غريباً أو عجيباً أن يعود اليهود إلى تاريخهم وأن يحفظوا توراتهم وتلمودهم وأسماء قراهم ومدنهم وشوارعهم في دولتهم القديمة، وأن يعودوا لإحياء لغتهم التي ماتت وأصبحت أثراً بعد عين فهم يعتقدون أنهم بذلك يحققون ذاتهم ويحيون هويتهم ويقيمون دولتهم ويحصنون أنفسهم، ولكن الغريب حقاً أنهم يحاولون إن يزيلوا تاريخ الأمة الإسلامية وأن يمحوا تراثها وأن يبدلوا عقائد وجلود أبنائها بل وإن يحققوا فيهم ردة جماعية نحو الجاهلية الأولى قبل ثلاثة آلاف سنة وكان اليهود في إحيائهم لدولتهم القديمة يريدون أن يتعاملوا مع نفس الشعوب التي تعاملوا معها في ذلك التاريخ، إنهم يريدون انقلاباً كاملاً في التصورات والأفكار والعقائد والموازين أنهم يريدون للعالم الإسلامي حولهم ردة حضارية تمحو تاريخ ألف وأربعمائة سنة وهذا شيء فوق التصور والفهم.
* منذ عام تقريباً كتبت في هذه الزاوية مقالاً بعنوان: "من ذا الذي يستطيع أن يعبر فوق هذا التراث" مهوناً من شأن المحاولات التي كانت تبذل في هذا الوقت لما يسمى بالحل السلمي مبيناً أنه لا مكان للقاء حضارتين متضادتين
وعقيدتين متناقضتين على هذه الأرض أرض فلسطين، وقد كان ظني في ذلك اليوم أن اليهود دخلوا هذه الأرض على حين غفلة من أهلها دخول اللص في غيبة أهل البيت ويوم يتيقظ أصحاب المكان فلابد من طرد اللص، واليوم اعترف بخطئي وقصور نظري فما كنت أتصور أن للإعلام والدعاية هذه القوة الجبارة في تبديل العقائد وقلب الحقائق والموازين ما كنت أتصور مطلقاً أنه بالإعلام والدعاية يصدق الناس أن الذئب يصبح حملاً وأن اللص يضحى صاحب الحق، وإن سفاكاً وقاتلاً للنساء والأطفال مثل بيجن يمسي شريفاً ومناضلاً وما كنت أتصور أن أياً من الناس يصدق ذلك، ولكنني اكتشفت أخيراً خطئي وعلمت يقيناً أن الإعلام والدعاية هو سلاح العصر الرهيب وأن أثره لا تعدله القنابل الذرية ولا أسلحة الدمار والفتك.
* الإعلام هذا السلاح الرهيب الذي يستطيع تبديل الحقائق في عيون الناظرين وقلب الموازين، وإزالة العقائد الراسخة، وتغيير الأديان والأخلاق، وتبديل الأنظمة والقوانين، هذا الإعلام سلاح الحرب الباردة الخطير الذي يمهد العقول والقلوب لقبول الأعداء ليكونوا حلفاء وأصدقاء، والذي يستطيع إشعال نار العداء والبغضاء بين الأهل والإخوان والأصدقاء أنه باختصار أقوى سلاح العصر على الإطلاق هذا الإعلام لا تملك الشعوب في دولنا الإسلامية منه إلا وسائل تافهة لا تستطيع بها مقاومة أي غزو فكري أو عقائدي وأما وسائله الفعالة فهي بيد السلطات الحاكمة تسخره كيف شاءت، وتصيغ به عقول الناس فتبدل به العقائد والأفكار والأديان والأخلاق، وتستطيع به أيضاً إزالة التراث وتبديل التاريخ وتدمير الإنسان.
* واليوم أروني من يملك عقلاً سليماً في بلادنا
الإسلامية لأثبت لكم أنه يؤمن بالشيء ونقيضه، ولا يعرف أين نحن الآن في مسيرة تاريخنا، ولماذا كنا نحارب اليهود؟ وماذا نريد منهم اليوم؟ وهل سيوافقون أو يرفضون؟ وما معنى الرفض؟ وما معنى القبول؟ وما هذا بالطبع إلا نتاجاً للحرب الإعلامية التي استهدفت تدمير الإنسان المسلم وتشتيت أفكاره، وتوزيع مصالحه والفصل بينه وبين تراثه، وقطع صلته مع ربه ومولاه وخالقه، وبذلك يصبح إنساناً ضائعاً تائهاً بلا هوية ولا أمل، ولا عقيدة ولا أخلاق ولا موازين وهذا الضياع الحضاري الذي تعيشه الأمة الآن هو خير دليل على ما أقول، والخوف كل الخوف أن يستمر هذا الضياع الحضاري مدة كافية نفقد فيها أنفسنا وتاريخنا وحضارتنا ثم نفيق فنجد أننا قد أصبحنا شيئاً آخر تماماً.. شيئاً يريد اليهود أن نكون مثله وبذلك ترجع عجلة التاريخ ثلاثة آلاف سنة كاملة فهل حقاً ستعود عجلة التاريخ إلى الوراء ويسكن اليهود خيبر ويعيدون سوق بني قينقاع، ويفلحون أرض النضير، ويعود الأوس والخزرج يقتتلون ويفتخرون بيوم بعاث، وينتصب الهيكل حول الصخرة، ويهدم المسجد الأقصى، وتعود الأمة إلى عبادة الأوثان والأصنام.
6 يناير 1978