الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى متى نطلب حل مشكلاتنا من الخارج
؟
تشهد هذه الأيام سباقاً بين ساسة الدول العربية للحصول على التأييد المادي والمعنوي من ساسة الدول الكبرى، وقد شهدت موسكو ونيويورك وباريس ولندن وبون عدداً من الزيارات قام بها الساسة العرب لهذه العواصم.
وبالرغم من صدور تصريحات مختلفة بل متناقضة أحياناً حول هذه الزيارات ونتائجها نجاحاً أو فشلاً كالاختلاف في تحديد سنة الحل أو الحسم أو السلام والاختلاف حول التأييد المادي الذي انتهت به الزيارة فإن هذا ليس هو موضوع هذا المقال، وإنما السؤال المطروح الآن.. ما هي المنفعة الحقيقية التي يمكن أن نحصل عليها؟ وما التأييد المادي أو المعنوي الذي تستطيع به دولة من دولنا العربية أن تخرج به كنتيجة لزيارة رئيسها إلى دولة من تلك الدول؟ وإذا كنا أكثر تحديداً قلنا: ما نوع التأييد المعنوي الذي يمكن أن تقدمه لنا الدول الكبرى في حربنا مع إسرائيل؟
والجواب أننا لا نعلم أصلاً في تاريخنا الحديث موقفاً واحداً وقفته الدول الكبرى معنا في حربنا مع اليهود قالت فيه كلمة الحق لأجل الحق أو التزاماً بالأخلاق وجميع
المواقف التي وقفت فيها دولة كبرى في جانبنا كانت لمصلحة راجحة لتلك الدولة وبانتهاء المصلحة غيرت الدولة موقفها.
فبعد هزيمة 1967م لم تبق دولة كبرى كنا نؤيدها في مواقفها إلا وتنكرت لنا وأيدت إسرائيل ونظمت المظاهرات والمسيرات احتفالاً بانتصار اليهود وعصب الشباب هناك عيونهم بعصابة (موشي ديان) ذي العين الواحدة، وكتب في كل مكان عندهم على الحوانيت والمطاعم والفنادق "ممنوع دخول العرب والكلاب" وسار رجل كجان بول سارتر -طالما أشاد بذكره الأغبياء عندنا- على رأس مظاهرة من هذه المظاهرات في فرنسا تأييداً لإسرائيل، ولم تكلف دولة عظمى نفسها حتى بخطاب تعزية أو بيان استنكار واحتجاج، بل نصحونا بأن نتلقى الضربة الأولى، فكانت الأولى والقاضية أيضاً.
ولكن هذه الأمور تغيرت جميعها بعد نصر أكتوبر، ففي أثناء هزيمة إسرائيل مكث زعيم الاتحاد السوفييتي في مصر أربعة أيام كاملة يتوسل إلينا لإيقاف الحرب، و (داخ) كيسنجر في اللف والدوران بين موسكو ودمشق والقاهرة وعمان وتل أبيب متوسلاً لإيقاف الحرب وإنقاذ إخوانه اليهود، ولم تبق دولة إفريقية كانت تؤيد اليهود إلا وقطعت علاقاتها معهم ورفعت اللافتات التي كانت تستهزئ بالعرب، وارتفع سعر النفط، وركعت أوروبا، وامتلأت صفحات الجرائد والمجلات عندنا بدعوة أثرياء النفط إلى زيارة لندن وباريس وجنيف ومدريد لقضاء أجمل الأوقات وتقديم أفضل الخدمات (وكنا بالأمس نسوى بالكلاب) .
لقد كان هذا الدرس كافياً لنتعلم أن تأييد الدول الكبرى والصغرى أيضاً لا يطلب بالاستجداء، وإنما: كن قوياً يحترمك الأقوياء والضعفاء أيضاً، وكن ضعيفاً ولن تجد في هذا العالم
(المادي) من يرحم ضعفك ويناصر قضيتك.
وأما التأييد فيظن البعض أن حصولنا على المعونات من الدول التي تسمى بالغنية والقوية دليل على نجاح الزيارة الرسمية، وهذا من الأخطاء العظيمة، فالمعونات الخارجية التي تقدمها هذه الدول الغنية والقوية هي من أخبث وسائل الاستعمار الحديث، وقد ذكرنا مراراً أن السياسة العالمية الحالية سياسة مجردة عن الأخلاق ولذلك (فالمعونة) التي تأتي من الخارج ظاهرها المعونة وباطنها أبشع أنواع الاستغلال والاستعمار وما هي في الحقيقة إلا (صفقة سياسية) تفرضها دولة غنية على دولة فقيرة، فهذه المعونات تكون دائماً مشروطة بشروط سياسية واقتصادية بل وأيضاً بشروط اجتماعية وقانونية تجعل منها تماماً (طعماً) أو (شركاً) يقع فيه المغفلون يقول (جورج وورز) المدير السابق للبنك الدولي في "المعونات الاقتصادية": إذا استمر الحال على هذا المنوال تكون كمية رؤوس الأموال الخارجة من الدول النامية أكثر من المبالغ التي دخلتها في فترة خمسة عشر عاماً وذلك بسبب الفوائد المرتفعة. هذا إذا قارنا فقط حجم المعونة بحجم الفوائد وأما إذا علمنا أنه يستتبع المعونة غالباً آلاف من الخبراء لتنفيذ المعونة أو للتدريب على استعمالها إن كانت سلاحاً ونحوه وأن هؤلاء الخبراء يتقاضون مبالغ باهظة وأنهم يحملون معهم الجواسيس ومكاتب كاملة لجمع المعلومات، ونشر الأفكار وتجنيد العملاء علمنا بعض الشر الذي تجره المعونات الخارجية.
وقد يكون من شروط المعونة التغاضي عن بعض العملاء الذين يعملون للدولة صاحبة المعونة، ورفع بعضهم إلى مناصب قيادية معينة وليس هذا فقط، بل يكون من شروط المعونة أحياناً قتل وتشريد وتعذيب بعض الوطنيين أو استبعادهم
من مواقفهم التي يخدمون دولهم منها وقد يكون من هذه الشروط حجب تعامل الدولة التي تقبل المعونة مع دول أجنبية أخرى غير الدولة صاحبة المعونة، بل قد يشترط المعونة تأييد الدولة المتفضلة بالمعونة في مواقفها السياسية والإعلامية.. وقد يكون من شروط المعونة تغيير قوانين داخلية في الدولة وباختصار التنازل عن شرف الدولة وسيادتها وليس هناك استعمار أبلغ وأشد مكراً من هذا الاستعمار، بل ما عرف تاريخ الأرض استعماراً على هذا النحو تتنازل فيه الدولة التي تقبل المعونة الخارجية عن سيادتها فتغير قوانينها وتحدد سياستها الخارجية بما يتلاءم مع (الصديق) الذي يقدم (المعونة) بل وتقتل أيضاً أبناءها وتشرد أهل الغيرة والوطنية والشرف منهم إرضاء للصديق الذي يقدم (المعونة) ..
باختصار المعونات الخارجية هي أعظم وسائل الاستعمار الحديث ولكنها تأتي في أسلوب عصري (مغلف مبطن) يأتي فيه السيد المستعمر ببعض أمواله وأسلحته ومشاريعه إلى دولة محتاجة، وفي مقابل هذا يسلب هذه الدولة المحتاجة سيادتها وثرواتها وشرفها وعزها، تماماً تماماً، كما كان السيد الإنجليزي والفرنسي يأتي قبل قرنين من الزمان يحمل في جيبه (مرآة) ثم يأتي إلى الأفريقي الساذج الذي يملك مزرعة عظيمة من المطاط أو الكاكاو فيقول له: انظر فإذا نظر الأفريقي في المرآة ورأى بياض أسنانه وحمرة لسانه وسواد بشرته تعجب جداً وتنازل للإنجليزي عن مزرعته ليحصل على (اختراعه) العجيب، لم تتغير حقيقة الاستعمار المعاصر على الاستعمار الحديث عن الاستعمار القديم وإنما تغير الأسلوب فقط، فكلمة الاستعمار نفسها كانت تعني (طلب الإعمار) وهكذا تقدم الإنجليز والفرنسيون إلى الدول الفقيرة لإعمارها وإخراجها من فقرها في زعمهم، ثم كان الاحتلال العسكري والسياسي، واليوم بعد نفرة الشعوب من رؤية
جنود الأعداء استطاع الأمريكيون والروس أن يخترعوا استعماراً جديداً هو الاستعمار عن طريق (المعونة) الاقتصادية وبهذه المعونة الخبيثة تقع دولنا فريسة لأخبث ألوان الاستعمار الذي عرفته الأرض ففي مقابل بضع ملايين من الدولارات والروبلات نرهن أحياناً أوطاننا ونبيع استقلالنا ويتسلط المستعمرون على ثرواتنا.
باختصار أيضاً لا يجوز بتاتاً أن نتعامل مع الدول الكبرى إلا شراء وبيعاً وبعقود علنية وبحذر أيضاً والحمد لله في بلادنا من الكنوز ما نستطيع أن نستغل به وأن نستغني عن هذا الاستعمار الخبيث..
وأما التأييد المعنوي فإنه لا يتأتى لنا من الدول الكبرى والصغرى إلا إذا كنا نحن أقوياء ولا يمكن أن نكون أمام العالم أقوياء وهذا عدونا يطلب الحرب أو الاستسلام ويهدد بضم ما يشاء من أراضينا ونحن نركض وراء ما نسميه زوراً بالسلام وهو في حقيقته تمكين للباطل واستسلام.
29 أبريل 1977