الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التنفيس السياسي
* يُقال في اللغة نفس ينفس تنفيساً ونفساً أي وسع وأفسح وأطال، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم [من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة] أي وسع مؤمن على أخيه وأعانه في مصيبة.
والتنفيس يكون دائماً في أوقات الأزمات والمحن وكل مأزوم وكروب ومضيق عليه يحتاج إلى ترسيع وتنفيس وإلا هلك وأهلك فللإنسان طاقة يقف عندها، وكذلك للمجتمعات والجماعات طاقات ووسع واحتمال لا تتعداه وإذا زاد عن حده أدى إلى الانفجار والثورة.
وهذا المعنى النفسي معلوم جيداً في السياسة ولذلك يعمد محترفوها في أوقات الأزمات والمحن النفسية إلى إفساح المجال بمقدار معين للإعراب عن الضيق والتنفيس عن النفس فإذا حصل الترويح والتنفيس عاد الضغط والإكراه حتى يبلغ الاحتمال مداه ثم أعيدت عملية التنفيس، وهكذا حتى يتضح الأمر ويصل إلى مداه، تماماً كما لجأ مصمموا القدور البخارية إلى إيجاد غطاء التنفيس عن القدر والذي يسمح بمرور الكميات الإضافية من البخار المضغوط ويبقى الضغط داخل القدر عند مدى معين وبهذا ينضج
الطعام تحت الضغط العالي ولا ينفجر القدر.
* ومنذ أن حاول الاستعمار وعملاؤه زرع إسرائيل في جسم هذه الأمة وهم يخدرون الجسم إلى الحد الذي لا يحس بالجراحة وينشطونه إلى الحد الذي لا يموت مع هذه الزراعة، أو بالأحرى هم ينضجون هذا الطعام (الطبخة) العسيرة جداً والقاسية جداً على الاستواء بزيادة الضغط في القدور وبالسماح بإخراج الكميات الزائدة من البخار، وهكذا لا تزال عظامنا تحت الضغط والنيران حتى نقر بوجود إسرائيل وأنها حقيقة واقعة وتستوي الطبخة جيداً ويعيش العربي مع الإسرائيلي.
* هذه مقدمة مطولة جداً لموضوعنا ضربنا له هذه الأمثلة الحسية لنقربه من الذهن وذلك أن كثيرين منا يخلطون بين النقد وتصحيح مسار الحكم، وتسديد الحاكم، وبين ما يجري على الساحة العربية من "التنفيس السياسي" الذي لا يراد به شيئاً مما سبق أصلاً وإنما يراد به فقط التخفيف عن صدور الناس بالقدر الذي يؤهلهم إلى السير في طريق الحاكم إلى منتهاه دون أن تتقطع قلوبهم أو ينفجروا انفجاراً مدمراً.
وقد أخذ هذا "التنفيس" في بلادنا العربية صوراً في غاية الغرابة والعجب فأول صور هذا التنفيس هو "النكتة السياسية" وهي تأليفة محبوكة تصور الواقع السياسي الخاطئ في أسلوب هزلي ضاحك ومع القهقهة والضحك من القلب الذي ينفجر بعد هذه النكتة يشعر القائل والسامع أنه نفث عن صدره وأخرج البخار الزائد الذي لو بقي لدمر حياته ودفعه إلى الثورة والعنف.
ويشبه هذا الأسلوب من أساليب التنفيس "الكاريكاتير"
السياسي فهو في حقيقته رسم مضحك يصور الموقف السياسي الخاطئ ويدفعنا أيضاً إلى الضحك والقهقهة وبالتالي الراحة والرضا وبذلك نكون مؤهلين غداً إلى جرعة جديدة من الألم فجرعة جديدة من الضحك وهكذا.. ويرقى عن هذا درجة الكتابة السياسية الساخرة، وتكاد تكون جميع الكتابات السياسية العربية التي لا تنهج نهج الحاكم على هذا النحو وذلك أن المعارضة بالكلمة الجادة خطرة جداً في مجتمعاتنا وتؤدي إلى ما تؤدي إليه من سجن وحرمان وتشرد، وأما إذا خرجت هذه الكتابات في أسلوب هازل فإنها تصبح لدى الحكام نوعاً من التنفيس والتفريج عن قلوب المجروحين، وأما المسرحيات والتمثيليات السياسية فهي جميعاً في بلادنا العربية من أهم أساليب التنفيس والترويح عن أمة وشعب تقطع أوصاله بالسكاكين وهو يستسلم الساعات الطويلة لضحك جنوني على سياسات الحكام واعوجاجهم وهي تفيد أنها تعطي المشاهدين جرعة طويلة من الراحة والضحك والاسترخاء "والانشكاح"(حسب تعبير رواد المسرح) وبذلك يكونون مهيأين لجرعات جديدة من الألم والخنوع والذل، وهكذا دواليك والمتدينون منا يمارسون لوناً آخر من ألوان التنفيس والترويح عن النفس وهذا يتمثل في خطب الجمعة النارية حيث يصعد الخطيب المنبر منتفخ الأوداج محمر العينين فيلقي الناس بالحمم والزبد ساباً اليهود وأعوانهم، والمستعمرين وعملاءهم، منادياً بالجهاد المقدس لطردهم وتطهير البلاد والعباد منهم وتمتلئ قلوب الناس ونفوسهم بالحماس الفارغ وتنتهي الخطبة والصلاة ويشعر الخطيب أنه قد أدى واجبه بالقول ويشعر المصلون أنهم قد أدوا واجبهم بالسماع ويشعر الجميع براحة واسترخاء بعد قمة التوتر والحماس، وهكذا تتكرر الأدوار كل أسبوع فيعتاد المصلي أن يمتلي ويفرغ ويمتلئ
ويفرغ ثم يتبلد الذهن والشعور فلا يجد المتدين منا إزاء كل خطب ومكروه إلا أن يسترجع ويحوقل (استرجع: أي قال إن الله وإنا
إليه راجعون وحوقل: أي قال لا حول ولا قوة إلا بالله) ، ثم بعد ذلك يظن أنه قد أدى دوره وقام بواجبه، وهذا لون آخر من ألوان التنفيس.
* كل هذه الألوان السابقة لا تشكل في مجموعها نقداً حقيقياً ولا معارضة ولا تسديداً للحاكم ونصحاً له كما أراد الله سبحانه وتعالى، لأسباب يطول شرحها، ومع أن هذه الألوان المختلفة من ألوان التنفيس التي تمارس على الساحة العربية والإسلامية لا تشكل في مجموعها ضيقاً للحكام ولا إزعاجاً لهم، بل على العكس تساعد في تهيئة المناخ للسياسات المغلوطة أو كما قلنا سابقاً تنعش الجسم المخدر الذي تزرع إسرائيل فيه ببطء شديد، أو قل تساعد في إخراج كمية من البخار المضغوط في قدر يغلي بطعام غليظ.. أقول بالرغم من نفع هذه الألوان من ألوان التنفيس للسياسات الخاطئة، فإنه يلجأ أحياناً إلى إلغائها وكتمها فكم من مسرحية ألغيت ومن قصيدة شعرية صودرت، ومن خطيب منع من منبره ومن محترف للتنكيت والإضحاك أودع السجن!!
ويبدو أن الحكام الذين يعمدون إلى إلغاء هذه الأنواع من أنواع التنفيس عن الناس لم يستفيدوا بحكاية شوقي الشعرية الرمزية "الأسد والضفدع" الذي يشبه فيها الحكم بالأسد والمعارضة التنفيسية بالضفادع فيقول:
قالوا:
استوى الليث على عرشه
…
فجيء بالمجلس بالضفدع
وقيل للسلطان هذي التي
…
بالأمس أدت عالي المسمع
تنقنق الدهر بلا علة
…
وتدعى في الماء ما تدعى
فانظر إليك الأمر في دينها
…
ومر نعلقها في الأربع
فنهض الفيل وزير العلا
…
وقال يا ذا الشرف الأرفع
لا خير في الملك ولا عزه
…
إن ضاق جاه الليث بالضفدع
فكتب الليث أماناً لها
…
وزاد أن جاد بمستنقع
وهكذا بشفاعة الفيل عفا السلطان عن الضفادع وزادها مستنقعاً آخر تنقنق فيه إذ ماذا ستفعل الضفادع؟! ولكن هناك من السلاطين أيضاً من يزعجها نقيق الضفادع فتبعث في آثارهم وتقتفي حركاتهم.
* المهم أرجو أن لا نخلط دائماً بين "الأمر بالمعروف الشرعي" والتنفيس السياسي.