الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من يستطيع إيقاف سقوط العربة
؟
مرة ثانية تتابع العربة العربية السقوط نحو القاع بسرعة رهيبة. وترتطم في سقوطها بصخور السفح المنحدر فتتمزق أوصالها، وتتناثر أشلاؤها، ويتساقط الركاب صرعى على جانبيها ويبقى الباقون مندهشين مذهولين، ويتساءل من بهم مسكة عقل وإدراك على أي سفح من سفوح المنحدر سترسو العربة قليلاً لالتقاط الأنفاس، ومداواة الجرحى، ومواراة القتلى وتسكين روع الخائفين..
قبل بضعة أشهر كانت النقلة التاريخية للعربة حيث طارت طيرانا وسقطت على سفوح القدس ولهول الصدمة وضخامتها بقي جميع الركاب إلا نفر يسير لا يصدقون ما يرون، وأفاق الركاب تباعاً واحداً أثر الآخر.. رجل يقول ارتفعنا إلى واد أفيح وآفاق جديدة.. إلى أرض السلام.. وآخر يقول.. سقطنا في الوحل والطين سقوطاً لا قيام بعده.. وبعد أن تلمس الجميع أرض السقوط وجدوا الأرض طينا، والورد شوكا، والحمائم صقورا، والماء سرابا، والسلام متعذراً أو مستحيلاً.
ونشطت فرق المسرح السياسي وتوزعت الأدوار هنا الرفض.. وهناك رفض الرفض وها هم القابلون وهناك المعتدلون.. وشرعت (الجوقات) وحاملوا الأبواق وأدعياء
الفلسفة والحكمة.. ينظرون ويفلسفون ويشجعون ويشجبون ويصفرون ويهتفون، وبدأ الجمهور التائه الضائع يتابع الفاصل الجديد طائر اللب والقلب لا يكاد يرجع إليه بصره، ولا يستطيع ملاحقة أنفاسه.
* وبعد أن تهيأ الجميع لنقلة جديدة وسقوط جديد وأفاق الجميع من هول الصدمة الأولى ابتدأت العربة تتدحرج نحو مندحر آخر وفي هذه المرة لا يقف على المسرح الممثلون المحترفون ولكن الجمهور بكامله إلا من عصم الله منهم يشترك في اللعبة القذرة، والمسرحية المحبوكة التي ألف فصولها، ووضع حوارها الشيطان الأمريكي والروسي واليهودي، ابتدأ اللعبة أدعياء تحرير فلسطين برصاصات طائشة لكاتب عربي لسنا الآن بصدد وضعه في الميزان، وليس هو مهما زعم الزاعمون العائق الأول ولا الأخير في تحرير فلسطين ودخلت الشعوب المسكينة بعد هذه الرصاصات الغادرة، وبدأ المسرح الجديد يدخله ممثلون جادون يأخذون أدوارهم التي رسمها غيرهم، وكأنها أدوارهم الحقيقية التي تمليها وطنيتهم أو أقاليمهم.. باختصار لقد تحول العالم العربي بأسره إلى مسرح حقيقي ليس فيه ممثلون ومتفرجون وإنما فيه ممثلون فقط، وأما المتفرجون فهناك خارج أسوار هذا الوطن في الغرب والشرق وفلسطين المحتلة يشاهدون هؤلاء الأغبياء الحمقى الذين يدفع بعضهم بعضاً من عربة هاوية نحو القاع ولا يحاول أحد مطلقاً أن يوقفها عن السقوط أولاً.
* كان بودنا أن تظل الشعوب العربية بعيدة عن لعبة الأمم التي تمارس على أرضنا الإسلامية العربية منذ سقوط الخلافة العثمانية، وتقسيم تركة هذه الدولة المريضة، ولكن الشياطين الذين وضعوا هذه اللعبة (تقسيم العالم) جرعوا هذه الأمة كأس الذل والفرقة جرعة جرعة.. لقد كان آباؤنا وأجدادنا
الأقربون يضحكون ويهزأون عندما وضعت حدود فاصلة بين بلاد الشام بعضها بعضاً، وبين أقاليم الجزيرة وبين مصر والشام، وكانت هذه الحدود الجغرافية نوعاً من السخرية التي تجاري الشعوب فيها حكامها دون أن تؤمن بشيء من ذلك، ولذلك رأينا كيف هب المسلمون على اختلاف أقاليمهم لنجدة فلسطين متطوعين بأموالهم وأنفسهم عندما علموا بدخول اليهود إلى هناك، ولن أنسى مطلقاً كيف جلست والدتي تقنع أخي محمد وكان دون العشرين من عمره أن يعدل عن قراره بالذهاب إلى فلسطين وهو يقول.. يا أمي سأموت شهيداً وسيجري الدم على جبهتي هذه.. وتتوسل إليه والدتي وتقول له: يكفي ذهاب أبيك يا محمد ليس لنا غيرك فيقول لا علاقة لذهابي بذهاب أبي، إنني مسؤول عن نفسي.. وكان عمري في ذاك الوقت ثمانية أعوام فقط، وذهب أخي وقتل شهيداً هناك على أرض فلسطين وعاد أبي من هناك بعد انقضاء الحرب وبعد أن عدوه مفقوداً، ونحن مع ذلك من صميم الريف المصري.. ولكن هذه الحدود الجغرافية السياسية تعمقت مع الأيام وأصبحت حقائق راسية رسو الجبال الشامخات ليس فقط على صفحات الخرائط وإنما في حنايا القلوب والصدور.
وابتدأت الخلافات السياسية بين الأقاليم تشعلها السياسة وأصحابها بسبب وبغير سبب وبالأمس كانت الشعوب الإسلامية العربية تتفرج على هذه الخلافات على أنها أنواع من التسلية واللهو والألاعيب السياسية، وخاصة أن هذه الشعوب كانت ترى الحكام على كل خلاف وسباب يلتقون ويقبلون الخشوم وكأن شيئاً لم يكن.. ولكننا في هذه الأيام ننتقل نقلة جديدة ونتجرع جرعة جديدة من كأس السم والذل الذي ركبه أعداء هذه الأمة القائمون على لعبة الأمم، وهذه اللعبة الجديدة أصبحت تعني إشراك الشعوب الإسلامية
العربية في هدم بعضها بعضاً، وتمزيق بعضها بعضاً، وها نحن نرى اليوم أن الصدور أصبحت موغرة ومليئة بما يكفيها، وأن الألسنة أصبحت تنفث السم هنا وهناك، والأفواه يعلوها الزبد والحناجر تتمزق من الهتاف بسقوط قضايانا وسب أمتنا، ولعن شعوبنا وحط كرامة الرؤساء والقادة.. وهكذا بدأ التمزيق والشتات يصل إلى الأطراف والمنابع وإذا استمر الحال كما هو الآن بضع سنوات أخرى فقد يصل الوقت الذي يقتل فيه بعضنا بعضاً.. بل سيأتي الوقت الذي لا يعرف القاتل فيه لم قتل.. ولا المقتول فيم قتل؟!! ولعل هذا هو الوقت المناسب الذي تنتظره إسرائيل لتحقق السلام الذي تريد لأنه سيكون سلاماً كاملاً ودائماً على أشلاء هذه الأمة التي قتل بعضها بعضاً، وسيكون هذا -لو عقلنا- هو المستقر النهائي للعربة العربية الهاوية.
* والسؤال الآن من يرحمنا من هذا السقوط الرهيب؟ وما الذي يخلصنا منه؟ هل يخلصنا منه أن يجتمع القادة والزعماء حول مائدة واحدة ويقرروا قراراً ننتظره الآن وهو فلنوقف العربة عند هذا الحد الآن حتى نهدأ قليلاً..
أو يخلصنا منه أن تعي الشعوب اللعبة اللعينة التي دخلوا فيها الآن، وينتزعوا أنفسهم من هذه المسرحية القذرة التي لن تنتهي إلا بالقضاء عليهم أنفسهم.. ومتى يتم ذلك؟ وكيف؟
ليس لنا مهرب ولا مفر من سلوك أحد هذين السبيلين أو كلاهما معاً. فإما أن يعي القادة والزعماء حدود المسؤولية التي كلفهم الله بها وحملوها بموافقة الشعوب أو بالرغم عنهم، ويوقفوا سقوط العربة وهذا في ذاته إنجاز عظيم.. بصراحة لا نريد الصعود الآن ولا الانتصار على اليهود ولا حتى تحرير فلسطين دعونا من هذه الأماني قليلاً.. ومكنونا من استرداد
أنفاسنا ومداواة جراحنا وإصلاح صفوفنا وعند هذا الحد تكونون قد أسديتم للأمة أعظم خير في وقتها الراهن. وأما أن تعي الشعوب حدود مسؤوليتها في الوقت الحاضر وتكف عن هذه البلاهة والغباء وتفيق من سكرة الأحداث لتعي ذاتها وتتلمس طريقها..
* وإما انتظار الفرج من أمريكا وروسيا وتنازل اليهود عن بعض فلسطين فهذه كلها أماني فارغة لأن هؤلاء الشياطين الثلاثة هم واضعو المسرحية ومخرجوها.
ومرة ثانية: من يستطيع إيقاف سقوط العربة؟ من؟
3 مارس 1978
********