المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌544 - (30) باب إمضاء الطلاق الثلاث ووجوب الكفارة في تحريم ما أحل الله له من امرأة وغيرها ولم يقصد طلاقها - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ١٦

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌534 - (20) باب تحريم امتناع المرأة على زوجها إذا أرادها ونَشْرِ أحدِهما سِرَّ الآخر وبيان حكم العزل

- ‌535 - (21) باب تحريم وطء الحامل من غيره حتى تضع وذكر الغيلة وهو وطء المرضع وكراهة العزل

- ‌ أبواب الرضاع

- ‌536 - (22) باب تحرم الرضاعة ما تحرمه الولادة وتحريمها من قبل الفحل وتحريم بنت الأخ من الرضاعة

- ‌537 - (23) باب تحريم أخت المرأة والربيبة ولا تحرم المصة والمصتان ونسخ عشر رضعات بخمس

- ‌538 - (24) باب رضاعة الكبير، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة

- ‌539 - (25) باب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء وأن الولد للفراش وقبول قول القافة في الولد

- ‌540 - (26) باب قدر المقام عند البكر أو الثيب والقسم بين الزوجات وجواز هبة المرأة نوبتها لضرتها

- ‌541 - (27) باب الحث على نكاح ذات الدين ونكاح البكر

- ‌542 - (28) باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة ومداراة النساء وخيانتهن الأزواج

- ‌فائدة في الصفات المطلوبة في الزوجة

- ‌ كتاب الطلاق

- ‌543 - (29) باب في طلاق السنة

- ‌544 - (30) باب إمضاء الطلاق الثلاث ووجوب الكفارة في تحريم ما أحل الله له من امرأة وغيرها ولم يقصد طلاقها

- ‌545 - (31) باب بيان أن تخيير الرجل امرأته لا يكون طلاقًا لا بالنية

- ‌تتمة ذكر من اختارت نفسها

- ‌546 - (32) باب إيلاء الرجل من نسائه وتأديبهن باعتزالهن مدة

- ‌فائدتان

- ‌547 - (33) باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها ولا سكنى

- ‌مسألة النفقة والسكنى للمبتوتة

- ‌548 - (34) باب جواز خروج المعتدة في النهار لقضاء حاجتها وانقضاء العدة بوضع الحمل

- ‌549 - (35) باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك فوق ثلاثة أيام

- ‌ أبواب اللعان

- ‌550 - (36) باب بيان سببه

- ‌551 - (37) باب بيان كيفية اللعان ووعظ المتلاعنين

- ‌552 - (38) باب ما يتبع اللعان من الأحكام إذا كمل من التفريق وإلحاق الولد بالمرأة

- ‌553 - (39) باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في اللعان بقوله: اللهم افتح، وبيان أول من لاعن وقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو رجمت أحدًا بغير بينة لرجمت هذه

- ‌554 - (40) باب إذا وجد رجل على امرأته رجلًا لا يقتله بل يشهد عليه أربعة شهداء إن أمكن وإلا لاعن

- ‌555 - (41) باب لا ينتفي الولد بمخالفة لون أبيه

- ‌ أبواب العتق

- ‌556 - (42) باب فيمن أعتق شركًا له في عبد وذكر الاستسعاء

- ‌557 - (43) باب إنما الولاء لمن أعتق

- ‌558 - (44) باب كان في بريرة ثلاث سنن

- ‌559 - (45) باب النهي عن بيع الولاء وعن هبته وإثم من تولى غير مواليه

- ‌560 - (46) باب ما جاء في فضل عتق الرقبة المؤمنة وفي عتق الوالد

الفصل: ‌544 - (30) باب إمضاء الطلاق الثلاث ووجوب الكفارة في تحريم ما أحل الله له من امرأة وغيرها ولم يقصد طلاقها

‌544 - (30) باب إمضاء الطلاق الثلاث ووجوب الكفارة في تحريم ما أحل الله له من امرأة وغيرها ولم يقصد طلاقها

3553 -

(1399)(159) حدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ. (وَاللَّفْظُ لابْنِ رَافِعٍ)(قَال إِسْحَاقُ: أَخبَرَنَا. وَقَال ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبدُ الرَّزَّاقِ). أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَال: كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكرٍ وَسَنَتينِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ، طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً. فَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَت لَهُمْ فِيهِ

ــ

544 -

(30) باب إمضاء الطلاق الثلاث ووجوب الكفارة في تحريم ما أحل الله له من امرأة وغيرها ولم يقصد طلاقها

3553 -

(1399)(159)(حدثنا إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي (ومحمد بن رافع) القشيري (واللفظ) الآتي (لابن رافع قال إسحاق: أخبرنا وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن) عبد الله (بن طاوس) بن كيسان اليماني (عن أبيه) طاوس بن كيسان (عن ابن عباس) رضي الله عنهما. وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم يمانيون وواحد طائفي وواحد إما مروزي أو نيسابوري، وفيه التحديث والأخبار والعنعنة والمقارنة (قال) ابن عباس:(كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر) رضي الله عنهما، وقوله الطلاق اسم كان، وقوله:(طلاق الثلاث) بدل من اسم كان أو عطف بيان منه، وقوله:(واحدة) خبر كان، والتأنيث لملاحظة معنى التطليقة أي كان الطلاق المكرر ثلاث مرات في مجلس واحد بان قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق. ثلاث مرات متوالية يُحسب تطليقة واحدة حملًا للمرتين الأخيرتين على التأكيد لأنه باب مشهور في محاوراتهم لأنهم يظنون أن الطلقة الواحدة لا تحصل إلا بالتكرار ثلاث مرات كما أنهم يظنون أن النكاح لا ينعقد إلا بتكرار الإيجاب والقبول ثلاث مرات، قال في التكملة: يعني كانت الطلقات الثلاث تعد واحدة في تلك العصور المباركة إذا نطق بها الرجل في مجلس واحد بنية التأكيد اهـ (فقال عمر بن الخطاب) بعد سنتين من خلافته (إن الناس قد استعجلوا) أي قد أرادوا العجلة والمبادرة (في) إيقاع (أمر) وهو الطلاق الثلاث (قد كانت لهم فيه) أي في ذلك الأمر

ص: 187

أَنَاةٌ. فَلَوْ أَمْضَينَاهُ عَلَيهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيهِمْ

ــ

(أناة) بفتح الهمزة وبتاء آخره أي مهلة وتأن وتدريج أي كان لهم فيه إيقاعه شيئًا فشيئًا أي طلقة طلقة فيتمكنوا من الرجعة إن أرادوها فزجرناهم عن ذلك فأبوا إلا التكرار ثلاث مرات وهم لا يعرفون التأكيد من التأسيس (فلو أمضيناه) أي فلو أنفذنا (عليهم) ما استعجلوا فيه وقضينا عليهم وقوع الثلاث حملًا لكل مرة وقولة على التأسيس لكان ذلك الإمضاء عليهم حسنًا جزاء لهم على عدم قبولهم نهينا لهم عن ذلك التكرار لأنا لا نعرف من أراد منهم التأسيس ممن أراد التأكيد، فجواب لو محذوف دل عليه السياق والتقدير: فلو أمضينا عليهم لما فعلوا ذلك الاستعجال، ويحتمل كون لو ها هنا للتمني فلا تحتاج إلى جواب، والمعنى عليه أي فليتنا أنفذنا عليهم ما استعجلوا فيه فهذا كان منه تمنيًا ثم أمضى وقضى عليهم ما تمناه من إيقاع الطلاق بكل قولة من المقالات الثلاث كما ذكره بقوله:(فأمضاه عليهم) أي فأمضى ونفذ عليهم عمر الثلاث حملًا للمقالات الثلاث على التأسيس يعني اعتبر الطلقات الثلاث في القضاء محرمة عليهم إلا بمحلل على سبيل التغليظ ولو نطق بها الرجل في مجلس واحد بنية التأكيد. وحديث ابن عباس هذا انفرد به الإمام مسلم رحمه الله تعالى.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أجاب عنه الجمهور بأجوبة مختلفة بسطها الحافظ في الفتح [9/ 316 - 319] أحسنها عندي جوابان: الأول: أن هذا الحديث قد ورد في صورة خاصة وهي أن يكرر الرجل لفظ الطلاق بنية التأكيد لا بنية التأسيس كان يقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق وكانوا أولًا على سلامة صدورهم يُقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم قضاء، وهذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر (إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) وكذا قال النواوي: إن هذا أصح الأجوبة، والثاني: أن قوله ثلاثًا محمول على أن المراد بها لفظ ألبتة كما سيأتي في حديث ركانة وهو من رواية ابن عباس أيضًا وهو قوي، ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها ألبتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن ألبتة إذا أطلقت حُمل على الثلاث إلا أن يريد المطلق واحدة فيُقبل فكان بعض رواة الحديث حمل لفظ ألبتة على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فتح فرواها بلفظ الثلاث، وإنما المراد لفظ ألبتة وكانوا

ص: 188

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

في العصر الأول يقبلون ممن قال: أردت بالبتة الواحدة فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم كذا في فتح الباري.

قال القرطبي: أما حديث ابن عباس فلا يصح الاحتجاج به لأوجه منها:

(1)

أنه ليس حديثًا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ظاهره الإخبار عن أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر أبي بكر باتفاقهم على ذلك وإجماعهم عليه وليس ذلك بصحيح فاول من خالف ذلك بفتياه ابن عباس فروى أبو داود من رواية مجاهد عنه قال: كلنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم يركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فما أجد لك مخرجًا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، رواه أبو داود [2197]، وفي الموطإ عنه أن رجلًا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة تطليقة، فقال له ابن عباس: طلُقت منك بثلاث، وسبعة وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوًا. رواه مالك في الموطإ [2/ 550]. وقال أبو داود: قول ابن عباس هو: (إن طلاق الثلاث يبين من الزوجة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره مدخولًا بها كانت أو غير مدخول بها). ونحوه عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر، وفي الموطإ أن رجلًا جاء إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات، قال ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها بانت منك، قال ابن مسعود: صدقوا هو كما يقولون. فهذا يدل على وجود الخلاف فيها في عصر الصحابة وأن المشهور عندهم المعمول به خلاف مقتضى حديث ابن عباس فبطل التمسك به.

(2)

ومنها: أنه لو سلمنا أنه حديث مسند مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما كان فيه حجة لأن ابن عباس راوي الحديث وقد خالفه بعمله وفتياه، وهذا يدل على ناسخ ثبت عنده أو مانع شرعي منعه من العمل به ولا يصح أن يظن به أنه ترك العمل بما رواه مجانًا (أي بلا بدل من ناسخ أو مانع شرعي) أو غالطًا لما عُلم من جلالته وورعه وحفظه وتثبته، قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن ذكر عن ابن عباس فتياه من طرق متعددة بلزوم الطلاق ثلاثًا من كلمة واحدة: ما كان ابن عباس ليُخالف رسول الله صلى الله عليه

ص: 189

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وسلم والخليفتين إلى رأي نفسه، ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب، وقيل إن أبا الصهباء لا يُعرف في موالي ابن عباس.

(3)

ومنها: أنه لو سلمنا كل ما تقدم لما كان فيه حجة للاضطراب والاختلاف الذي في سنده ومتنه وذلك أن أبا الصهباء رواه عن ابن عباس بتلك الألفاظ المختلفة التي وقعت في كتاب مسلم كما ستذكر، وقد روى أبو داود من حديث أيوب عن غير واحد عن طاوس أن رجلًا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، فلما رأى الناس تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم، رواه أبو داود [2199]. فقد اضطرب فيه أبو الصهباء عن ابن عباس في لفظه كما ترى، وقد اضطرب فيه طاوس فمرة رواه عن أبي الصهباء ومرة عن ابن عباس نفسه ومهما كثر الاختلاف والتناقض ارتفعت الشقة لا سيما عند المعارضة على ما يأتي.

ثم العجب أن معمرًا روى عن ابن طاوس عن أبيه أن ابن عباس سُئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا فقال له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجًا، انظر سنن أبي داود [2/ 649]. وظاهر هذا أنه لا مخرج له من ذلك وأنها ثلاث وهذه كرواية الجماعة الكثيرة عن ابن عباس كسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار ومحمد بن إلياس بن البكير والنعمان بن أبي عياش كلهم رووا عنه أنه ثلاث وأنها لا تحل له إلا من بعد زوج.

(4)

ومنها: لو سلمنا سلامته من الاضطراب لما صح أن يحتج به لأنه يلزم منه ما يدل على أن أهل ذلك العصر الشريف كانوا يكثُر فيهم إيقاع المحرمات والتساهل فيها وترك الإنكار على من يرتكبها وبيان اللزوم أن ظاهره أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقع الطلاق الثلاث كثيرًا منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر أبي بكر وسنتين من خلافة عمر أو ثلاث وششفتون علماءهم ويفتونهم بأنها واحدة ولا ينكرون عليهم مع أن الطلاق ثلاثًا في كلمة واحدة محرم بدليل قول ابن عمر وابن عباس

ص: 190

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

للمطلق ثلاثًا بانت منك وعصيت ربك، وبدليل ما رواه ابن عباس عن محمود بن لبيد قال البخاري: له صحبة، قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال:"أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" رواه النسائي في [6/ 142] هذا يدل على أنه محرم ومنكر فكيف يكثر فيهم العمل بمثل هذا ولا ينكرونه وهذا محال على قوم وصفهم الله تعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] إلى غير ذلك مما وصفهم الله تعالى به لا يقال هذا يبطل بما وقع عندهم من الزنا والسرقة وغير ذلك من الأسباب التي ترتبت عليها الأحكام لأنا نقول هذه لما وقعت أنكروا تلك الأمور وأقاموا الحدود فيها ولم يفعلوا ذلك فيما ذكرناه فافترقا وصح ما أبديناه، فإن قيل لعل تحريم ذلك لم يكن معلومًا عندهم! قلنا: هذا باطل فإنهم أعرف بالأحاديث ممن بعدهم، وقد ذكرنا ما رُوي في ذلك عن ابن عباس وابن عمر، والله تعالى أعلم.

(5)

ومنها: أن ظاهر ذلك الحديث خبر عن جميعهم أو عن معظمهم، والعادة تقتضي فيما كان هذا سبيله أن يفشو وينتشر ويتواتر نقله وتحيل أن ينفرد به الواحد ولم ينقله منهم إلا ابن عباس ولا عنه إلا أبوالصهباء، وما رواه طاوس عن ابن عباس في الأصل قد رواه أبو داود عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ولو رواه عنه لم يخرج بروايته عنه عن كونه خبر واحد غير مشهور، وهذا الوجه يقتضي القطع ببطلان هذا الخبر فإن لم يقتض ذلك فلا أقل من أن يفيدنا الريبة فيه والتوقف، والله أعلم.

(6)

ومنها: تطرق التأويل إليه ولعلمائنا فيه تأويلات أحدهما ما قاله بعض البغداديين: إن معناه الإنكار على من يخرج عن سنة الطلاق بإيقاع الثلاث والإخبار عن تساهل الناس في مخالفة السنة في الزمان المتأخر عن العصرين السابقين فكأنه قال: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثًا في ذينك العصرين واحدة كما يقال: كان الشجاع الآن جبانًا في عصر الصحابة، وكان الكريم الآن بخيلًا في ذلك العصر، فيفيد تغير الحال بالناس، وثانيهما قال غير البغداديين: المراد بذلك الحديث من تكرر الطلاق منه فقال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإنها كانت عندهم محمولة في القدم على التأكيد فكانت واحدة وصار الناس بعد ذلك يحملونها على التأسيس والتجديد فالزموا ذلك لما ظهر

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قصدهم إليه ويشهد بصحة هذا التأويل قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وقد تاوله غير علمائنا على أن ذلك كان في المطلقة قبل الدخول كما دل عليه حديث أبي داود الذي تقدم ذكره وأبدى بين المدخول بها وغيرها فرقًا فقال: إنما جعلوه في غير المدخول بها واحدة، وكان هؤلاء أشاروا إلى أن قوله لغير المدخول بها أنت طالق قد أبانها وبقي قوله ثلاثًا لم يصادف محلًا فأجروا المتصل مجرى المنفصل وهذا ليس بشيء فإن قوله أنت طالق ثلاثًا كلام واحد متصل غير منفصل، ومن المحال البين إعطاء الشيء حكم نقيضه وإلقاء بعض الكلام الواحد، وأشبه هذه التأويلات الثاني على ما قررناه، والله سبحانه وتعالى أعلم. وهذا الكلام في حديث ابن عباس وأما حديث ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثًا فغير صحيح كما قد ذكره مسلم عن ابن سيرين كما قدمناه وأيضًا فإن الدارقطني روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهني عن أبي الزبير قال: سالت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض فقال لي: أتعرف ابن عمر؟ قلت: نعم، طلقت امرأتي ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة. قال الدارقطني: كلهم شيعة رواه الدارقطني [4/ 7] وقال غيره: ما فيهم من يحتج به.

وأما حديث أبي ركانة فحديث مضطرب منقطع لا يُسند من وجه يحتج به رواه أبو داود من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع وليس فيهم من يحتج به عن عكرمة عن ابن عباس وقال فيه: إن عبد يزيد بن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرجعها" رواه أبو داود [2196] وقد رواه أيضًا من طريق نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ألبتة، فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها فحلف ما أراد بها إلا واحدة فردها إليه، رواه أبو داود [2206] فهذا اضطراب في الاسم والفعل ولا يحتج بشيء من مثل هذا فقد ظهر وتبين أنهم لا حجة لهم في شيء مما تمسكوا به، فأما حجة الجمهور فالتمسك بالقاعدة المقررة أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره ولا فرق بين مفرّقها ومجموعها إذ معناهما واحد لغة وشرعًا وما يتخيل من الفرق بينهما فصوري ألغاه الشرع قطعًا في النكاح والعتق والإقرار فلو قال الولي للخاطب في كلمة واحدة: أنكحتك هؤلاء الثلاث، فقال: قبلت، لزم النكاح كما إذا قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذلك في العتق والإقرار

ص: 192

3554 -

(00)(00) حدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. أَخبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ. ح وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ (وَاللَّفْظُ لَهُ). حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ. أَخبَرَنَا ابْنُ جُرَيج. أخبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَن أَبَا الصَّهْبَاءِ قَال لابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ أَنَّما كَانَتِ الثَّلاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكرٍ، وَثَلاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ فقال ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ

ــ

فكذلك الطلاق، وقد ذكر الدارقطني جملة من الأحاديث المرفوعة عن علي وعبادة بن الصامت وحفص بن المغيرة وابن عمر كلها تقتضي البينونة وأنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره ولم يُفرْق فيها بين المدخول بها وغيرها، فرأينا أن لا نطول الكلام بذكرها ولا بذكر أسانيدها وفيما ذكرناه كفاية والله تعالى الموفق للهداية، وإنما أطنبنا في الكلام على حديث ابن عباس لأن كثيرًا من الجُهّال اغتروا به فأحلوا ما حرم الله فافتروا على الله وعلى كتابه ورسوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا وعدل عن سبيله اهـ من المفهم.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال:

3554 -

(00)(00)(حدثنا إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي (أخبرنا روح بن عبادة) القيسي البصري، ثقة، من (9)(أخبرنا ابن جريج ح وحدثنا) محمد (بن رافع) القشيري (واللفظ) الآتي (له) أي لابن رافع (حدثنا عبد الرزاق) بن همام الصنعاني (أخبرنا ابن جريج أخبرني) عبد الله (بن طاوس عن أبيه) طاوس بن كيسان (أن أبا الصهباء) الهاشمي مولاهم مولى ابن عباس المدني، اسمه صهيب، روى عن مولاه ابن عباس في الطلاق وعلي وابن مسعود، ويروي عنه (م ت س) وطاوس وسعيد بن جبير، قال أبو زرعة: ثقة، وقال النسائي ضعيف، وقال في التقريب: مقبول، من الرابعة (قال) أبوالصهباء (لابن عباس) رضي الله تعالى عنهما. وهذا السند من سباعياته، غرضه بيان متابعة ابن جريج لمعمر بن راشد (أتعلم) يا ابن عباس (إنما كانت) الطلقات (الثلاث تجعل) وتحسب طلقة (واحدة) فيملك مطلقها أي مطلق الثلاث الرجعة (على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثًا) من السنين (من إمارة عمر) وخلافته أي هل تعلم ذلك أم لا؟ (فقال) له (ابن عباس: نعم) أعلم ذلك.

ص: 193

3555 -

(00)(00) وحدّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخبَرَنَا سُلَيمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ؛ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَال لابنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ. أَلَمْ يَكُنِ الطَّلاقُ الثَّلاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكرٍ وَاحِدَةً؟ فَقَال: قَدْ كَانَ ذلِكَ. فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطلاقِ. فَأَجَازَهُ عَلَيهِمْ

ــ

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال:

3555 -

(00)(00)(وحدثنا إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي (أخبرنا سليمان بن حرب) الأزدي الواشحي نسبة إلى واشح بطن من الأزد أبو أيوب البصري، قاضي مكة، ثقة، من (9)(عن حماد بن زيد) بن درهم البصري، ثقة، من (8)(عن أيوب) بن أبي تميمة كيسان (السختياني) العنزي البصري، ثقة، من (5)(عن إبراهيم بن ميسرة) الطائفي المكي، ثقة، من (5)(عن طاوس) بن كيسان اليماني (أن أبا الصهباء) صهيبًا الهاشمي مولاهم المدني (قال لابن عباس) رضي الله تعالى عنهما. وهذا السند من ثمانياته، غرضه بيان متابعة إبراهيم بن ميسرة لعبد الله بن طاوس (هات) أي أعط لنا وأخبر (من هناتك) أي من فتاويك المستغربة هي جمع هنة، وأصلها أنها كناية عن نكرة غير أن مقصوده هنا هات لنا فتيا من فتاويك المستغربة أو خبرًا من أخبارك المستكرهة وهو إشعار باستشناع تلك المقالة عندهم اهـ من المفهم. ثم قال أبو الصهباء -والهمزة في قوله- (ألم يكن) للاستفهام التقريري أي ألم يكن (الطلاق) أي الطلقات (الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر) رضي الله عنه تحسب (واحدة) أي طلقة واحدة بعدها الرجعة (فقال) ابن عباس في جوابه:(قد كان) وحصل (ذلك) الذي قلت في عهدهما (فلما كان) الزمن (في عهد عمر) بن الخطاب أي في خلافته (تتايع) بالمثناة التحتية قبل العين في رواية الجمهور، وضبطه بعضهم بالموحدة بدل المثناة وهما بمعنى واحد لكن تتايع بالمثناة إنما يستعمل في الشر، وتتابع بالموحدة في الخير والشر فالمثناة أي تتابع هنا أجود وأليق بالمقام أي تسارع (الناس) وتساقطوا (في الطلاق) الثلاث وأكثروا منه (فأجازه) أي أجاز الطلاق الثلاث (عليهم) عمر تغليظًا عليهم وزجرًا لهم عنه.

ص: 194

3556 -

(1400)(160) وحدّثنا زُهَيرُ بْنُ حَرب. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ (يَعْنِي الدَّسْتَوَائِيَّ) قَال: كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيد بْنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ، فِي الْحَرَامِ: يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا.

وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ:

ــ

قال الحافظ: وبالجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء أعني قول جابر إنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ هان كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق والله أعلم اهـ كلامه.

ثم استدل المؤلف على الجزء الثاني من الترجمة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال:

3556 -

(1400)(160)(وحدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم) بن مقسم المعروف بابن علية (عن هشام) بن أبي عبد الله سنبر (يعني) به (الدستوائي) أبي بكر البصري (قال) هشام: (كتب إليَّ) رسالة (يحيى بن أبي كثير) صالح بن المتوكل الطائفي اليمامي، ثقة، من (5) بأنه كان (يحدّث عن يعلى بن حكيم) الثقفي مولاهم المكي، ثقة، من (6) روى عنه في (4) أبواب (عن سعيد بن جبير) الوالبي مولاهم الكوفي، ثقة، من (3)(عن ابن عباس) رضي الله عنهما. وهذا السند من سباعياته رجاله اثنان منهم بصريان وواحد طائفي وواحد كوفي وواحد مكي وواحد يمامي وواحد نسائي، وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر (أنه) أي أن ابن عباس (كان يقول في الحرام) أي في تحريم الرجل امرأته على نفسه بأن قال لها: أنت عليّ حرام، فهو عند ابن عباس (يمين يكفِّرها) أي يجب التكفير عنها بكفارة يمين وليس بطلاق، واستدل عليه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث حرّم عليه بعض نسائه كما سيأتي (وقال ابن عباس) في

ص: 195

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]

ــ

الاستدلال (لقد كان لكم في رسول الله) أسوة حسنة أي قدوة حسنة [الأحزاب / 21]. وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البخاري [5266]، والنسائي [6/ 151]. وفي رواية عن ابن عباس قال: إذا حرّم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وذكر مسلم حديث عائشة في سبب نزول قوله تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .

قال النواوي: وقد اختلف العلماء فيما إذا قال لزوجته: أنت عليّ حرام، فمذهب الشافعي أنه إن نوى طلاقها كان طلاقًا، وإن نوى الظهار كان ظهارًا، وإن نوى تحريم عينها بغير طلاق ولا ظهار لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين ولا يكون ذلك يمينًا، وإن لم ينو شيئًا ففيه قولان للشافعي أصحهما يلزمه كفارة، والثاني أنه لغو لا شيء فيه، ولا يترتب عليه شيء من الأحكام هذا مذهبنا، وحكى القاضي في المسألة أربعة عشر مذهبًا:

أحدها المشهور من مذهب مالك أنه يقع به ثلاث طلقات سواء كانت مدخولًا بها أم لا، لكن لو نوى أقل من الثلاث قُبِل في غير المدخول بها خاصة وبهذا المذهب قال أيضًا علي بن أبي طالب وزيد والحسن والحكم. والثاني أنه يقع به ثلاث طلقات ولا تُقبل نيته في المدخول بها ولا في غيرها قاله ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون المالكي. والثالث أنه يقع به على المدخول بها ثلاث طلقات وعلى غيرها واحدة قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم المالكيان والرابع أنه يقع به طلقة واحدة بائنة سواء المدخول بها وغيرها وهو رواية عن مالك. والخامس أنها طلقة رجعية قاله عبد العزيز بن أبي سلمة المالكي. والسادس أنه يقع ما نوى ولا يكون أقل من طلقة واحدة قاله الزهري. والسابع أنه إن نوى واحدة أو عددًا أو يمينًا فهو ما نوى وإلا فلغو قاله سفيان الثوري. والثامن مثل السابع إلا أنه إذا لم ينو شيئًا لزمه كفارة يمين قاله الأوزاعي وأبو ثور. والتاسع مذهب الشافعي وسبق إيضاحه وبه قال أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. والعاشر إن نوى الطلاق وقعت طلقة بائنة وإن نوى ثلاثًا وقع الثلاث وإن نوى اثنتين وقعت واحدة وإن لم ينو شيئًا فيمين وإن نوى الكذب فلغو قاله أبو حنيفة وأصحابه. والحادي عشر مثل العاشر إلا أنه إذا نوى اثنتين وقعتا قاله زفر. والثاني عشر أنه تجب كفارة الظهار قاله إسحاق بن راهويه. والثالث عشر هي يمين فيها كفارة اليمين قاله ابن عباس وبعض التابعين. والرابع عشر أنه كتحريم الماء

ص: 196

3557 -

(00)(00) حدَّثنا يَحْيَى بْنُ بِشرٍ الْحَرِيرِيُّ. حَدَّثَنَا مُعَاوَيةُ (يَعْنِي ابْنَ سَلَّامِ) عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرِ؛ أَنَّ يَعْلَى بْنَ حَكِيم أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيرٍ أَخبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسِ قَال: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيهِ امْرَأتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]

ــ

والطعام فلا يجب فيه شيء أصلًا ولا يقع به شيء بل هو لغو قاله مسروق والشعبي وأبو سلمة وأصبغ المالكي. هذا كله إذا قال لزوجته الحرة أما إذا قاله لأمة فمذهب الشافعي إنه إن نوى عتقها عتقت وإن نوى تحريم عينها لزمه كفارة يمين ولا يكون يمينًا وإن لم ينو شيئًا وجبت كفارة يمين على الصحيح من المذهب. وقال مالك هذا في الأمة لغو لا يترتب عليه شيء، قال القاضي: وقال عامة العلماء: عليه كفارة يمين بنفس التحريم، وقال أبو حنيفة: يحرم عليه ما حزمه من ماء وطعام وغيره ولا شيء عليه حتى يتناوله فيلزمه حينئذٍ كفارة يمين. ومذهب مالك والشافعي والجمهور أنه إن قال: هذا الطعام حرام عليّ أو هذا الماء أو هذا الثوب أو دخول البيت أو كلام زيد أو سائر ما يحرمه غير الزوجة والأمة يكون لغوًا لا شيء فيه ولا يحرم عليه ذلك الشيء، فإذا تناوله فلا شيء عليه، وأم الولد كالأمة فيما ذكرناه والله تعالى أعلم.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في هذا الحديث فقال:

3557 -

(00)(00)(حدثنا يحيى بن بشر) بن كثير (الحريري) بفتح المهملة أبو زكرياء الكوفي، صدوق، من (10)(حدثنا معاوية يعني ابن سلام) بن أبي سلام ممطور الحبشي الدمشقي، ثقة، من (7)(عن يحيى بن أبي كثبر أن يعلى بن حكيم أخبره أن سعيد بن جبير أخبره أنه سمع ابن عباس) رضي الله عنهما. وهذا السند من سداسياته، غرضه بسوقه بيان متابعة معاوية بن سلام (قال) ابن عباس:(إذا حزم الرجل عليه) أي على نفسه (امرأته) أي عينها (فهي) أي ذلك التحريم، أنث الضمير نظرًا إلى كون الخبر مؤنثًا وهو قوله:(يمين) أي قَسَمٌ على عدم قربانها وليس بطلاق لأن الأعيان لا توصف بذلك (يكفرّها) أي يكفر تلك اليمين أي يخرج كفارة اليمين ويأتيها (وقال) ابن عباس مستدلًا على ما ذهب (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فيما حزم وأحل وفعل وترك، أشار بذلك إلى قصة مارية ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث ابن عباس بحديث عائشة رضي الله عنهما فقال:

ص: 197

3558 -

(1401)(161) وحدَّثني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ. أَخبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ. أَخبَرَنِي عَطَاءٌ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيدَ بْنَ عُمَيرٍ يُخبِرُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تُخبِرُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَيَشرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا. قَالت: فَتَوَاطَيتُ أَنَا وَحَفْصَةُ؛ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ. أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالت ذلِكَ

ــ

3558 -

(1401)(161)(وحدثني محمد بن حاتم) بن ميمون السمين البغدادي (حدثنا حجاج بن محمد) الأعور البغدادي ثم المصيصي، ثقة، من (9)(أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء) بن أبي رباح القرشي المكي، ثقة، من (3)(أنه سمع عبيد بن عمير) بن قتادة الليثي أبا عاصم المكي القاص، ثقة مخضرم، من (2) (يخبر أنه سمع عائشة) رضي الله عنها. وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم مكيون واثنان بغداديان وواحد مدني (تُخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث) ويتأخر (عند زينب بنت جحش) عندما يدور علينا عشية كل يوم للسلام علينا (فيشرب عندها عسلًا قالت) عائشة:(فتواطيت) هكذا هو في النسخ، وأصله تواطأت بالهمز كما هو في أكثر النسخ، وعبارة البخاري فتواصيت- بالصاد المهملة من التواصي- والمعنى واحد أي توافقت (أنا وحفصة) بنت عمر رضي الله عنهما على (أن أيتنا) بفتح الهمزة وتشديد التحتانية وتخفيف النون، وفي بعض روايات البخاري إسقاط أن ورفع آية، وما في قوله:(ما دخل عليها) زائدة أي اتفقنا على أن إحدانا إن دخل عليها (النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل) له: (إني أجد) وأشم (منك) يا رسول الله (ريح مغافير) فهل (أكلت مغافير) بتقدير أداة الاستفهام، والمغافير- بالغين المعجمة والفاء بعدها تحتية ساكنة- جمع مغفور بضم أوله على وزن عصفور هو صمغ حلو له رائحة كريهة، وذكر البخاري أنه شبيه بالصمغ يكون في الرمث -بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة- من الشجر التي ترعاها الإبل، والصمغ مادة تسيل من بعض الأشجار، وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب الرائحة الكريهة فلذلك ثقل عليه ما قالتا وعزم على عدم العودة (فدخل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (على إحداهما) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، قال ابن حجر: لم أقف على تعيينها وأظنها حفصة (فقالت) التي دخل عليها أولًا (ذلك) القول

ص: 198

لَهُ. فَقَال: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ" فَنَزَلَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ تَتُوبَا} [التحريم: 1 - 4](لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ){وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: (بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا)

ــ

الذي توافقتا عليه أكلت مغافير (له) صلى الله عليه وسلم (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم للسائلة: ما شربت مغافير (بل ضربت عسلًا عند زينب بنت جحش ولن أعود) وأرجع (له) أي لشربه؛ أي لا أشربه أبدًا فقد حرم العسل على نفسه، وزاد في رواية هشام بن يوسف عند البخاري في تفسير سورة التحريم "وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحدًا" وبهذه الزيادة تظهر مناسبة قوله فنزل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم / 1] قال عياض: حذفت هذه الزيادة من رواية حجاج بن محمد فصار النظم مشكلًا فزال الإشكال برواية هشام بن يوسف كذا في فتح الباري (فنزل) قوله تعالى: ({لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}) من العسل، وقوله:(إلى قوله) تعالى: ({إِنْ تَتُوبَا}) غاية لنزل أي نزلت هذه السورة من أولها إلى قوله إن تتوبا إلى الله حالة كونه تعالى يُعزض بألف التثنية في تتوبا (لعائشة وحفصة) ويكني عنهما أي يعني أن المراد باللتين تواطأتا، وحكى في الآية تظاهرهما على النبي صلى الله عليه وسلم هما الصدِّيقة وحفصة رضي الله تعالى عنهما، وأراد سبحانه وتعالى بالسر المذكور في قوله:({وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لقوله) أي أراد به قوله صلى الله عليه وسلم ما أكلت مغافير (بل شربت عسلًا) يريد أن المراد بالسر المحكي في الكتاب العزيز هو تحريمه صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه كما هو أحد الأقوال التفسيرية في معنى الحديث الذي أسرّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه وهي حفصة، وقيل المراد به تحريم سُرِّيته مارية على نفسه لما واقعها في بيت حفصة، وكانت غائبة فجاءت وشق عليها كون ذلك في بيتها وعلى فراشها فقال:"هي حرام عليّ" وقيل إمامة الشيخين يعني أن الخلافة بعده لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيما ذكره مسلم اختصار وتمامه كما في تفسير صحيح البخاري (فلن أعود له، وقد حلفت أن لا تخبري بذلك أحدًا) اهـ من بعض الهوامش. وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أحمد [6/ 221]، والبخاري [6691]، وأبو داود [3714].

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فقال:

ص: 199

3559 -

(00)(00) حدَّثنا أَبُو كُريب مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ. قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالعَسَلَ. فَكَانَ، إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ، دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُنَّ. فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ. فَسَألْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي:

ــ

3559 -

(00)(00)(حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء) الهمداني (وهارون بن عبد الله) بن مروان البغدادي (قالا: حدثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة الهاشمي مولاهم الكوفي (عن هشام) بن عروة (عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) رضي الله عنها. وهذا السند من خماسياته، غرضه بيان متابعة عروة لعبيد بن عمير في الرواية عن عائشة (قالت) عائشة:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل) والحلواء بالمد ويجوز قصره، قال القسطلاني في فقه اللغة للثعالبي: إن حلوى النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يحبها هي المجيع بالجيم بوزن عظيم وهو تمر يعجن باللبن فإن صح هذا وإلا فلفظ الحلوى يعم كل ما فيه حلو كذا قال القسطلاني، قال النووي: المراد بالحلواء في هذا الحديث كل شيء حلو، وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته وهو من عطف الخاص على العام، وفي القسطلاني: وليس هذا من عطف الخاص على العام، لأن العام هو الذي يدخل فيه الخاص وليس كذلك هنا (فكان) صلى الله عليه وسلم (إذا صلى) صلاة (العصر) وفرغ منها (دار) أي طاف (على نسائه) وأزواجه في حجرهن (فيدنو منهن) أي يقرب من إحداهن بأن يقبلها ويباشرها من غير جماع كما في رواية أخرى، وفي رواية حماد بن سلمة عن هشام عند عبد بن حميد أن ذلك إذا انصرف من صلاة الفجر لكنها كما في الفتح رواية شاذة، وعلى تسليمها فيحتمل أن الذي كان يفعله أول النهار سلام ودعاء محض والذي في آخره معه جلوس ومحادثة (فدخل على حفصة) بنت عمر (فاحتبس) أي فمكث (عندها) احتباسًا (كثر مما كان يحتبس) عند غيرها أي مكث عندها مكثًا كان أطول من مكثه عند غيرها، قالت عائشة:(فسألت) بعض الناس (عن ذلك) أي عن مكثه عند حفصة مكثًا طويلًا، وفي حديث ابن عباس أن عائشة قالت لجويرية حبشية كانت عندها يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة فادخلي عليها فانظري ماذا يصنع، فأخبرتها الجارية بشأن العسل (فقيل لي) أي قال لي بعض من

ص: 200

أَهْدَت لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ مِنْ عَسَلٍ. فَسَقَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً. فَقُلْتُ: أَمَا وَاللهِ، لَنَحْتَالنَّ لَهُ. فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِسَوْدَةَ. وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيكِ، فَإِنَّهُ سيَدْنُو مِنْكِ. فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لَا. فَقُولِي لَهُ: مَا هذِهِ الرِّيحُ؟ (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَشتَدُّ عَلَيهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ) فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْني حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ

ــ

سألته (أهدت لها) أي لحفصة (امرأة من قومها) أي من قوم حفصة وأقاربها، ولم أر من ذكر اسم المرأة (عكة من عسل) وسقط الجار من بعض روايات البخاري، وزاد ابن عباس من الطائف، قال الجوهري: العكة إناء السمن وفسرها ابن حجر في مقدمة الفتح بالقربة الصغيرة (فسقت) حفصة (رسول الله صلى الله عليه وسلم منه) أي من ذلك العسل (شربة) قالت عائشة: (فقلت أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (والله لنحتالن له) أي لأجله أي لنطلبن له الحيلة في حرمانه عن ذلك العسل، وهي كما في المصباح: الحذق في تدبير الأمور وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود، وفي القسطلاني في كتاب الحيل من صحيح البخاري: الحيلة كل ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي اهـ، قال الكرماني: كيف جاز على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم الاحتيال؟ فأجاب بأنه من مقتضيات الغيرة الطبيعية للنساء وهو صغيرة معفو عنها مكفرة كذا في عمدة القاري (فذكرت ذلك) الاحتيال (لسودة) بنت زمعة (وقلت) عطف تفسير لذكرت أي قلت لها "ذا دخل عليك) رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإنه) صلى الله عليه وسلم (سيدنو) أي سيقرب (منك) للقبلة والمعانقة (فقولي له) وقتئذٍ (يا رسول الله أكلت) أي هل أكلت (مغافير؟ ) فإنه يُشم منك رائحته (فإنه سيقول لك لا) أي ما أكلت المغافير (فقولي له) عندئذٍ (ما هذه الريح؟ ) التي تشم منك (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد) ويشق (عليه أن يوجد) ويشم (منه الريح) الكريهة (فإنه) صلى الله عليه وسلم (سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل) وفي الرواية السابقة من هذا الباب إن شُرب العسل كان عند زينب بنت جحش وفي هذه عند حفصة، وقد قدمنا أن رواية ابن عباس عند ابن مردويه إنه كان عند سودة وأن عائشة وحفصة هما اللتان تواطأتا كما في رواية عبيد بن عمير المروية أول هذا الباب وإن اختلفتا في صاحبة العسل فيمكن حمله على التعدد إذ لا يمتنع تعدد السبب للشيء الواحد، أو رواية عبيد أثبت لموافقة ابن عباس لها على أن المتظاهرتين

ص: 201

فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ. وَسأَقُولُ ذلِكَ لَهُ. وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ. قَالتْ: تقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِي لَا إِلهَ إلا هُوَ، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ بِالَّذِي قُلْتِ لِي. وَإنَّهُ

ــ

حفصة وعائشة على ما تقدم في التفسير فلو كانت حفصة صاحبة العسل لم تُقرن في المظاهرة بعائشة لكن يمكن تعدد القصة التي في شرب العسل وتحريمه واختصاص النزول بالقصة التي فيها أن عائشة وحفصة هما المتظاهرتان، ويمكن أن تكون القصة التي وقع فيها الشرب عند حفصة كانت سابقة، والراجح أيضًا أن صاحبة العسل زينب لا سودة لأن طريق عبيد أثبت من طريق ابن أبي مليكة، ويؤيده أن في الهبة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن حزبين عائشة وسودة وحفصة وصفية في حزب وزينب بنت جحش وأم سلمة والباقيات في حزب، ولذا غارت عائشة منها لكونها من غير حزبها، وممن ذهب إلى الترجيح عياض فقال: رواية عبيد بن عمير أولى لموافقتها ظاهر القرآن لأن فيه {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيهِ} فهما ثنتان لا أكثر، قال: فكان الأسماء انقلبت على راوي الرواية الأخرى، لكن اعترضه الكرماني فقال: متى جوزنا هذا ارتفع الوثوق بأكثر الروايات، وفي تفسير السُّدِّي: إن شرب العسل كان عند أم سلمة أخرجه الطبري وغيره وهو مرجوح لإرساله وشذوذه اهـ ملخصًا من الفتح اهـ من الإرشاد.

(فقولي له) صلى الله عليه وسلم يا سودة: (جرست) بفتح الجيم والراء والسين المهملة أي رعت (نحله) أي نحل هذا العسل الذي شربته (العرفط) بضم العين المهملة والفاء بينهما راء ساكنة آخره طاء مهملة؛ هو الشجر الذي صمغه المغافير (وسأقول) أنا (ذلك) القول الذي أمرتك به (له) صلى الله عليه وسلم حين دخل ودنا إليّ (وقوليه) أي وقولي له صلى الله عليه وسلم (أنت يا صفية) إذا دخل ودنا إليك، وفي رواية البخاري زيادة (ذاك) بكسر الكاف بلا لام، وفي رواية له لأبي ذر (ذلك) أي قولي له يا صفية بنت حيي الكلام الذي علمته لسودة، زاد يزيد بن رومان عن ابن عباس:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليه أن توجد منه ريح كريهة لأنه يأتيه الملك"(فلما دخل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (على سودة) بنت زمعة (قالت) عائشة: (تقول) لي (سودة: و) الله (الذي لا إله إلا هو لقد كدت) وقربت (أن أبادئه) بالموحدة من المبادأة، وفي رواية البخاري عند ابن عساكر (أناديه) بالنون بدل الموحدة أي أن أناديه (بـ) الكلام (الذي قلت لي) وأمرتني به من أن أقول له أكلت مغافير (و) الحال (أنه) صلى الله عليه

ص: 202

لَعلَى الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ. فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَال:"لَا" قَالت: فمَا هذِهِ الرِّيحُ؟ قَال: "سَقَتْنِي حَفْصةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ" قَالتْ: جَرَسَتْ نَخلُهُ الْعُرْفُطَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لهُ مِثْلَ ذلِكَ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَالتْ بِمِثْلِ ذلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ألَا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَال:"لَا حَاجَةَ لِي بِهِ".

قَالت تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَاللهِ، لَقَدْ حَرَمْنَاهُ. قَالتْ: قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي

ــ

وسلم (لـ) واقف (على الباب) قبل دخوله علي (فرقًا) بفتح الفاء والراء أي خوفًا (منك) أي من لومك، وهو مفعول له لفعل المقاربة؛ والمعنى والله لقد كدت خوفًا من لومك أن أبدأه وأناديه وهو لدى الباب لم يدنو مني بعد بالكلام الذي علمتنيه، قالت عائشة:(فلما) دخل و (دنا) وقرب (رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سودة (قالت) له سودة: (يا رسول الله) هل (أكلت مغافير؟ قال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا) أي ما أكلت مغافير (قالت) له سودة: (فما هذه الريح؟ ) الكريهة التي تُشَمّ منك (قال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سقتني حفصة شربة عسل. قالت) له سودة لعله (جرست) أي رعت (نحله العرفط) أي شجر المغافير، قالت عائشة:(فلما دخل عليّ) رسول الله صلى الله عليه وسلم (قلت له مثل ذلك) أي مثل القول الذي قلت لسودة أن تقوله له، والظاهر أنها تخاطب عروة فالكاف مفتوحة فيه في الموضعين (ثم دخل على صفية) بنت حيي (فقالت) له (بمثل ذلك) أي بمثل ما قلت أنا وصودة له من قول أكلت مغافير (فلما دخل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (على حفصة) بنت عمر صاحبة العسل في اليوم الثاني (قالت) له حفصة:(يا رسول الله ألا) بالتخفيف أداة عرض وهو الطلب برفق ولين نظير قولهم ألا تنزل عندنا (أسقيك منه) أي من العسل (قال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حاجة لي) اليوم (به) أي بالعسل، لما وقع من توارد النسوة الثلاث على أنه نشأت له من شربه ريح كريهة فتركه حسمًا للمادة (قالت) عائشة:(تقول سودة) فيما بيننا (سبحان الله، والله لقد حرمناه) بتخفيف الراء، أي لقد منعناه صلى الله عليه وسلم من العسل (قالت) عائشة (قلت لها) أي لسودة:(اسكتي) يا سودة عن هذا الكلام الذي احتلنا له به لئلا يفشو ذلك بين الناس فيظهر ما دبّرته لحفصة صاحبة

ص: 203

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

العسل، وهذا منها على مقتضى طبيعة النساء في الغيرة، وليس بكبيرة بل صغيرة معفو عنها مكفرة بنحو الصلاة والطهارة كما مر اهـ من الإرشاد.

قوله: (كدت أن أبادئه) وفي بعض الروايات (أبادره) وفي بعضها (أناديه) والمعنى أني كنت أهاب عائشة وأخاف أن تغضب علي إذا أنا أبطأت في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عما علمتني عائشة فكدت أن أبادره بالسؤال عن ذلك وهو بالباب قبل أن يدخل البيت.

وإنما كانت سودة تهاب عائشة لما تعلم من مزيد حب النبي صلى الله عليه وسلم إياها فخشيت إذا خالفتها أن تغضبها وإذا أغضبتها لا تأمن عليها خاطر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحتمل ذلك فهذا معنى خوفها منها قاله الحافظ.

قوله: (سبحان الله، والله لقد حرمناه) قالت ذلك تندمًا على ما فعلت، وفيه إشارة إلى ورعها لأنها وافقت أولًا على دفع ترفع حفصة عليهن بمزيد الجلوس عندها بسبب العسل ورأت أن التوصل إلى بلوغ المراد من ذلك لحسم مادة شرب العسل، ولكن أنكرت بعد ذلك أنه يترتب عليه منع النبي صلى الله عليه وسلم من أمر كان يشتهيه وهو شرب العسل فأخذت سودة تتعجب مما وقع منهن في ذلك ولم تجسر على التصريح بالإنكار ولا راجعت عائشة بعدما قالت لها: اسكتي بل أطاعتها وسكتت لما تقدم من اعتذارها في أنها كانت تهابها كذا في فتح الباري.

قولها: (اسكتي) كانها خشيت أن يفشو ذلك فيظهر ما دبزته من احتيالها لحفصة، وفيه ما يشهد بعلو مرتبة عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت ضرتها تهابها وتطيعها في كل شيء تأمرها به حتى في مثل هذا الأمر مع الزوج الذي هو أرفع قدرًا.

ثم في هذا الحديث فوائد منها أن الغيرة مجبولة في النساء طبعًا فالغيراء تُعذر في ما يقع منها من احتيال فيما يدفع عنها ترفع ضرتها عليها بأي وجه كان قاله الحافظ، ومنها أن عماد القسم الليل وأن النهار يجوز فيه الاجتماع بالجميع بشرط ترك المجامعة إلا مع صاحبة النوبة، ومنها أن الأدب استعمال الكنايات فيما يستحيى من ذكره كما في قوله في الحديث (فيدنو منهن) والمراد التقبيل والتحضين لا مجرد الدنو، ومنها أن فيه

ص: 204

3560 -

(00)(00) قَال أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ بِشرِ بْنِ الْقَاسِمِ. حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، بِهذَا، سَوَاءً. وَحَدَّثَنِيهِ سُوَيدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ

ــ

فضيلة الحلواء والعسل لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم إياهما، ومنها أن فيه بيان صبر النبي صلى الله عليه وسلم غاية ما يكون ونهاية حلمه وكرمه الواسع كذا في عمدة القاري [9/ 1551].

وشارك المؤلف في هذه الرواية البخاري [5268]، وأبو داود [3715]، والنسائي [6/ 151]، وابن ماجه [3323].

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فقال:

3560 -

(00)(00)(قال أبو إسحاق إبراهيم) بن سفيان صاحب مسلم راوي هذا الجامع عنه (حدثنا الحسن بن بشر بن القاسم) السلمي قاضي نيسابور، صدوق، من الحادية عشرة، مات سنة (244) أربع وأربعين ومائتين، لم يصح أن مسلمًا روى عنه، وإنما روى عنه أبو إسحاق بن سفيان الراوي عن مسلم في مواضع علا فيها إسناده في الطلاق والوصايا والإمارة وغيرها (حدثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة القرشي الكوفي (بهذا) الإسناد، يعني عن هشام عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها مثله (سواء) أي حالة كون حديث أبي كريب وحديث الحسن بن بثر متساويين. غرضه بيان متابعة الحسن بن بشر لأبي كريب وهارون بن عبد الله، قال أبو إسحاق أيضًا (وحدثنيه) أي وحدثني الحديث المذكور (سويد بن سيد) بن سهل الهروي، صدوق، من (10)(حدثنا علي بن مسهر) القرشي المروزي، ثقة، من (8)(عن هشام بن عروة بهذا الإسناد) يعني عن أبيه عن عائشة (نحوه) أي نحو ما روى أبو أسامة عن هشام. غرضه بيان متابعة علي بن مسهر لأبي أسامة، قال النووي: معنى هذا الكلام أن إبراهيم بن سفيان صاحب مسلم يساوي مسلمًا في إسناد هذا الحديث فرواه أولًا عن واحد عن أبي أسامة كما رواه مسلم عن واحد عن أبي أسامة فعلا برجل، ورواه ثانيًا عن اثنين عن هشام كما رواه مسلم عن اثنين عن هشام فعلا برجلين.

ص: 205

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب ثلاثة أحاديث، الأول: حديث ابن عباس ذكره للاستدلال به على الجزء الأول من الترجمة وذكر فيه متابعتين، والثاني: حديث ابن عباس الثاني ذكره للاستدلال به على الجزء الثاني من الترجمة وذكر فيه متابعة واحدة، والثالث: حديث عائشة ذكره للاستشهاد وذكر فيه متابعتين والله أعلم.

***

ص: 206