الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توْطئةٌ
البلاغة والجمال
البشرُ يهوى الجمال ويتوخاه في آثار الطبيعة كما يتحراه في آثار الفكر، فالأول يبدو في آثار الكون وما فيه من تنوع وانسجام. والثاني ينبثق من العقل ويبرزهُ الفنُّ.
يرى أحدنا منظراً حسناً فيروقُهُ جملة لكنه يغفل عن دقائقه، فإذاً صورة مصور حاذق وأسبغ عليه من فنه ما يوائمه من ألوانه ويلائمه من ظلال برز لنا في غاية الرواء والجمال.
ويمر الملأ بأشجار الصفصاف على ضفاف النهر فلا يفطنون إلى ما يكمنُ فيها من جمال حتى يصفها الشاعر بقوله:
وتُرخي علينا للغصون ذوائباً
…
يسرحها كف النسيم بلا مشط
ولما شاهد أحمد شوقي مغاني دمشق وما يكتنف برداها من أفنان وارفةٍ وأطيار ساجغة ومناطر ساحرة أخذته هزةُ الطرب وأضفى عليها من روعة فنه ودقة وصفه ما أكسبها بهاء على بهاء وجمالاً على جمال فقال:
دخلتها وحواشيها زمردة
…
والشمس فوق لجين الماء عقيانُ
جرى وصفق يلقانا بها بردى
…
كما تلقاك دون الخلد رضوان
والحور في دمر أو فوق هامتها
…
حور كواشف عن ساق وولدان
وربوة الواد في جلباب غانية
…
الساقُ كاسيةٌ والنحر عريانُ
والطير تصدحُ من خلْف العيون بها
…
وللعيون كما للطير ألحان
وقد صفا بردى للريح فابترذتْ
…
لدي ستورٍ حواشيهن أفنان
وفي يوم قائظ لأذ شاعر أندلسي بوادي (آش) ينعمُ بظله الظليل أهوائه البليل ومائه السلسبيل فجادت قريحته بما هو أرق من النسيم وأنعُم من النعيم فقال:
وقانا لفحة الرمضاء واد
…
سقاهُ مضاعف الغيث العميمِ
حللنا دوحَهُ فحنا علينا
…
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً
…
ألذ من الُمدامة للنديم
يصدُّ الشمس أنى واجهتنا
…
فيحجبها ويأذن للنسيم
تروعُ حصاهُ حالية العذارى
…
فتلمس جانب العقد النظيم
أما البحتري فقد وصف الربيع بما يشبهُ الدر ويحكي السحْر، فمثلهُ فتى وسيماً باسماً مائساً يهمُّ بالكلام فقال:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
…
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النوْرُوز في غسق الدجى
…
أوائل ورْد كن بالأمس نوَّما
يُفتقُها بردُ الندى فكإنما
…
يبث ُّحديثاً كان قبل مكتَّما
هذه أمثلة من ومضات العقل ولمسات الفن. والوصول إلى تذوق أمثالها يكون بمعرفة علوم البلاغة فإنها تهب دارسها ملكة تهديه إلى مواطن الجمال في آثار الفكر من نظم ونثر، وترشده إلى تخير الألفاظ الحسنة والمعاني الشريفة حتى يبلغ بالمران ما يرومُهُ من لذاذةٍ فما يقرأ أو يكتب أو ينظم.
* * *