الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
في علم الكتابة
عرفه العلماء بأنه علم بأصول يُعرفُ بها تأدية الكتابة على وجه الصحة.
وقيل أيضاً: هو قانون تعصم مراعاته من الخطأ في (الخط) كما تعصم قواعد النحو من الخطأ في (اللفظ) .
وينحصر موضوعه في أربعة أبواب:
1 -
الحروف التي تفصل في موضع وتوصل في موضع آخر، مثل حرف (ما) في نحو: طال ما وطالما، وإن ما وإنما، وقل ما وقلما وغيرها.
2 -
الحروف التي تُبدل نحو: نما ورمى أصلها نمو ورمَي. ومثلها: سماء وبناء واتقاء وازدراء وغيرها.
3 -
الحروف التي تزاد نحذو الألف في: أكلوا وشربوا. والواو في عمرو.
4 -
الحروف التي تنقص كحذف الواو من داود وطاوُس وغيره.
وكان أرباب الفصاحة من السلف يلزمون أنفسهم بأصول الكتابة لتكون صحيحة خالية مما يُعاب وينقد، ويلحنون من يحيد عن قواعد الكتابة حرصاً على سلامة اللغة ونقائها. وكان الخلفاء والولاة يقدمون أهل اللغة والأدب، ويغدقون عليهم الأموال تكريمً لهم وترغيباً لمن يسير على نهجهم. حدث أبو بشير
محمد بن فالح عن النضر بن شُميل قال: "كنت أدخل على المأمون في سمرِه، فدخلت عليه ذات ليلة، فجرنا الحديث إلى ذكر النساء، فقالت المأمون: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) : إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمهالها كان فيها سداد من عوزٍ. فقلت: "سدادٌ من عوز"، فقال المأمون: ويحك يا نضر أتلحنني؟ قلت: السداد ههنا لحنٌ، وكان هُشيم لحَّانة فتبعه أمير المؤمنين بلفظه. قال: وما الفرق بينهما؟ قلت: السداد: القصد بالدين والسبيل. والسداد (بالكسر) : البُلغة. وما سددت به شيئا فهو سداد. قال: وتعرف العرب هذا؟ قلت: نعم، العرجي يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة سدادِ تغرِ
قال المأمون: قبح الله من لا أدب له. ثم قال: ما مالكَ يا نضر؟ قلت: أريضة لي بمروَ أتصابُّها وأتمززها. فأمر لي بخمسين ألف درهم وزاد عليها الفضل بن سهل ثلاثين ألفاً. فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفاده مني.
* * *
والكتابةُ والكتابُ والكتبُ مصادر فعل (كتبََ) : إذا خط بالقلم وضمَّ وجمع. يقال: كتَبَ قرطاساً إذا ضم فيه حروفاً وجمعها إلي بعضها.
وكتب كتائب الجيش: إذا جمعها. ويستعار الكتب بمعنى الطعن. ومنه قوله
البوصيري:
والكاتبون بسمْر الخط ما تركتْ
…
أقلامُهم حرف جيم غير منعجم
وشاع إطلاق الكتابة عرفاً على أعمال الكتابة باليد وتصوير الحروف ونقشها. واصطلاحاً عند الأدباء على صناعة الإنشاء بدليل قولهم: "بُدئت الكتابة بعبد السيد وختمت بابن العميد". ويقولون: فلان شاعر وفلان كاتب أي: منشئ. قال الشاعر:
وما كل من لاق اليراعَ بكاتب
…
ولا كل من راش السهام بصائب
ومن الألفاظ المرادفة للكتابة بالمعنى: الخط والسطر والسْفر والزبرُ والرسْم والرقم والتحرير.
ولما كان الخط وعاء الكتابة وقوامها حسُن أن نورد ما ذكره العلماء المؤرخون بشأن الخطوط عامة والخط العربي خاصة:
قال ابن خلكان وتبعه الدميري في حياة الحيوان والحلبي في السيرة: "إن كتابات الأمم في المشرق والمغرب اثنتا عشرة كتابة، خمس منها ذهب من يعرفها وهي الحميرية والقبطية والبربرية واليونانية والأندلسية. وثلاث فقد من يعرفها في بلاد الإسلام ومستعملة في بلادها وهي: الهندية والصينية والرومية. وأربع منهما باقية ومستعملة في بلاد الإسلام وهي السريانية والفارسية والعبرانية والعربية".
والحميرية هي خط أهل اليمن قوم هود وهم عاد الأولى، وكانت كتابتهم تسمى (المُسند) . وقال المقريزي في الخطط:" الخط المسند هو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد ". وقال السيوطي في المزهر: "المشهور عند أهل العلم أن أول من كتب بخطنا عرب طيب طي، ثم علموه أهل الأنبار، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق الحيرة وغيرها". وقال النووي: "إن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة".
وقال ابن خلدون في المقدمة: "إن أهل الحجاز لقنوها (أي الكتابة) من الحيرة، ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير، وهو أليقُ الأقوال".
* * *
ولما بزغت شهس الإسلام في الحجاز وكتب القرآن في المصاحف منقوطاً مشكولاً تحسن الخطة وساير الحضارة في بلاد العرب والإسلام تقدماً وإزدهاراً على يد المبدعين من نوابغ الخطاطين حتى بلغ غاية الجمال والكمال على يد الوزير أبي علي بن مقلة الذي جاء على رأس القرن الثالث للهجرة، فهو الذي هندس الحروف وأجاد تحريرها. وعنه انتشر الخط المعروف في مشارق الأرض ومغاربها قال أبو حيان التوحيدي في رسالته (علم الكتابة) فيما رواه عن ابن الزنجي قال:"أصلح ألخطوط وأجمعها لأكثر الشروط، ما عليه أصحابنا في العراق؛ فقيل له: ما تقوم في خط ابن مقلة؟ قال: ذاك نبيُّ فيه، أُفرغّ الخط في يده كما أوحي إلي النحل في تسديس أبياتها".
وقال الصاحب بن عباد:
خط الوزير ابن مقلة
…
بستان قلب ومقله
وقال آخر:
وأجاد السطور في صفحة الخدَّ
…
ولم لا يجيد وهو ابن مقله
واستمر الخط العربي يتطور إبداعاً وجمالاً، وتعددت أنواعه، فكان منها الكوفي الرائع والديواني والفارسي والنسخ والثلث، ورسمت الطغراء، وكتبت المصاحف موشاة بماء الذهب ومنقطة بالألوان المتآلفة.
وفي حسن الخط قال إبراهيم الصولي: "يوصف الخط بالجودة إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدورُه،
وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنفاسه، واندمجت وصوله، وتناسب دقيقه وجليله".
وقال ابن المعتز في خطاط:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه
…
تفتّضح نوراً أو تنظم جوهرا
وقال أحدهم في بلاغة إبراهيم الصولي وفي حسن خطه:
يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقهُ
…
وينظم الدرَّ بالأقلام في الكتب
وقال عبيد الله بن عباس: "الخط لسان اليدِ".
وقال أبو هلال العسكري:
الكتبُ عقل شوارد الكلم
…
والخط خيط في يد الحكمِ
والخط نظم كل منتثر
…
منها وفصَّل كل منتظمِ
ولما أفلت شمس الحضارة اختفت تلك الخطوط البديعة، ولا تزال مجموعات منها محفوظات عند الهواة وفي خرائط المتاحف، وأصبحت الخطوط سقيمة ولا سيما خطوط الطلاب لفقدان من يدربهم على الخط الصحيح وقواعده القويمة.
ولعل أهل المعرفة في بلاد العرب يسعون لإحياء هذا الفن الجميل.
* * *