الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغلط في كتاب العين لأن الخليل رسمه ولم يَحْشه ولو كان هو حَشاه ما بقيَ فيه شيءٌ لأَن الخليل رجلٌ لم يُرَ مثلُه وقد حشا الكتاب أيضا قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤخذ منهم رواية وإنما وُجد بنقل الورَّاقين فاختلَّ الكتابُ لهذه الجهة.
وقال محمد بن عبد الواحد الزاهد: قال حدَّثني فتى قَدِمَ علينا من خُراسان وكان يقرأ عليَّ كتاب العين قال أخبرني أبي عن إسحاق بن راهَويْه قال: كان الليثُ صاحبُ الخليل بن أحمد رجلا صالحا وكان الخليلُ عَمِل من كتاب العين باب العين وحدَه وأحبَّ الليثُ أن يَنْفُق سوقُ الخليل فصنَّف باقي الكتاب وسمَّى نفسه الخليل وقال لي مرة أخرى: فسمَّى لسانه الخليل من حبِّه للخليل بن أحمد.
فهو إذا قالَ في الكتاب: قال الخليل بن أحمد: فهو الخليل.
وإذا قال: وقال الخليلُ مطلقا فهو يحكي عن نفسه فكلُّ ما في الكتاب من خَلل فإنه منه لا من الخليل.
انتهى.
وقال النووي في تحرير التنبيه: كتابُ العين المنسوبُ إلى الخليل إنما هو من جَمْع اللّيثِ عن الخليل.
ذِكْرُ قَدْحِ الناس في كتاب العين
تقدَّمَ في كلام الإمام فخر الدين أنَّ الجمهورَ من أهل اللغة أَطْبَقُوا على القَدْح فيه وتقدَّم كلامُ ابن فارس في ذلك في المسألة الرابعة عشرة.
وقال ابنُ جني في الخصائص: أما كتاب العين ففيه من التخليط والخلل والفساد ما لا يجوز أن يحمل على أصغر أتباع الخليل فَضْلاً عن نفسه ولا محالة أن هذا التَّخْليط لَحِق هذا الكتابَ من قِبَل غيره فإن كان للخليل فيه عَمَلٌ فلعلَّه أوْمَأ إلى عمل هذا الكتاب إيماء ولم يَلِه بنفسه ولا قرَّره ولا حرَّره ويدلُّ على أنه كان نحَا نحْوَه أنني أجدُ فيه معاني غامضة ونَزَوَات للفكر لطيفة وصيغة في بعض الأحوال مستحكمة وذاكرتُ به يوما أبا علي فرأيتُه مُنْكِراً له فقلت له: إن تصنيفَه مُنْساق متوجه وليس فيه التعسُّف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنَّف إنسان لغة بالتركية تصنيفا جيدا يؤخذ به في العربية أو كلاما هذا نحوه.
انتهى.
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي اللغوي مؤلف مختصر العين في أول كتابه - اسْتِدْرَاكُ الغَلَطِ الواقع في كتاب العَين - وهو مجلَّد لطيف يخاطب بعضَ إخوانه:
وصل إلينا أَيَّدَكَ الله كتابَك تذكُرُ فيه ما أُولع به قومٌ من ضَعَفَة أهل النَّظر من التحامل علينا والتسرع بالقول فينا بما نسبُوه إلينا من الاعتراض على الخليل بن أحمد في كتابه والتَّخْطِئَة له في كثير من فُضُوله وقلت إنهم قد استمالوا جماعة من الحشوية إلى مذهبهم وعَدَلوا بهم إلى مقالتهم بما لبسوا به وشنَّعوا القول فيه وسألتَ أن أَحْسم ما نَجَم من إفْكِهِم وأرد ما نَدَر من غَرْبِ ألسنتهم ببيانٍ من القول مُفْصِح واحتجاج من النظر مُوضح.
وقد كنتَ - أَيَّدَك الله في صحَّة تمييزك وعظيم النعمة عليك - في نظرك جديرا ألا تُعرِّج على قوم هم بالحال التي ذَكرتَ وأن يقعَ لهم العذرُ لديك بوجوه جَمَّة منها: تخلفهم في النظر وقلةُ مطالعتهم للكتب وجهلُهم بحُدُودِ الأدب مع أن العلَّة المُوجبة لمقالتهم والباعثةَ لتسرُّعِهم علةُ الحسد الذي لا يُدَاوى سَقَمه ولا يُؤْسَى جرحه فقد قال الحكيم: // من البسيط //
(كلُّ العَداوات قد تُرجى إفاقتها
…
إلَاّ عداوةَ مَنْ عاداك من حَسدِ) .
أوليسَ من العجب العجيب والنادِر الغريب أن يَتوهَّم علينا مَنْ به مُسْكَة من نظَرٍ: أو رمَق من فَهْم تخطئةَ الخليل في شيءٍ من نظرِه والاعتراضَ عليه فيما دقَّ او جل من مذهبه والخليلُ بنُ أحمد أَوْحَدُ العصر وقريعُ الدهر وجهبذ الأمة وأستاذ أهل الفطنة والذي لم يُرَ نظيرُه ولا عُرِف في الدنيا عديلُه وهو الذي بَسط النحوَ ومَدَّ أطنابَه وسبَّب عِلَلَه وفَتَقَ معانية وأوضحَ الحِجاج فيه حتى بلغ أَقْصى حدودِه وانتهى إلى أبعدِ غاياته ثم لم يرضَ أن يؤلِّفَ فيه حرفا أو يَرْسُمَ منه رَسْماً نَزَاهَةً بنفسه وتَرَفُّعاً بقَدْرِه إذ كان قد تقدم إلى القول عليه والتأليف فيه فَكَرِهَ أن يكونَ لمن تقدمه تاليا وعلى نظَرِ مَن سَبَقهُ مُحْتَذِياً واكتفى في ذلك بما أَوْحَى إلى سيبويه من عِلْمِه ولقَّنه من دقائقِ نَظره ونتائج فِكره ولطائفَ حكمته فحَمل سيبويه ذلك عنه وتقلده وألفَّ فيه الكتاب الذي أعجَزَ من تقدَّم قبلَه كما امتنع على مَنْ تأخَّرَ بعده.
ثم ألَّف على مذهب الاخْتراع وسبيل الإبداعِ كتابي الفرش
والمثال في العَروض فحصرَ بذلك جميعَ أوزانِ الشعر وضمَّ كلَّ شيءٍ منه إلى حيِّزه وأَلْحَقَه بشَكْله وأقام ذلك عن دوائرَ أَعْجَزَتِ الأذهان وبَهَرَتِ الفِطَن وغمرتِ الألباب وكذلك ألَّف كتاب المُوسيقى فَزَمَّ فيه أصناف النَّغَم وحََصَر به أنواع اللحون وحدَّد ذلك كله ولخصه وذكر مَبَالغ أقسامه ونهاياتِ أعداده فصار الكتابُ عِبرةً للمُعتبرين وآية للمتوسِّمين.
ولما صنعَ إسحاق بن إبراهيم كتابَه في النَّغم واللحون عَرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: لقد أحسنت يا أبا محمد وكثيرا ما تحسنفقال إسحاق: بل أحسنَ الخليلُ لأَنه جعلَ السبيلَ إلى الإحسان.
فقال إبراهيم: ما احسن هذا الكلامفممن أخَذْتَهُ قال: من ابن مُقْبِل إذ سمع حمامة فاهتاج فقال: // من الطويل //
(ولو قَبْلَ مَبْكاها بكيتُ صبابة
…
إذا لشَفيت النفسَ قبل التندُّم)
(ولكن بكَتْ قبلي فهاج ليَ البُكا
…
بُكاها فقلت: الفضلُ للمتقدِّم)
ثم ذهب بعد - في حَصْر جمع الكلام - مذهبَهُ من الإحاطة التي لم يتعاطاها غيرُه ولا تعرضها أحدٌ سواه فثقَّف الكلام وزمَّ جميعه وبين قيامَ الأبنية من حروف المُعْجم وتعاقب الحروف لها بنظَرٍ لم يُتَقَدَّم فيه وإبْداعٍ لم يُسْبَق إليه ورَسَمَ في ذلك رُسُوماً أكملَ قياسها وأعطى الفائدةَ بها فكان هذا قدرَه في العِلم ومبلغَه من النفاذ والفَهْم حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لا يجوزُ على الصِّراط بعد الأنبياءِ عليهم السلام أحدٌ أدقُّ ذِهْناً من الخليل ولو أن الطاعنَ علينا يتصفّحُ صَدْر كتابُنا (المختصر من كتاب العين) لَعَلِمَ أنَّا نَزَّهْنا الخليل عن نِسْبَة المُحال إليه ونَفَيْنا عنه من القَوْل ما لا يليقُ به ولم نَعْدُ في ذلك ما كان عليه أهلُ العلم وحذَّاق أهل النظر.
وذلك أنَّا قلنا في صَدْر الكتاب: ونحن نَرْبأُ بالخليل عن نِسْبَة الخَلَل إليه أو التعرض للمقاومة له بل نقول: إن الكتاب لا يصح له ولا يثبتُ عنه وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله وثقَّف كلام العرب ثم هلَك قبل كَماله فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه
هذا لفظُنا نصا وقد وافقْنا بذلك مقالةَ أبي العباس أحمد بن يحيى ثَعْلب قبل أن نُطالِعَها أو نسمعَ بها حتى ألفيناها بخط الصولي في ذكر فضائل الخليل.
قال الصولي: سمعتُ أبا العباس ثعلبا يقول: إنما وقع الغلط في كتاب العين لأن الخليل رسَمهُ ولم يحشه ولو أن الخليل هو حشاه ما بقى فيه شيئا لأن الخليلَ رجلٌ لم يُرَ مثلُه.
قال: وقد حَشَا الكتاب قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤْخذ عنهم رواية إنما وُجد بنقل الورَّاقين فلذلك اختلَّ الكتاب.
ومن الدليل على ما ذكره أبو العباس من زيادات الناس فيه اختلافُ نُسَخِه واضطرابُ رواياته إلى ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخِّرِين والاستشهاد بالمرذول من اشعار المُحْدَثين فهذا كتابُ ابنُ مُنذر بن سعيد القاضي الذي كتبه بالقَيْروَان وقابلَه بمصر بكتابِ ابن وَلاّد وكتابُ ابن ثابت المُنتسَخ بمكة قد طالعناهما فألفينا في كثير من أبوابهما: أخبرنا المسعري عن أبي عُبيد وفي بعضها: قال ابنُ الأعرابي وقال الأصمعي هل يجوزُ أن يكون الخليل يروي عن الأصمعي وابن الأعرابي أو ابي عُبيد فضلا عن المسعري وكيف يروي الخليلُ عن أبي عبيد وقد تُوفِّيَ الخليل سنة سبعين ومائة وفي بعض الروايات سنة خمس وسبعين ومائة وأبو عبيد يومئذ ابنُ ست عشرة سنة.
وعلى الرواية الأخرى ابن إحدى وعشرين لأنَّ مَوْلد أبي عبيد سنة أربع وخمسين ومائة ووفاتَه سنة أربع وعشرين ومائتين ولا يجوز أن يُسْمَع عن المسعري عِلُم أبي عُبيد إلا بعد مَوْتِه وكذلك كان سماعُ الخُشَني منه سنة سبع وأربعين ومائتين فكيف يُسْمَع الموتى في حالِ مَوْتهم أو يَنْقُلُون عمن وُلِد مِن بعدهم.
وحدثنا إسماعيل بن القاسم البغدادي - وهو أبو علي القالي - قال لما وَرَدَ كتابُ العَين من بلد خُراسان في زمن أبي حاتم أنكره أبو حاتم وأصحابه أشد الإنكار ودفعَهُ بأبْلَغِ الدَّفع وكيف لا ينكِرُهُ أبو حاتم على أن يكون بريئا من الخَلَل سليما من الزَّلل وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدة طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به منهم النَّضر بن شُميل ومُؤَرِّج ونصر بن علي وأبو الحسن
الأخفش وأمثالهم ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به وتوحَّدَ بالنقل له.
ثم دَرَجَ أصحابُ الخليل فتوفي النضر بن شُمَيل سنة ثلاث ومائتين والأخفش سنة خمس عشرة ومائتين ومؤَرّج سنة خمس وتسعين ومضت بعدُ مدة طويلة ثم ظهر الكتابُ بأخَرَةٍ في زمان أبي حاتم وفي حال رياسته وذلك فيما قارب الخمسين والمائتين لأن أبا حاتم تُوُفِّي سنة خمس وخمسين ومائتين فلم يلتفت أحدٌ من العلماءِ إليه يومئذ ولا استجازوا روايةَ حرفٍ منه ولو صحَّ الكتابُ عن الخليل لبَدر الأصمعي واليَزِيديّ وابنُ الأعرابي وأشباههم إلى تزيين كتبهم وتحليته علمهم بالحكاية عن الخليل والنَّقْلِ لِعِلْمِه وكذلك مَنْ بعدهم كأبي حاتم وأبي عُبيد ويعقوب وغيرهم من المصنفين فما عَلِمنا أحدا منهم نَقَلَ في كتابه عن الخليل من اللغة حَرْفاً.
ومن الدليل على صحة ما ذكرناه أن جميعَ ما وَقَع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين وبخلاف مذهب البصريين فمن ذلك ما بدىء الكتابُ به وبُني عليه من ذكر مَخارج الحروف في تقديمها وتأخيرها وهو على خلاف ما ذكره سيبويه عن الخليل في كتابه وسيبويه حاملٌ علمَ الخليل وأوْثَقُ الناس في الحكاية عنه ولم يكن لِيَخْتَلِف قولُه ولا لِيتناقَض مذهبُه ولسنا نريدُ تقديم حرفِ العين خاصة للوَجْه الذي اعتلَّ به ولكن تقديمَ غير ذلك من الحروف وتأخيرها.
وكذلك ما مضى عليه الكتابُ كلُّه من إدْخال الرُّباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف وهو مذهبُ الكوفيين خاصة.
وعلى ذلك استمرَّ الكتابُ من أوله إلى آخره.
إلى ما سنذكره من نحو هذا.
ولو أن الكتاب للخليل لما أَعْجَزَه ولا أشْكل عليه تثقيفُ الثنائي الخفيف من الصحيح والمعتل والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعِلّتين ولما جعل ذلك كله في باب سمَّاه: (اللفيف) فأدْخَلَ بعضَه في بعض وخَلَط فيه خَلْطاً لا ينفصلُ منه شيءٌ عما هو بخلافه ولوَضع الثُّلاثي المعتل على أقسامه الثلاثة لِيسْتَبينَ معتلُّ الياءِ من معتل الواو والهمزة ولما خلَط الرباعي والخماسي من أولهما إلى آخرهما.
ونحن على قَدْرنا قد هذَّبْنا جميعَ ذلك في كتابنا المختصَر منه وجَعَلْنا لكلِّ شيءٍ منه بابا يحصُره وعددا يجمعه.
وكان الخليلُ أَوْلَى بذلك وأَجْدَر ولم نحْكِ فيه عن الخليل حَرْفاً ولا نَسَبْنا ما وقع في الكتاب عنه توخِّياً للحق وقصْداً إلى الصدق وأنا ذَاكِرٌ الآنَ من الخطأ الواقع في كتاب العَيْن ما لا يذهب على َمنْ شَدَا شيئا من النَّحو أو طالَع بابا من الاشتقاق والتصريف ليقومَ لنا العُذْر فيما نَزَّهْنا الخليل عنه.
انتهى كلام الزَّبيدي في صَدْر كتاب الاستدراك.
قلت: وقد طالعتُه إلى آخره فرأيت وجه التخطئة فيما خطىء فيه غالبُه من جهة التصريف والاشتقاق كَذِكْرِ حرفٍ مَزِيدٍ في مادة أصلية أو مادةٍ ثُلاثية في مادة رُباعية ونحو ذلك وبعضُه ادعى فيه التصحيف وأما أنه يُخَطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذبٌ أو لا تُعرف فمعاذَ الله لم يقع ذلك.
وحينئذ لا قَدْح في كتاب العين لأن الأولَ الإنكارُ فيه راجعٌ إلى الترتيب والوضْع في التأليف وهذا أمْرٌ هَيّن لأنَّ حاصله أن يقال: الأَوْلَى نقلُ هذه اللفظة من هذا الباب وإيرادُها في هذا الباب.
وهذا أمرٌ سَهلٌ وإن كان مقامُ الخليل يُنزَّه عن ارتكاب مثل ذلك إلَاّ أنه لا يمنعُ الوثوقَ بالكتاب والاعتمادَ عليه في نقل اللغة.
والثاني إن سُلِّم فيه ما ادعى من التصحيف يقال فيه ما قالته الأئمة: ومَنْ ذا الذي سَلِمَ من التصحيف كما سيأتي في النوع الثالث والأربعين مع أنه قليل جدا وحينئذ يزول الإشكال الذي يأتي نَقْله عن الإمام فخر الدين في النوع الثالث.
فائدة - ممن ألَّف أيضا الاستدراك على العين أبو طالب المُفَضَّل بن سَلَمَة بن عاصم الكُوفيّ من تلامذة ثعلب قال أبو الطيب اللغوي: ردَّ أشياء من كتاب العين للخليل أكثرُها غيرُ مَردود وأبو طالب هذا متقدِّم الوفاة على الزَّبيدي.
فائدة - قال ابو الحسن الشَّاري في فهرسته: كان شيخُنا أبو ذر يقول: المختصرات التي فُضِّلَت على الأمَّهات أربعة: مختصر العين للزَّبيدي ومختصر
الزَّاهر للزَّجاجي ومختصر سيرة ابن إسحاق لابن هِشام ومختصر الواضحة للفضل بن سلمة. قال الشاري: وقد لهج الناسُ كثيرا بمختصر العين للزَّبيدي فاستعملوه وفضَّلوه على كتاب العَين لكونه حَذَف ما أورده مؤلِّفُ كتاب العَيْن من الشواهد المختلقة والحروف المصحفة والأبنية المختلة وفضَّلوه أيضا على سائر ما أُلِّف على حروف المعجم من كتب اللغة مثل جمهرة ابن دريد وكتب كُراع لأجل صِغَر حجمه وأَلْحَق به بعضُهم ما زاده أبو علي البغدادي في (البارع) على كتاب العين فكَثُرَت الفائدة.
قال: ومَذْهبي ومذهب شيخي أبي ذر الخُشَني وأبي الحسن بن خَرُوف أن الزَّبيدي أخلَّ بكتاب العَين كثيرا لِحَذْفه شواهدَ القرآن والحديث وصحيحَ أشعار العرب منه. ولما عَلِمَ ذلك من مُخْتَصَر العين الإمام أبو غالب تَمّام بن غالب المعروف بابن التَّيَّاني عمل كتابه العظيم الفائدة الذي سمَّاه بفَتْح العين واتى فيه بما في العَيْن من صحيح اللغة الذي لا اختِلاف فيه على وجهه دون إخْلالٍ بشيء من شواهد القرآن والحديث وصحيحِ أشعار العرب وطرَح ما فيه من الشواهد المختلقة والحروف المُصَحَّفة والأبنية المختلة ثم زاد فيه ما زاده ابنُ دُريد في الجمهرة فصار هذا الديوانُ محتويا على الكتابين جميعا وكانت الفائدةُ فيه فَصْلَ كتاب العين من الجمهرة وسِياقه بلفظه لِينْسب ما يحكى منه إلى الخليل إلا أن هذا الديوان قليلُ الوجود لم يعرج الناسُ على نَسْخه بل مالوا إلى جمهرة ابن دريد ومُحكم ابن سيده وجامع ابن القَزَّاز وصِحَاح الجوهري ومُجْمَل ابن فارس وأفعال ابن القُوطيّة وابن طريف ولم يعرجوا أيضا على بارع أبي علي البغدادي ومُوعَبُ أبي غالب بن التَّيَّاني المذكور وهما من أصحِّ ما أُلِّف في اللغة على حروف المعجم والكتُب التي مالوا إلى الاعتناءِ بها قد تكلَّم العلماءُ فيها إلا أن الجمْهرة لابنِ دُريد أثنى عليه كثيرٌ من العلماءِ ويوجد منه النُّسَخُ الصحيحةُ المروِيَّة عن أكابر العلماء.
وقال بعضهم: إنه من أحسن الكتب المؤلَّفة على الحروف وأصحها لغة وقد آخذه أبو علي الفارسي النحوي وأبو علي البَغدادي القَالِي وأبو سعيد السِّيرافي النحوي وغيرهم من الأئمة.
وأما كتاب العَيْن المنسوب إلى الخليل فهو أصلٌ في معناه وهو الذي نهج
طريقةَ تأليف اللغة على الحروف وقديما اعتَنى به العلماء وقبِلَه الجهَابذة فكان المبرد يَرْفع مِن قدره ورواه أبو محمد بن دَرَسْتويه وله كتاب في الردِّ على المفضَّل ابن سلمة فيما نسبَه من الخلَل إليه ويكادُ لا يوجدُ لأبي إسحاق الزجاجي حكايةٌ في اللغة إلا منه وقد تكلَّم الناس فيه بما هو مشهور وأصحُّ كتابٍ وُضِعَ في اللغة على الحروف بارعُ أبي علي البغدادي ومُوعَب بن التَّيَّاني.
انتهى.
فائدة - ترتيب كتابُ العين ليس على التَّرتيب المعهود الآن في الحروف وقد أكْثرَ الأدباءُ من نَظْم الأبيات في بيان ترتيبه من ذلك قول أبي الفرج سلمة بن عبد الله المعَافِري الجزيري: // من البسيط //
(يا سائلي عن حروف العين دونكَهَا
…
في رتبة ضمَّها وزنٌ وإحْصاء)
(العين والحاء ثم الهاءُ والخاء
…
والغين والقاف ثم الكاف أكْفاءُ)
(والجيم والشين ثم الضادُ يتبعها
…
صاد وسين وزاي بَعْدها طاء)
(والدال والتاء ثم الطاءُ متَّصِل
…
بالظاءِ ذال وثاء بعدها راءُ)
(واللام والنون ثم الفاء والباء
…
والميم والواو والمهموز والياء)
قال أبو طالب المفضَّل بن سَلَمة الكوفي: ذكر صاحبُ العين أنه بدأ كتابَه بحرف العين لأنها أَقْصى الحروف مَخْرجاً.
قال: والذي ذكره ِسيبَويْه أن الهمزةَ أَقْصى الحروف مخرجا.
قال: ولو قال بدأتُ بالعين لأنها أكثرُ في الكلام وأشدُّ اختلاطا بالحروف لكان أولى.
وقال ابن كَيْسان: سمعتُ مَنْ يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبْدَأْ بالهمزة لأنها يلحقها النقصُ والتغييرُ والحذفُ ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداءِ كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مُبْدَلَةً ولا بالهاءِ لأنها مهموسة خفيَّة لا صوتَ لها فنزلتُ إلى الحيِّز الثاني وفيه العين والحاء فوجَدْت العين أنْصَعَ الحرفين فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف وليس العلْمُ بتقدم شيءٍ على شيء لأنه كلَّه مما يُحتاج إلى معرفته فبأي بدأت كان حَسناً وأولاها بالتقديم أكثرُها تصرُّفاً.
انتهى.
وقال أبو العباس أحمد بن ولَاّد في كتاب المقصور والممدود: لعلَّ بعضَ
مَنْ يقرأ كتابنا يُنْكِرُ ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم لأنها حرفٌ معتل ولأن الخليل تَرَك الابتداءَ به في كتاب العين لأنَّ كتاب العين لا يمكن طالب الحرفِ منه أن يَعلَمَ مَوْضعه من الكتاب من غير أن يقرأه إلا أن يكونَ قد نظر في التصريف وعرفَ الزائد والأصلي والمعتلَّ والصحيح والثلاثي والرباعي والخماسي ومراتبَ الحروف من الحَلْق واللسان والشَّفَة وتصريفَ الكلمة على ما يمكنُ من وُجوهِ تصريفها في اللفظ على وجوه الحركات وإلحاقها ما تحمل من الزائد ومواضع الزوائد بعد تصريفها بلا زيادةٍ.
ويحتاجُ مع هذا إلى أن يعلمَ الطريقَ التي وصلَ الخليل منها إلى حَصْر كلام العرب فإذا عرفَ هذه الأشياءَ عرفَ مَوْضع ما يطلُبُ من كتاب العين.
قال: وكتابُنا قَصَدْنا فيه التقريب على طالب الحَرْفَ وأن يستويَ في العلم منه بموضعه العالِم والمتعلم.
انتهى.
تذنيب - قال تاج الدين أحمد بن مكتوم في تذكرته: سُئل بعضُهم لِم سمِّيَ كتابُ الجيم - تصنيف أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني - بهذا الاسم فقال لأن أوله حرف الجيم كما سمِّي كتاب العين لأن أولَه حرفُ العين.
قال فاستحسنَّا ذلك ثم وقفنا على نسخةٍ من كتاب الجيم فلم نجده مبدوءا بالجيم.
فائدة - روى أبو علي الغساني كتاب العين عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر عن عبد الوارث بن سفيان عن القاضي مُنذر بن سعيد عن أبي العباس أحمد بن محمد بن ولاد النحوي عن أبيه عن أبي الحسن علي بن مهدي عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد عن الليث بن المظفر بن نصر بن سيار عن الخليل.
فرع - ومِنْ مشاهير كُتب اللّغةِ التي نَسَجَت على مِنْوَال العين كتابُ (الجَمْهَرَة) لأبي بكر بن دُريد.
قال في خطبته: قد ألَّف (أبو عبد الرحمن) الخليلُ بنُ أحمد (الفَرْهُودِي رضوان الله عليه) كتابَ العين فأَتْعَبَ مَنْ تَصَدَّى لغَايته وعَنَّى من سَما إلى نهايته فالمُنْصِفُ له بالغَلب مُعْترف والمُعَاند متكلِّف وكلُّ مَنْ بَعْدَه له تَبَع أقرَّ بذلك أم جَحَد ولكنَّه رحمه الله ألَّف كتابَه مُشاكِلاً لِثُقُوب فَهْمِه وذَكَاءِ فِطْنَتِه وحِدَّةِ أذهان أهل دَهْرِه.
وأمْلينا هذا الكتاب والنَّقْص في الناس فاشٍ والعَجْزُ لهم شامل إلا خصائص كَدَرَارِيِّ النُّجوم في أَطْرَافِ الأُفق فسهَّلنا وَعْرَه ووطَّأْنا شَأْزَه وأَجْرَيْنَاه على تأليف الحروف المُعْجمة إذ كانت بالقلوب أَعْلَق وفي الأَسْماع أَنْفَذ وكان عِلْمُ العامَّة بها كعلم الخاصة.
وسَمَّيْناه كتاب (الجمهرة) لأنا اخْتَرْنا له الجمهور من كلام العرب وأرجأنا الوحشي.
انتهى.
وقال ابنُ جنِّي في الخصائص: وأما كتابُ الجمهرة ففيه أيضا من اضْطِراب التَّصْنيف وفسادِ التَّصْريف مما أَعْذِرُ واضعَه فيه لبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر ولمَّا كتبتُه وقعتُ في مَتونه وحواشيه جميعا من التنبيه على هذه المواضع ما اسْتَحْيَيْت من كَثْرَته ثم إنه لما طال علي أوْمَأْتُ إلى بعضه وضربتُ البَتَّةَ عن بعضه.
قلت: مقصودُه الفسادُ من حيث ابنية التصريف وذكرُ المواد في غير محالها كما تقدم في العَيْن ولهذا قال: أعذر واضعَه فيه لِبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر يعني أن ابنَ دُريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويلَ الباعِ في اللغة.
وكان ابنُ جني في التصريف إماما لا يشُقُّ غبارُه فلذا قال ذلك.
وقال الأزهري ممن ألَّف الكتبَ في زماننا فَرُمِي بافتعالِ العربيَّةِ وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دُريد وقد سألتُ عنه إبراهيمَ بن عرفة - يعني - نِفْطَويه فلم يَعْبَأْ به ولم يوثقه في روايته.
قلت: معاذ اللههو بَريءٌ مما رُمِي به وَمَنْ طالَع الجمهرة رأي تحرِّيه في روايته وسَأَذْكرُ منها في هذا الكتاب ما يُعْرَفُ منه ذلك ولا يُقْبل فيه طعنُ نِفْطَويه لأنه كانَ بينهما مُنافرةٌ عظيمةٌ بحيث إنَّ ابنَ دُرَيد هجاه بقوله: // من السريع //
(لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَويْه
…
لكان ذاك الوَحْيُ سُخْطاً عَلََيه)
(وشَاعِرٍ يُدْعَى بِنصْفِ اسْمِه
…
مُسْتَأْهلٌ للصَّفْعِ في أَخْدَعَيْه)
(أَحْرَقَهُ اللهُ بنِصفِ اسْمِه
…
وَصَيَّرَ الباقي صُرَاخاً عَلَيْه)
وهجا هو ابن دريد بقوله: // من مجزوء الرجز //
(ابنُ دُرَيْدٍ بَقَرَه
…
وفيه عِيّ وَشَرَه)
(وَيَدَّعِي مِنْ حُمْقِه
…
وَضْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَه)
(وهو كتابُ الْعَيْن
…
إلَاّ أَنَّهُ قدْ غَيَّرَه)
وقد تقرر في علم الحديث أنَّ كلامَ الأقرانِ في بعضهم لا يقدح.
وقال بعضهم: أمْلَى ابنُ دُرَيْد الجمهرَة في فارس ثم أَمْلاها بالبَصْرة وببَغْداد مِنْ حِفْظه ولم يستَعِنْ عليها بالنظر في شيءٍ من الكُتُب إلَاّ في الهَمزةِ واللفيف فلذلك تختلف النسخ والنُّسْخَة المعوَّل عليها هي الأخيرة وآخرُ ما صحَّ نسخة عبيد الله بن أحمد جَخْجَخْ لأنه كتبها من عِدَّةِ نسخ وقَرَأَها عليه.
قلت: ظَفِرْتُ بنسخة منها بخطِّ أبي النمر أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللُّغوي وقد قرأها على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دُرَيد وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواضع منها ونبَّه على بعض أوهامٍ وتصحيفات.
وقال بعضهم: كان لأبي علي القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال فأبى فاشتدَّت به الحاجةُ فباعها بأربعين مثقالا وكتبَ عليها هذه الأبيات: // من الطويل //
(أَنِسْتُ بها عشرين عاما وبعتُها
…
وقد طال وَجْدِي بعدَها وحَنيني)
(وما كان ظنِّي أنني سأبيعها
…
ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني)
(ولكن لِعَجْزٍ وافتقارٍ وصِبْيَة
…
صغارٍ عليهم تستهل شؤوني)
(فقلت - ولم أملك سوابق عبرتي
…
مقالة مكوى الفؤاد حَزين)
(وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ - يا أم مالك -
…
كرائم من ربٍّ بِهِنَّ ضَنِين)
قال: فأَرْسَلها الذي اشتراها وأرسل معها أربعين دينارا أُخْرى رحمهم الله.
وجدت هذه الحكاية مكتوبة بخط القاضي مجد الدين الفيروزابادي صاحبِ القاموس على ظَهْرِ نسخة من العُبَاب للصَّغَاني ونقلها من خَطِّه تلميذُه أبو حامد محمد بن الضياءِ الحنفي ونقلتُها من خطِّه.
وقد اختصر الجمهرةَ الصاحبُ إسماعيلُ بن عباد في كتاب اسماه (الجوهرة) .
وفي آخره يقول: // من الرجز //
(لما فَرَغْنا من نِظَامِ الجَوْهره
…
أعورت العَيْن ومات الجَمْهَرَه)
(ووقف التَّصنيف عند القَنْطره)
وألَّفَ أتباعُ الخليل وأتباعُ أتباعه وهلم جَرًّا كُتُباً شتى في اللغة ما بين مُطَوَّلٍ ومختَصر وعامٍّ في أنْواع اللغة وخاصٍّ بنوع منها كالأجناس للأصمعي والنوادر واللُّغات لأبي زيد والنوادر للكسائي والنوادر واللغات للفرَّاءِ واللغات لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى والجيم والنوادر والغريب لأبي عَمْرو إسحاق بن مرار الشيباني والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام والنوادر لابن الأعرابي البارع للمفضل بن سلمة واليواقيت لأبي عمر الزاهد غلام ثعلب.
والمنضد لكُراع والتهذيب للأزهري والمُجْمَل لابن فارس وديوان الأدب للفارابي والمحيط للصحاب ابن عباد والجامع للقراز وغير ذلك مما لا يُحْصى حتى حُكِي عن الصاحب ابن عباد أن بعضَ الملوك أرسل إليه القدومَ عليه فقال له في الجواب: أحتاجُ إلى ستين جمَلاً أنقل عليها كتبَ اللغة التي عندي.
وقد ذهب جلُّ الكتب في الفِتَنِ الكائنة من التَّتار وغيرهم بحيث إن الكتبَ الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدمين والمتأخرين لا تجيء حِمْل جملٍ واحدٍ وغالبُ هذه الكتب لم يََلتزم فيها مؤلفوها الصحيحَ بل جمعُوا فيها ما صحَّ وغيرَه وينبِّهون على ما لم يثبت غالبا.
وأولُ مِن التزمَ الصحيح مقتصرا عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حماد الجَوْهَري ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح وقال في خطبته: قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف الله منزلتَها وجعل عِلْم الدين والدينا مَنُوطاً بمعرفتها على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دِراية ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية ولم آل في ذلك نُصْحاً ولا ادَّخَرتُ وسعا.
قال أبو زكريا الخطيب التِّبريزي اللغوي: يقال كتاب الصِّحاح بالكسر وهو المشهور وهو جمع صحيح كظريف وظراف ويقال: الصَّحاح بالفتح وهو مفرد نعت كصحيح.
وقد جاءَ فَعال بفتح الفاءِ لغة في فعيل كصحيح وصَحاح وشحيح وشَحاح وبريءٍ وبَراءٍ.
قال: وكتاب الصحاح هذا كتابٌ حسنُ الترتيب سَهلُ المطلبِ لِما يُراد منه وقد أتى بأشياءَ حسنة وتفاسير مشكلات من اللغة إلا أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنِّف لا من الناسخ لأنَّ الكِتاب مبنيٌّ على الحروف.
قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهو يقع فيها أو غلط.
غير أن القليل من الغَلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفوٌّ عنه.
هذا كلام الخطيب أبي زكريا.
وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه (يتيمة الدهر) في محاسن أهل العصر: كان الجوهريُّ من أعاجيبِ الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري: // من المنسرح //
(هذا كتابُ الصِّحاح سيّدُ ما
…
صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ)
(تَشْمَلُ أبوابهُ وَتَجْمَعُ ما
…
فُرِّق في غيره من الكُتُبِ)
وقال ابنَ برِّي: الجوهري أَنْحَى اللغويين.
وقال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: كتاب الصحاح هو الذي بأيْدي الناس اليوم وعليه اعتمادُهم أحْسنَ الجوهري تصنيفَه وجوَّدَ تأليفَه هذا مع تصحيف فيه في عدة مواضع تَتَبَّعَهَا عليه المحققون.
وقيل: إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة وعَرَضَ له وسْوَسَة فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات.
وبقي سائر الكتاب مسوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق فَغَلِطَ فيه في مواضع وكان وفاة الجوهري في حدود الأربعمائة.
وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد الله بن برِّي الحواشيَ على الصِّحاح وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين فأكملها الشيخ عبد الله بن محمد البسطي.
وألَّف الإمام رضي الدين الصَّغَاني التَّكْمِلَة على الصحاح ذَكَرَ فيها ما فاته من اللغة وهي أكبرُ حجما منه وكان في عَصْر صاحب الصَّحاح ابنُ فارس فالتزم أن يذكرَ في مُجْمَله الصحيح.
قال في أوله: قد ذَكرنا الواضحَ من كلام العرب والصحيحَ منه دون الوَحْشيّ المُسْتَنْكر ولم نألُ في اجتباءِ المشهور الدَّالِّ على غُرَر وتفسير حديث أو شعر والمقصودُ في كتابنا هذا من أوله إلى آخره التقريبُ والإبانةُ عما ائْتَلف من حروف العربية فكان كلاما وذِكْرُ ما صحَّ من ذلك سماعا أو من كتابٍ لا يشكُّ في صحَّةِ نَسَبه لأنَّ مَنْ عَلِم أن الله تعالى عند مَقَالِ كلِّ قائل فهو حَرِيٌّ بالتَّحَرُّج من تطويل المؤلَّفات وتكثيرها بمُسْتَنْكَرِ الأقاويل وشنيع الحكايات وبُنَيَّات الطُّرُق فقد كان يُقال: مَنْ تتبَّع غرائبَ الأحاديث كَذَب ونحن نعوذ بالله من ذلك.
وقال في آخر المجمل: قد توخَّيْتُ فيه الاختصارَ وآثرتُ فيه الإيجازَ واقتصرتُ على ما صحَّ عندي سماعا ومن كتابٍ صحيح النسب مشهورٍ ولولا توخِّي ما لم أشكك فيه من كلام العرب لَوَجَدْتُ مقالا.
وأعظمُ كتابٍ أُلِّفَ في اللغة بعد عَصْرِ الصحاح كتابُ المُحْكَم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن سِيدَه الأندلسي الضَّرير ثم كتابُ العُباب للرضي الصَّغاني ووصل فيه إلى فصل (بكم) حتى قال القائل: // من مجزوء الرجز //
(إن الصغاني الذي
…
حاز العلوم والحكم)
(كان قُصَارى أَمْرِه
…
أن انتهى إلى بكم)
ثم كتابُ القاموس للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفَيْرُوزَابادي شيخ شيوخنا ولم يصل واحدٌ من هذه الثلاثة في كَثرَة التَّدَاول إلى ما وصل إليه الصحاح
ولا نقصت رتبةُ الصحاح ولا شُهْرَته بوجود هذه وذلك لالتزامه ما صحَّ فهو في كُتب اللغة نظيرُ صحيح البخاري في كُتب الحديث وليس المَدَارُ في الاعتماد على كَثَرة الجمع بل على شرْط الصحة.
قال صاحبُ القاموس في خُطْبته: وكنتُ بُرْهَةً من الدَّهْر ألتمس كتابا جامعا (صحيحا) بسيطا ومصنفا على الفصح والشوادر مُحيطاً ولما أعياني الطلاب شرعتُ في كتابي الموسوم باللامع المُعْلَم العُجَاب الجامعِ بين المُحْكَم والعُبَاب فهما غُرَّتا الكُتب المصنفة في هذا الباب ونَيِّرَا بَرَاقِع الفضل والآداب وضَمَمْتُ إليهما زيادات امْتَلأَ بها الوطِاب واعْتَلَى منها الخِطَاب ففاقَ كلَّ مؤلف (في هذا الفن) هذا الكتابُ غيرَ أني خَمَّنْتُه في ستين سِفْراً يُعْجز تحصيلُه الطُّلاب وسُئِلْتُ تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام وعَمَلٍ مُفَرَّغ في قالَبِ الإيجاز والإحكام مع التزام إتمام المعاني وإبرام المباني فصرفت صوبَ هذا القصد عِناني وألَّفتُ هذا الكتاب محذوفَ الشواهد مطروحَ الزوائد مُعْرِباً عن الفُصُحِ والشَّوارد وجعلت (بتوفيق الله) زُفَرَاً في زِفْر ولَخَّصتُ كلَّ ثلاثين سِفراً في سِفْر.
ثم قال: ولما رأيت إقْبالَ الناس على صحاح الجوهري وهو جدير بذلك غيرَ أنه فاته