الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السببُ في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته بل لا بدَّ من التعاون ولا تعاونَ إلا بالتَّعارف ولا تعارفَ إلا بأسباب كحركات أو إشاراتٍ أو نقوش أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد وأَيْسَرُها وأفيدُها وأعمُّها الألفاظ أمَّا أنها أيسر فِلأَنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعْرِضُ لأصواتٍ عارضة للهواء الخارج بالتنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلُّف اختياري.
وأما أنها أفيدُ فلأَنها موجودةٌ عند الحاجة معدومةٌ عند عَدَمها.
وأما أنها أعمُّها فليس يمكن أن يكونَ لكل شيءٍ نَقْشٌ كذات الله تعالى والعلوم أو إليه إشارة كالغائبات ويمكن أن يكونَ لكل شيءٍ لفظٌ.
فلما كانت الألفاظُ أيسرَ وأفيدَ وأعمَّ صارت موضوعة بإزاء المعاني.
(حد الوضع)
- المسألة الرابعة - في حدِّ الوَضْع:
قال التاج السبكي في شرح منهاج البيضاوي: الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أُطلق الأوَّلُ فُهِم منه الثاني.
قال: وهذا تعريفٌ سديد فإنك إذا أطلقت قولك: (قام زيد) فُهِمَ منه صُدُور القيام منه.
قال: فإن قلتَ: مدلولُ قولنا: (قام زيد) صدور قيامه سواءٌ أطلقنا هذا اللفظ أم لم نُطْلِقه فما وجهُ قولكم: بحيث إذا أطلق. . قلت: الكلامُ قد يخرج عن كونه كلاما وقد يتغيَّر معناه بالتقييد فإنك إذا قلتَ: (قام الناس) اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم.
فإذا قلتَ: (إن قام الناس) خرج عن كونه كلاما بالكلية فإذا قلتَ: (قام الناس إلا زيدا) .
لم يخرجْ عن كونه كلاما ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا.
فعلم بهذا أن لإفادة (قام الناس) الإخبار بقيام جميعهم شرطين: أحدهما ألا تبتدئَه بما يخالِفُه.
والثاني ألا تختمَه بما يخالفه. وله شرطٌ ثالث أيضا وهو أن يكونَ صادرا عن قَصْد فلا اعتبارَ بكلام النائم والساهي.
فهذه ثلاثةُ شروط لا بدَّ منها وعلى السامع التنبه لها.
فوضحَ بهذا أنك لا تستفيدُ قيام الناس من قوله: (قام الناس) إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.
فإن قلت: مِنْ أين لنا اشتراطُ ذلك واللفظُ وحدَه كافٍ في ذلك لأن الواضع وضَعَه لذلك قلت: وضْعُ الواضع له معناه أنه جعله مُهَيَّأً لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم على الوجه المخصوص والمفيدُ في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظُ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلتَ: لو سمعنا (قام الناس) ولم نَعْلَم مِنْ قائِله هل قصده أم لا وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيِّره أو لا هل لنا أن نُخبِر عنه بأنه قال: قام الناس قلت: فيه نظر يحتمل أن يُقال بجوازه لأن الأصل عدمُ الابتداء والختم بما يُغيّره ويحتمل أن يقال: لا يجوز لأن العُمْدة ليس هو اللفظ ولكنَّ الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشُروط ولم تتحقَّق.
ويُحْتَمل أن يقال: إن العلم بالقصد لا بد منه لأنه شَرْطٌ والشكُّ في الشرط يقتضي الشك في المشروط والعلم بعدم الابتداء والختم بما يخالفُه لا يُشْتَرَط لأنهما مانعان والشكُّ في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصلَ عدمه.
قال واختار والدي رحمه الله أنه لا بدَّ من أن يعلم الثلاثة.
انتهى.
- المسألة الخامسة - اختلف هل وضَعَ الواضعُ المفرداتِ والمركَّبات الإسنادية أو المفردات خاصة دون المركبات الإسنادية فذهب الرازي وابنُ الحاجب وابنُ مالك وغيرُهم إلى الثاني وقالوا: ليس المركَّب بموضوع وإلا لتوقَّفَ استعمالُ الجُمل على النَّقْل عن العرب كالمفردات.
ورجَّح القَرَافي والتاج السبكي في جمع الجوامع وغيرهما من أهل الأصول أنه موضوع لأن العربَ حَجَرت في التراكيب كما حَجَرت في المفردات.
وقال ابن إبار في شرح الفصول في قول ابن عبد المعطي: الكلامُ هو اللفظُ المركب المفيد بالوضع كذا قال الجزولي وكان شيخي سعد الدين يقولُ فيه بغير ذلك لأنَّ واضعَ اللغةِ لم يَضَع الجملَ كما وضعَ المفردات بل ترك الجُمل إلى اختيار المتكلِّم.
يُبَيِّنُ ذلك لك أن حال الجُمل لو كانت حال المفردات لكان استعمالُ الجمل وفهم معانيها متوقفا على نقلها عن العرب كما كانت المفردات كذلك
ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجمل ويودِعوها كتبَهم كما فعلوا ذلك بالمفردات.
- المسألة السادسة - قال الإمام فخر الدين الرَّازي وأتباعه: لا يجبُ أن يكون لكلِّ معنى لفظٌ لأنَّ المعانيَ التي يمكن أن تُعْقَل لا تَتَناهى والألفاظ متناهيةٌ لأنَّها مركبة من الحروف والحروف متناهية والمركَّب من المُتناهي مُتَنَاهٍ والمتناهي لا يَضْبِطُ ما لا يَتَنَاهى وإلَاّ لزم تَناهي المدلولات.
قالوا فالمعاني منها ما تكثرُ الحاجةُ إليه فلا يَخْلُو عن الألفاظ لأن الداعيَ إلى وضْع الألفاظ لها حاصلٌ والمانعُ زائل فيجب الوضعُ والتي تَنْدُر الحاجة إليها يجوزُ أن يكونَ لها ألفاظٌ وألَاّ يكون.
- المسألة السابعة - قالوا أيضا: ليس الغرضُ من الوَضْع إفادةَ المعاني المفردة بل الغرضُ إفادةُ المركَّبَات والنسب بين المفردات كالفاعليَّة والمفعولية وغيرهما وإلا لَزِم الدَّور وذلك لأن إفادةَ الألفاظِ المفردة لمعانيها موقوفةٌ على العِلْم بكونها موضوعة لتلك المسميات والعلم بذلك موقوفٌ على العلم بتلك المسميات فيكون العلمُ بالمعاني متقدما على العِلْم بالوَضْع فلو استَفَدْنا العلم بالمعاني من الوَضع لكان العلْمُ بها متأخرا عن العلم بالوَضْع وهو دَوْرٌ.
فإنْ قِيلَ هذا بَعْينِهِ قائمٌ فِي المركَّبَاتِ لأنَّ المركَّبَ لا يفيدُ مدلولَه إلا عند العلم بكونه موضوعا لذلك المدلول والعلم به يَسْتدعي سبقَ العلم بذلك المدلول فلو استفدنا العلمَ بذلك المدلول من ذلك المركَّب لزِم الدَّوْر.
فالجواب أنَّا لا نُسَلِّم أن إفادةَ المركب لمدلوله تتوقَّفُ على العلم بكوْنه موضوعا له بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعة للمعاني المفردة حتى إذا تُلِيَت الألفاظ المفردةُ عُلِمَتْ مفردات المعاني منها والتناسبُ بينهما من حركاتِ تلك الألفاظ فظَهرَ الفرق.
- المسألة الثامنة - اخْتُلِفَ: هل الألفاظ موضوعةٌ بإزاء الصُوَر الذهنية - أي الصورة التي تَصَوَّرها الواضع في ذِهْنِه عند إرادة الوَضْع - أو بإزاء الماهيات الخارجية
فذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى الثاني وهو المختارُ وذهب الإمام فخر
الدين وأتباعه إلى الأول واستدلوا عليهِ بأن اللفظ يتغر بحسب تغيُّر الصورة في الذِّهن فإن مَنْ رأَى شَبحاً من بعيد وظَنَّه حَجراً أطلق عليه لفظ الحجر فإذا دَنا منه وظنَّه شجرا أطلق عليه لفظ الشجر فإذا دَنَا وظنَّه فرسا أطلق عليه اسم الفرس فإذا تحقَّق أنه إنسان أطلق عليه لفظَ الإنسان فَبَانَ بهذا أن إطلاقَ اللفظ دائر مع المعاني الذهنيَّة دون الخارجية فدل على أن الوضْعَ للمعنى الذهني لا الخارجي.
وأجاب صاحبُ التحصيل عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذِّهنية لاعْتقاد أنها في الخارج كذلك لا لِمُجرَّد اختلافِها في الذهن.
قال الأسنوي في شرح منهاج الإمام البيضاوي: وهو جواب ظاهر.
قال ويظهرُ أن يُقال: إن اللفظ موضوع بإزاءِ المعنى من حيث هو مع قَطْعِ النظر عن كونه ذهنيا أو خارجيا فإن حصولَ المعنى في الخارج والذهن من الأوصاف الزائدة على المعنى واللفظُ إنما وُضِعَ للمعنى من غير تقييده بوَصْفٍ زائد.
ثم إن الموضوعَ له قد لا يُوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه. انتهى.
وقال ابو حيان في شرح التسهيل: العجبُ ممن يُجيز تركيبا مَا في لغة من اللغات من غير أن يسمعَ من ذلك التركيب نظائرَ وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية فكما لا يجوز إحداثُ لفظٍ مفردٍ كذلك لا يجوز في التراكيب لأن جميعَ ذلك أمورٌ وضعية والأمورُ الوضعيةُ تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان والفرقُ بين علم النحو وبين علم اللغة أن علمَ النحو موضوعُه أمورٌ كلية وموضوعُ علم اللغة أشياء جزئية وقد اشتركا معا في الوضْع انتهى.
وقال الزَّركشيُّ في البحر المحيط: لا خِلَافَ أن المفرداتِ موضوعةٌ كوضع لفظ (إنسان) للحيوان الناطق وكوَضْعِ (قام) لحدوث القيام في زمن مخصوص وكَوَضْع (لعلَّ) للترجِّي ونحوها واختلفوا في المركبات نحو (قام زيد) و (عمرو منطلق) فقيل ليست موضوعة ولهذا لم يتكلم أهلُ اللغة في المركبات ولا في تأليفها وإنما تكلموا في وَضْع المفردات وما ذاك إلَاّ لأن الأمر فيها مَوْكول إلى المتكلِّم بها واختاره فخرُ الدين الرازي وهو ظاهرُ كلام ابن مالك حيث قال: إن
دلالة المتكلم عقليَّة لا وَضعيَّة واحتجَّ له في كتاب الفيصل على المفصل بوجهين:
أحدهما - أن من لا يَعْرف من الكلام العربي إلا لفظين مفردين صالحين لإسناد أحدهما إلى الآخر فإنه لا يَفْتَقر عند سماعهما مع الإسناد إلى مَعرّف بمعنى الإسناد بل يُدْرِكه ضرورة.
وثانيهما - إن الدَّال بالوضع لا بدَّ من إحصائه ومنع الاستئناف فيه كما كان في المفردات والمركَّبات القائمة مقامها فلو كان الكلامُ دالا بالوضْع وجب ذلك فيه ولم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نُسْبَق إليه كما لم نَستعمل في المفردات إلا ما سَبَق اسْتِعماله وفي عدم ذلك برهانٌ على أنَّ الكلام ليس دالا بالوضع.
وحكاه ابنُ إياز عن شيخه قال: ولو كان حالُ الجُمَلِ كحال المفرداتِ في الوضع لكان استعمال الجمل وفهم معانيها متوقفا على نقلها عن العرب كما كانت المفردات كذلك ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجمل ويُودِعُوها كُتبَهم كما فعلوا ذلك بالمفردات ولأن المركّباتِ دلالتُها على معناها التركيبي بالعقل لا بالوضع فإنَّ مَنْ عرف مسمَّى (زيد) وعرف مسمَّى (قائم) وسمع (زيد قائم) بإعرابه المخصوص فَهِمَ بالضرورة معنى هذا الكلام وهو نِسْبَةُ القيام إلى زيد نعم يصح أن يقالَ: إنها موضوعة باعتبار أنها متوقفة على معرفة مفرداتها التي لا تُستفاد إلا من جهة الوَضْع ولأَن لِلَّفْظ المركَّب أجزاء مادية وجزءا صوريا وهو التأليفُ بينهما وكذلك لمعناه أجزاءٌ مادية وجزءٌ صوري والأَجزاءُ المادية من اللفظ تدلُّ على الأَجزاءِ المادية من المعنى والجزءُ الصوري منه يدل على الجزء الصوري من المعنى بالوَضْع.
والثاني - أنها موضوعة فوضعت (زيد قائم) للإسناد دون التَّقوية في مفرداته ولا تَنَافي بين وَضْعها مفردة للإسناد بدون التَّقوية وَوَضْعها مركَّبة للتَّقوية ولا تختلف باختلاف اللغات فالمضافُ مقدَّم على المضاف إليه في بعض اللغات ومؤخَّر عنه في بَعْض ولو كانت عقلية لفهم المعنى واحدا سواءٌ تقدم المضافُ على المضاف إليه أو تأخر وهذا القولُ ظاهرُ كلام ابنِ الحاجب حيث قال: أقسامُها مفرد ومركب.
قال القَرَافي: وهو الصحيح.
وعزَاه غيرُه للجمهور بدليل أنها حَجَرت في التَّراكيب كما حَجَرت في المفردات فقالت: من قال: (إن قائم زيدا) ليس من كلامنا.
ومن قال: (إن زيدا
قائم) فهو من كلامنا ومن قال: (في الدار رجلٌ) فهو من كلامنا ومن قال: (رجل في الدار) فليس من كلامنا إلى ما لا نهاية له في تراكيب الكلام وذلك يدل على تَعَرُّضِهَا بالوضعِ للمركبات.
قال الزَّرْكَشِيّ: والحقُّ أن العربَ إنما وَضَعَتْ أنواعَ المرَكَّبَاتِ أما جُزئيات الأنواع فلا فَوَضَعَتْ باب الفاعل لإسْناد كلِّ فعلٍ إلى مَنْ صَدَرَ منه أما الفاعلُ المخصوص فلا.
وكذلك باب (إن وأخواتها) أما اسمها المخصوص فلا.
كذلك سائر أنواعِ التراكيب.
وأحالت المعنى على اختيار المتكلم فإنْ أراد القائلِ بِوَضْع المركبات هذا المعنى فصحيح وإلا فممنوع.
قال: ولم أر لهم كلاما في المثنى والمجموع والظاهرُ أنهما موضوعان لأنهما مفردان وهو الذي يقتضيه حدُّهم للمفرد ولهذا عامَلُوا جُمُوعَ التكسير معاملةَ المفردِ في الأحكام لكنْ صَرَّح ابنُ مالك في كلامه على حدِّهما بأنهما غيرُ موضوعين ويبعدُ أن يقالَ: فرَّعه على رأيهِ في عدم وضْعِ المركبات لأنه لا تركيب فيها لا سيما أن المركب في الحقيقة إنما هو الإسنادُ وكذا القولُ في أسماء الجُموع والأجناس مما يدلُّ على متعدد والقول بعدم وضْعه عجيب لأن أكثره سماعي وقد صرَّح ابنُ مالك بأنَّ (شَفْعاً) ونحوه مما يدل على الاثنين موضوع.
وقال الجُوَينِي: الظاهرُ أن التثنية وُضِعَ لفظُها بعد الجمع لِمَسِيس الحاجة إلى الجمع كثيرا ولهذا لم يُوجد في سائر اللغات تثنية والجمع موجود في كل لغة وَمِنْ ثمَّ قال بعضهم: أقلُّ الجمع اثنان كأَن الواضع قال: الشيءُ إما واحدٌ وإما كثير لا غيرُ فجعل الاثنين في حدِّ الكثرة.
- المسألة التاسعة - قال الإمام عضد الدين الإيجي في رسالة له في الوَضْع: اللَّفْظُ قد يوضع لشخصٍ بعينه وقد يُوضع له باعتبار أمرٍ عام وذلك بأن يُعْقل أمرٌ مشتَرَك بين مشخصات ثم يُقال: هذا اللفظ موضوع لكلِّ واحدٍ من هذه المشخصات بخصوصه بحيث لا يُفاد ولا يُفْهم به إلَاّ واحد بخصوصه دون القَدْر المشترك فتعقل ذلك المشترك آلة للوضع لا أنه الموضوع له فالوَضْع كلِّي والموضوعُ له مشخص وذلك مثلُ اسم الإشارة فإنَّ (هذا) مثلا موضوعُه ومسماه