الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو يخرج لها وجه بعيد كما في قول العجاج: // من الزجر //
(وفَاحِماً ومَرْسِنَا مُسَرَّجا)
فإنه لم يعرف ما أراد بقوله: مسرجا حتى اختلف في تخريجه فقيل: هو من قولهم للسُّيوف سُرَيْجِيَّة منسوبة إلى قَيْن يقال له سُرَيج يريد أنه في الاستواء والدِّقة كالسيف السُّرَيْجَي وقيل من السراج يريد أنه في البريق كالسراج.
(مخالفة القياس)
- ومخالفة القياس كما في قول الشاعر: // من الرجز //
(الحمدُ لله العَلِيّ الأَجْلَل)
فإن القياس الأجَلّ بالإدغام.
وزاد بعضُهم في شروط الفصاحة: خلوصُه من الكراهة في السَّمْع بأن يمجَّ الكلمةَ وينبو عن سماعها كما ينبو عن سماع الأصوات المُنْكَرة فإن اللَّفظ من قبيل الأصوات منها ما تستلذ النفسُ بسماعه ومنها ما تكره سماعَه كلفظ الجِرِشَّي في قول أبي الطيب: // من المتقارب //
(كريمُ الجِرِشَّي شريفُ النَّسَبْ)
أي كريم النفس وهو مردود لأن الكراهَة لِكَوْنِ اللفظ حُوشِيّاً فهو داخلٌ في الغرابة.
هذا كله كلام القَزْويني في الإيضاح.
ثم قال عَقِبه: ثم علامةُ كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمالُ العربِ الموثوقِ بعربيتهم لها كثيرا أو أكثرَ من استعمالهم ما بمَعْنَاها وهذا ما قدَّمتُ تقريره في أول الكلام فالمرادُ بالفصيح ما كَثُر استعمالهُ في أَلْسِنَة العرب.
وقال الجاربردي في شرح الشَّافية: فإن قلتَ: ما يُقْصَدُ بالفصيح وبأيِّ شيءٍ يُعْلَم أنه غيرُ فصيح وغيره فصيح قلت أن يكونَ اللفظُ على أَلْسِنَة الفصحاءِ الموثوقِ بعربيتهم أدْور واستعمالهم لها أكْثر.
فوائد - بعضها تقريرٌ لما سبق وبعضها تعقب له وبعضها زيادة عليه:
الأولى - قال الشيخ بهاءُ الدين السبكي في عروس الأفراح: ينبغي أن يُحمَل قوله: (والغرابة) على الغَرَابةِ بالنسبة إلى العرب العَرْباء لا بالنسبة إلى استعمال الناس وإلا لكان جميعُ ما في كُتُب الغريب غيرَ فصيح والقَطعُ بخلافه.
قال: والذي يقتضيه كلامُ المفتاح وغيرِه أن الغَرَابة قِلَّةُ الاستعمال والمرادُ قلّةُ استعمالها لذلك المعنى لا لِغَيره.
الثانية - قال الشيخ بهاءُ الدين: قد يَرِد على قوله: (ومخالفة القياس) ما خالَف القياسَ وكَثُر استعماله فورد في القرآن فإنه فصيح مثل اسْتَحْوذ.
وقال الخطيبي في شرح التلخيص: أما إذا كانت مخالفةُ القياس لِدَليل فلا يخرج عن كونه فصيحا كما في سُرر فإن قياس سرير أن يجمع على أفعلة ولإفعلان مثل أرغفة ورُغْفان.
وقال الشيخ بهاءُ الدين: إن عَنَى بالدليل ورودَ السَّماع فذلك شرطٌ لجواز الاستعمال اللُّغوي لا الفَصَاحة: وإن عَنَى دليلا يصيِّره فصيحا وإن كان مخالفا للقياس فلا دليلَ في سُرر على الفَصَاحة إلا وروده في القرآن فينبغي حينئذ أن يُقال: إن مخالفَة القياس إنما تُخِلُّ بالفصاحة حيث لم يقع في القرآن الكريم.
قال: ولقائل أن يقولَ حينئذ: لا نُسَلِّم أن مخالفةَ القياس تُخِلُّ بالفصاحة ويُسْنَد هذا المنع بكَثْرةِ ما وَرَدَ منه في القرآن بل مخالفةُ القياس مع قلَّةِ الاستعمال مجموعُهما هو المخل.
قلت: والتَّحقيقُ أن المُخِلّ هو قلةُ الاستعمال وحدَها فرجعت الغَرَابةُ ومخالفةُ القياس إلى اعتبارِ قلة الاستعمال والتنافر كذلك وهذا كلَّه تقريرٌ لكَوْن مدَار الفصاحة على كثرة الاستعمال وعدمها على قلَّته.
الثالثة - قال الشيخ بهاء الدين: مُقْتَضى ذلك أيضا أن كلَّ ضرورة ارتكبها شاعر فقد أخرجت الكلمةَ عن الفَصَاحة.
وقد قال حازم القرطاجني في مِنْهاج البُلَغَاء: الضَرائر الشائعة منها المُسْتَقْبَحُ وغيره وهو ما لا تستوحش منه النَّفس كصَرْف ما لا ينصرف وقد تستوحش منه في البعض كالأَسْماء المَعْدُولة وأشد ما تَسْتَوْحِشُه تنوينُ أفعل منه ومما لا يُسْتَقْبَح قصرُ الجمع الممدود ومَدّ الجمع المقصور وأقبحُ الضرائر الزيادةُ المؤدّيةُ لما ليس أصلا في كلامهم.
كقوله // من البسيط //:
(أدْنو فأنظُور) أي أنظر.
والزيادة المؤدّيةُ لما يقل في الكلام كقوله // من الطويل //: فأطأت شيمالي
أي شمالي.
وكذلك النقص المجحف كقوله: // من الكامل //
(دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا)
أي المنازل.
وكذلك العدول عن صيغة إلى أخرى كقوله: // من البسيط //
(جَدْلَاءُ محْكَمةٍ من نَسْج سَلَاّم)
أي سليمان.
انتهى.
وأطلق الخفاجي في سرِّ الفصاحة إن صرفَ غير المنصرف وعكْسَه في الضرورة مخلٌّ بالفصاحة.
الرابعة - قال الشيخ بهاءُ الدين: عدَّ بعضُهم من شروط الفصاحة ألَاّ تكونَ الكلمةُ مُبتَذلة: إما لتغيير العامَّة لها إلى غير أصل الوضع كالصروم للقطع جعلته العامة للمحلِّ المخصوص وإما لسخافتها في أصل الوضع كاللَّقَالق ولهذا عدَل في التنزيل إلى قوله: {فأَوْقِدْ لِي يا هَامانُ على الطِّين} لسخافة لفظ الطوب وما رَادَفه كما قال الطيبي.
ولاستثقال جَمع الأرض لم تُجْمَع في القرآن وجُمِعت السماء حيثُ أُريدَ جمعها قال تعالى: {ومن الأرض مثْلهنّ} ولاسْتثقال اللُّب لم يقع في القرآن ووقع فيه جمعُه وهو الألباب لخِفَّتِه.
وقد قسَّم حازم في المنهاج الابتذال والغَرَابة فقال: الكلمة على أقسام:
- الأول ما استعملَتْهُ العربُ دون المحدثين وكان استعمال العربِ له كثيرا في الأشعار وغيرها فهذا حسنٌ فصيح.
- الثاني: ما استعملَتْه العربُ قليلا ولم يحسن تأليفُه ولا صيغتُه فهذا لا يَحْسُن إيراده.
- الثالث: ما استعملَتْهُ العربُ وخاصَّةُ المحدثين دون عامتهم فهذا حسنٌ جدا لأنه خلص من حُوشيَّة العربِ وابتذالِ العامة.
- الرابع: ما كثُر في كلام العرب وخاصَّة المحدَثين وعامتهم ولم يكثر في أَلْسِنة العامة فلا بأس به.
- الخامس: ما كان كذلك ولكنه كثُرَ في ألْسِنة العامة وكان لذلك المعنى اسمٌ استغنتْ به الخاصَّةُ عن هذا فهذا يَقْبَحُ استعماله لابتذاله.
- السادس: أن يكون ذلك الاسم كثيرا عند الخاصة والعامة وليس له اسمٌ آخر وليست العامة أحوج إلى ذِكْره من الخاصِة ولم يكن من الأشياء التي هي أنسب بأهل المِهَن فهذا لا يَقْبُح ولا يُعَدُّ مُبْتَذَلاً مثل لفظ الرأس والعين.
- السابع: أن يكون كما ذكرناه إلا أن حاجةَ العامة له أكثر فهو كثير الدَّوَرَان بينهم كالصنائع فهذا مُبتذل.
- الثامن: أن تكون الكلمةُ كثيرةَ الاستعمال عند العرب والمحدَثين لمَعْنًى وقد استعملها بعضُ العرب نادرا لمعنى آخر فيجب أن يُجْتَنَبْ هذا أيضا.
- التاسع: أن تكون العربُ والعامةُ استعملوها دون الخاصة وكان استعمالُ العامَّة لها من غير تغيير فاستعمالها على ما نطقت به العربُ ليس مبتذلا وعلى التغيير قبيحٌ مُبْتَذَل.
ثم اعلم أن الابتذالَ في الألفاظِ وما تدل عليه ليس وصفا ذاتيا ولا عَرَضاً لازما بل لاحِقاً من اللَّواحق المتعلِّقةِ بالاستعمال في زمان دون زمان وصُقْع دون صُقع.
انتهى.
الخامسة - قال ابنُ دريد في الجمهرة: اعلم أن الحروفَ إذا تقاربت
مخارجُها كانت أثقَل على اللِّسان منها إذا تباعدت لأنك إذا استعملتَ اللسانَ في حروف الحَلْق دون حروف الفم ودون حروف الذَّلاقة كلَّفته جَرْساً واحدا وحركاتٍ مختلفة ألا ترى أنك لو أَلَّفْتَ بين الهمزة والهاء والحاء فأمكن لوجدتَ الهمزةَ تتحوَّل هاء في بعض اللغات لقربها منها نحو قولهم في: هم والله وكما قالوا في أراق هَرَاق ولوجَدْتَ الحاء في بعض الألسنة تتحول هاء.
وإذا تباعدت مخارج الحروف حسن التأليف.
قال: واعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثةُ أحرف من جنسٍ واحد في كلمةٍ واحدة لصعوبة ذلك على ألسنتهم وأَصْعَبُها حروف الحَلْق فأما حرفان فقد اجتمعا مثل أخ أحد وأهل وعَهد ونَخْعٍ غيرَ أنَّ من شأنهم إذا أرادوا هذا أن يبدؤوا بالأقوى من الحرفين ويُؤَخّروا الألْين كما قالوا: ورل ووتد فبدؤوا بالتاء مع الدَّال وبالراء مع اللام فذُق التاء والدال فإنك تجد التَّاء تنقطع بجَرْسٍ قوي وكذلك اللام تنقطع بغتة ويدلك على ذلك أيضا أن اعْتِياص اللام على الألسن أقلُّ من اعتياص الراء وذلك للين اللام فافهم.
قال الخليل: لولا بُحَّة في الحاء لأَشْبَهَت العينَ فلذلك لم يأتلفا في كلمة واحد وكذلك الهاء ولكنهما يجتمعان في كلمتين لكلِّ واحدة منهما معنى على حِدَة نحو قولهم: حيَّهَل وقول الآخر: حيهاوه وحَيّهلاً. فحي كلمة معناها: هَلُمَّ وهَلاً: حثيثا (وفي الحديث: فحي هَلا بعُمَر) وقال الخليل: سمعنا كلمة شَنْعَاء (الهعخع) فأنكرنا تأليفها.
سئل أعرابي عن نَاقَتَه فقال: تركتُها تَرْعَى
الهُعْخع فسألنا الثِّقات من علمائهم فأنكروا ذلك وقالوا: نعرف الخُعْخُع فهذا أقرب إلى التأليف.
انتهى.
كلام الجمهرة.
وقال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح: قالوا التنافر يكون إما لِتَبَاعُد الحروف جدا أو لتقاربها فإنها كالطَّفْرَة والمَشْي في القَيْد نقله الخفاجي في (سر الفصاحة) عن الخليل بن أحمد وتعقبه بأن لنا ألفاظا حروفُها متقاربة ولا تنافرَ فيها كلَفْظ الشَّجَر والجيش والفم.
وقد يوجد البُعْدُ ولا تنافر كلفظ العلم والبعد ثم رأى الخفاجي أنه لا تنافر في البُعْدِ وإن أفرط بل زاد فجعل تَبَاعد مخارج الحروف شَرْطاً للفصاحة.
قال الشيخ بهاء الدين: ويُشبه استواءَ تقاربِ الحروف وتباعدها في تحصيل التنافر اسْتواءُ المِثْلَين اللَّذَين هما في غاية الوِفاق والضِّدَّين اللذين هما في غاية الخلافِ في كَون كلٍّ من الضِّدَّين والمِثلين لا يجتمع مع الآخر فلا يجتمع المثلان لشدَّة تقاربهما ولا الضِّدَّين لشدة تباعدهما وحيث دار الحالُ بين الحروف المتباعدة والمتقاربة فالمتباعدةُ أخف.
وقال ابنُ جني في سرِّ الصناعة: التأليفُ ثلاثة أضرب:
أحدُها: تأليفُ الحروفِ المتباعدة وهو أَحْسَنُه وهو أغلب في كلام العرب.
والثاني: الحروفُ المتقاربة لضَعْفِ الحرْفِ نفسه وهو يلي الأول في الحسْن.
والثالث: الحروفُ المتقاربة فإما رُفض وإما قَلَّ استعماله وإنما كان أقلَّ من المتماثلين وإن كان فيهما ما في المتقاربين وزيادة لأن المتماثلَين يخفَّان بالإدغام ولذلك لما أرادت بنو تميم إسكان عَيْن (مَعْهم) كرهوا ذلك فأبدلوا الحرفين حائين وقالوا: _ مححم) فرأوا ذلك أسهلَ من الحرفين المتقاربين.
السادسة - قال ابنُ دريد: اعلم أن أحسن الأبنيةِ أن يبنوا باْمتِزَاج الحروف المتباعدة ألا ترى أنك لا تجدُ بناء رباعيا مُصْمَت الحروف لا مِزاج له من حروف الذلاقة إلا بناء يجيئُك بالسين وهو قليلٌ جدا مثل عَسْجد وذلك أن السينَ ليّنةٌ وجَرْسها من جوهر الغتة فلذلك جاءت في هذا البناء.
فأما الخماسي مثل فَرَزْدَق وسَفَرْجَل وشَمَرْدل فإنك لست واجدَه إلا بحرف أو حرفين من حروف الذَّلاقة من مَخْرج الشفتين أو أَسَلة اللسان فإذا جاءك بناءٌ يُخَالف ما رسمْتُه لك مثل: دعشق وضغنج وحضافَج وضقعهج أو مثل عقجش فإنه ليس من كلام العرب فارْدُدْه فإن قوما يَفْتَعلون هذه الأسماءَ بالحروف المُصْمتة ولا يمزجونها بحروف الذَّلاقة فلا نقبلْ ذلك كما لا نقبل من الشِّعْر المستقيمِ الأَجْزاء إلا ما وافق ما بنته العرب فأما الثُّلاثي من الأسماء والثنائي فقد يَجوز بالحروف المُصْمَتة بلا مِزاج من حروف الذَّلاقة مثل خُدَع وهو حَسَن لفَصْلِ ما بين الخاء والعين بالدال فإن قَلَبْتَ الحروف قَبح فعلى هذا القياس فألِّف ما جاءَك منه وتدبَّره فإنه أكثرُ من أن يُحْصَى.
قال: واعلم أن أكثر الحروف استعمالا عند العرب الواوُ والياءُ والهمزة وأقل ما يستعملون على ألسنتهم لِثقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم العين ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم فأخفُّ هذه الحروف كلِّها ما استعملته العرب في أصول أبنيتهم من الزوائد لاخْتلاف المعنى.
قال: ومما يَدلّك على أنهم لا يؤلفون الحروفَ المُتَقَاربةَ المَخَارج أنه ربما لَزِمَهم ذلك من كلمتين أو من حَرْفٍ زائد فيحوِّلون أحدَ الحرفين حتى يصيِّروا الأقوى منهما مبتدأ على الكره منهم وربما فعلوا ذلك في البناء الأصلي فأما ما فعلوه من بناءين فمثلُ قوله تعالى: {بَلْ رَانَ} لا يُبيّنون اللام ويُبْدِلونها راء لأنه ليس في كلامهم (لر) فلما كان كذلك أَبْدَلوا اللام فصارت مثل الراء.
ومثله (الرَّحمن الرَّحيم) لا تَسْتَبِين اللامُ عند الراء وكذلك فعلُهم فيما أُدْخل عليه حرفٌ
زائد وأُبْدِل فتاءُ الافتعال عند الطاء والظاء والضاد والزاي وأخواتها تحوَّلُ إلى الحرْفِ الذي يَليه حتى يبدؤوا بالأقوى فيصيرا في لَفْظٍ واحد وقُوَّة واحدة وأما ما فعلوه في بناءٍ واحد فمثلُ السين عند القاف والطاء يُبْدلونها صادا لأن السين من وسط الفم مطمئنَّة على ظَهْر اللسان والقافَ والظاءَ شاخصتان إلى الغار الأعلى فاستثقلوا أن يَقَع اللِّسانُ عليها ثم يرتفع إلى الطاءِ والقاف فأبْدَلوا السين صادا لأنها أقربُ الحروف إليها لقُرْب المخرج ووجدوا الصاد أشدَّ ارتفاعا وأقربَ إلى القاف والطاء وكان استعمالُهم اللسانَ في الصاد مع القاف أيسرَ من استعماله مع السين فمِن ثَمَّ قالوا: صَقر والسين الأَصل وقالوا: قَصَطَ وإنما هو قَسَط وكذلك إذا دخَل بين السين والطاء والقاف حرفٌ حاجز أو حرفان لم يَكْتَرثوا وتوهموا المجاورةَ في اللفظ فأَبْدلوا ألَا تراهم قالوا: صَبْط وقالوا في السَّبْق صَبْق وفي السَّويق صَويق وكذلك إذا جاورت الصادُ الدال والصادُ متقدمة فإذا سكنتِ الصّادُ ضَعُفَت فيحوِّلونها في بعض اللغات زايا فإذا تحركت ردوها إلى لفظها مثل قولهم: فلان يَزْدُق في كلامه فإذا قالوا صدَق قالوها بالصاد لتحركها وقد قرىء حتى يَزْدُر الرِّعاء بالزاي.
فما جاءك من الحروف في البناءِ مُغَيراً عن لَفظِه فلا يخلو من أن تكون عِلَّتُه داخلة في بعض ما فسرتُ لك من عِلل تقارُب المَخْرج.
السابعة - قال في عروس الأفراح: رُتَبُ الفَصَاحة مُتَفَاوتة فإن الكلمةُ تخفُّ وتَثْقُل بحَسَب الانتقال من حَرفٍ إلى حرف لَا يُلَائمه قُرْباً أو بُعداً فإن كانت الكلمةُ ثلاثية فتركيبها اثنا عشر:
الأول - الانحدارُ من المخرج الأعلى إلى الأوْسط إلى الأدنى نحو (ع د ب) .
الثاني - الانتقالُ من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوْسط نحو (ع ر د) .
الثالث - من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو (ع م هـ) .
الرابع - من الأعلى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو (ع ل ن) .
الخامس - من الأدنى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو (ب د ع) .
السادس - من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو (ب ع د) .
السابع - من الأدنى إلى الأعلى إلى الأدنى نحو (ف ع م) .
الثامن - من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو (ف د م) .
التاسع - من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو (د ع م) .
العاشر - من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو (د م ع) .
الحادي عشر - من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو (ن ع ل) .
الثاني عشر - من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو (ن م ل) . إذا تقرر هذا فاعلم أن أحسنَ هذه التراكيب وأكثرَها استعمالا ما انحدر فيه من الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى ثم ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى ثم من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط.
وأما ما انتقل فيه من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى وما انْتُقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى فهما سِيَّان في الاستعمال وإن كان القياس يقتضي أن يكون أرجَحَهما ما انتُقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى.
وأقل الجميع استعمالا ما انتُقل فيه من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط.
هذا إذا لم ترجع إلى ما انتقلتَ عنه فإن رجعت فإن كان الانتقالُ من الحرف الأول إلى الثاني في انحدارٍ من غير طَفْرة - والطَّفْرة الانتقال من الأعلى إلى الأدنى أو عكسه - كان التركيبُ أخفَّ وأكثر وإن فُقِد بأن يكون النقل من الأول في ارتفاع من طفرة كان أثقلَ وأقلَّ استعمالا.
وأحسنُ التراكيب ما تقدمت فيه نُقْلَة الانحدار من غير طَفْرة بأن ينتقل من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى أو من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط ودون هذين ما تقدمتْ فيه نقلةُ الارتفاع من غير طَفْرةٍ. وأما الرباعي والخماسي فعلى نحو ما سبق في الثلاثي ويخص ما فوق الثلاثي كثرةُ اشتماله على حروف الذلَاّقة لتَجْبُر خفَّتُها ما فيه من الثِّقل وأكثرُ ما تقع الحروف الثقيلة فيما فوقَ الثلاثي مفصولا بينها بحرفٍ خفيف وأكثرُ ما تقع أولا وآخرا وربما قُصِد بها تشنيع الكلمة لذمٍّ أو غيره.
انتهى.
الثامنة - قال في عروس الأفراح: الحروف كلُّها ليس فيها تنافر حروف وكلُّها فصيحة.
التاسعة - قال ابن النفيس في كتاب الطريق إلى الفصاحة: قد تُنْقلُ الكلمةُ من صيغَةٍ لأُخرى أو من وزْنٍ إلى آخر أو من مُضِيّ إلى استقبال وبالعكس فَتَحْسُن بعد أن كانت قبيحة وبالعكس فمِن ذلك خَوَّد بمعنى أَسْرع قبيحة فإذا جُعلَتْ اسما (خَوْداً) وهي المرأةُ الناعمةُ قلَّ قُبْحُها وكذلك دَعْ تقبُح بصيغة الماضي لأنه لا يُسْتَعْمل وَدَع إلَاّ قليلا ويَحْسن فعلَ أمرٍ أو فعلا مُضَارعاً.
ولفظُ اللُّب بمعنى العقل يقبح مُفرداً ولا يقبح مجموعا كقوله تعالى {لأُولي الألباب} .
قال: ولم يرد لفظُ اللب مفردا إلا مُضافاً كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيتُ من ناقِصاتِ عقلٍ ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازمِ من إحْداكُنَّ) .
أو مضافا إليه كقول جرير: // من البسيط //
(يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ به)
وكذلك الأرْجاء تحسن مجموعة كقوله تعالى: {والمَلَكُ عَلَى أَرْجائها} .
ولا تحسنُ مفردة إلا مضافة نحو رَجَا البئر وكذلك الأصواف تحسن مجموعة كقوله تعالى: {ومِنْ أَصْوَافِها} .
ولا تحسن مفردة كقول أبي تمام: // من الكامل //
(فكأنما لَبِسَ الزمانُ الصوفا)
ومما يحسن مفردا ويقبح مجموعا المصادرُ كلُّها وكذلك بُقْعَة وبقاع وإنما يحسن جمعها مضافا مثل بِقَاع الأرض.
انتهى.
العاشرة - قال في عروس الأفراح: الثلاثيُّ أحسنُ من الثُّنَائي والأحادي ومن الرباعي والخماسي فذكر حازم وغيرُه من شروطِ الفصاحة: أن تكونَ الكلمةُ متوسطة بين قلَّةِ الحروف وكثرتها والمتوسطةُ ثلاثة أحرف فإن كانت الكلمةُ على حرف واحد مثل (قِ) فعل أمْر في الوصل قَبُحَتْ وإن كانت على حرفين لم تقبح إلا أن يليَها مثلُها.
وقال حازم أيضا: المُفْرِط في القِصَر ما كان على مقطع مقصور والذي لم يُفْرِط ما كان على سبب والمتوسط ما كان على وتد أو على سبب ومقطع مقصور أو على سببين والذي لم يُفْرط في الطول ما كان على وتد وسبب والمُفْرط في الطول ما كان على وتدين أو على وتد وسببين.
قال: ثم الطولُ تارة يكون بأصل الوَضْع وتارة تكونُ الكلمةُ متوسطة فتطيلها الصلة وغيرها كقول أبي الطيب: // من الكامل //
(خَلَت البلاد من الغَزَالةِ ليلَها
…
فأعاضَهَاكُ اللهُ كي لا تحزنا)
وقول أبي تمام: // من الكامل //
(ورفعت للمستنشدين لوائي)
قال في عروس الأفراح: فإن قلْتَ: زيادةُ الحروف لزيادة المعنى كما في اخْشَوْشَنَ ومقتدر وكَبْكَبُوا فكيفَ جعلتم كثرةَ الحروف مُخِلاًّ بالفصاحةِ مع كثرةِ المعنى فيه قلت: لا مانع من أن تكون إحدى الكلمتين أقلَّ معنى من الأخرى وهي أفصحُ منها إذ الأمور الثلاثة التي يشترط الخلوص عنها لا تعلق لها بالمعنى.
الحادية عشرة - قال في عروس الأفراح: ليس لكل معنى كلمتان: فصيحة
وغيرُها بل منه ما هو كذلك وربما لا يكون للمعنى إلا كلمةٌ واحدةٌ فصيحةٌ أو غير فصيحة فيضطر إلى استعمالها وحيثُ كان للمعنى الواحد كلمتان ثلاثية ورباعية ولا مُرَجِّح لإحداهما على الأخرى كان العدول إلى الرباعية عدولاً عن الأفصح ولم يوجد هذا القرآن الكريم.
انتهى
الثانية عشرة - قال الإمام أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضَّل: المشهور بالراغب وهو من أئمة السُّنة والبلاغة في خُطبة كتابه المفردات: فألفاظ القرآن: هي لبُّ كلام العرب وزُبْدَتُه وواسطته وكرائمه وعليها اعتمادُ الفقهاءِ والحكماءِ في أحكامهم وحِكَمِهم وإليها مَفْزَعٌ حُذّاَق الشعراء والبُلَغاء في نَظْمهم ونَثْرهم وما عداها وما عدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتَقاتِ منها.
هو بالإضافة إليها كالقشُور والنَّوَى بالإضافة إلى أطايب الثمرة وكالحُثالة والتِّبْن بالنسبة إلى لُبُوبِ الحِنْطة.
انتهى.
الثالثة عشرة - ألَّف ثعلب كتابه الفصيح المشهور التزَم فيه الفصيحَ والأفصحَ مما يجري في كلام الناس وكُتُبهم وفيه يقول بعضهم: // من المتقارب //
(كتاب الفصيح كتاب مفيد
…
يقال لقاريه ما أَبْلَغَه)
(بُنيّ عليك به إنه
…
لُبَابُ اللبيب وضنو اللُّغة) وقد عكفَ الناسُ عليه قديما وحديثا واعْتَنَوْا به فشرحه ابن دَرَسْتَويه وابن خالويه والمرزوقي وأبو بكر بن حيَّان وأبو محمد بن السيد البطليوسي وأبو عبد الله بن هشام اللخمي وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الفهري وذيَّل عليه الموفق عبد اللطيف البغدادي بذيل يُقَاربُه في الحَجْم ونَظمه ومع ذلك ففيه مواضعُ تعقَّبها الحُذَّاق عليه.
قال أبو حفص الضرير: سمعت أبا الفتح ابن المراغي يقول: سمعت إبراهيم
ابن السري الزجاج يقول: دخلت على ثعلب في أيام المبرد وقد أملى شيئا من المُقْتَضَب فسلّمتُ عليه وعنده أبو موسى الحامِض وكان يَحْسُدني كثيرا ويُجَاهِرُني بالعدَاوة وكنتُ أَلِينُ له وأحْتَمِلُه لموضع الشَّيْخُوخَة.
فقال ثعلب: قد حَمل إليَّ بعضَ ما أَمْلَاهُ هذا الخلدي فرأيتُه لا يَطُوعُ لسانُه بعبارة فقلت له / إنه لا يَشُكُّ في حُسْن عِبارته اثنان ولكنَّ سوءَ رأيك فيه يَعيبُه عندك فقال ما رأيته إلا أَلْكَن متفلقا فقال أبو موسى: والله إن صاحبَكم ألكَنَُ.
يعني سيبويه فأحْفَظني ذلك.
ثم قال: بلغني عن الفرَّاء أنه قال: دخلت البَصْرة فلقيتُ يونس وأصحابه يذكرونه بالحِفْظِ والدراية وحُسنِ الفِطْنة وأتيتُه فإذا هو لا يفصح. وسمعته يقول كجارته: هاتي ذِيكِ الماءَ من ذلكِ الجرَّة فخرجتُ عنه ولم أَعُد إليه. فقلت له: هذا لا يصحُّ عن الفراء وأنتَ غيرُ مأمون في هذه الحكاية ولا يعرفُ أصحاب سيبويه من هذا شيئا. وكيف يقول هذا مَنْ يقول في أول كتابه: هذا بابُ علم ما الكَلِم من العربية وهذا يعجِز عن إدراك فهمه كثيرة من الفُصَحاءِ فضلا عن النُّطق به.
فقال ثعلب: قد وجدتُ في كتابه نحو هذا.
قلت: ما هو قال: يقول في كتابه في غير نُسْخَة: حاشا حرفٌ يخفِضُ ما بعدَه كما تَخْفِضُ حتى وفيها مَعْنى الاستثناء.
فقلتُ له: هذا هكذا وهو صحيح ذهب في التذكير إلى الحرْف وفي التأنيث إلى الكلمة.
قال: والأجود أن يُجْعلَ الكلام على وجْهٍ واحد.
قلت: كلٌّ جيد.
قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ ورسولهِ ويَعْمَل صالحا وقرىء {وتعمل صالحا} . وقال تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ} ذهب إلى المعنى ثم قال: (ومِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ) ذهب إلى اللفظ.
وليس لقائل أن يقول: لو حُمِل
الكلامُ على وجْهٍ واحد في الآيتين كان أجوَدَ لأن كلا جيد.
وأما نحن فلا نذكرُ حدودَ الفراء لأن خَطَأَه فيها أكثرُ من صوابه هذا أنت عملت كتاب الفصيح للمتعلم المبتدىء وهو عشرون ورقة أخطأتَ في عشرة مواضع منه فقال اذكرها.
قلت: نعم قلتَ: (وهو عِرْق النَّسا) ولا يقال إلا النَّسا كما لا يقال عِرْق الأكْحَل ولا عرق الأبهر قال امرؤ القيس: (من المتقارب)
(فأَنْشَب أَظْفَاره في النَّسا
…
فقلت: هُبِلْتَ ألا تنتصر) وقلت: حلمت أحلُم حُلماً وحُلُم ليس بمَصْدَر إنما هو اسم قال الله تعالى: {والذين لم يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ} وإذا كان للشيء مصدر واسمٌ لم يوضع الاسمُ مَوضعَ المصدر ألا ترى أنك تقول: حَسِبْتُ الشيءَ أحسِبه حَسْباً وحُسْبَاناً والحَسْبُ المصدر والحِساب الاسم فلو قلت ما بلغَ الحَسْب إلي أو رفعتُ الحَسْبَ إليك لم يجز.
وأنت تريد: رفعت الحَسْاَب إليك.
وقلتَ: رجلٌ عَزَب وامرأة عزبة وهذا خطأٌ وإنما يقال رجل عزب وامرأة عزب لأنه مصدر وُصِف به ولا يثنى ولا يجمع ولا يُؤنَّث كما تقول: رجل خَصْم ولا يقال امرأة خصمة.
وقد أثبتَّ من هذا النوع في الكتاب وأفردتَ هذا منه قال الشاعر: (من الرجز)
(يا مَنْ يَدُلُّ عَزَباً عَلَى عَزَبْ) وقلتُ: كِسْرى بكسر الكاف وهذا خطأٌ إنما هو كَسْرى بفتحها والدليل أنا وإياكم لا نختلفُ في أن النسَب إلى كسرى كَسْرَويّ بفتح الكاف وهذا ليس مما تُغَيِّرُه ياءُ الإضافة لبُعْدِه منها ألا ترى أنك لو نسبتَ إلى مِعْزَى ودِرْهم لقلت مِعزي ودِرهمي ولم تقل مَعزى ولا دَرهمى.
وقلت: وعدتُ الرجلَ خيرا وشرا فإذا لم تذكر الشر قلت: أوعدتُه بكذا وقولك كذا كنايةٌ عن الشر.
والصوابُ أن يقال: وإذا لم تذكر الشر قلت أَوْعَدْته.
وقلتَ: هم المُطَوَّعة وإنما هو المُطَّوِّعة بتشديد الطاء كما قال تعالى: {الذين يَلْمِزُون المُطَّوِّعين من المؤمنين} .
فقال: ما قلت إلا المطوعة.
فقلت: هكذا قرأته عليك وقرأَه غيري وأنا حاضرٌ أسمعُ مِراراً.
وقلتَ: هو لِرشْدَةٍ وزِنْيَة كما قلت: هو لغية والباب فيهما واحد إنما يريدُ المرَّة الواحدة ومَصادِر الثلاثي إذا أردت المرّةَ الواحدة لم تختلفْ تقول: ضربتُه ضَربة وجلستُ جَلْسَة وركبتُ رَكْبة لَا اخْتلاف في ذلك بين أحدٍ من النحويين وإنما كُسِر ما كان هيئةَ حال فتصفها بالحسن والقُبْح وغيرهما فتقول هو حَسنُ الجِلسة والسِّيرة والرِّكبة وليس هذا من ذاك.
وقلتَ: هي أَسْنُمَة فِي البَلَد ورواه الأصمعي أسْنُمة بضم الهمزة فقال: ما رَوَى ابنُ الأعرابي وأصحابه إلا أسنمة بفتحها.
فقلت: قد علمتَ أن الأصمعي أضبط لما يحكيه وأوثَق فيما يُرويه.
وقلت: إذا عزَّ أخوك فهُن والكلام فهِن وهو من هان يَهين. ومنه قيل هَيِّنٌ لَيّنٌ لأن هُن من هان يهون من الهوان والعربُ لا تأمرُ بذلك ولا معنى هذا فصيح لو قلته ومعنى عزَّ ليس من العِزَّة التي هي مَنَعَةٌ وقُدْرة وإنما هي من قولك عزَّ الشيءَ إذا اشتدَّ ومعنى الكلام إذا صعب أخوك واشتدَّ فَذِلّ له من الذل ولا معنى للذل هاهنا.
كما تقول: إذا صعُب أخوك فهِن له.
قال أبو إسحاق: فما قرىء عليه كتابُ الفصيح بعد ذلك عِلْمِي ثم سئم بعدُ فأنكر كتابه الفصيح.
انتهى.
وذكر طائفة أن الفصيحَ ليس تأليف ثعلب وإنما هو تأليف الحسن بن داود الرقي وقيل تأليف يعقوب بن السكيت.
الرابعة عشرة - قال ابن دَرَسْتَويه في شرح الفصيح: كلُّ ما كان ماضيه على فعَلت بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه من حُروف اللِّين ولا الحَلْق فإنه يجوزُ في مُستَقْبله يفعُل بضم العين ويفعِل بكسرها كضرب يضرِب وشكر يشكرُ وليس أحدُهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسانُ والاستخفاف فمما جاء واسْتُعْمِلَ فيه الوجهان قولهم: نفر ينفِر وينفُر وشتم يشتِمُ ويشتُم فهذا يدلُّ على جواز الوجهين فيهما وأنهما شيء واحد لأنَّ الضمة أختُ الكسرة في الثِّقل كما أن الواو نظيرةُ الياء في الثقل والإعلال ولأن هذا الحَرْفَ لا يتغيّرُ لفظة ولا خطُّه بتغيير حركته.
فأما اختيارُ مؤلِّف كتاب الفصيح في ينفِر ويشتِم فلا عِلَّة له ولا قياس بل هو نقضٌ لمذهب العرب والنَّحْويين في هذا الباب.
فقد أخبرنا محمد بن يزيد عن المازني والزيادي والرياشي عن أبي زيد الأنصاري وأخبرنا به أيضا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عنهم وعن أبي حاتم وأخبرنا به الكسروي عن ابن مهدي عن أبي حاتم عن أبي زيد أنه قال: طُفْتُ في عُلْيا قيس وتميم مدة طويلة أسألُ عن هذا الباب صغيرَهم وكبيرَهم لأعرف ما كان منه بالضم أولى وما كان منه بالكسر أولى فلم أجدْ لذلك قياسا وإنما يتكلم به كلُّ امرىء منهم على ما يَسْتَحْسِن ويستخفُّ لا على غير ذلك.
ونظنُّ المختارُ لِلْكَسْرِ هُنَا وَجَدَ الكَسر أَكثرَ استعمالا عند بعضهم فجعلَه أفصحَ مِنَ الذي قلَّ استعمالهُ عندهم وليست الفصاحة في كثرةِ الاستعمال ولا قِلَّته وإنما هاتان لغتان مُستَويتان في القياس والعلة وإن كان ما كَثر استعماله أعرف وآنس لطول العادة له.
وقد يلتزمون أحدَ الوجهين للفَرْق بين المعاني في بعض ما يجوز فيه الوجهان كقولهم: ينفرُ بالضم من النِّفار والاشمئزاز وينفِر بالكسر من نَفْر الحُجاج من عرَفَات فهذا الضربُ من القياس يُبْطِل اختيارَ مؤلف الفصيح الكسر في ينفِر على كل حال.