الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
عدم المصداقية بعض الأحيان في أداء الفحص الطبي قبل الزواج، بحيث يصبح هذا الفحص مجرد شهادة تُعطى للفاحصين دون فحصهم، إما لمعرفة أو قرابة أو محسوبية أو واسطة أو رشوة من المال، ويكثر في البلاد التي تنتشر فيها الرشاوى، في حال إلزام الدولة المواطنين بالفحص الطبي قبل الزواج (1).
الفرع الثالث: الفحص الطبي قبل الزواج
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء المعاصرون على أن الفحص الطبي مهم ومطلوب، واختلفوا في إلزام الناس بالفحص الطبي قبل الزواج (2) على قولين:
القول الأول: لا يجوز إجبار الناس على إجراء الفحص الطبي، لكن يشجع الناس، وينشر هذا الوعي في الوسائل المختلفة، وممن قال بهذا: الشيخ عبد العزيز بن باز (3)، وعبد الكريم زيدان (4)، ومحمد رأفت عثمان (5)، ومحمد عبد الستار الشريف (6).
(1) الفحوصات الطبية لأبي حالة ص 69، والفحص الطبي قبل الزواج لأبي كليلة ص 200.
(2)
وهذا ما يفهم من أدلتهم الآتية الذكر.
(3)
مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق، لأسامة الأشقر، ص 92.
(4)
الفحوصات الطبية قبل الزواج، لأبي حالة، ص 309.
(5)
الفحص الطبي قبل الزواج والأحكام الفقهية المتصلة به، لأبي كليلة، ص 158.
(6)
فقه القضايا الطبية المعاصرة، ص 283، ومستجدات طبية معاصرة، ص 315، والفحوصات الطبية قبل الزواج، ص 309، وأثر الأمراض الوراثية على الحياة الزوجية، ص 56، والفحص قبل الزواج، د. عبد الرشيد قاسم، موقع صيد الفوائد: http://www.saaid.net/mktarat/alzawaj/75.htm، والفحص الطبي قبل الزواج والأحكام الفقهية المتصلة به، ص 158، وفتاوى إسلامية للمسند؟ ؟ ؟ (3/ 108، 109).
أدلة القول الأول:
الدليل الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي» "(1).
وجه الدلالة من الحديث:
يدل الحديث على أن المتقدم للزواج ينبغي له أن يحسن الظن بالله تعالى، ويتوكل عليه، ولا حاجة للفحص الطبي، خصوصًا أنه يمكن أن يعطي نتائج غير صحيحة (2).
الرد على وجه الدلالة:
أن إجراء الفحص الطبي قبل الزواج يحقق مصالح شرعية راجحة، ويدرأ مفسدة متوقعة، وليس مضادًّا لحسن الظن بالله، والتوكل عليه، وقد قال الشيخ محمد العثيمين- رحمه الله: «التوكل هو الاعتماد على الله في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به، وفعل الأسباب المأذون فيها
…
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب نقص توكله على الله
…
ومن ألغى الأسباب، فقد طعن
(1) رواه البخاري (8/ 216)، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، ح (7405)، ومسلم (8/ 62)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، ح (2675).
(2)
الفحوصات الطبية قبل الزواج، لأبي حالة، ص 309، ومستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق، للأشقر، ص 92، 93.
في حكمة الله، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب» (1)(2)، فيتبين لنا مما سبق أن الأخذ بالأسباب الحافظة للإنسان، والرافعة عنه الضرر هي من التوكل، وليست مضادة له.
الدليل الثاني:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» (3).
وجه الدلالة:
لم يقل صلى الله عليه وسلم: «وصحته» ، والأصل أن الإنسان سليم، وقد اكتفى بالأصول الدين والخلق (4).
الرد على وجه الدلالة:
أن هذا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وأن الصلاح يشمل صلاحه من الأمراض، وقد جاء في الحديث:«فاذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئًا» . (5)
وفي حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سليم فقال: "شمي عوارضها، وانظري إلى عرقوبها
…
» (6).
(1) القول المفيد على كتاب التوحيد، لابن العثيمين (2/ 87، 88).
(2)
شرح العقيدة الواسطية، للعثيمين، ص 150، 151، والتنبيهات السنية على العقيدة الواسطية، لرشيد، ص 56، 57، وفتح المجيد، لابن عبد الوهاب، ص 407، 408.
(3)
سبق تخريجه ص 52.
(4)
الفحص قبل الزواج، د. عبد الرشيد محمد قاسم، موقع صيد الفوائد:
http://www.saaid.net/mktarat/alzawaj/75.htm.
(5)
سبق تخريجه ص 64.
(6)
سبق تخريجه ص 69.
وجه الدلالة:
أن ما فعلته أم سليم ما هو إلا فحص متواضع للمرأة، بأن تشم رائحتها (1)، وتنظر إلى عرقوبها.
الدليل الثالث:
أن تصرفات ولي الأمر في جعل الأمور المباحة واجبًا، إنما تجب الطاعة فيها إذا تعينت فيها المصلحة أو غلبت؛ للقاعدة الفقهية:«تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة» (2)، وإلزام الناس بالكشف قبل الزواج فيه مفسدة عظيمة (3).
الرد على الدليل:
ويمكن الرد: طاعة الإمام مقيدة بعدم الأمر بمعصية، وما دام يدعو إلى ما فيه مصلحة للمسلمين؛ فيحب طاعته، والإلزام بالفحص فيه مصلحة محققة تعود إلى الفرد والمجتمع.
الدليل الرابع:
أن أركان النكاح وشروطه جاءت بها الأدلة الشرعية، وإيجاب أمر على الناس وجعله شرطًا تزيُّدٌ على شرع الله، فهو شرط باطل،
(1) مقاييس اللغة، لابن فارس، ص 729، وفيه: "العِرْض: ريح الإنسان طيبة كانت أم غير طيبة.
(2)
المنثور في القواعد، للزركشي (1/ 309)، والأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 185، وشرح القواعد الفقهية، للزرقا، ص 309، والفوائد الجنية، للفاداني (2/ 123).
(3)
الفحص الطبي قبل الزواج، لأبي كيلة، ص 161، والفحوصات الطبية، لأبي حالة، ص 309، والفحص قبل الزواج، د. عبد الرشيد محمد قاسم، موقع صيد الفوائد.
وفي الحديث: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل» (1).
الرد على الدليل: الحديث وإن كان عامًّا، إلا أنه مخصوص بالولاء، وجاء في خاتمته:"إنما الولاء لمن أعتق"، ومع هذا فإن اشتراط الفحص الطبي لا يتعارض مع مقاصد الزواج في الإسلام، ولا ينافي مقتضى عقد الزواج، وزواج الأصحاء يستمر بخلاف المرضى، ويتحقق به حفظ النسل (2).
الدليل الخامس:
أن الكشف قد يعطي نتائج غير صحيحة (3).
الرد على الدليل:
ويمكن الرد: أن هذا الدليل لا يُسلَّم له، فقد وصل الطب الحديث إلى مرحلة أن الغالب في نتائجه الصحة.
القول الثاني: يجوز لولي الأمر إصدار قانون يلزم فيه كل المتقدمين للزواج بإجراء الفحص الطبي؛ بحيث لا يتم الزواج إلا بعد إعطائه شهادة تثبت أنه لائق طبيًّا، وممن قال به: محمد الزحيلي، وناصر الميمان، وحمداتي ماء العينين، ومحمد شبير، وعارف علي وغيرهم (4)، وهو ما أفتت به إدارة الفتوى في وزارة
(1) رواه البخاري (3/ 39)، كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل، ح (2168).
(2)
أثر الأمراض الوراثية على الحياة الزوجية، للعشي، ص 65.
(3)
فتاوى إسلامية للمسند (3/ 109).
(4)
الفحص الطبي قبل الزواج، ص 157، 158، وأحكام الخطبة في الفقه الإسلامي، لرجوب، ص 210، 211، ومستجدات طبية معاصرة، للنجار، ص 206، والفحوصات الطبية، لأبي حالة، ص 301.
الأوقاف الكويتية (1).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (2).
وجه الدلالة في الآية:
الآية صريحة في طاعة ولي الأمر فيما يدعو الناس إليه إن لم يأمرهم بمعصية (3)، ومادام أنه يأمرهم بما فيه مصلحة لهم؛ فيجب طاعته، والإلزام بالفحص فيه مصلحة للفرد والمجتمع؛ فيجب طاعته فيه.
الدليل الثاني:
قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4).
وجه الدلالة من الآية:
أن ترك الفعل الذي فيه مصلحة محققة يؤدي إلى الهلاك، وهناك تقرير في الآية:{ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم} (5)، والفحص الطبي سبب للوقاية من بعض الأمراض المعدية التي تنتقل بالزواج، فيتعين إجراؤه لتتجنب الأسرة الهلاك.
الدليل الثالث: قال تعالى: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (6).
(1) مجموعة الفتاوى الشرعية (12/ 300)، وموقع المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث:
http://www.dawatalhak.com/newsdetails.asp? id=111
(2)
سورة النساء، آية:59.
(3)
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (6/ 428، 429).
(4)
سورة البقرة، آية:195.
(5)
المحرر الوجيز، لابن عطية (2/ 147).
(6)
سورة آل عمران، آية:38.
وجه الدلالة من الآية:
أن زكريا عليه السلام دعا ربه أن يرزقه نسلاً صالحًا (1)، والمحافظة على النسل من مقاصد الشريعة التي جاءت لحفظها (2)، فلا مانع أن يحرص الإنسان على أن يكون نسله المستقبلي صالحًا غير معيب، ويتحقق بالفحص الطبي (3).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يوردن ممرض على مصح» (4).
وجه الاستدلال بالحديث:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاط الأصحاء بالمرضى؛ حفاظًا على صحتهم، ووقاية لهم من الأمراض المعدية والوراثية، وهذا لا يعلم إلا بالفحص الطبي (5)(6).
(1) جامع البيان في تفسير القرآن، للطبري (3/ 167)، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (5/ 109).
(2)
سبق الكلام على النسل ص 51.
(3)
الفحص الطبي قبل الزواج، لأبي كيلة، ص 159، ومستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق، للأشقر، ص 93، 94.
(4)
رواه البخاري (7/ 40)، كتاب الطب، باب لا هامة، ح (5774)، ومسلم (7/ 31)، كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول، ولا يوردن ممرض على مصح، ح (5922).
(5)
الفحص الطبي قبل الزواج، لصفوان، ص 72، والفحص الطبي قبل الزواج، لأبي كيلة، ص 159، ومستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق، للأشقر، ص 95، وتحفة العروس، للاستانبولي، ص 46.
(6)
ومثل هذا الحديث: «إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها» ، وقول عمر رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
الدليل الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنظرت إليها؟ "، قال: لا، قال: "فاذهب فانظر إليها؛ فإنه في أعين الأنصار شيئًا» (1).
وجه الاستدلال من الحديث:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل بالنظر إلى عينها، وما ذلك إلا لعيب فيها: المراد صغرها، وقيل: زرقة، وما هذا إلا فحص أولى بسيط للمخطوبة (2).
الدليل السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة (3)، ولا صفر، وَفِرَّ من المجذوم (4) كما تفر من الأسد (5)» .
(1) سبق تخريجه ص 64، ومثله حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فصعد فيها النظر وصوبه. رواه البخاري (6/ 164) كتاب النكاح، باب السلطان ولي ح (5135)، ووراه مسلم (4/ 143)، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد ح (1425).
(2)
أحكام الخطبة في الفقه الإسلامي، لرجوب، ص 212، وشرح صحيح مسلم، للنووي (9/ 179).
(3)
الهامة: الرأس، وأما الهامة في الطير فليست في الحقيقة طيرًا، إنما هو شيء كما كانت العرب تقوله: إن روح القتيل الذي لا يُدرَك ثأره تصير هامة». معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، ص 1022.
(4)
الجذام: هو علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فتفسد مزاج الأعضاء. فتح الباري، لابن حجر (10/ 167).
(5)
رواه البخاري (7/ 22)، كتاب الطب، باب الجذام، ح (5707).
وجه الدلالة من الحديث:
مثل وجه الدلالة في الدليل الرابع.
الدليل السابع: القاعدة الفقهية «المشقة تجلب التيسير» (1).
يمكن القول بأن وجه ارتباط هذه القاعدة بالفحص الطبي، أن المشقة التي تحصل للمكلف بسبب الزواج من المرض تُرفع بإلزام الناس بالفحص الطبي، وأن هناك من الأمراض المخيفة التي يُخشى على الزوجين منها، والإقدام على الزواج دون معرفة تلك الأمراض يهدد كيان الأسرة، وإذا علم أحدهما بأن الآخر مصاب بأحد هذه الأمراض المزمنة أو الخطيرة أو الوراثية، فينبغي له أن يمتنع عن الزواج دفعًا للضرر (2).
الدليل الثامن: القاعدة الفقهية تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة (3).
وجه الدلالة بهذه القاعدة:
أن تصرف الإمام ونوابه على الشعب متعلق بالمصلحة والمنفعة لهم، ومن ثم إذا رأى ولي الأمر أن المصلحة والمنفعة في إلزام الناس بالفحص الطبي قبل الزواج كان له ذلك؛ درءًا للضرر، وجلبًا للنفع، أما إذا انتفت المصلحة والمنفعة للناس، فلا يجوز الإلزام، وأن فعل الإمام يتعلق بالأمور العامة، ولابد أن يكون موافقًا
(1) المنثور في القواعد، للزركشي (3/ 169)، والأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 124، وشرح القواعد الفقهية، للزرقا، ص 157.
(2)
الفحوصات الطبية، ص 305.
(3)
سبق ذكرها ص 103.
للشرع؛ بألا يخالف نصوصه ولا القواعد الكلية والمبادئ العامة (1).
الدليل التاسع: القاعدة الفقهية «الدفع أقوى من الرفع» (2).
وجه الدلالة بهذه القاعدة: أنه إذا أمكن دفع الضرر باكتشاف الأمراض وعلاجها قبل الدخول في مداخل الزواج، فهذا أولى وأفضل من اكتشافها بين الأفراد بعد الدخول في مراحل الزواج، ومحاولة علاجها والسيطرة عليها (3)(4).
الترجيح:
الراجح- والله أعلم- القول الثاني، وهو القول بإلزام الناس بالفحص الطبي قبل الزواج؛ وذلك للأسباب التالية:
1 -
وضوح استدلاله من النصوص الشرعية.
2 -
موافقته للقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة.
3 -
فيه الجمع بين القولين؛ بحيث إن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل وحسن الظن بالله.
(1) الفحص الطبي قبل الزواج، لأبي كيلة، ص 154، والفحوصات الطبية، لأبي حالة، ص 305، ومستجدات طبية معاصرة، للنجار، ص 310.
(2)
المنثور في القواعد، للزركشي (2/ 155)، والأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 210، والفوائد الجنية، للفاداني (2/ 200).
(3)
الفحص الطبي قبل الزواج، لأبي كيلة، ص 155، والفحوصات الطبية، لأبي حالة، ص 304.
(4)
واستدلوا كذلك بالقواعد التالية: «الضرر يزال» ، و «المصالح المرسلة» . المرجعين السابقين.