الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
حكم الزواج العرفي
سبق أن ذكرنا أن الزواج العرفي له صور متعددة، وكل واحدة مختلفة عن الأخرى، وسأقتصر هنا على صورة واحدة؛ لأنها نازلة في نظري، ولأهميتها، وهي أن يكون الزواج مكتمل الأركان والشروط، ولكن دون توثيق رسمي، وقبل أن أدخل في حكم المسألة سأبين ما هو التوثيق والوثيقة والموثق وما يرتبط بكل ذلك.
التوثيق لغة: قال ابن فارس: «الواو والثاء والقاف كلمة تدل على عقد وإحكام» (1)، ووثقت الشيء: أحكمته، وثُقَ الشيء وثاقة: قوي وثبت، فهو وثيق، أي ثابت محكم، وصار وثيقًا، أو أخذ بالوثيقة في أمره، أي بالثقة، كتوثق، والوَثاق- ويكسر-: ما يشد به، وأوثقه فيه: شدَّه، واستوثق منه: أخذ الوثيقة، ووثِقت به أثق ثقة: سكنت إليه، واعتمدت عليه (2).
قال تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (3).
قال القرطبي: «الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مِفْعال
(1) مقاييس اللغة، لابن فارس، ص 1043.
(2)
المرجع السابق، ومفردات القرآن، للأصفهاني، ص 853، والقاموس المحيط، للفيروزآبادي، ص 854، والمصباح المنير، للفيومي، ص 531، ومختار الصحاح، للرازي، ص 659.
(3)
سورة البقرة، آية:27.
من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه، والجمع: المواثيق» (1).
وقال تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} (2)، أي تحلفون بالعهود والمواثيق (3).
ومما سبق يتبين لنا أن للتوثيق معاني:
- العقد والإحكام، والثبوت والتقوية، والعهد والأيمان، والشد والإحكام.
أما التوثيق اصطلاحًا:
التعريف الأول: (الأمر الذي يحصل به التقوِّي على الوصول للحق)(4).
التعريف الثاني: (علم يبحث فيه عن كيفية سوق الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات في الرقاع والدفاتر؛ ليحتج بها عند الحاجة إليها)(5).
التعريف الثالث: (علم باحث عن كيفية ثبت الأحكام الثابتة عند القاضي في الكتب والسجلات على وجه يصح الاحتجاج به عند انقضاء شهود الحال)(6).
(1) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (1/ 370 - 371)، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير (1/ 319).
(2)
سورة يوسف، آية:66.
(3)
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/ 522).
(4)
الزواج العرفي، لدريويش، ص 61.
(5)
مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لكبرى زاده (2/ 557).
(6)
كشف الظنون، لحاجي خليفة (3/ 76).
ولعل التعريف المختار- والله أعلم- هو أنه: "علم يضبط أنواع المعاملات والتصرفات بين شخصين أو أكثر، على وجه يضمن تحقيق الآثار المترتبة عليها، ويكسبها قوة الإثبات عند القاضي» (1)، واخترناه لما يلي:
1 -
أن التعريف الأول عام بين الحقوق واستيفاء الحقوق، ولم يبين أركان التوثيق.
2 -
التعريف الثاني والثالث لم يذكر فيهما أركان التوثيق، ولم يكونا جامعين مانعين.
3 -
أن التعريف المختار ذكر أركان التوثيق إضافة إلى الآثار المترتبة عليه.
ويسمى الفقهاء علم التوثيق بعلم الشروط والمحاضر والسجلات.
أما الوثيقة لغة: فإنها ترجع إلى المعنى السابق ذكره؛ لأنها من نفس مادة وثق.
وأما اصطلاحًا: فهي الورقة التي يُدوَّن فيها ما يصدر من شخص أو أكثر من التصرفات والالتزامات أو الإسقاطات أو نحو ذلك، على وجه يجعلها منطبقة على القواعد الشرعية، ومستوفية لجميع الشروط التي اشترطها الفقهاء لجعل هذا المدون بعيدًا عن الفساد (2).
(1) التوثيق لدى فقهاء المذهب المالكي، لعبد اللطيف الشيخ (1/ 26).
(2)
ولاية التوثيق، للحجيلي، ص 252.
والمُوثِّق لغة: اسم فاعل معناه اللغوي لا يخرج عن المادة السابقة لأنها أصله.
واصطلاحًا:
التعريف الأول: (هو من يوثق العقود ونحوها بالطريق الرسمي)(1).
والتعريف الثاني: (هو من يقوم بالتوثيق، أي بكتابة العقد أو الإقرار أو التصرف ونحو ذلك)(2).
التعريف الثالث: (قيام موظف رسمي مختص بتحرير العقد بنفسه، والتوقيع عليه، وذلك بعد تأكده من توافر أركانه وشروط صحته)(3).
التعريف المختار هو الثالث، وذلك لما يلي:
1 -
أن الأول والثاني أطلقا صفة الموثق على كل من يقوم بكتابة الوثيقة، فيدخل فيه العالم والعامي.
2 -
وأن الثالث أعطى الموثق صفة رسمية، وأنه مختص في هذه المهنة.
أما صفة الموثق أو الشروط التي يجب أن يكون عليها فقد نظمها بعضهم شعرًا فقال:
إن كنت للتوثيق من أبنائه
…
ولبست من أوصافه جلبابا
(1) المعجم الوسيط (2/ 1012).
(2)
ولاية التوثيق، للحجيلي، ص 252.
(3)
نظام القضاء في المملكة العربية السعودية، للجيرة، ص 162.
وحفظت ما تحتاجه من آلة
…
أدبًا وفقهًا يقتضيه صوابا
وسبكت ألفاظ الوثيقة بعضها
…
بعضًا على نسق عجابا
وسلكت مسلك صالحي علمائنا
…
تبغي بها سبل النجاة طلابا
متثبتا متحفظًا متحرزًا
…
يقظان لا تخش الأنام عتابا
وقبلت ما أوتيت عنها أجرة
…
عن طيب نفس قد أتاك لبابا
وحفظت دينك في الشريعة تابعًا
…
سبل الكرام أولي النُّهى أوابا
فلسوف تدرك ما تؤمِّل دائمًا
…
فضلاً من الله العظيم ثوابا (1)
وقد اختلف العلماء في حكم الزواج العرفي على أقوال:
القول الأول: يصح عقد الزواج العرفي؛ لأن الكتابة والتسجيل في الأوراق الرسمية ليست بشرط ولا ركن من أركان عقد الزواج، فلذلك يصح عقد الزواج، وتترتب عليه آثاره إذا توفرت الشروط والأركان، وهو قول الشيخ جاد الحق، والشيخ ابن جبرين، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ صالح الفوزان وغيرهم (2).
(1) المنهج الفائق، للونشريسي (1/ 81)، وقد فصل فيه المؤلف- رحمه الله في شرف علم الوثائق وصفة ما يحتاجه من الآداب، وما ينبغي للموثق أن يحترز منه، ومتى يصبح مذمومًا وغيرها، وولاية التوثيق، للحجيلي، ص 271.
(2)
الزواج العرفي المشكلة والحل، للجارحي، ص 51، والزواج العرفي، لحمدان، ص 50، والزواج العرفي، لعبد العظيم، ص 57، والزواج العرفي، للمطلق، ص 500، والزواج العرفي، لدريويش، ص 69، وأحكام الزواج، للأشقر، قال: "صحيح .. وإنما بنالان العقاب المنصوص عليه في قانون العقوبات هما والعاقد لهما، ص 177، والزواج العرفي في ميزان الإسلام، للطهطاوي، ص 120.
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: أن الزواج مكتمل الأركان والشروط الواجب توافرها في الزواج الصحيح.
مناقشة الدليل:
أن ولي الأمر أمر بتوثيق العقود، وطاعته واجبة، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام:«إنما الطاعة في المعروف» (2)، فما دام الإنسان يؤمر بمعروف، فيجب أن يطيع، فالطاعة لازمة وواجبة هنا (3)، لاسيما أن فيه طاعة لله، وكذلك حفظ للحقوق من الضياع، وإثبات لأحكام الزوجية، خاصة إذا عم الفساد، وكثرت الفتن، وضعف الدين في الناس.
الدليل الثاني: أن توثيق الزواج بالكتابة ليس شرطًا ولا سُنة، وأنه يختلف من بلد إلى بلد، وأنه قد يعيق الزواج (4)، وأنه لم يكن معروفًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ولم ينقل عنهم، ولا عن السلف من بعدهم كتابة عقد الزواج (5)، بل اكتفوا بالإشهار والإعلان، مع
(1) سورة النساء، آية:59.
(2)
رواه البخاري (8/ 134)، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ح (7145).
(3)
الزواج العرفي، لدريويش، ص 72.
(4)
الزواج العرفي، للمطلق، ص 511.
(5)
الزواج العرفي، لعمران، ص 30، 31.
وجود الكتابة عندهم في المعاملات والبيوع، قال ابن تيمية:«ولم يكن الصحابة يكتبون صدقات؛ لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر» (1).
مناقشة الدليل:
أن كتابة عقد الزواج لم تكن معروفة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، ولكن كانت الكلمة تحترم وتعتبر ميثاقًا يُعتد به، أما الآن فقد أصبحت الذمم خربة، ولا تُحترم الكلمة، وغاب الضمير، وكثرت الحيل (2)، وكذلك صحيح أن التوثيق ليس شرطًا ولا سنة، ولكن صار في وقتنا الحالي من الضروريات التي تحفظ العقد من التلاعب والتحايل والتزوير، وفيه حفظ للحقوق، ولا يعيق الزواج، بل تحفظ به الحقوق والواجبات (3).
القول الثاني: أن العقد صحيح مع وجوب توثيق عقد الزواج بالكتابة والتسجيل رسميًّا، والذي لم يسجل يأثم ويعاقب بعقوبة يقدرها ولي الأمر، وهو قول علي الطنطاوي والقرضاوي وغيرهما (4).
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (32/ 131).
(2)
الزواج العرفي، لعمران، ص 31.
(3)
الزواج العرفي، للمطلق، ص 511.
(4)
الزواج العرفي، لجارحي، ص 45، وقال:(ذهب البعض إلى تحريمه وبطلانه)، ولعله يقصد قول من قال: إذا لم يتحقق فيه أركانه أو شروطه، كما هي فتوى الدكتور نصر فريد واصل. الزواج العرفي، لجارحي، ص 47، وقد نقل عنه- أي الدكتور نصر فريد واصل- أنه حرمه؛ لفقد عنصر التوثيق. والزواج العرفي، لعمران، ص 30، ولعل مراده: حرمة عدم التوثيق فقط، لا حرمة الزواج، والله أعلم. والزواج العرفي، لدريويش، ص 71، والزواج العرفي، للمطلق، ص 513.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أن ولي الأمر أمر بهذا التوثيق، وألزم فيه، فيجب طاعته، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلَاّ أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (2).
وقد أمَر ولي الأمر بكتابة عقد الزواج رسميًّا، فكان ذلك واجبًا يأثم تاركه، ويعاقب فاعله (3).
الدليل الثاني: لأجل إثبات الحقوق والأحكام الزوجية، وحفظ حقوق الولد، فلولي الأمر الحق بإلزام الناس بتوثيق العقود من باب السياسة الشرعية التي يسوس بها الرعية (4).
الدليل الثالث: قياس توثيق عقد النكاح على توثيق الدَّين، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (5).
ففي الآية توثيق للمعاملات والحقوق، وهذا في المعاملات
(1) سورة النساء، آية:59.
(2)
رواه البخاري (8/ 34)، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ح (7144)، ومسلم (6/ 15)، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، ح (4869).
(3)
الزواج العرفي، لدريويش، ص 72.
(4)
المرجع السابق، ص 74.
(5)
سورة البقرة، آية:282.
المالية، ففي النكاح من باب أولى، خوفًا من ضياع الأولاد، وإنكار الزوجية.
القول الراجح- والعلم عند الله- القول الثاني القائل بوجوب توثيق عقد الزواج مع صحة العقد، وأنه يجب معاقبة المقصر، وذلك لما يلي:
1 -
لقوة أدلته وصراحتها على الدلالة.
2 -
أن غاية ما عند القول الأول اكتمال الشروط والواجبات، ولا نخالفهم في هذا، ولكن هذا خاضع للمصالح والمفاسد التي تحصل بسبب الزواج العرفي.
3 -
لولي الأمر أن يُلزم بما فيه مصلحة الناس، وهو حق له من باب السياسة الشرعية.