المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٣

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث عشر

- ‌الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين

- ‌الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات

- ‌مدخل

- ‌التربة:

- ‌الفصل التسعون: الزرع

- ‌مدخل

- ‌الحصاد:

- ‌الفصل الحادي والتسعون: المحاصيل الزراعية

- ‌الحبوب:

- ‌القطنية:

- ‌الكمأ:

- ‌فصيلة اليقطين:

- ‌النبات الشائك:

- ‌الفصل الثاني والتسعون: الشجر

- ‌مدخل

- ‌الجوز:

- ‌اللوز:

- ‌الثمر:

- ‌الأشجار العادية:

- ‌جماعة الشجر:

- ‌الفحم وقطع الشجر:

- ‌آفات زراعية:

- ‌الأسوكة:

- ‌الفصل الثالث والتسعون: المراعي

- ‌مدخل

- ‌الحمض والخلة:

- ‌أصناف الرعاة:

- ‌الرعاة والحضارة:

- ‌الفصل الرابع والتسعون: الثروة الحيوانية

- ‌مدخل

- ‌الطيور:

- ‌تربية النحل:

- ‌الأسماك:

- ‌الفصل الخامس والتسعون: الأرض

- ‌مدخل

- ‌ظهور القرى:

- ‌عقود الوتف:

- ‌الإقطاع:

- ‌الحمى:

- ‌الموات:

- ‌إحياء الموات:

- ‌الماء والكلأ والنار:

- ‌الأرض ملك الآلهة:

- ‌الخليط:

- ‌الفصل السادس والتسعون: الإرواء

- ‌مدخل

- ‌انحباس المطر:

- ‌أنواع السقي:

- ‌المطر:

- ‌الاستفادة من مياه الأمطار:

- ‌الذهب:

- ‌الحياض:

- ‌الأنهار:

- ‌الحسي:

- ‌الآبار:

- ‌العيون:

- ‌الكراف:

- ‌القنى:

- ‌التلاع:

- ‌التحكم في الماء:

- ‌المسايل:

- ‌المصانع:

- ‌السكر:

- ‌الأحباس:

- ‌السدود:

- ‌سد مأرب:

- ‌توزيع الماء:

- ‌حقوق الري:

- ‌الخصومات بسبب الماء:

- ‌الفصل السابع والتسعون: معاملات زراعية

- ‌المحاقلة

- ‌المساقاة:

- ‌إكراء الأرض:

- ‌بيوع زراعية:

- ‌جمعيات زراعية:

- ‌الهروب من الأرض:

- ‌العمري والرقبى:

- ‌العرية:

- ‌الفصل الثامن والتسعون: الحياة الاقتصادية

- ‌مدخل

- ‌التجارة البرية:

- ‌قوافل سبأ:

- ‌الفصل التاسع والتسعون: ركوب البحر

- ‌الفصل المائة: التجارة البحرية

- ‌الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة

- ‌مدخل

- ‌السلع:

- ‌تجار يثرب:

- ‌فهرس الجزء الثالث عشر:

الفصل: ‌الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين

‌المجلد الثالث عشر

‌الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين

الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين

للوقوف على أسس اقتصاد أمة من الأمم، لا بد من الوقوف على طبيعة إقليمها من جو وأرض، فللطبيعة أثر كبير في تحديد خيرات تلك الأمة وفي تكوين سماتها وعاداتها وانتاجها: من ناتج زراعي أو حيواني أو صناعي، ثم في فقرها وغناها.

فالجو البارد ذو الأمطار الغزيرة، لا يمكن أن يكون أثره في الأحياء أثر الجو الحار الرطب، أو الجو الحار الجاف، أو الجو المعتدل. الجو البارد يدفع الإنسان إلى العمل ويبعث فيه الحيوية والنشاط، ويجبره على العمل، ويقدم له الماء هدية من السماء، ثم هو يكره الأرض أن تتلقح بماء المزن، لتولد خضرة تكسو الأرض ببساط جميل يخلب الألباب، ولتولد للماشية علفًا طريًّا شهيًّا، وللإنسان أرضًا طيعة لا تحتاج إلى سقي باليد أو بالآلة، ثم هو يوفر له كثيرًا من الجهد الذي يجب على الإنسان أن يبذله في البلاد الحارة الجافة لاستصلاح التربة ولمكافحة الحشرات التي تبارك فيها الحرارة إلى غير ذلك من صعوبات، لا تقاس بها الصعوبات التي تواجه سكان البلاد الباردة الممطرة.

أما الجو الحار الرطب، فيغيث الإنسان بمطر، قد ينهمر انهمارًا، وقد ينزل بمواسم، لكن حرارته الشديدة المتشبعة بالرطوبة، تهد الجسم، وتعطيه رخاوة في بدنه وفي عقله، تجعله يميل إلى الخمول والكسل والدعة، وإلى الاسترسال في العواطف، ثم تحرمه من نشاط إنسان الجو البارد، وتجعله دونه في العمل وفي السعي في هذه الحياة والضرب في هذه الأرض وفي استغلال التربة وما فيها وما

ص: 5

عليها، وأما الجو الحار الجاف، فيحرم سكانه من نعمة "الغيث" في الغالب، ويلبس سطح الأرض أكسية غبراء من رمال تذروها الرياح، ثم هو يجعل من الصعب على الإنسان أو الحيوان أن يجد قوته في هذه القفار الواسعة المغبرة، أو أن يعيش فيها عيشة مستقرة، دائمة، في مجتمعات كثيفة كمجتمعات الأجواء الباردة أو المعتدلة أو الحارة الرطبة، فاضطر إلى التنقل والارتحال بحثًا عن الكلأ والماء، اللهم إلا في مواطن الماء، وهي عزيزة ثمينة؛ لأنها في أرض غلب على طبعها الجفاف، فتصير هذه المواطن القليلة هدفًا لهجمات العطاشى عليها في سني القحط وانحباس المطر، وأيام الضيق والشدة، لسد الرمق وللمحفاظة على ما في الجسم الذابل النحيل من عروق لتعينه على البقاء، حتى يفنى بطعنة، أو بموت حتف أنفه.

تبلغ مساحة جزيرة العرب حوالي مليون وربع مليون ميل من الأميال المربعة. إذا ثبتنا مواضع المياه على "خارطتها"، نجد أنها قليلة، لا يتناسب توزيعها ووجودها مع هذه المساحة الشاسعة، ثم أنها مياه ضيقة المعين، لا يتسع صدرها لإرواء بقاع واسعة على نحو ما نجده في مياه الأنهار الكبيرة، وفي هذه المواضع انحصر السكن، فصار من ثم عدد سكانها قليلًا جدًّا في كل وقت. وإذا قسنا مساحة الأرضين الخصبة منها القابلة للزرع والإنبات ذات الماء بالأرضين المجدبة، نجد أنها قلة إلى كثرة، وإن ما لا يصلح منها للزرع أكثر بكثير مما يصلح له. وإن مساحة البراري والبوادي تزيد على مساحة الأرض الطيبة الخصبة، وإن هنالك أرضين ذات طبقات ثخينة من الرمال، أكرهت الناس على الابتعاد عنها، ترفعًا من أن يطأ وجهها خف جمل أو نعل إنسان، أو أن تدوسها الأقدام.

وقد نشأ عن هذا الوضع ضيق في مساحة الأرضين المزروعة، لشح الماء وعدم كفايته لإرواء الإنسان ولإرواء ماشيته وإسقاء أرضين واسعة، ضيق أثر في شكل تكوين المجتمع العربي، فلم يسمح بظهور المجتمعات الكثيفة الكبيرة في جزيرة العرب، والمجتمعات الكثيفة الكبيرة، هي المجتمعات الخلاقة، التي تتعقد فيها الحياة، وتظهر فيها الحكومات المنظمة للعمل وللانتاج وللتعامل بين الناس. جعل المجتمعات المذكورة مجتمع مستوطنات، رزقها من زراعتها الصغيرة ومن رعاية الماشية، وصار اقتصادها من ثم اقتصادًا بدائيًّا لا تعقيد فيه ولا تطوير يحول المواد الأولية إلى مواد أخرى أفيد منها وأكثر ربحًا تفيد المجتمع، وتعود عليه بأرباح طائلة من بيع المنتجات في الأسواق.

ص: 6

وهو ضيق صير العرب قومًا يكرهون الزراعة وينفرون منها، ويرون المزارع موطنًا من الدرجة الدنيا، ولا سيما ذلك المزارع الذي يزرع الخضر والبقول وعلف الحيوان، فهو عندهم "خضار". ولو كانت للعرب مياه فائضة، وأمطار غزيرة لما كرهوا الزراعة، ولما ازدروا شأنها، فحرمانهم من الماء جعلهم يستحقرون شأن الزراعة؛ لأنهم لم يتذوقوا ثمرتها ولم يشعروا بخبراتها، ولهذا اختلف عنهم أهل اليمن وبقية العربية الجنوبية ومن جد عندهم الماء، فغرسوا وزرعوا واعتبروا الزراعة نعمة، وتقدموا إلى آلهتهم لكي تبارك في زرعهم وتنعم في حصادهم وتعطيهم غلاث وافرة كثيرة.

وجو جزيرة العرب جو من أجواء البلاد الحارة الجافة. وأمطاره على العموم قليلة، ولا سيما في أواسط جزيرة العرب. وقد تنحبس في بعض السنين انحباسًا تامًّا، فيسبب انحباسها هذا كارثة ومصيبة، يجف في أثنائها العشب، وييبس كل أخضر، فلا تجد الإبل لها طعامًا، ولا يكون في وسع أهلها تقديم طعاما لها لعدم وجوده عندهم، وقد ينفق مالهم من العطش والجوع، فيصاب أصحابها بخسائر كبيرة، وقد يهلك عدد من الناس قبل بلوغهم موضع ماء، إما من شدة الحر والعطش والجوع، وإما من السيف الذي لا بد لهم من استعماله لاجبار أهل الماء على السماح لهم بمشاركتهم لهم إياه، أو بالاستحواذ عليه ونزلهم به، وطردهم أصحابه عنه إلى أماكن أخرى، أو بهروبهم من هذا الموضع لقوة أصحابه ولتمكنهم من رد الطامعين عنه.

وتتساقط الأمطار في العربية الغربية والعربية الجنوبية، ولكن سقوطها ليس منتظمًا وعلى طول أيام السنة. وقد تثور السماء فجأة على الأرض، فترسل عليها سيلًا مدرارًا، يكتسح ما يجده أمامه من إنسان وحيوان وكل عائق، ليجد له سبيلًا إلى أرض منخفضة أو إلى أودية، ثم لا يلبث أن يختفي ويزول؛ لأن عمره قصير في الغالب، إذ تبتلعه أرض رملية، فيغور إلى باطنها ليكون مياهًا جوفية، وقد تبتلعه البحار، إذ يسيل بشدة إلى الأودية المنحدرة الشديدة الانحدار فيتوجه مسرعًا نحو البحر، فيذهب فيها هباءً من غير أن يفيد أحدًا من الناس أو أن يغيثهم بشيء. وفي كتب أهل الأخبار قوائم بسيول كثيرة مهلكة مدمرة وقعت قبل الإسلام وبعده.

والأمطار في جزيرة العرب هي قليلة على العموم، مقدار ما يتساقط منها

ص: 7

لا يسد رمق الزرع ولا يغني الزراع ولا يكفي في بعض السنين لانبات الخضرة ولظهور الكلأ، وقد يستمر هذا المعدل سنين، فيتضايق الناس، وقد ترد بعدها سنين ينهمر فيها المطر انهمارًا، فيسقط من السماء وكأنه ماء انهمر من أفواه قرب، فيسبب سيولًا تؤذي الناس ولا تنفعهم، وقد يستمر هطول المطر على هذا المعدل من الشدة عدة سنين، ثم يقف فيشح، وتبخل السماء، فلا تعطي الأرض من غيثها إلا قليلًا، وقد تبخل بخلًا شديدًا فلا تعطيها منه شيئًا يذكر، فيتضايق الناس، ويعيشون عندئذ عيشة صعبة قاسية، قد تضطرهم إلى الارتحال إلى مواضع أخرى بحثًا عن الكلأ والماء.

وقد يكون انحباس المطر، ظاهرة موضعية، تصيب موضعًا، ولا تصيب مواضع أخرى، وقد يكون عامًا، يصيب أكثر جزيرة العرب أو كلها. وتكون شدته عندئذ في هذه الحالة أعم وأشد، وضرره في الناس أكثر، فأينما ترحل القبائل لا تجد أمامها إلا القحط والمحنة، وقلة الماء والغذاء، أي "القحط" والجدب والمحل. و"القحط" الجدب من أثر احتباس المطر، فيتأذى الناس، ويقل الطعام وترتفع أسعاره. ويعيشون في شدة1. ويلازم القحط في الغالب، اختفاء الطعام وارتفاع ثمنه. فالقحط ملازم إذن لانحباس المطر، ويلازمه الجوع وارتفاع السعر، وقلة الطعام، واختفاؤه من السوق، بسبب الخزن أملًا في الحصول على ربح ومكسب، أو بسبب قلة حاصل الموسم. ويقال أقحط القوم، أي أصابهم القحط، وكان ذلك في إقحاط الزمان.

وقد يعقب انحباس المطر ظهور الملح في طعم مياه الآبار والعيون2، حتى قد يصير الشرب منها صعبًا، والزرع عليها غير ممكن. فيضطر أصحابها عندئذ إلى تركها والارتحال عنها إلى مواضع أخرى، يحفرون فيها آبارًا جديدة، تكلفهم مالًا وجهدًا، وقد لا يجدون في الأرض الجديدة، ماءً عذبًا سائغًا فراتًا للشاربين، وقد لا يجدون فيها ما يكفيهم لشربهم ولشرب أموالهم، مما يحملهم على الارتحال إلى أرض أخرى، أو على التشتت والتبعثر، بسبب عدم وجود الماء أو عدم سده حاجتهم.

1 تاج العروس "5/ 201"، "قحط".

2 تاج العروس "2/ 229"، "ملح".

ص: 8

ويقال للسنة وللأرض التي لم يصبها المطر، "الجماد"، وسنة جامدة لا كلأ فيها ولا خصب ولا مطر. وأرض جماد، يابسة لم يصبها مطر ولا شيء فيها1. وهي من السنين الحرجة في حياة العرب، المؤذية المهلكة للأنفس وللمال. ويقال للمحل "الجدب". والجدب نقيض الحصب2. و"المحل" الجدب وانقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ، وتعد أيام المحل من شر الأيام، يقال: "زمان ماحل"، و"مكان ماحل"، و"بلد ماحل"، و"أرض محل"، وأرض محلة ومحول، يريدون بالمحل الشدة والجوع الشديد وإن لم يكن جدب، على سبيل المجاز

؛ لأن المحل الجدب ويبس الأرض وانقطاع المطر، فتشتد حالة الناس، ويطهر الجوع ويعيش الناس في ضنك شديد3.

ويقال لمثل هذه السنين الشديدة، التي تجف فيها المراعي، ويصاب الناس فيها بأزمة شديدة، سنة جرداء، وسنة الجمود لجمود الرياح فيها وانقطاع الأمطار وذهاب الماشية وهزالها وثبات الغلاء، ويقال لها الحطمة والأزمة واللزبة والمجاعة والرمد، وكحل والقصر والشدة والحاجر، وما شاكل ذلك من ألفاظ فيها معاني الشدة والفقر والجوع4.

وكان منهم من يتصور أن نجوم الشتاء هي سبب نزول الغيث، ولذلك كانوا إذا لم يمطروا، وانحبست السماء عندهم يقولون:"أحجرت النجوم". قال الراجز:

إذا الشتاء أجحرت نجومه

واشتد في غير ثرى أزومه

ومن المجاز أجحر القوم، إذا دخلوا في القحط. والجحرمة الضيق5. ولبس أشد على العرب وأضيق في انحباس المطر عنهم.

1 تاجر العروس "2/ 324 وما بعدها"، "جمد".

2 تاج العروس "1/ 176"، "جدب".

3 تاج العروس "8/ 113"، "محل".

4 الصفة "214".

5 تاج العروس "3/ 88"، "جحر". قال زهير بن أبي سلمى:

إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت

ونال كرام المال في الجحرة الأكل

يريد بكرام المال الإبل، يقول: إنها تنحر وتؤكل؛ لأنهم لا يجدون لبنا يغنيهم عن أكلها، تاج العروس "3/ 88"، "جحر".

ص: 9

وإذا أمطرت السماء، واستبشر الناس خيرًا، فالمطر خير وبركة ونعمة. يعقبه ربيع مفرح مبهج، تسمن فيه إبلهم ومواشيهم، ويكثر ولدها، فتنمو أموالهم، وكانوا يقولون إذا ألبنوا وسمنت إبلهم:"كان ربيعنا مملوحًا"1.

وقد تهب بعض الرياح فتنكب الناس بأنفسهم وبأموالهم وتؤذيهم، لذلك يسمونها "النكباء"، و"النكباء" ريح انحرفت ووقعت بين ريحين. وهي تهلك المال وتحبس القطر. ذكر أنها تهب بين الصبا والشمال، والجربياء التي بين الجنوب والصبا، وذكر بعضهم أن نكب الرياح أربع: الأزيب، وهي نكباء الصبا والجنوب، مهياف ملواج ميباس للبقل، وهي التي تجيء بين الريحين، وذكر بعض آخر أن الأزيب، هو الجنوب لانكباؤها. والثانية الصابية، وتسمى النكيباء أيضًا، وهي نكباء الصبا والشمال، معجاج مصراد لا مطر فيها ولا خير عندها. والثالثة الجربياء، وهي نكباء الشمال والدبور، وهي قرة وربما كان فيها مطر قليل، وهي نيحة الأزيب. والرابعة الهيف، وهي نكباء الجنوب والدبور، وهي نيحة النكيباء2.

وقد تأتي السماء بسحب كثيفة من جراد، فلا تهبط مكانًا إلا جردته. والجراد من شر الآفات والنوازل التي تنزل بالزرع، يجرده جردًا وينزل الخسائر بأصحابه، أضف إلى ذلك الأوبئة والأمراض التي كانت تهب بين الحين والحين، فتصيب الإنسان أو الحيوان أو الزرع، وهو عاجز إذ ذاك عن مقاومتها وعن التغلب عليها، نضيف إليها الحميات التي كانت قد عششت في مواضع المياه، كالعيون، فكانت تصيب الناس، ولا يكاد يسلم منها إنسان، فقد عرفت "خيبر" بالحمى، حتى قيل لها "حمى خيبرية" أو "خيبرية"، وعرفت يثرب بالحمى أيضًا، وعرفت مواضع من وادي القرى، بالحمى كذلك، كما عرفت "هجر" في العربية الشرقية بهذا الوباء كذلك.

ويتضايق الإنسان في التهائم من أثر الحرارة المتشبعة بنسب عالية من الرطوبة. ودرجات الحرارة فيها وإن كانت دون درجتها في الأماكن الأخرى في الأغلب، غير أن اقترانها بالرطوبة العالية جعلتها حرارة تضايق الإنسان إلى حد مزعج، تبعث على الاسترخاء والكسل، حتى صيرت الجسم خاملًا، خال من الحيوية

1 تاج العروس "2/ 228"، "ملح".

2 تاج العروس "1/ 494"، "نكب".

ص: 10

والنشاط. غير فعال لا يستطيع أن يعمل بنشاط وهمة أهل الأجواء المعتدلة أو الحارة الجافة، وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الرطوبة في هذه التهائم وتشبع هوائها ببخار الماء، فإنها لم تحظ بدرجة عادلة من المطر، يخفف من شدة وطأة الحرارة فيها. ويسقي أرضها سقيًا كافيًا لتنبت لسكانها ما ينبته الجو الاستوائي المشبع بالرطوبة المذابة في الحرارة المشابه لجو هذه التهائم في البلاد الأخرى. فحرمت من الغابات ومن الأشجار الضخمة ذات الخشب الصلد، ومن الأدغال التي تؤوي الوحوش، ومن المياه الفوارة المتدفقة، ومن الحشائش، ومن

أمثال ذلك مما يرى في البلاد ذات المناخ المتشابه، مما يكون ثروة لسكانها، قد تعوض عن حرمانهم من الجو المعتدل، أو الجو البارد المنشط.

وتخف الرطوبة ويقل شأنها وتذهب حدتها كلما ابتعد الإنسان عن الساحل، فيزداد الجفاف في الجو حتى يبلغ أقصاه في البواطن، فيشعر الإنسان عندئذ بانطلاق في جسمه وبشيء من النشاط في حركته، وبحدة في ذهنه؛ لأنه يجد أمامه مناخًا أصح وأصفى من مناخ السواحل، هواؤه جاف في الشتاء وفي الصيف، البرودة فيه في موسم الشتاء أظهر وأبرز من برودة الأشتية في التهائم، والحر فيه في الصيف أخف على الجسم بكثير من حر صيف السواحل. أما المطر، فنسبة سقوطه في الباطن أقل من نسبة هطوله على التهائم وفي العربية الجنوبية. وقد عوضت الطبيعة أهل البواطن عن شح مطرها هذا، بإرسال ألوان وأشكال من الأهوية والرياح والعواصف عليهم، تحمل بعضها في أمواجها سحرًا عجيبًا ينعش الروح والبدن، إذا مس إنسانًا أنساه شظف عيشه وغلظ الجو الذي يعيش فيه، وصيره يحس وكأنه ملك الملوك، وصاحب خزائن الأرض، وإذا مست عصاه أحدًا من أصحاب الحس المرهف، أثارت فيه قريحته، فصيرته شاعرًا ينظم إحساسه بكلم موزون مقفى، وبشعر غزلي، يتغزل فيه، يتغزل بتلك الأهوية، التي لمست جسمه، وأغرقت فمه ووجهه بقبلاتها الحبيبة المثيرة، التي أنسته أشجانه وما يلاقيه في حياته من ضيق وشح، وهو ما يكاد يفيق من حلم حبه هذا، حتى يفاجأ بأعاصير ورياح الواقع، تعصف به وبخيمته الخفيفة، وبماله، تتلاعب به، وقد ترشق وجهه بموجات متعاقبة من سموم مشبع برمال، تجعله يغمض عينيه ويسد فمه، ويبرقع وجهه يبرقع ليقيه من هذه الرياح العاتية التي تحرشت به من غير سبب، مع أنه إنسان مسكين قنوع، لا دخل له في وجوده في هذا المكان،

ص: 11

ولد فيه عن غير عمد ولا اختيار، وسيموت فيه وهو لا يدري لم يموت، ولم عاش، وإلى أين ذاهب، فإذا ذهبت وولت، وركد الجو واستقر، جلس تحت خيمته التي لا تقيه من حر ولا من برد، ولا من شمس ولا من مطر: إلا بقدر، ليستجم ويستريح، أو ليستلقي على أرضها، وليتناول أكله، وهو أبسط أكل يأكله إنسان في هذه الحياة من غير شك.

والسعيد في جزيرة العرب من ولد في مستوطنة ذات ماء، فهو في عيشة هنيئة راضية، في بيت مهما كان نوعه، فإنه أحسن حالًا على كل حال من بيوت الوبر أو الشعر، يستطيع أن يشرب فيه ماءً يتناوله له من منبعه، لا من قرب خزن الماء فيها أيامًا، وأن يرى نخلًا وشيئًا من شجر وخضرة وزرع، وصوت رجال ونساء وأطفال، وبعض بائعين وبائعات. أي حياة جماعة. وهو أكثر سعادة وحضارة إن كانت مستوطنته على ملتقى طرق، تمر بها القوافل لتمتار منا ميرة الطريق، ولتأخذ منها الماء ولتسقي إبلها وترويها، ولشتري منها ما تجده من حاجات ضرورية ومن منتوجات موضعية، تحتاج إليها، أو يمكن بيعها في مواضع أخرى. وفي هذه المواضع نجد الحضارة الجاهلية ومن آثارها نستنبط التأريخ الجاهلي، وفيها نرى معدن الرقة وموطن اللين والدماثة، لما فيها من ظرف

تهدأ النفس وتريح الأعصاب، فصار أصحابها من ثم ألين عريكة وأسهل انقيادًا من الأعراب الذين ولدوا في محيط خشن، ونشأوا من خشونة، فصار طبعهم من ثم غليظًا خشنًا، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك، وليس له دخل في ظهور هذا الطبع عنده.

ومن هنا صار أهل اليمن من ألين العرب عريكة، ومن أكثرهم تعاونًا فيما بينهم. جاء في الحديث: "أن رجلًا من أهل اليمن قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إنا أهل قاه، فإذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر، فقال: أله نشوة؟ قال: نعم. قال: فلا تشربوه. قال أبو عبيدة: ألقاه سرعة الإجابة وحسن المعاونة، يعني أن بعضهم يعاون بعضًا، وأصله الطاعة. وقيل المعنى: إنا أهل طاعة لمن يتملك علينا، وهي عادتنا لا نرى خلافها، فإذا أمرنا بأمر أو نهانا عن أمر أطعناه، فإذا كان قاه أحدنا، أي ذوقاه أحدنا دعانا إلى معونته. وقال الدينوري: إذا تناوب أهل الجوخان، فاجتمعوا مرة عند هذا ومرة عند هذا وتعاونوا على

ص: 12

الدياس، فإنه أهل اليمن يسمون ذلك القاه، ونوبة كل رجل قاهة، وذلك كالطاعة له عليهم"1. وجاء في الحديث:"أهل اليمن هم أرق قلوبًا، أي ألين، وأقبل للموعظة، والمراد ضد القسوة والشدة"2.

ومن هنا صار الأعرابي جلفًا صعبًا خشنًا، يكره كل شيء لا يجده عنده، لا يخضع لسلطان، ولا يستسلم لقيادة أحد إلا لقيادة قبيلته المتمثلة في سيدها إلى غير ذلك من صفات وسمات تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي مواضع أخرى من الأجزاء الباقية.

والماء في أغلب أجزاء جزيرة العرب مقنن قدر بقدر، ليس فيه فيض، ولا زائد يحمله إلى الجري إلى مسافات بعيدة وبكميات كبيرة عن منبعه، ثم هو بين عيون وحسى وآبار محفورة، ومدى موارد هذه المياه مقدر محدود، وهي لا تفيض فيض مياه الأنهار. فلم يتسع زرعها، ولم تتحمل نشوء مجتمعات كبرى عندها، وإنما ساعدت على ظهور مستوطنات، لم تكن حضرية تمامًا ولا بدوية تمامًا، بل كانت منزلة بين المنزلتين، ودرجة وسطى بين الحضارة والبداوة، تمكنت من إعالة نفسها، بما توفر فيها من مواد أولية، وبما زرعته من نخيل وحب وخضر، ومن بيع ما زاد عن حاجتها إلى من حولها وإلى من كان يقصدها من الأعراب. وأوجدت فيها حرفًا، ولكنها لم تكن حرفًا متطورة ذات انتاج واسع، لضآلة الموارد، ولصغر المجتمع، ولعدم وجود رؤوس الأموال الكبيرة لتشغيلها في استغلال ما قد يكون فيها من موارد طبيعية كامنة أو ظاهرة. وفي تغرير الناس للعمل في استثمارها وفي استثمار الأرض استثمارًا واسعًا، ينتج غلة وافرة، وفي مجتمعات صغيرة، ذات موارد محدودة، لا يمكن أن تظهر فيها رؤوس أموال كبيرة، وكيف تبرز رؤوس الأموال في مستوطنات فقيرة، مواردها محدودة، وخيراتها مقننة، وهي في محيط فقير، تتناولها الرياح من كل وجهة، وأعين الأعراب الجياع الفقراء لها بالمرصاد.

وقد انتشرت هذه المستوطنات وتناثرت وتبعثرت في أرضين واسعة غلب على طبعها اليباس والجفاف، كيست بطبقات متفاوتة السمك من الرمال، فحالت بينها

1 تاج العروس "9/ 407"، "القاه".

2 اللسان "10/ 122"، "رقق".

ص: 13

وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وبين ظهور حكومات كبيرة قوية في جزيرة العرب. وجعلت من العرب شعوبًا وقبائل، متناثرة متشاحنة، ذات لهجات، تشعر كل قبيلة منها، أنها أمة قائمة بذاتها، ولها كيان خاص، ونسب وجد، ولاء أبناؤها للقبيلة، ولرمزها: سيد القبيلة ولرؤسائها المتزعمين لفروعها ولأغصانها، أو للمكان الذي أقامت فيه. ومجتمع مثل هذا، حضره في مستوطنات متباعدة صغيرة، وبدوه متباعدون متنافرون متشاحنون، لا أمان فيه للأفراد وللتجار وللمسافرين إلا بعقود وبعهود، لا يمكن أن يظهر فيه اقتصاد متين متطور، ذو انتاج متطور متقدم، يفيض على حاجة أهله، فيصدره إلى الخارج، فتخلف اقتصاده، ولم ينتج إلا المواد الأولية البسيطة المتورفرة لديه، مثل التمور والحبوب والخمور والجلود، وهي سلع استهلكت في الداخل، ولم يصدر منها إلى الخارج إلى القليل مثل الجلود، ثم هو أخر الزراعة وعاق أهل المال من البحث عن الماء لخوفهم من تعرضهم لغارات الأعراب الفقراء، وخطر الأعراب على الزرع لا يقل عن خطر الجراد عليه. لذلك لم يقبل المتمكن المتمول استنباط الماء ومن الزرع عليه، إلا إذا وجد نفسه في مكان مأمون وفي موضع محمي له فيه أهل وعشيرة وجوار.

أما السلع المعدنية، فهي من حاصل مواطن الحضر، وهي من حديد، في الغالب، صنعت من حديد استخراج من معادن جزيرة العرب، ومن حديد استورد من الخارج، ومن سلع حديد استوردت من الخارج، إذا استهلكت أعيد سبكها، ثم استعملت من جديد. وأغلبها صناعة سيوف وخناجر، ومساحي ومناجل وما شابه ذلك من مواد ضرورية للحياة في جزيرة العرب. ولم نسمع بتصدير شيء منها إلى الخارج؛ لأنها لم تكن بانتاج واسع ولا باتقان لتنافس السلع المماثلة لها في الخارج، بل نجد أن أهل جزيرة العرب كانوا يستوردون أمثالها من الخارج أيضًا، لرخص ثمنها بالنسبة إلى المنتوج المحلي، ولتفوقها على المنتوج العربي في نقاوة المعدن وفي الصنعة والاتقان.

والمعادن في جزيرة العرب، محدودة وبقدر وبشح في الغالب، وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن وجود ذهب وفضة وخامات حديد ونحاس في مواضع من جزيرة العرب. وسأتحدث عنها أيضًا في أثناء حديثي عن الصناعة عند الجاهليين. وهي في العربية الغريبة وفي العربية الجنوبية في الغالب. وقد

ص: 14

عرفت المواضع التي استخرج المعدن منها بـ"المعدن" و"معدن"1. والمعدن مكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه2. ولكن استخراج المعدن من منجمه وخامه، يحتاج إلى مال وعلم وأيد عاملة فنية، لها مران وخبرة في الاستخراج وفي التنقية، ليمكن استخراجه بكميات وافرة، وبسعر اقتصادي مناسب، منافس للأسعار العالية في الأسواق الأخرى. وهذه الشروط لم تكن متوفرة عند أهل الجاهلية، لذلك لم نسمع بتصديرها من المعادن، إلا الذهب، حيث قدمه السبئيون للآشوريين وللعبرانيين، رشوة وجزية كما تقول الموارد. أما المعادن الأخرى، فلم نسمع في كتب المتقدمين على الإسلام من الأعاجم، ولا في كتابات الجاهليين ولا في أخبار أهل الأخبار، أنها صدرت إلى الخارج.

وأما الأخشاب الصلدة الثقيلة القوية مثل الساج، وهو خشب رزين قوي3، ومثل الآبنوس، والصندل، وأمثالها، فغير موجودة في جزيرة العرب، وإنما كانت تستورد من الهند في الغالب لعمل السفن وللأغراض الأخرى؛ لأنها من أشجار تحتاج إلى أمطار وحرارة ورطوبة، وهي شروط غير متوفرة في أكثر أنحاء بلاد العرب. وفي بلاد العرب أشجار ذات خشب، نمت في الجبال بصورة خاصة، لذلك عرفت بـ"شجر الجبال"4، سأتحدث عنها في أثناء بحثي عن الشجر، أمدت أهل العربية الغربية والجنوبية، بشيء من حاجتهم إلى الخشب، حيث استعملوه في البناء وفي الأثاث، لكن أخشابها لم تكن قوية صلدة مثل الأخشاب المذكورة، ثم إن الناس كانوا يقتطعون شجرها ولا يزرعون غيرها في مواضعها، فقلت، وقل الخشب نتيجة لذلك، حتى إن أهل الأخبار ليذكرون أن أهل مكة لما أرادوا تسقيف الكعبة، لم يجدوا خشبًا يصلح للتسقيف، فلما سمعوا بخبر تحطم سفينة رومية عند "الشعيبة"، ذهبوا إلى هناك، وجاءوا بالخشب اللازم للتسقيف من ذلك الميناء، وخشب السراة، وخشب المواضع المرتفعة الأخرى، خشب لا يضاهي خشب الهند أو أفريقية في الصلابة وفي المتانة والصلادة، لذلك لم يستعمل في بناء السفن ولم يساعد في تطوير وسائل النقل في البحار.

1 كمجلس.

2 تاج العروس "9/ 275"، "عدن".

3 تاج العروس "2/ 61"، "ساج".

4 تاج العروس "8/ 335"، "الساسم".

ص: 15

أما الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم يكن شجرها من النوع المنتج للخشب الصلد المتين الصالح لصناعة السفن أو لأعمال البناء ولصنع أثاث البيت وغيره، وإذا وجد شجر ذو خشب أنبتته الطبيعة، أو كان من زرع الإنسان، فإنه لم يكن كثيرًا ولا كافيًا لسد حاجات الناس. ثم أن شجر الطبيعة -ما نبت منه في الجبال، وما أنبت منه في السهول والمنخفضات- مشاع بين أهل المنطقة، يقطعه من يريد، لا يجبر قاطعه على زرع غيره في محله، لذلك قضي عليه هذا القطع والإهمال، وصار الخشب اللازم للنجارة وفي الأعمال الأخرى قليلًا في جزيرة العرب، مع أنه من الوسائل المهمة الداخلة في تنمية الاقتصاد وفي الترفيه عن الناس، وفي رفع مستواهم الحضاري.

ولم تعرف بلاد العرب بتصدير الخضر والأثمار والحبوب. فلم نعثر في الأخبار على خبر يفيد تصدير شيء منها إلى العراق أو بلاد الشأم، أو أي بلد آخر خارج حدود جزيرة العرب. بل نجد أنها كانت تستورد الحبوب والدقيق والزيوت من بلاد الشأم، وذلك؛ لأن موارد الماء فيها لم تمكنها من زرع زراعة كثيفة واسعة، فصارت زراعتها زراعة محلية في الغالب، عمادها الاستهلاك المحلي، أو التصدير إلى الأرضين المجاورة للمزارع في داخل الجزيرة وفي المواسم الجيدة وعند ظهور فيض في الحاصل، فصارت اليمامة ريفًا لأهل مكة تمونهم بالحبوب، وكانت سوقًا للأعراب، تمدهم بالتمور. وكانت الطائف، مزرعة تمد أهل مكة بالأثمار والزبيب.

والجمل في طليعة حيوان جزيرة العرب من حيث الفائدة والشهرة، هو رمز البداوة وعنوان الصحاري، والحيوان الوحيد الذي رضي بمصادقة الأعرابي وبتمضية حياته معه، قاطعًا للفيافي والبراري معرضًا نفسه للجوع وللعطش، ولتحمل الحياة الشاقة الخشنة في البادية، مع الأعراب الغلاظ الجفاة، الذين استصعب إخوانهم أهل الحضر للعيش معهم، وهو لولاه لما تمكن الأعراب من اختراق البوادي ومن التنقل بها، ولما طابت لهم الحياة فخيامهم من وبره، وشربهم وكسر حدة جوعهم من لبن نياقه، ثم هو طعامهم عند الحاجة، ورأس مالهم، إذا احتاجوا إلى مال. تليه الخيل والضأن والمعز والحمير وغيرها، وهي كلها دونه بكثير في تحمل العطش والجوع ومشقات الحياة، ثم هي لا تستطيع تحمل غلظ الأعراب وصعوبة حباتهم؛ لأنها أكثر رقة من الجمل، لذلك اجتنبت البوادي،

ص: 16

وعاسشت على المراعي الخضراء وعند مشارف الحضارة، وشاركت الحضر في بيوتهم، فهي من أموال العرب في الغالب، أي الحضر والرعاة الملازمين للمراعي المتصلة بمشارف الحضارة.

ودولة الحيوان في جزيرة العرب دولة صغيرة، إذا قيست بما يجب أن تكون عليه بالنسبة إلى المساحة السطحية. وسبب صغرها أن المراعي الغنية بالعلف اللازمة لتربية الحيوان ولإكثار نسله، لم تكن متوفرة عند أهل الجاهلية، وأن أصحاب الماشية كانوا عالة على الطبيعة، لعسر أحوالهم وعدم تمكنهم من الأنفاق على الماشية وتهيئة العلف الصحي اللازم لنمو الحيوان ولإكثار نسله، ثم إن الأحوال الاقتصادية لم تكن حسنة وعلى ما يرام، بل كانت منخفضة، وهذا ما حد من الاستهلاك المحلي، وحد من عدد الذين كانوا يمتهنون حرفة تربية المواشي، إلى أسباب أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.

والعدد العام لسكان جزيرة العرب، في الجاهلية وحتى الآن هو قليل بالنسبة إلى ما يجب أن يكون عليه إذا قسنا العدد بعدد الأميال المربعة التي تكون المساحة السطحية لبلاد العرب. وسبب ذلك أن المسكون المعمور منها، قليل بالنسبة إلى المهجور القفر، والبوادي فيها أوسع وأكثر من الأرضين الصالحة للزرع وللرعي وللسكن وإن الموارد المعاشية التي تعيش الإنسان وحيوانه، لا تكفي في معظم أنحاء جزيرة العرب لاعاشة المجتمعات الكثيفة المكتظة، والمستوطنات الضخمة. فالحسي أو العيون أو الآبار أو البرك، أو ما أشبهها من موارد ماء، لا يمكن أن تستضيف مجتمعًا كبيرًا مع توابعه من المواشي، وهي لا تتمكن أيضًا من توفير الماء اللازم لزرع كثيف، ولتهيئة كلأ تعلفه المواشي، لذلك صار حجم مستوطناتهم يتناسب مع حجم الماء المتوفر فيها، وانتاجها انتاج محدود، هو حاصل زراعي في الغالب، يختلف قلة وكثرة باختلاف حجم المساحات المزروعة، أي سعة الماء الموجود في المستوطنة.

وفي هذه المستوطنات وفي الأرياف والقرى، نجد الملكية الفردية، بصورة متباينة ملكية دور ثابتة، وملكية مزارع وآبار، فالذي يحضر بئرًا وينفق من ماله على حفرها تكون البئر بئره، في إمكانه بيع الماء منها للمحتاج إليه، وفي إمكانه الزرع عليها، فيكون الزرع زرعه بالطبع، وله بيع حاصله من ثمر أو خضر، أو

ص: 17

حب. والذي أقام على مقربة من الحضر، ولا سيما من حضر العراق وبلاد الشأم استطاع الاتجار مع تلك البلاد، ببيع ما عنده من ماشية وجلود وبشراء ما كان يحتاج إليه من مواد ضرورية، أو من مواد يتاجر بها مع المستوطنات ومع الأعراب. فتولد رأس المال في هذه المستوطنات، ولا سيما في الكبيرة منها، ذات الماء الغزير، وجاء الرأس المال بالبعيد، لتشغيلهم في الزرع.

أما البوادي وديار الأعراب، فالأرض فيها للقبيلة، ما خلا الإحماء. وأما الماء والكلأ فللجميع، لا يمنع أحد من أبنائها من وروده، وحق الرعي فيها للجميع. لصاحب الإبل حق رعي إبله في أي موضع شاء من حيه، وله أن ينقل بيته في "ديرته"، ليجد لإبله الكلأ اللازم لها، وأن يذهب إلى البرك ومواضع الماء، لأخذ ما يحتاج إليه من الماء، الذي يكون في الغالب على ساعات أو أيام من بيته. وإذا جف الكلأ واختفى خير الأرض، اضطر للانتقال إلى مواضع أخرى، ليجد فيها ما يعلف إبله. وفي هذا المجتمع الأعرابي، ملكية فردية، هي ملكية الخيام وما فيها من أشياء بسيطة وملكية إبل، وبعدد ما يملكه الإنسان من جمال ونوق، تقدر ملكية الأفراد. وفيه شيوع: شيوع في الماء والكلأ والنار، الماء للجميع، ما لم يكن محميًّا ولا مملوكًا، والنار للجميع، أي حق الاحتطاب، فلكل حق قطع الشجر وما يراه من زرع نابت غير محمي ولا مملوك.

ومجتمع على هذا النوع من البساطة في الحياة، يكون اقتصاده بالطبع بسيطًا، الجمل والناقة فيه، المال ورأس المال. وكل شيء يقاس فيه على عدد من الناحية الاقتصادية، ما يملكه الإنسان من أباعر ونوق. فهو اقتصاد إبل، الإبل فيه في محل الدراهم والدنانير أو الفضة والذهب، وهو عالم استهلاكه قليل وتصديره قليل كذلك قليل كذلك، ليس فيه استهلاك سلع متطورة، وليس فيه انتاج متطور، كل انتاجه الإبل ومشتقاتها وكفى.

وقد حالت البراري بين العرب وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وعرقلت الاتصال بين المستوطنات التي بعثرتها ونشرتها هنا وهناك، وبعثرت الأعراب في البوادي على شكل قبائل وعشائر، تغزو بعضها بعضًا طمعًا في رزق هي في حاجة إليه، وتعقد أحلافًا فيما بينها للدفاع عن نفسها، ثم هي توجه كل أنظارها نحو

ص: 18

المستوطنات ومواضع الحضر، لتجد فيها غفلة أو موضع ضعف تدخل منه إلى ديارهم لتأخذ منها كل ما يمكن أخذه، وكل شيء يقع في أيديهم هو ثمين بالنسبة لهم؛ لأنهم لا يمكلون شيئًا، والذي لا يملك شيئًا ويجهل قيم الأشياء بحسب كل شيء يقع في يديه ثمينًا له قيمة، وهكذا صارت البوادي والأعرابية من عوامل القلق وعدم الاستقرار في جزيرة العرب، ومن عوامل التحاسد والتباغض والتناحر فيما بين سكانها لأتفه الأسباب، حتى صارت من الأمراض المستعصية عند العرب، التي لا تزال باقية حية. وفي ظروف من هذا النوع، لا يمكن أن يظهر فيه اقتصاد متطور وانتاج كبير، وأن يرتفع مستوى حياة الناس، فتأخر اقتصاد سكان جزيرة العرب، وغلب على سواد الناس. وهبط بينهم مستوى المعيشة، حتى اضطر إلى وأد بناتهم خشية إملاق، أو بيع أولادهم من جوع وفقر.

وقد وجدت هذه الروح الأعرابية بين الحضر كذلك، تجسمت في العصبية للحي وللقرية، وفي تناحر الزعماء على الزعامة والملوك على الملكية، حتى في اليمن التي تمثل النموذج الحسن للإنسان الحضري الطيع الهادئ، تجد الملوك يحاربون بعضهم بعضًا، والزعماء يثورون على ملوكهم لأخذ عروشهم، مما حمل الحبش والفرس والروم على التدخل في شئوونها، فدمرت المدن والقرى والمستوطنات، وأحرق الزرع، وتباهى الملوك والثوار بعدد ما أحرقوه من مدن وقرى وزرع، ومحيط تسوده الفتن والقلاقل والحروب لا بد وأن يتأثر اقتصاده بها، وأن يتأخر زرعه وعمله، وكيف يعمل الإنسان ويجازف بماله، وهو غير مطمئن على حياته ولا واثق من يومه ولا مما سيأتيه به الغد من مصائب وأحزان!

لقد حالت البوادي بين العرب وبين ظهور اقتصاد متقدم متطور عندهم، يقوم على تحويل المواد الأولية، أي المواد الخام إلى مواد أفيد منها وأهم، وإلى انتاج كبير راق، يجلب لهم دخلًا طيبًا يرفع من مستواهم. فساءت أحوالهم وغلب الفقر عليهم، وصار معاشهم ضيقًا، وحياتهم الاقتصادية متأخرة، أغلب منتجاتهم بسيطة، ليس فيها تطوير ولا تنويع، ولا تصنيع، وليس في أسواقهم مشترون جيوبهم منتفخة بالعملة، ليجازف التاجر بجلب سلع متنوعة إليها، فصارت سلعهم قليلة، اقتصر على السلع الضرورية، جدًّا للبيت، وعلى الناتج الطبيعي المستحصل من الزرع أو من الحيوان ومن الحاصل المحلي في الغالب.

ص: 19

وقد أوجد عدم التناسق والتناسب والاتزان بين نسب توزيع الخصب إلى الجدب تباينًا كبيرًا في كيفية توزيع الناس، فجعل السكان ثلاث طبقات: أهل مدر، وهم حضر مستقرون، وهم أرقى أهل جزيرة العرب. وأهل وبر، وهم أعراب يقطنون البوادي. وطبقة ثالثة، كانت بين بين، ووسط بين الحضر وبين البدو، عاشت على اتصال ومقربة من الحضر، لم تبتعد عنهم، ولم تفارق الماء والحضارة، بل لازمتها، ولم تمعن في البادية إلا في أيام الربيع عند نزول الغيث واخضرار الأرض، فتبتعد عندئذ بماشيتها إلى البادية لتنعم هناك بنعمة الربيع، وهي جماعة الرعاة. والرعاة قوم بين الحضر وبين الأعراب. كانوا متنقلة في الأصل، فلما قاربوا الماء والحضر، تأثروا بالظروف الجديدة، فاستقروا بعض الاستقرار، وأضاقوا إلى رعاية الإبل، رعاية البقر والغنم والخيل. وكان هؤلاء مادة الحضر في الغالب، والجرثومة التي كونت المجتمع الحضري.

واقتصاد الأعراب اقتصاد واحد، وأن تنوع أصحابه قلوا أو كثروا، قبائل كانوا أم عشائر أم أفخاذ؛ لأن جذوره وأسسه واحدة، هي البادية وتربية الإبل، وليس في البادية غير كلأ وعشب وشجيرات أو أشجار، تعلف أوراقها وأغصانها الإبل، ويحتطبها البدو لبيع حطبها من أهل الحضر إن كانوا على مقربة منهم، أو لاستعماله وقودًا لهم، أو فحمًا يبيعونه للحضر، وليس فيها غير "وبر"، وشيء من الملح، يحلمونه إلى أهل الحواضر لبيعه منهم. وأما مشترياتهم، فبسيطة، تمور ودقيق وأبسط أنواع الثياب وما يحتاج البيت إليه من مواد. واقتصاد من هذا النوع، لا يساعد على ظهور رأس مال كبير، وعلى حدوث تطوير في الصناعة، لذلك تخلف اقتصاد الأعراب عن اقتصاد المستوطنات والقرى بدرجات ودرجات.

أما اقتصاد أهل الحضر، فإنه اقتصاد متطور بالقياس إلى اقتصاد الأعراب: اقتصاد البداوة، أو اقتصاد بدوي إن شئت تسميته بذلك. اقتصاد الحضر متفاوت في الدرجات، أبسطه اقتصاد المستوطنات الصغيرة المنتشرة في بواطن جزيرة العرب وأعلاه اقتصاد المدن الواقعة في أطراف الجزيرة وعلى سواحل البحر وفي أرضين خصبه غنية بالماء والمزارع وقد برز بعض أهل تلك المستوطنات في التجارة، وبرز بعض آخر بالزراعة، وجمع بعض آخر بين الزراعة والحرف اليدوية القائمة على أساس تحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات أخرى، أو تحويل الجلود إلى

ص: 20

أدم، أو تحويل المواد الأولية المتيسرة إلى مواد ذات ضرورة للمجتمع، وهي إما استهلاكية، توجر بها في الأسواق الداخلية، وإما انتاجية، صنعت للاستهلاك المحلي وللتصدير.

ومن أبرز المستوطنات التي ظهرت في باطن جزيرة العرب، مستوطنات اليمامة، والمستوطنات التي ظهرت على الأودية ومواضع الماء، وقد عاشت على الزراعة وتربية الماشية، ومونت الأعراب بالتمور، ومونت الحجاز بالحبوب. ومنها ما كانت ملتقى طرق برية، ربطت العربية الجنوبية بالعراق، ومنها ما ربط بين العربية الشرقية وبلاد الِشأم، وأنا آسف، لأن أقول إن معارفنا عن المستوطنات قليلة، لعدم وصول شيء في النصوص الجاهلية عنها، ولعدم تطرق أهل الأخبار إليها، إلا عندما يكون لذكرها صلة بالأيام أو بالشعر أو بالحوادث البارزة جدًّا التي وقعت قبيل الإسلام، أو التي كان لها اتصال بظهور الإسلام.

وأما المستوطنات التي برزت وظهرت في أطراف الجزيرة، فهي عديدة، أشهرها وأعرفها وأعرضها ذكرًا مكة والمدينة. مكة في التجارة، والمدينة في الزراعة. ولا يعني ذلك، أن المدينتين المذكورتين كانتا أعظم المستوطنات المذكورة، وأبرزهما في التجارة والزراعة عند ظهور الإسلام، وأن البقية الباقية، لم تكن لاحقة بهما في الناحيتين. فقول مثل هذا لا يمكن أن يجزم به مؤرخ حصيف، وانما جاءتهما هذه الشهرة بفضل الإسلام، فقد ظهر الإسلام في المدينتين المذكورتين، ونزل القرآن الكريم فيهما، وأِشير فيه إلى أمور عديدة وقعت بهما، وعاش الرسول فيهما، فمن هنا صار اهتمام العلماء وأهل الأخبار بهما أكثر من سائر مواضع جزيرة العرب، ولا سيما المواضع البعيدة النائية عن المدينتين، والتي لم يكن لها اتصال متين بظهور الإسلام، ومن هنا كثرت أخبارهما، حتى ظن الناس أن مكة قبل الإسلام، كانت أرض التجارة والتجار، وقبلة جميع العرب، ومجمع أصنام كل العرب، وموضع تكدس الأموال، وبلد الربا والمرابين، وهو استنتاج أخذ من الروايات التي قصها أهل الأخبار عنها دون نقد ولا تحليل، ولكننا لو استعرضنا ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم عن هجر وعن البحرين وبقية العربية الشرقية، فإنه يرينا على قلته، أن مدن وقرى هذا الجزء من جزيرة العرب، لم تكن أقل درجة في المال والتجارة والانتاج من مكة أو المدينة، إن لم تكن قد تفوقت عليهما بالفعل، بدليل ما جاء في أخبارهم عن مقدار الزكاة والصدقات التي أرسلها عمال

ص: 21

الرسول والخلفاء إلى المدينة، فإنها تدل على وجود تجارة وأعمال في هذه الأرضين ربما كانت قد فاقت أرباح وأعمال أهل مكة، لكننا لا نعرف عنها شيئًا، بسبب عدم اهتمام المؤرخين والأخباريين بأخبارها في الجاهلية، لعدم وجود صلة لها بتأريخ الإسلام، أو بسبب عدم وقوفهم على أخبارها، فلم يتطرقوا لذلك إلى شيء من أحوالها بصورة مفصلة، فظهرت وكأنها قد تأخرت عن مكة من النواحي الاقتصادية بكثير، وصارت مكة، بذلك، الموطن المتفوق الأول في المال وفي الزعامة وفي كل شيء في جزيرة العرب.

لقد أثر الجو إذن على اقتصاد جزيرة العرب، كما أثر عليهم في كل شيء، حتى صيرهم على النحو المعروف، لهم خصائصهم وصفاتهم المميزة لهم عن غيرهم، ولو كان للعرب جو مثل أجواء أوروبية، لكان شأنهم ولا شك في التأريخ شأن آخر. على كل، فقد كتب عليهم أن يعيشوا في الجو المذكور، وكان من نصيبهم في هذه الحياة حرارة وجفاف، وحرارة ورطوبة، وأرضون غلب عليها اليبس والجفاف، فصارت موارد رزقهم شحيحة في الجاهلية، وتخلفوا عن غيرهم في الانتاج وفي الإبداع، وغلب على سوادهم الفقر، والفقر كافر لا يرحم، ولولا "النفط" اليوم، الذي جاء على عرب القرن العشرين بالمال، لما تضخمت جيوب الأسياد، وبنيت القصور الشاهقة الضخمة بالملايين من الجنيهات، وأملي أن يكون هذا المال سببًا في استغلال العرب أنفسهم لمواردهم الظاهرة والباطنة، وأن يكون سببًا من أسباب التعمير، لا الإنفاق والتبذير، وأن يحول الطاقات المهملة إلى طاقات منتجة، قبل أن يأتي يوم تنضب فيه آبار النفط، أو أن يموت النفط فيه أو يهمل، بسبب العثور على موارد تكون أحسن نوعية وأقل كلفة منه.

لقد جعل هذا الجو العرب -كما سبق أن ذكرت- قبائل وشعوبًا متنابذة متخاصمة، متحالفة متعاقدة متآخية، متطرفة في كل شيء، متطرفة في حبها وفي إخلاصها، متطرفة في الوقت نفسه في بغضها وفي حقدها، تميل إلى المادة إلى درجة العبادة، ثم تنطرف في أمور عاطفية بعيدة عن المادة والماديات بعدًا كبيرًا، تمجد العقل والتعقل، وتقيم وزنًا كبيرًا للحكمة ولضرب الأمثال، حتى ليخيل إليك أن كل أفعال الناس وأعمالهم إنما تصدر منهم عن عقل وحكمة، لكنك سرعان ما تصطدم بوجود واقع آخر، هو واقع تغلب العواطف على العقل، وانصياعهم إلى الانفعال وسرعة التأثر وفقدان الوزن بين الأمور بميزان العقل،

ص: 22

وتركهم أنفسهم فريسة لهذه العواطف، تعبث بهم في حياتهم، ولا تزال تعبث بهم الآن، تراهم كرماء، يقدمون أعز شيء عندهم لضيوفهم، بإسراف وتبذير، ثم تراهم بخلاء يحرصون على أتفه الأشياء أحيانًا حرصًا يدفعك على الاستغراب من وجود هذا التضاد في الأخلاق، أو ما نسميه بازدواج الشخصية في اصطلاح المحدثين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.

لقد أثرت الطبيعة إذن في تكييف اقتصاد الجاهليين وفي تعيين موارده، وفي توجيههم توجيهًا تجاريًّا في المواضع التي قل فيها الزرع، مثل مستوطنات الأطراف حيث نجد أهلها يميلون إلى التجارة، ويرون فيها مهنة من أشرف المهن، وتوجيهًا زراعيًّا في المواضع التي توفرت فيها شروط الزراعة، وتوجيهًا رعويًّا في المواضع الأخرى، لا سيما بين الأعراب. فلندخل الآن في استعراض هذا التوجيه وفي دراسة الموارد الطبيعية لجزيرة العرب، وفي دراسة كيفية تعامل أهل الجاهلية في الأسواق، بعد أن قدمنا مقدمتنا القصيرة عن أثر الطبيعة في الاقتصاد.

ص: 23