الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة
مدخل
…
الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة
وكان أهل مكة من أبرع التجار ومن أنشطهم في العربية الغربية عند ظهور الإسلام. وقد أشير إلى تجارتهم في القرآن الكريم1. وسبق أن تحدثت عن تجارتهم في أثناء كلامي على مجمل الحالة السياسية لجزيرة العرب عند ظهور الإسلام.
وقد استفاد أهل مكة، ولا شك، من الوضع السيئ الذي طرأ على اليمن بدخول الحبش إليها، ومن تردي الأوضاع السياسية فيها والاضطرابات المستمرة التي وقعت بتصادم الوطنيين والغزاة الأحباش. فانحسر كل نفوذ سياسي أو عسكري كان لحكومات اليمن في الحجاز أو على بعض القبائل، ووجدت قريش نفسها حرة مستقلة وفي وضع يمكنها من استغلال مواهبها في التجارة، فقامت بمهمة الوسيط، تنقل تجارة أهل اليمن والعربية الجنوبية إلى أسواق فلسطين، وتنقل تجارة بلاد الشأم وحوض البحر المتوسط إلى الحجاز ونجد واليمن، وبذلك حصلت على أرباح طائلة عظيمة، جعلتها من أغنى العرب عند ظهور الإسلام، وصيرت مكة مركزًا خطيرًا من مراكز الثروة والمال في جزيرة العرب في ذلك الحين.
وقد وصف أهل الأخبار أهل مكة بترفعهم عن البخل والشح، فقال "الجاحظ" وهو يصفهم: "ومن العجب أن كسبهم لما قل من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعتريهم من بخل التجار قليل ولا كثير، والبخل خلقة
1 سورة قريش.
في الطباع، فأعطوا الشعراء كما يعطى الملوك، وقروا الأضياف، ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار البيت. فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد والداخل والراكب، وأطعموا بدل الحيس الفالوذج"1. فمرود الكسب الأول عند العرب في الجاهلية هو الغزو على رأي أهل الأخبار، وقد ترفعت قريش عنه، وصرفت نفسها إلى التجارة. ومن طبع التجار البخل ومسك اليد، أما قريش، فخالفتهم في البخل، ووصلت الشعراء وقرت الأضياف. ونسب "الجاحظ" سبب تركهم الغزو إلى كونهم أهل حمس ديانين، فقال: "وكانوا ديانين، ولذلك تركوا الغزو، لما فيه من الغصب والغشم واستحلال الأموال والفروج من العرب"2. ويعتقد "الجاحظ"، بأن للدين أثرًا كبيرًا على سلوك الإنسان وعلى كره الحرب، إذ تراه يقول: "ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأهم، وذلك أنا قد علمنا أن الروم قبل التدين بالنصرانية كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالًا فلما صارت لا تدين بالقتل والقتال والقود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى صاروا يتكلفون القتال تكلفًا، ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة وسرت في لحومهم ودمائهم، فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبين إلى أن صاروا مغلوبين"3. فالنصرانية قد أثرت على الروم حتى جعلتهم يكرهون الحروب، وصاروا مغلوبين بعدما كانوا غالبين، ثم جاء بدليل آخر على إثبات رأيه في أن الدين ينقص من شهوة الحرب، هو أن "التغزغز" من الترك، نقصت عندهم الشجاعة وهبت عنهم الشهامة بعد أن دانوا بالزندقة4. فالدين إذن مخفف من شهوة الحرب مبرد من التعطش إلى القتال، لكنه على رأيه أيضًا، يحول المتدينين إلى أسود في المعارك، فقريش التي تركت الغزو بتة، كانوا مع طول ترك الغزو، إذا غزوا، غزوا كالأسود مع الرأي الأصيل والبصيرة النافذة، والخوارج
1 كتاب البلدان "ص468"، "نشر الدكتور صالح أحمد العلي"، "مستلة من مجلة كلية الآداب سنة 1970".
2 كتاب البلدان "468"، "وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشديد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب"، كتاب البلدان "472".
3 كتاب البلدان "471".
4 كتاب البلدان "471".
على اختلافهم من أحرار وعبيد وموالي يقاتلون قتال الباسل المستميت مع اختلاف أنسابهم وبلدانهم، و"في هذا ليل على أن الذي سوى بينهم التدين بالقتال"، وأن استبسال قريش والخوارج وغيرهم من المتدينين "إنما هو بسبب الديانة"1 ووحدة العقيدة وعامل الدفاع عنها والجهاد في سبيلها.
وقد نسب "الجاحظ" ميل قريش إلى التجارة واشتغالهم بها إلى تحمسهم في دينهم وتشددهم في الدين، فقال:"وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشديد في الدين فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب، فلما تركوا الغزو لم تبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم وإلى النجاشي بالحبشة وإلى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"2.
فتحمس قريش في دينهم، حملهم على ترك الغزو، وترك الغزو حملهم على التكسب بالتجارة، فاتجار قريش في مكة وضربهم في الآفاق، هو بسبب البحث عن رزق يعوضهم عن رزق الغزو، الذي أبعده الدين عن قلوبهم، فكان ما كان من أمر تجارتهم. هذا هو رأي الجاحظ في السبب الذي حمل قريشًا على الانصراف إلى التجارة.
وفي القرآن: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 3. فمكة بلد بواد قفر غير ذي زرع ولا ماء، ليس لأهلها ما لسكان الأرياف والقرى التي تملك المياه والأنهار من ثمرات النبات والأشجار، فصارت الطائف مصيفًا لهم، وموردًا يمدهم بثمر النبات والأشجار4، واستغل أهلها فقر واديهم، وموقع مدينتهم الذي تمر به القوافل، وشجعوا من كان يسكن حولهم على الحج إلى معبدهم وعلى قصده أيام السنة وموسم الحج، فاستفادوا من الحجاج. وعلوا الموسم سوقًا يتعاطون فيه البيع والشراء، فربحوا وصار لهم مال استثمروه وشغلوه، في سوق مكة وفي الأسواق الأخرى، وتعاملوا مع الأعراب، وعقدوا الإيلاف مع ساداتهم ومع الفرس والروم والحبش، فصاروا
1 كتاب البلدان "472".
2 كتاب البلدان "472".
3 إبراهيم، الرقم 14، الآية 37، تفسير الطبري "13/ 152".
4 تفسير الطبري "13/ 155".
يخرجون إلى خارج مكة بأمان بفضل العقود والعهود التي عقدوها مع سادات الأعراب، وهي أهم في نظري من أي عقد آخر عقدوه مع حكام العراق وبلاد الشأم أو اليمن، إذ كان في استطاعة الأعراب نهب قوافل مكة وسلب أموالها، وهي ذاهبة أو آيبة محملة، فلا يستطيع أهل مكة فعل شيء، ولا تبقى أية فائدة عندئذ لعقود الإيلاف المعقودة مع الحكام المذكورين. وقد علم سادة مكة ذلك، فتعاقدوا مع سادات الأعراب، وأدو لهم نصيبًا من الربح، وبذلك أمنوا جانب أعرابهم، فكانوا إذا تحرش بهم متحرش، أدبه سادة قبيلته، واستعادوا منه ما أخذه من نهب وسلب.
وقوم هم أهل قرار، لهم بيت مقدس، ولهم تجارة، لا يفكرون في غزو، ولا يرتاحون من وجود أهل شغب وفتن بينهم. فالغزو سواء أكان منهم أو كان عليهم مضر بهم. ولا يعود عليهم بفائدة، بل هو يبعد القاصدين لهم عنهم، وفي ابتعادهم عنهم خسارة ثم هو يعرقل تجارتهم ويحول دون اتجارهم، والتجارة مورد رزقهم وعليها معاشهم. وقريش من المستقرين، ومن التجار، ولهم معبد، فكان من صالحهم إشاعة الأمن والابتعاد عن التشاحن وفض كل خلاف يقع فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين غيرهم بالتي هي أحسن، وجر الناس إليهم، والعمل على اكتساب صداقة أهل الحضر وأهل الوبر أيضًا، وعلى إنصاف الغريب الذي قد لا يجد له مجيرًا من بين أهل مكة فيظلم، وعلى تقديم الرفادة للحجاج الضعفاء، وإسقائهم الزبيب المنبوذ بالماء في أيام الحج، وعلى شراء الألسنة، ألسنة الشعراء خاصة، لما كان لها من أثر في النفوس.
وللمنافع المادية التي كانوا يحصلون عليها من تآلفهم مع القبائل، حرصوا على ألا يؤذي أحد منهم أحدًا من الغرباء، فيثير قوم الغريب عليهم، لا سيما إذا كان ذلك الغريب من قبيلة تمر تجارة قريش بها، فلما عذب أهل "مكة""أبا ذر الغفاري"، أقبل "العباس" عليهم، وقال:"ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام؟. فأنقذه منهم"1. فزهد قريش وعدم ميلهم إلى الاعتداء على الغرباء، لم يكن كما رأى "الجاحظ" عن "تحمس" وعن دين، وإنما كان عن طمع في المال وفي الكسب وفي الحصول على كسب
1 الإصابة "4/ 64"، "رقم 382".
من تجارة تمر بطرق يجب أن تكون آمنة بالنسبة لها أمينة، ولا يكون ذلك الأمان ممكنًا، إلا بتأليف قلوب سادات القبائل، والحرص على منع أهل مكة من الاعتداء على الغرباء.
بل نجد أهل مكة يجيرون كل غريب حتى إن كان صعلوكًا أو خليعًا أو مستهترًا بالعرف والأخلاق، أو قاتلًا غادرًا، أملًا في الاستفادة منهم، وفي عدم التحرش برجالهم إن خرجوا متاجرين يحملون أموالهم لبيعها في الأسواق البعيدة، ولاستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من الأعداء والأعراب، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء عدد من أمثال هؤلاء، كانوا قد لجأوا إلى مكة وأقاموا بها واستقروا وعاشوا بها مجاورين لسادتها، آمنين على حياتهم؛ لأنهم في جوار سيد من قريش.
وفي القرآن الكريم آيات تدل على وجود مستوى راق في مكة، وفي أماكن أخرى للتجارة والاقتصاد، وتدل على تنسيق وعمل منظم بين التجار. وقد وردت فيه إشارات إلى "رؤوس الأموال"، وهي الأموال الخالصة التي تشغل في التجارة والتي تعطي أيضًا المحتاجين إليها لتربو ولتعطي صاحبها الربا، كما وردت فيه إشارات إلى البيع والشراء والقروض والرهون والشركات والتكاتب والتعامل التجاري وأمثال ذلك. وكل ذلك قد نظم وهذب وفقًا لقواعد الإسلام وصار أساسًا لنظم التجارة والمال في الإسلام. ولهذا تستدعي دراسة النظم الاقتصادية والتجارة في الإسلام الرجوع إلى السناد، وسنادها هو نظمها وقواعدها قبل الإسلام.
ويظهر من كتب التفسير والسير أن أهل مكة كانوا يسهمون في رؤوس أموال قوافلهم التي يبعثون بها إلى بلاد الشأم واليمن، وفي الأعمال التجارية الأخرى. يسهم أفارد أسرة تجارية واحدة أو جملة أسر، بل معظم أفراد مكة الأحرار في تلك القوافل، كل بحسب نصيبه لينعموا بالأرباح. وقد ساعدت هذه الشركة على إعانة أصحاب السهام وعلى مساعدة أهل مكة في رفع مستواهم المعاشي. وإذا كنا لا نملك موارد تتحدث عن أنظمة تلك الشركة أو الشركات وقوانينها، وعن كيفية توزيع الأرباح بين المساهمين، وعن أنواع تلك الشركات وأصول حساباتها ووكلائها في الخارج، فمن الميسور أن نظفر بقدر كبير من جذورها وأصولها في
فصول الشركات والقضايا المتعلقة بتنظيم التجارة في الإسلام في كتب التفسير والحديث والفقه خاصة، ففي هذه الفصول إشارات كثيرة إلى شؤون التجارة والاقتصاد عند الجاهليين.
ويظهر مما ذكره أهل الأخبار وأوردوه عن قوافل مكة، أن مال القافلة، لم يكن مال رجل واحد، أو أسرة معينة، بل كان يخص تجارًا من أسر مختلفة وأفرادًا وجد عندهم المال، أو اقترضوه من غيرهم فرموه في رأس مال القافلة أملًا في ربح كبير. فقد ذكروا أن قافلة قريش التي كانت في خفارة "أبي سفيان" والتي أثارت معركة "بدر"، كان رأس مالها مختلطًا، ساهم فيه كل متمكن من أهل مكة. حتى "لم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدًا إلا بعث به في العير"1.
ويظهر من سورة "قريش" أن قريشًا كانت ترحل رحلتين في السنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشأم. وهما رحلتان تجاريتان، تشتري فيهما وتبيع، وتبرح منهما ربحًا صيرها في وضع مالي حسن. وقد صارت مكة لذلك العهد مركزًا ماليًّا خطيرًا في الحجاز، وسوقًا لتبادل السلع. ولم تكن قريش تستورد التجارة لتخزنها في مكة، أو لتصرفها في أسواق مكة وحدها. فمكة وحدها بلدة صغيرة لا تستوعب أسواقها هذه التجارة، بل كانت تستوردها من الشمال والجنوب، لتصرف ما يمكن بيعه في أسواق مكة وهو القليل، ولتصدر وهو الغالب ما استوردته من الجنوب إلى الشمال أعني بلاد الشأم، ولتصدر ما استوردته من بلاد الشأم، إلى اليمن ومنها إلى بقية العربية الجنوبية والسواحل الإفريقية المقابلة، فتربح من هذه الصفقات ربحًا حسنًا.
وتروي كتب أهل الأخبار أن قريشًا كانوا لا يخرجون عيرًا فيرحلون إلا من "دار الندوة"2. فكأنها كانت منطلق التجار والتجارة. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك لكونها ندوة مكة ودار الرأي والحكم في هذه المدينة ومجلس أهل المال فيها. وكذلك كان يفعل أهل المدن المتاجرة، تتحرك قوافلهم من ساحة مجالسها ليشاهدوا الناس، وإذا عادت أناخت في هذه الساحات أيضًا، ليراها أهل البلد، فتكون
1 إمتاع الأسماع "1/ 66".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 70"، "ذكر قصي بن كلاب".
لهم فرحة تشبه أفراح العيد.
والرحلتان المذكورتان، هما من قوافل قريش الكبيرة التي كانت القافلة الواحدة منها تتألف من أكثر من ألف بعير، والتي يساهم فيهما كل من شاء ممن له مال من أهل مكة، ويريد الاتجار به، تشترك فيهما الأسر المعروفة بالغنى والتجارة من قريش ويساهم معها من له مال في ذلك الوقت، رجاء الربح والكسب. وقد كانت قافلة "أبو سفيان" التي أهاجت وقعة بدر من قبائل قريش كلها، وأخصها "بطون كعب بن لؤي". ليس فيها من "بني عامر"، إلا ما كان من "بني مالك بن حسل"، ولذلك عرفت نفرة قريش إلى "بدر" بـ"نفرة بني كعب بن لؤي"1.
وكانت قافلة "أبو سفيان" المذكورة، قد تاجرت ببلاد الشأم وهمت بالعودة إلى مكة، فما سمع رسول الله بأبي سفيان مقبلًا من الشأم، بألف بعير، محملة بأموال عظيمة، ندب المسلمين إليه، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها، فانتدب الناس، وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار، فبلغه خبر استنفار الرسول أصحابه، فأرسل "ضمضم بن عمرو" الغفاري إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه. فخرج إليها، فلما بلغها، وقف على بعيره ببطن الوادي، وقد جدع بعيره وحول رحله، وشق قميصه، ثم صرخ: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث. فتجهز الناس سراعًا، وساروا حتى بلغوا "بدرًا"، وكان "أبو سفيان"، قد غير طريقه حين سمع خبر خروج رسول الله بأصحابه، فساحل بقافلته وترك بدرًا يسارًا، وانطلق حتى أسرع فبلغ مكة، وكانت قريش قد نزلت "الجحفة"، فكتب إليها: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا. وأصر بعض رؤساء قريش على ورود "بدر"، وكان بدر موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام. وفيه ماء، وعلى الإقامة ثلاثًا، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب
1 الطبري "2/ 422".
وبمسيرهم ويجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبدًا بعدها. ومضوا إلى بدر، فوقعت معركة بدر1.
وما كان إصرار رؤساء قريش على المسير إلى المسلمين لملاقاتهم في الطريق، أسلوبًا من أسلوب التجار في الحفاظ على السمعة وفي الظهور بمظهر القوي المتمكن حتى لا يطمع بهم الطامعون ويتجاسرون عليهم. فكان خروجهم هذا نوعًا من التحدي ومظهرًا من مظاهر إظهار القوة، لتخويف الغير، لعلمهم بقوتهم، فكأنهم أرادوا إنزال ضربة بمن خرج مع الرسول لملاقاة القافلة، معتمدين على عددهم وقوتهم، حتى يتهيب المسلمون في المستقبل من التحرش بقوافلهم، وليكون ذلك درسًا لهم. ولعلهم كانوا لا يريدون في الواقع الاشتباك مع المسلمين في قتال، وإنما كانوا أرادوا مجرد تخويفهم وإظهار أنفسهم مظهر القوي العزيز المهاب، كما يظهر ذلك من قول أهل الأخبار من أنهم كانوا أرادوا الإقامة ببدر ثلاثة أيام، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب وبمسيرهم وبجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبدًا بعدها. ولكن أبت الأقدار إلا أن يقع الاصطدام فوقع على نحو ما هو مذكور.
وكانت "بصرى" سوق قريش في رحلتهم إلى بلاد الشأم، عندما تقف قوافلهم وتحط رواحلهم، فيشترون ويبيعون ويمكثون حتى ينتهوا من تجارتهم ثم يعودون إلى مكة. وكان منهم من يصل إلى "غزة" ويتاجر في أسواقها، حيث تبيع أسواقها منتوجات حوض البحر المتوسط وما يرد إليها من "أوروبة" من تجارة. ويبيع التجار العرب فيها ما يحملونه من بلاد العرب من سلع مستطرفة مطلوبة في أسواق البحر المتوسط. وبها مات "هاشم بن عبد مناف" جد النبي، حين كان توجه للشأم بالتجارة، فأدركته منيته فمات بغزة وبها قبره، فقيل غزة هاشم2.
1 ابن هشام "2/ 61 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "2/ 61 وما بعدها"، الطبري "2/ 421 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 98"، القاموس "4/ 176"، تفسير ابن كثير "4/ 553 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 197 وما بعدها".
2 وقد رثاه "مطرود بن كعب" الخزاعي بقوله:
وهاشم في ضريح عند بلقعة
…
تسفى الرياح عليه وسط غزات
وقيل "بين غزات"، وورد:
ميت بردمان، وميت بسلمان، وميت عند غزات
تاج العروس "4/ 65".
والأدم، هي في رأس قائمة السلع التي كان يحملها أهل مكة إلى بلاد الشأم، كانوا يجمعونه من اليمن ومن الطائف ويحملونه إلى بلاد الشأم والعراق. ومنه ما كان معمولًا مصقولًا معتنى به، زخرف بالذهب، لذلك عرف بـ"المذاهب". و"المذاهب" الجلود المذهبة1. وهي من أرقى الجلود وأغلاها، يشتريها الأغنياء لاستعمالها في الأشياء الغالية الثمينة.
وتعد اليمن من أهم الأماكن المصدرة لجلود البقر في جزيرة العرب، وقد كانت تحمل إلى مكة وإلى مواضع أخرى لبيعها في أسواقها منها البصرة في الإسلام، حيث كان التجار يحملون جلود البقر من اليمن إليها2. واشتهرت أيضًا بعطورها لجودتها. روي أن "عبد الله بن أبي ربيعة" كان يبعث بعطر اليمن من اليمن إلى أمه "أسماء بنت مخربة"، أم "أبي جهل"، فكانت تبيعه إلى الأعطية، وكانت تضع العطور في قوارير، وتزنها، فتبيع نقدًا، أو دينًا. فإذا باعت دينًا كتبت مقدار الدين في كتاب3. ولعل شهرة مكة بعطورها، إنما جاءتها من العطور المستوردة التي تأتي إليها من اليمن ومن أماكن أخرى.
وكان الزيت على رأس السلع التي كان يشتريها أهل مكة وتجار يثرب من بلاد الشأم، لصفائه ولنقاوته وجودته، وكان "دحية بن خليفة الكلبي" يتجر مع بلاد الشأم بالزيت والطعام، وصادف رجوعه من الشأم وقت صلاة الجمعة، والرسول يخطب، فلما سمع المصلون خلف الرسول صوت أجراس القافلة جعلوا يتسللون إليها، خشية أن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلًا وامرأة. فوبخهم الله بالآية:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 4.
1 تاج العروس "1/ 258"، "ذهب".
2 قال الشاعر:
والله للنوم بجرعاء الحفر
…
أهون من عكم الجلود بالسحر
بلا العرب "ص308".
3 ابن سعد، طبقات "8/ 220"، الواقدي، مغازي "65".
4 الجمعة، الآية 9، تفسير الطبري "28/ 66 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "4/ 366 وما بعدها"، الواحدي أسباب النزول "320"، مسند الإمام أبي حنيفة "73 وما بعدها".
وقد عرف الزيت المستورد من الشأم بالزيت الركابي؛ لأنه كان يحمل على الإبل من الشأم1.
ولم يشر أهل الأخبار إلى رحلة على شاكلة رحلتي الشتاء والصيف إلى العراق. وإنما أشاروا إلى تجار منهم كانوا يتاجرون مع الحيرة. ومعنى هذا ذهاب قوافل صغيرة إلى العراق، لم تكن بحجم قوافل قريش إلى بلاد الشأم أو اليمن. ولم يشر القرآن الكريم أيضًا إلى رحلة جماعية إلى العراق أو إلى موضع آخر، مما يدل على أن قريشًا كانت ترحل رحلتين جماعيتين كبيرتين في السنة إلى بلاد الشأم في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء فقط. أما رحلاتهم الأخرى، فلم تكن كبيرة ضخمة وجماعية، بل كانت قوافل دون القافلتين في الحجم، وكانت خاصة أصحابها أغنياء، لهم رؤوس أموالهم، يبعثون بقوافلهم على حسابهم، في كل وقت شاؤوا، وتكون أرباحها لهم: لا يشاركهم فيها مشارك، وقد يرأسون بأنفسهم قوافلهم، فيذهبون بها إلى العراق، ولهم فيه تجار وأصحاب، فإذا باعوا عادوا ببضاعة جديدة وبما كسبوه إلى مكة.
فقد رووا أن "أبا سفيان" كان يذهب بنفسه إلى العراق للاتجار، يحمل معه حاصلات اليمن والحجاز، ويعود بحاصلات العراق وبما يحتاج إليه أهل الحجاز واليمن ممن بضاعة. بل ذكروا أنه كان يفد على "كسرى"، يحمل إليه الهدايا تقربًا إليه، ذهب إليه مرة، ومعه خيل وأدم، فقبل "كسرى بن هرمز" الخيل ورد الأدم وأعطاه هدايا وألطافًا2. وكان من مصلحة كسرى التقرب إلى أهل مكة، فقد كانوا تجارًا، وكانوا على طريق مهم وفي مركز خطير من الناحية السياسية والتجارية، كما كان نفسه يتاجر مع العرب ويتبايع معهم، لذلك كان من مصلحته مجاملة أهل مكة والاتصال بهم.
وذكر أنه قد كانت له صلات برؤساء وتجار الحيرة، وبملوكها أيضًا، يحمل إليهم الهدايا، ويأخذ منهم ألطافهم، ثم يعود بهما يجده في أسواق الحيرة من تجارات. قدم مرة على عمرو بن هند، أو النعمان بن المنذر، فوجد عنده "مسافر بن عمرو بن أمية القرشي"، وكان قد ترك مكة ونزل الحيرة، وهو
1 تاج العروس "1/ 277"، "ركب"، كتاب البلدان "488".
2 الأغاني "12/ 46"، العقد الفريد "2/ 21"، "اللجنة".
في قبة من أدم حمراء، أمر الملك بضربها له، إكرامًا له، وكان الملك إذا فعل ذلك برجل، عرف قدره مكانته، فالتقى بـ"مسافر"1.
وكان أبو سفيان –كما يقول أهل الأخبار- تاجرًا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشأم وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانًا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحبسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس. وكان صديقًا للعباس ونديمه في الجاهلية2.
وكان "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وهو من رجال قريش جمالًا وجودًا وشعرًا، ومن فتيانها، ممن يتاجرون مع العراق، ويربح من تجارته هذه ربحًا طيبًا، وكان هلاكه بالعراق. فقد كان قد خرج في تجارة إلى الحيرة، فهلك بها عند "النعمان بن المنذر"، ورثاه "أبو طالب"3.
وكان "عبد الله بن جدعان" من أثرياء مكة ومن تجارها. ذكر أنه تاجر مع الحيرة. ويظهر مما ذكرها أهل الأخبار عنه، أنه كان ثريًّا جدًّا، وربما عد أثرى قريش في أيامه، وإليه تنسب قصة إدخال "الفالوذج"، إلى أهل مكة، حيث يذكرون أنه تعلمها من أهل العراق، وجاء ومعه طباخ خاص ليطبخ له طبيخ الحيرة وأهل فارس.
وكان "العاص بن وائل بن هاشم" السهمي من تجار مكة، الذين رحلوا بتجارتهم إلى خارج مكة. وكان من أشراف قريش. وقد مات بالأبواء4. ولعله كان خارجًا في تجارة له فمات هناك. ومن ولده "عمرو بن العاص". وقد أسلم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة معًا5. وكان تاجرًا كذلك ويذكر "ابن كثير" أن "عمرو بن العاص" وفد على "مسيلمة"، وذلك بعد ما بعث رسول الله وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال:
1 الأغاني "8/ 46 وما بعدها".
2 الاستيعاب "4/ 86"، "حاشية على الإصابة".
3 كتاب نسب قريش "135 وما بعدها"، الاشتقاق "103".
4 كتاب نسب قريش "408".
5 كتاب نسب قريش "409".
وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، وإنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو، والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب1. والرواية موضوعة، فسورة "العصر" من السورة المكية ورقمها "27" حسب ترتيب نزول السور بمكة على رأي العلماء، أي قبل الهجرة، وقبل إسلام "عمرو" بزمن، وقبل مجيء "مسيلمة" إلى المدينة مع وفد حنيفة، وبعد مجيئه إليها بدأت دعوته بمعارضة الرسول. ثم إن جملة: "ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ "، جملة تشعر أن "عمرو بن العاص" كان مسلمًا إذ ذاك، بينما كان هو من المشركين في ذلك العهد. ثم إن ما نسب إلى "مسيلمة" من آيات، وضع على وزن آيات القرآن ومحاكاة لها، وليس في:"يا وبر يا وبر إلخ" أي شيء يضاهي: "والعصر" في النسق أو في المعنى، وعندي أن الخبر من الأخبار الموضوعة. وقد يكون "عمرو بن العاص" قد زار اليمامة، فهذا شيء غير مستبعد، فقد كان تاجرًا وكان تجار مكة يسافرون إلى اليمامة وإلى غيرها للاتجار، أما أنه ذهب خاصة لزيارة "مسيلمة" ومكالمته على نحو ما يرد في الخبر، فأسلوب يدل على وجود الصنعة فيه أكثر مما يدل على الصحة وصدق الرواية.
وقد عرف أهل الحيرة بنشاطهم في الأسواق وباتجارهم مع أسواق جزيرة العرب وغيرها، حتى قيل:"إنك لا ترى بلدًا في الأرض ليس فيه حيري"2. وقد كانت الحيرة نفسها سوقًا مقصودة، تشتري وتبيع، يأتيها التجار من مختلف الأمكنة، وموضع تجاري على هذه الشاكلة لا بد أن يذهب أهله إلى الأسواق الأخرى للبيع والشراء. وقد عرف أهل الحيرة بحذقهم في الصيرفة وفي بيع الفلوس. قيل لأحد أهل الحيرة ممن يتعاطى الطب: "ما لأهل الحيرة والطب. عليك ببيع الفلوس في الطريق"3.
1 تفسير ابن كثير "4/ 547"، البداية والنهاية "6/ 326".
2 مختصر كتاب البلدان "ص51".
3 ابن العبري: تأريخ مختص الدول "ص250".
وكان تجار الحيرة يزورون مكة للاتجار بها، ولهم مع تجارها عقود وجوار وتجارة، فإذا ذهب أحدهم إلى مكة نزل على حليفه وجاره، ثم باع ما عنده من تجارة، واشترى ما يجده بمكة من سلع مطلوبة مرغوبة ثم يعود إلى الحيرة. وكان منهم من كون مع حلفائه من أهل مكة تجارة مشتركة تتعامل بالحيرة وبمكة وبمواضع أخرى، وتسوي أشغالها بالمراسلة، يدير الحيريون منهم أعمال الشركة بالحيرة، ويدير المكيون منهم أعمالها بمكة، ثم يتراجعون في الحساب، ويقتسمون الأرباح والخسائر على وفق ما اتفقوا عليه.
وقد كانت تجارة قريش تجارة واسعة، وقد أقام تجارهم وكالات ومتاجر في مواضع متعددة، لتتولى أمر البيع والشراء. ولعلهم كانوا يمثلون مصالح مكة السياسية في الحبشة كذلك، كأن يتولى هؤلاء التفاوض مع الحكومة هناك في عقد عهود سياسية واقتصادية وما شابه ذلك. وقد كن اتصال أهل مكة بالحبشة وثيقًا ودائمًا، ويظهر أنهم كسبوا منافع مهمة من أعمالهم واشتغالهم في تلك البلاد1.
وقد عهدت قريش إلى أناس آخرين من رجالها بقيادة قوافلها، إلى بلاد الشأم أو إلى اليمن. كما قام رجال منها بتجهيز قوافل لهم لتتاجر بأموالهم. ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" استاؤوا من خبر هجرته استياءً كبيرًا، لعلمهم بأهمية موضع "يثرب"، وبما سيقوم به المسلمون من التعرض بقوافلهم ومن تحرشهم بتجارهم وفي هذا العمل نكبة عظيمة تصيب تجارتهم وأرباحهم ومنافعهم المادية. فتشاوروا في أمرهم وتناقشوا، وقالوا:"قد عوّر علينا محمد متجرنا وهو طريقنا "وقال "أبو سفيان" و"صفوان بن أمية": "إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا"2، وقال أيضًا:"كنا قومًا تجارًا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حضرتنا حتى نهكت أموالنا"3، وقال غيره مثل ذلك من كلام، يشعر بمقدار الأضرار والخسائر التي منيت بها تجارة قريش بسبب هجرة الرسول إلى يثرب واعتراضه طرق القوافل. لا سيما بعد أن تبين لها أن جميع السبل التي فكرت في سلوكها لتسيير قوافلها عليها، هي غير أمينة ولا سالمة، وأن المسلمين
1 الأغاني "8/ 50".
2 الطبري "2/ 491 وما بعدها".
3 الطبري "2/ 646".
قد أخذوا يباغتون قوافلهم حتى في الطرق الجنوبية المؤدية إلى اليمن والطرق البعيدة التي تؤدي إلى العراق.
وقد وقف المسلمون لقريش بالمرصاد، وأخذوا باعتراض قوافلهم، فما كادت تمضي سبعة أشهر من مقدم الرسول المدينة، حتى أمر "حمزة" بالتوجه إلى ساحل البحر من ناحية العيص، للتحرش بعير لقريش كانت قد جاءت من الشأم تريد مكة، فيها أو جهل في ثلاثمائة راكب1، فكان خبر هذه السرية أول خبر سيئ يبلغ مسامع قريش، وقد نجت القافلة، إلا أن الخبر جعل قريشًا تشعر أنه سيكون مقدمة لأخبار سيئة ستصيب مصالحها التجارية وحياتها الاقتصادية، ولن يكون لها من نجاة، إلا بالتهيؤ للقضاء على الرسول والإسلام، كما فكرت في وضع خطط لتغيير طرقها التي تسلكها في ذهابها إلى الشأم باتباع طرق بعيدة سالمة، تكون بعيدة عن المسلمين، وقد سلكتها فيما بعد، حين ضيق المسلمون على قوافلها التي كانت تسير على الطرق المألوفة، فتبين أنها لم تكن سالمة أيضًا وأن المسلمين أخذوا يهاجمونها على كل طريق، مهما كان.
وكان من غيظهم على الرسول، ومن تأثرهم بما أصاب تجارتهم من خسارة وضرر، أن لقبوا الرسول بـ"القاطع". ولما ذهب "الحجاج بن علاط"، إلى مكة، وكان تاجرًا له مال بمكة أودعها زوجته، ومالًا متفرقًا في تجار أهل مكة، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، قالوا له: أخبرنا بأمر محمد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي بلدة يهود وريف الحجاز2. فنعتوا الرسول بـ"القاطع"؛ لأنه قطع عليهم تجارتهم وهدد طرقهم التي يسلكونها للوصول إلى أسواق الشأم وبلاد العراق.
ولما كان الشهر الثامن من مقدم الرسول المدينة، أرسل سرية إلى بطن "رابغ" بلغت "ثنية المرة"، وهي بناحية الجحفة، لتقابل عيرًا لقريش، اختلف في أميرها، فقيل: كان "أبو سفيان"، وقيل بل "مكرز بن حفص"، وقيل "عكرمة بن أبي جهل". فكان بين المسلمين والمشركين رمي، ونجت القافلة.
1 الطبري "2/ 402"، إمتاع الأسماع "1/ 51".
2 الطبري "3/ 18".
وكانت كبيرة على ما يظهر، إذ كان عدد رجالها، أي حراسها مائتين1. ورجع المسلمون دون أن يغنموا شيئًا، وقد كانت السرية إنذارًا آخر لقريش بالخطر الذي سيحيق بتجارتها وبمصالحها المادية وبأن ما كانت تربحه من أرباح لن يدوم لها فيما بعد.
وقد تمكن "أبو بصير" من إنزال ضربات موجعة بتجارة قريش، اختار "العيص"، وهو ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشأم موضعًا ينقض منه على قوافل قريش، فيسلب ما فيها من مال ويقتل من يقتل من المارة، حتى ضيق عليها، وهرب إليه من كان بمكة محبوسًا من المسلمين، حتى تجمع عنده قريب من سبعين مسلمًا، أغار بهم مرة على ركب كان يريد الشأم، معهم ثمانون بعيرًا، فأخذوا ذلك وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين دينارًا. فغاظ قريش تضييق "أبو بصير" عليهم، حتى كتبوا إلى رسول الله يسأله بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير إليه ومن معه. فكتب إليه أن يعود ومن معه2.
ولما عقد صلح "الحديبية" وكانت الهدنة بين قريش والرسول، استراحت "قريش"، وإن بقيت خائفة من أن لا تجد أمنًا لها، فأرسلت قافلة في نفر من قريش فيها "أبو سفيان"، إلى "غزة" متجرها في بلاد الشأم، فوصلت سالمة إلى هناك، وتاجرت ثم عادت3.
وذكرت كتب التأريخ والأخبار أسماء عدد من رجال مكة كانوا يخرجون إلى التجارة بأموالهم وأموال غيرهم من أمثال أبي العاص زوج زينب بنت رسول الله، وكان يخرج تاجرًا إلى الشأم. وكان رجلًا مأمونًا، يخرج بماله وأموال رجال من قريش أبضعوها معه4. وقد عرف "بالأمين"، وكان من رجال مكة المعدودين مالًا وأمانة وتجارة، يخرج بماله وبمال غيره تاجرًا، يأتمنون به، ثم يعود فيؤدي إلى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه. وكان آخر خروجه تاجرًا بأمواله وبأموال قريش قبل الفتح، خرج إلى الشأم فلما انصرف قافلًا لقيته سرية لرسول الله، أميرهم "زيد بن حارثة"، وكان أبو العاص
1 الطبري "2/ 402"، إمتاع الأسماع "1/ 52".
2 إمتاع الأسماع "1/ 305".
3 الطبري "2/ 646"، "ذكر خروج رسل رسول الله إلى الملوك".
4 الطبري "2/ 292".
في جماعة عير، وكان زيد في نحو سبعين ومائة راكب، فأخذوا ما في تلك العير من الأثقال وأسروا منهم ناسًا، فاستجار "أبو العاص" بزينب، فأجارته، ورد الرسول الأموال والأسرى إليه، وعاد مع القافلة إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه، ثم أعلن أمام قريش شهادة الإسلام، وتركهم فقدم يثرب مسلمًا، ورد رسول الله ابنته عليه1.
ومن تجار قريش "صفوان بن أمية بن خلف"، ذكر أنه كان أحد العشرة الذين إليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام من عشرة بطون. وكان أحد المطعمين في الجاهلية والفصحاء، وأحد أشراف قريش، وإليه كانت الأيسار، وهي الأزلام، فكان لا يسبق بأمر حتى يكون هو الذي يجري يسره على يديه. وكان يقال له:"سداد البطحاء"، وهو أحد المؤلفة قلبوهم. وكان غنيًّا، وكذلك كان أولاده2. ورد في الحديث: أن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية، وقنطر أبوه، أي صار لهما مال كبير، كأنه يوزن بالقنطار3. فهما من أسرة ثرية ثقيلة الثراء.
وتعد أيام مغادرة القوافل وأيام عودتها سالمة، من الأيام المشهودة في مكة، يخرج فيها أهل البلدة لتوديع القافلة متمنين لها النجاح والفلاح والعودة سالمة بربح وافر كثير، داعين آلهتهم أن تبارك في رجالها وتمنحهم العون والفلاح في البيع وفي وقايتها من شر السفر ومن أذى الأشرار قطاع الطريق. ويخرج فيها أهل مكة فرحين مستبشرين، لاستقبال القافلة قادمةً من سفرتها البعيدة وهي محملة بسلع جديدة وبثمن ما باعته من سلع وما ربحته من فروق الأسعار: سعر الشراء وسعر البيع، حتى إذا ما بلغت القافلة مكة، كان أول واجبها زيارة رئيسها وأصحابها "البيت الحرام" لرفع الحمد والشكر إلى رب البيت على ما أنعمه عليها من الأمن والسلامة وما رزقها من ربح، ثم يعود مع أصحابه إلى بيوتهم ليستريحوا وليقوموا بتصفية حسابهم، وإعطاء كل واحد من المساهمين في رأس مال القافلة نصيبه من الربح.
وقد ذكر أن قريشًا كانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا. وأن قافلة
1 الإصابة "4/ 121"، "رقم 692"، الاستيعاب "4/ 125"، "حاشية على الإصابة".
2 الإصابة "2/ 181 وما بعدها"، الاستيعاب "2/ 179 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 تاج العروس "3/ 509"، "قنطر".
"أبي سفيان" التي كانت سبب وقعة بدر، كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، فسلم أبو سفيان على أهل العير رؤوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا1.
وقد اشتهرت بعض الأسر من قريش بالتجارة مع الأقطار البعيدة عن مكة. وقد ذكر أهل الأخبار أن بني "عبد مناف" المعروفين بـ"أصحاب الإيلاف" كانوا أسرة ثرية غنية اختصت بالاتجار مع الخارج، وكانوا أربعة أخوة، هم: هاشم، وكان يؤالف الروم، فأمن في تجارته إلى الشأم. أما الأخ الثاني، فعبد شمس، وكانت تجارته مع الحبشة، وأما الثالث فكان المطلب، وكان يرحل إلى اليمن. وأما الرابع، فهو نوفل، وكان يرحل إلى فارس. وقد عرف هؤلاء بـ"المتجرين"2 وبـ"المجبرين" وبـ"المجيرين"3.
ولم يكن الإيلاف إيلافًا مع الروم أو الفرس أو الحبشة، وإنما كان إيلافًا مع سادات القبائل. فبفضل العقود والعهود التي عقدها "هاشم" وإخوته مع سادات العرب أمكن مرور قوافل مكة بأمن وسلام نحو العراق وبلاد الشأم واليمن والحبشة. ولولا هذه العقود التي جبرت قلوب سادات القبائل بتقديم حقوق مرور لهم، أو بإشراكهم في مال القافلة، بحمل تجار مكة ما عندهم من سلع لبيعها على حسابهم، وتقديم ثمنها مع الربح الذي جاؤوا به على سعر البيع المقدر، لما كان في إمكان قريش ضبط أولئك الأعراب ومنعهم من التحرش بقوافلهم ومرورها إلى الأسواق بأمن وسلام.
ويرجع أهل الأخبار مبدأ "الإيلاف" وخروج قريش من مكة بالقوافل إلى بلاد الله الأخرى إلى "هاشم بن عبد مناف"، فهم يذكرون أن قريشًا كانوا تجارًا "وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشأم فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم،
1 نهاية الأرب "17/ 81"، "ذكر غزوة أحد".
2 بلوغ الأرب "3/ 285".
3 تاج العروس "6/ 44"، "الف".
فذكر ذلك لقيصر فقيل له: ها هنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم، وإنما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم! فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشأم أخذ من أشرافهم إيلافًا –والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف إنما هو أمان الطريق- وعلى أن قريشًا تحمل إليهم بضائع فيكفونهم حملاتها ويؤدون إليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشأم حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم يجوزهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب حتى أوردهم الشأم وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة. وخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن فأخذ من ملوكهم عهدًا لمن تجر إليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاشم، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف، وكان يسمى "الفيض" وهلك بردمان من اليمن. وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافًا كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة فقبره بالحجون، وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه فأخذ عهدًا من كسرى لتجار قريش وإيلافًا ممن مر به من العرب، ثم قدم مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان. واتسعت قريش في التجارة في الجاهلية وكثرت أموالها، فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والإسلام"1. وبهذا القصص، أوجد أهل الأخبار مبدأ الإيلاف، ومبدأ خروج قريش بالتجارة إلى الأقطار المذكورة. ويكون عمل "آل عبد مناف" وفق هذه القصة، عملين: أخذهم أمانًا من الملوك المذكورين بمعاملة قريش معاملة حسنة وحمايتهم لهم في أرضهم من كل تعد قد يقع عليهم، ومراعاتهم مراعاة خاصة حين مجيئهم إليهم للاتجار، معاملة الأحسن حظوة بين التجار الذين يتجارون في أسواقهم، والعمل الثاني، هو عقدهم الإيلاف مع
1 ذيل الأمالي "199 وما بعدها".
سادات القبائل الذين يمرون بهم في ذهابهم وإيابهم إلى الشأم والعراق واليمن والحبشة، بأن يأمنوا عندهم في أرضهم، ولا يعتدى على أحد منهم.
وموضوع ذهاب هاشم وإخوته إلى الشأم أو العراق أو اليمن أو الحبشة، موضوع طبيعي لا داعي إلى إثارة الشك حوله، فقد وجدنا أن غيرهم من تجار مكة كانوا يتاجرون مع الأماكن المذكورة، تاجروا معها قبلهم وتاجروا معها بعدهم، أما أنهم التقوا بقيصر وبكسرى وبالنجاشي وبتبابعة اليمن، وتعاقدوا وتعاهدوا معهم، فقضية أخرى فيها نظر، وقد عودنا أهل الأخبار على سماع مثل هذا القصص. ولك ما نستطيع أن نتصوره فيما لو صدقنا بالخبر، هو أن أولئك الأخوة قد قابلوا بعض موظفي الحدود وتصادقوا معهم وقدموا لهم بعض الهدايا، فصاروا يتساهلون معهم في جباية الأعشار وفي أخذ حقوق المرور، فشاع بين قومهم أنهم تعاقدوا مع أولئك الملوك.
والإيلاف، العهد والذمام وشبه الإجازة بالخفارة، من ألف بينهما تأليفًا، أوقع الألفة وجمع بينهما بعد تفرق ووصلهما، ومن ذلك المؤلفة قلوبهم، أمر النبي بتألفهم، أي بمقاربتهم وإعطائهم من الصدقات ليرغبوا من وراءهم في الإسلام، ولئلا تحملهم الحمية مع ضعف نياتهم على أن يكونوا مع الكفار على المسلمين1. وصار أهل مكة، بفضل الإيلاف، آمنين امتيارهم وتنقلاتهم شتاءً وصيفًا والناس يتخطفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم أحد. فالإيلاف العهود التي أخذتها قريش من سادات القبائل إذا خرجت في التجارات فتأمن بها2.
وقد عرف أصحاب الإيلاف، وهم الأخوة الأربعة أبناء عبد مناف بـ"المجيرين"، إذا كانوا يؤلفون الجوار يتبعون بعضه بعضًا، يجيرون قريشًا بميرهم ويجبرون فقيرهم، ولذلك قيل لهم "المجبرين".
وذكر أن كل واحد من الأخوة المذكورين أخذ حبلًا من ملك. فأما هاشم فإنه أخذ حبلًا من ملك الروم، وأما عبد شمس، فإنه أخذ حبلًا من النجاشي، وأما المطلب، فإنه أخذ حبلًا من أقيال حمير. وأما نوفل، فإنه أخذ حبلًا من
1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".
2 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".
كسرى، فكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هؤلاء1.
و"الحبل" العهد والذمة والإيمان، يقال كانت بينهم حبال فقطعوها، أي عهود وذمم. وذلك أن العرب كانت تخيف بعضها بعضًا فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا من سيد قبيلة فيأمن بذلك ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى أخرى فيأمن بذلك2. والحبل الحلف أيضًا والعصم3. فالحلف بمعنى العهد بين القوم والمعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. وقد كانت الأحلاف كما سبق أن تحدثت عنها من أهم سمات الجاهلية، وقد نهي عنها في الإسلام، لما كانت توقعه من أضرار في المجتمع بسبب التكتلات والتحزبات والعصبية التي تؤدي إلى القتال. فورد: لا حلف في الإسلام وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه الرسول:"وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام4.
وكانت للعرب تعابير ومصطلحات في إعطاء العهد والأمان، ومنها مصطلح:"لا بأس". والبأس العذاب والشدة والخوف، وإن قال الرجل لعدوه لا بأس عليك، فقد أمنه؛ لأنه نفى البأس عنه. وهو في لغة "حمير""لبات"5.
وبفضل اتباع سياسة تأليف قلوب القبائل، بإشراك ساداتها في تجارة قريش، أو إعطاء سادتها جعالة مرور، أو هدايا، أو بالتصاهر معها، أو بإكراء إبلها لنقل تجارة قريش، تمكنت قريش من تأليف قلوب سادات القبائل، فأمنت على نفسها، وصارت قوافلها تخرج في أي وقت شاءت من أوقات السنة في الشهور
1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".
2 تاج العروس "1/ 269 وما بعدها"، "حبل".
3 ابن سعد، الطبقات "1/ 75 وما بعدها"، المحبر "162"، الطبري "2/ 12"، Kister، P.126.
4 تاج العروس "6/ 75"، "حلف".
5 قال شاعرهم:
تنادوا عند غدرهم لبات
…
وقد بردت معاذر ذي رعين
تاج العروس "4/ 104"، "بؤس"، "1/ 580"، "لبت"، اللسان "6/ 20 وما بعدها"، "بؤس".
الحل أو في الشهور الحرم. لا تخشى بأسًا، حتى أنها صارت تعطي أمانها لغيرها، وبذلك ألفت القبائل الأخرى التي لم تكن لها عقود وإيلاف وحبال مع القبائل المحالفة لقريش، فصارت تحمل كتاب أمان قريش وشعارها، وهو ما عضد من شجر الحرم، يوضع حول العنق، على ما يزعمه أهل الأخبار، فيكون جواز سفر وكتاب مرور.
والإيلاف، أي عقد "الحبال" مع سادات القبائل، عمل مهم جدًّا بالنسبة لكل صاحب عمل وتاجر. إذ يتمكن التاجر به من حماية نفسه وماله ومن المرور بأمن وسلام، دون أن يتعرض لخطر النهب والسلب، وهو حتى إذا تعرض للخطر، فإن سيد القبيلة بنفوذه وبسيادته على قبيلته كفيل بأن يعيد إليه ما انتهب منه. ولهذه الأهمية، عقدت قريش الحبال مع سادات القبائل الذين تمر تجارة تجارها بأرضهم. عقدتها قريش، أو أمضاها تجار من تجارها، بما لهم من صداقة وصلات زواج وروابط بسادات القبائل. ولا سيما بسادات قبيائل المناطق التي تمر الطرق التجارية بأرضها، فلهذه القبائل بالذات أهمية كبيرة بالنسبة على كل تاجر، وللحكومات بصورة خاصة بالطبع، ولهذا تنافست على الاستحواذ عليها حكومات اليمن وحكومة الحيرة، والساسانيون. وقد رأينا "امرأ القيس" المتوفى سنة "238" للميلاد يصل بجيشه إلى "نجران" مدينة "شمر"، ورأينا في خبر سجل بالمسند وصول جيوش اليمن إلى أرض الخليج. فلهذه الأرضين، كاليمامة ونجد والبحرين أهمية كبيرة بالنسبة للتجارة في جزيرة العرب لمرور الطرق البرية التي تربط العربية الجنوبية بالعربية الشمالية وبالعراق وسواحل الخليج بها، ولمرور الطرق التي تربط العربية الغربية بالعربية الشرقية وبالعراق بأرضها، وقد رأينا كيف تعرضت قافلة "كسرى" التي قدمت من اليمن، قاصدة المدائن إلى السلب والنهب، وكيف تعرضت "لطيمة" النعمان إلى النهب في هذه الطرق.
ويذكر أهل الأخبار، أن تجار اليمن والحجاز، كانوا يتحفزون بقريش، إذا كانوا بأرض مضر. وأن قريشًا استفادوا من عقدهم الإيلاف مع تميم وأسد، و"بني عمرو بن مرثد" من "بني قيس بن ثعلبة"، ومع قبائل "ربيعة" عامة. و"مضر" و"ربيعة"، هي من قبائل نزار، و"قريش" نفسها من ولد "مضر بن نزار" في عرف النسابين، فإذا أخذنا بذلك علمًا، استطعنا القول إن هذا النسب، إنما هو مصالح تجارية وروابط سياسية مصلحية، جمعت
هذه القبائل في "بوتقة" مصالح مشتركة، فأوجدت منها هذا النسب الذي أفاد أهل مكة كما أفاد القبائل الأخرى المشتركة فيه، والتي كانت تتاجر في أسواق مشتركة فتبيع وتشتري وتنتفع بفضل هذا النسب السياسي.
وللنسب أهمية كبيرة في تأليف القبائل وفي المحافظة على الأمن في البوادي. والتصاهر هو من أهم الروابط التي كانت تربط بين القبائل وبين الأفراد. ومن هذه الأهمية ظهر التصاهر السياسي والتصاهر الاقتصادي، عند الملوك وعند سادات القبائل والأشراف، فصاهر رجال من قريش قومًا من "تميم" ومن "بني عامر بن صعصعة" ومن يثرب واليمن، وصاهر ملوك الحيرة سادات القبائل المعروفة، للاستفادة من المصاهرة لمآرب سياسية واقتصادية، بالحصول على تأييد قبائل أولئك السادة: ولمرور تجارتهم من أرضهم بأمن وسلام. وقد كانوا يعرفون كيف يختارون من يصاهرونه بالطبع، يختارونه لكثرة عدد أبناء قبيلته ولمنزلتها ولمكانتها بين القبائل، ليتخذوا منه قوة في تأديب القبائل الأخرى. وهو عمل لم يكن سادات القبائل في جهل من أسبابه، وفي غفلة عن إدراك كنهه، لذا كانوا يتاجرون به، كما تاجر به الملوك، أو سادات القبائل، فيشترطون فيه شروطًا فيها مكاسب ومنافع لهم. كأن يطعمهم الملوك "الطعم" ويعطونهم الآكال، ويجعلون لهم جباية الطرق، وبعض الامتيازات على القبائل الأخرى، ويجعلونهم على مقربة منهم في مجالسهم، ويقربونهم بذلك على غيرهم من السادات.
وقد كان لهذا التقديم الحضري أهمية كبيرة في نفوس القبائل، فهو عندهم أمارة من أمارات التشريف والتقدير. والأعرابي وإن ازدرى الحضر والحضارة، يقر مع ذلك في نفسه بتفوق الحضري عليه، إن لم يكن بالسلاح وبالقتال، فبالحيل والغش والخداع كما يرى الأعرابي ذلك، أي باستعمال الحضري ذكاءه المبني على التجارب والتقدم في مستوى الحياة في التغلب على الأعراب البسطاء الذين وإن كانوا أذكياء بالبديهة، لكن ذكاءهم لا يكافئ ذكاء الحضر في التخلص من المتاعب والورط المعقدة التي تحتاج إلى خداع.
وقد افتخر سادات القبائل الذين كان مستواهم العقلي فوق مستوى قبائلهم بكثير –بفضل اتصالهم بالحضر، وزياراتهم "الأرياف" وبيوت الملوك، بل البلاد الأعجمية المتقدمة أيضًا- بهذا التقديم، واعتبروه شرفًا وتعظيمًا، فأكثروا من زيارة الملوك، وانتهزوا المناسبات للاتصال بهم، وافتخروا بما كانوا ينالونه منهم