المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إلى أن صار الرعي، وأخذت القبائل تنتقل من مكان إلى - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٣

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث عشر

- ‌الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين

- ‌الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات

- ‌مدخل

- ‌التربة:

- ‌الفصل التسعون: الزرع

- ‌مدخل

- ‌الحصاد:

- ‌الفصل الحادي والتسعون: المحاصيل الزراعية

- ‌الحبوب:

- ‌القطنية:

- ‌الكمأ:

- ‌فصيلة اليقطين:

- ‌النبات الشائك:

- ‌الفصل الثاني والتسعون: الشجر

- ‌مدخل

- ‌الجوز:

- ‌اللوز:

- ‌الثمر:

- ‌الأشجار العادية:

- ‌جماعة الشجر:

- ‌الفحم وقطع الشجر:

- ‌آفات زراعية:

- ‌الأسوكة:

- ‌الفصل الثالث والتسعون: المراعي

- ‌مدخل

- ‌الحمض والخلة:

- ‌أصناف الرعاة:

- ‌الرعاة والحضارة:

- ‌الفصل الرابع والتسعون: الثروة الحيوانية

- ‌مدخل

- ‌الطيور:

- ‌تربية النحل:

- ‌الأسماك:

- ‌الفصل الخامس والتسعون: الأرض

- ‌مدخل

- ‌ظهور القرى:

- ‌عقود الوتف:

- ‌الإقطاع:

- ‌الحمى:

- ‌الموات:

- ‌إحياء الموات:

- ‌الماء والكلأ والنار:

- ‌الأرض ملك الآلهة:

- ‌الخليط:

- ‌الفصل السادس والتسعون: الإرواء

- ‌مدخل

- ‌انحباس المطر:

- ‌أنواع السقي:

- ‌المطر:

- ‌الاستفادة من مياه الأمطار:

- ‌الذهب:

- ‌الحياض:

- ‌الأنهار:

- ‌الحسي:

- ‌الآبار:

- ‌العيون:

- ‌الكراف:

- ‌القنى:

- ‌التلاع:

- ‌التحكم في الماء:

- ‌المسايل:

- ‌المصانع:

- ‌السكر:

- ‌الأحباس:

- ‌السدود:

- ‌سد مأرب:

- ‌توزيع الماء:

- ‌حقوق الري:

- ‌الخصومات بسبب الماء:

- ‌الفصل السابع والتسعون: معاملات زراعية

- ‌المحاقلة

- ‌المساقاة:

- ‌إكراء الأرض:

- ‌بيوع زراعية:

- ‌جمعيات زراعية:

- ‌الهروب من الأرض:

- ‌العمري والرقبى:

- ‌العرية:

- ‌الفصل الثامن والتسعون: الحياة الاقتصادية

- ‌مدخل

- ‌التجارة البرية:

- ‌قوافل سبأ:

- ‌الفصل التاسع والتسعون: ركوب البحر

- ‌الفصل المائة: التجارة البحرية

- ‌الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة

- ‌مدخل

- ‌السلع:

- ‌تجار يثرب:

- ‌فهرس الجزء الثالث عشر:

الفصل: إلى أن صار الرعي، وأخذت القبائل تنتقل من مكان إلى

إلى أن صار الرعي، وأخذت القبائل تنتقل من مكان إلى مكان، ففرض سادتها حق الحمى، وهو نوع من التملك المتولد من حق الاستيلاء بسبب الزعامة والقوة والاغتصاب، فصار الحمى ملكًا لسادات القبائل، وصارت الأرض المتبقية التي دخلت في حوزة القبيلة بسبب بسطها سلطانها عليها، ملكًا لها. ملكًا مشاعًا بين جميع أبناء القبيلة، ليس لأحد صد أحد من أبناء قبيلته عن ارتياد أرضها، إلا بقانون القوة والعزة والتجبر، أو بفرض سلطانه على الأرض باستنباط مائها، وهو حق لا يعمل به إلا القوي المتمكن.

ومن هذا الإحياء للأرض الموات تكونت بعض المستوطنات في البوادي، جلب ظهور الماء فيها الناس إليها، فسكنوا حولها، وجاءوا من أطرافها للاستقاء من مائها، وشجع العثور عليه في هذا الموضع المتمكنين الآخرين على الحفر أيضًا، فكان إذا ظهر ماء عذب، جذب الناس إليه، وسحرهم بسحره، وأناخهم حوله، فتوسعت بذلك تلك المستوطنات، وتعددت، وظهرت فيها الملكية الفردية، والحياة الحضرية القائمة على الحيازة والتملك الفردي، بصورة أوسع مما نجدها عند البدوي الاعتيادي الذي لا يملك إلا بيته، وهو خيمته وأهله، وما قد يكون عنده من الإبل.

ص: 131

‌ظهور القرى:

وصار بعض هذه المستوطنات قرى، توسع قسم منها حتى صار بمنزلة المدن، منها ما كان يضاهي "يثرب" أو مكة في الحجم، غير أنه لم يشتهر ولم يذكر، لعدم وجود تماس له وصلة مباشرة بتأريخ الإسلام. وهي مستوطنات سكن وماء وأسواق وتجارة، ذكرها أهل الأخبار بقولهم:"قرية كانت عظيمة الشأن" وبقولهم: "قرى". وصار بعض منها "قرى وزروع ونخيل"1، أي قرى غلبت الزراعة على أهلها. فظهرت الزراعة بها. زراعة نخيل، إن كانت زراعة النخيل هي الزراعة المتغلبة عليها. وزراعة نخيل وزروع أخرى، إن شاركت

1 الصفة "147"، "حائط بني غير: قرية عظيمة بها سوق. وكذلك جماز قرية عظيمة أيضًا"، الصفة "142".

ص: 131

الزروع الأخرى النخيل في ذلك. وهذا هو سبب نص "الهمداني" وأمثاله ممن كتب عن مواضع جزيرة العرب، على القرى، بأنها قرى، أو قرى سكن، أو قرى نخيل1. أو قرى زراعة ونخيل، أو نخل وقرية2.

وأما القرى التي غلب التعدين عليها، فقد نص عليها بأنها "معدن"، لتمييزها عن القرى الأخرى3.

وهكذا ظهرت في البوادي مستوطنات زراعية رعوية، كفت نفسها بنفسها، توقف حجمها على كمية الماء فيها، وتوقف إنتاجها على مقداره وكميته، وظهرت فيها نتيجة لذلك الملكية الفردية، تملك المقيم فيها الأرض التي استقر بها وبنى بيته عليها، وتملك زرعه وحاصله إن كان له زرع، وتملك ماشيته إن كان صاحب ماشية. وتولد نتيجة لكل ذلك مجتمع مستقر، تعاون فيما بينه في الدفاع عن نفسه وعن ماله، وفي جلب السلع التي يحتاج إليها الإنسان والميرة، وتولد فيها تعامل وبيع وشراء، توقف حجمه بالطبع على حجم ذلك المكان وعلى مقدار وجود الماء به.

فالبحث عن الماء والحصول عليه بالمال وبالخدم والعبيد، كون الملكيات الفردية في البوادي بين الأعراب، وأوجد المستوطنات الحضرية والمستقرات، وصير من بعض البدو حضرًا أو أشباه حضر، وغير بعض التغيير من معاييرهم ومقاييسهم الاجتماعية، بجعلهم زراعًا وفلاحين، بعد كره واستهجان للمزارع وللزراعة. وهذه المستوطنات هي مستوطنات نشأت وظهرت بجهد الإنسان وبعمله وجده، وباستثمار عقله وماله وفي تسخير أتباعه في استنباط الماء، وتحويل الأرض البكر إلى أرض زراعة وسكن، وفي جزيرة العرب مستوطنات عديدة من هذا القبيل، ومعظم مستوطنات يثرب، هي من هذا النوع، مستوطنات قامت على الآبار التي احتفرها المتمكنون من أهلها، فزرعوها وأقاموا الأطم بها لحماية الزرع والناس من الأخطار. والأطم القصور، وكل حصن بني بالحجارة أطم. وقيل هو

1 "وفي ثنية الحفير نخل"، الصفة "148"، "روضة الحازمي، وبها النخيل وحصن منيع"، الصفة "142".

2 "والعذيب نخل وقرية"، الصفة "149".

3 "وقرية عظيمة يقال لها: العوسجة. وهي معدن. وكذلك شمام: معدن

"، الصفة "149".

ص: 132

كل بيت مربع مسطح. وقد اشتهرت يثرب بآطامها. وذكر "الأعشى" آطام جو بقوله:

فلما أتت آطام جو وأهله

أنيخت فألقت رحلها بفنائكا1

وأقيمت الحصون لحماية هذه المستوطنات، واتخذت وسائل التحصن الأخرى لحماية النفس والزرع من الأعراب الجياع. ولا تزال في اليمامة آثار حصون وآطام عادية، تعود إلى ما قبل الإسلام بأمد، وكانت حماية ومنعة للساكنين حولها، وتشاهد آثار السكن في أطرافها، وآثار آبار مندرسة، وآثار زرع، هي مزارع القوم. فنجد في الإفلاج حصونًا، ونجد في "ملهم" حصونًا كان يتحصن بها "بنو يشكر"، ونجد في أرضين أخرى حصونًا بنيت كلها لدرء النفس من الأخطار2. واليمامة حصون متفرقة ونخل ورياض، وفيها بتل، والبتيل، هن مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين، ويرجع أهل الأخبار زمانها إلى "طسم" و"جديس"، وذكروا أن طول بعضها خمسمائة ذراع3.

وقد أشار أهل الأخبار إلى قرى ومستوطنات قديمة في مواضع متعددة من جزيرة العرب، نسبوها إلى "عاد" وإلى "طسم" و"جديس" لبعض منها حصون وآبار. فالقرية، موضع قديم به ماء عادي، أي ماء قديم، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في الصخر4. والقصر العادي بالأثل من عهد طسم وجديس5، و"القرية": القرية الخضراء، خضراء حجر، هي حضور لطسم وجديس، وفيها حصونهم وبتلهم. والبتيل: هن مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين. بناء بعضه مائتا ذراع أو خمسمائة ذراع مرتفعًا سامقًا في السماء6. وبقرية بني سدوس، قصر مبني بصخر منحوت، نسبه أهل الأخبار إلى "سليمان بن

1 تاج العروس "8/ 187"، "أطم".

2 العقد الفريد "5/ 190"، البلدان "2/ 537".

3 الصفة "140 وما بعدها".

4 الصفة "152".

5 الصفة "160".

6 الصفة "141".

ص: 133

داوود"1. و"تر" نخيل وحصون عادية وغير عادية2.

إلى غير ذلك من قرى وقصور وحصون قديمة ذكرها أهل الأخبار، أشرت إلى بعض منها في مواضع من هذا الكتاب، نشأت ونبتت في البوادي، في المواضع التي أمكن للإنسان بفنه البدائي وبعلمه في ذلك الوقت من استنباط الماء فيها. وبظهور ذلك الماء نبتت مستوطنات وزروع ونخيل وملكيات في أرض كانت ميتة ليس لها مالك، فأحياها استنباط الماء منها، وجعلها ملكًا لأصحاب الماء.

وقد كانت هذه الآطام والحصون معاقل لأصحاب الأرض ومنازل لهم، ومخازن يخزنون بها حاصل أرضهم وماشيتهم عند دنو الخطر، وقد يحتمي بها عبيدهم وأتباعهم، فهي مثل قلاع الأشراف النبلاء في أوروبة أيام الإقطاع، ومثل المحافد والقصور في اليمن. وهي تختلف في الحجم والسعة باختلاف درجة ومنزلة المالك للأرض، من حيث تملكه للمال وللخدم والعبيد وما عنده من ثراء، وقد صارت سببًا في تحويل أصحابها إلى حضر أو شبه حضر، ولو أنهم كانوا وسط بواد وبين أعراب، فإقامتهم في أبنية مستقرة وحرثهم الأرض وزرعها، واستخدامهم للعبيد في الفلاحة، طورتهم بعض التطوير، حتى صاروا على شاكلة الحضر، يتركون منازلهم لزيارة القرى والأرياف، ويتصلون بالحضر وقد يقيمون بينهم على نحو ما يفعله كثير من سادات "شيوخ" القبائل في الوقت الحاضر، وكان جل سادات القبائل الكبار من أصحاب الأبنية الثابتة، لهم منازلهم ومزارعهم وأعرابهم الذين لم تمكنهم أحوالهم المادية من تملك الأرض والزرع، فاشتغلوا برعي الإبل.

وقد تتعرض مزارع هذه المستوطنات إلى الأخطار مع وجود الحصون وأبنية الحماية الأخرى، فالمزارع الكبيرة لا يمكن حمايتها إلا إذا حميت بحصون عديدة من جميع جهاتها، وحمايتها على هذا النحو عمل مكلف باهظ، لذلك كان المهاجم يهاجم الزرع ليحرق قلوب أصحاب المتحصنين في الحصن، فلما هاجم "بنو يربوع""بني يشكر"، تحصن "بنو يشكر" بحصنهم بقرية "ملهم"،

1 الصفة "141".

2 الصفة "141".

ص: 134

فأحرق "بنو يربوع" بعض زرعهم، وعقروا بعض نخلهم، فلما رأى القوم ذلك نزلوا إليهم فقاتلوهم1.

وقد اتخذ المزارعون ملاجئ لهم عند أماكن زرعهم يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس ومن المطر والعواصف، وكانوا يسكنون بها، كانت هذه سنتهم في الجاهلية وفي الإسلام. وقد ذكر مؤلف "بلاد العرب" أن بروضة السويس قبتين مبنيتين يسكنها الزارعون2.

وقد أولد هذا المجتمع تباينًا في منازل الناس، جعل من أصحاب الأرض الكبيرة ملاكًا كبارًا لهم أطم وحصون، يأوون إليها، ولهم خدم يخدمونهم ويخدمون زرعهم وماشيتهم، هم العنصر المنتج، والآلة التي تساعد على الإنتاج وعلى تكثيره، وعلى تزييد أموال الملاك، أما هم أنفسهم فمجرد خدم ورقيق، خلقوا لخدمة سادتهم ووجدوا لرعاية أموالهم والعناية بزرعهم وتكثير رزقهم. وإلى جانب هؤلاء الناس أحرار، كان في رزقهم شح، وفي حياتهم عسر، وقوتهم قليل، قاموا بمختلف الأعمال والحرف لإعالة أنفسهم وسد رمقهم.

وقد تمكنت بعض هذه المستوطنات من إنتاج حاصل زراعي سد حاجة أهل المستوطنة، ومن بيع الفائض منه إلى الأعراب. وبينها مستوطنات زرعت الحبوب، مثل الحنطة وصدرتها إلى أماكن أخرى. فقد ذكر أن قرى اليمامة كانت تمون مكة بالحب، وتمون الأعراب بالتمور. وما هذه القرى سوى مستوطنات، ظهرت في البوادي بسبب وجود الماء فيها، وبسبب استنباطه من الأرض بحفر الآبار، فنمت وتوسعت، لاتساع صدر الماء بها، ولتفضل الأرض على من نزل بها بإعطائهم ماءً كافيًا، كفاية تساعد على توسع المستوطنة، فيما لو عمل النازلون بها على استنباطه من باطنها، واستعملوا عقولهم وأيديهم في استغلال التربة للحصول على موارد الرزق منها.

وتحدد الأرض المملوكة بحدود، وقد توضع على أطرافها علامات، لتكون حدودها معلومة، فلا يتجاوز عليها. ويقال للحد بين الدارين، أو بين الأرضين "الجماد"، وقد أشير إلى "الجوامد"، أي الحدود في الحديث. ورد: إذا

1 النويري، نهاية الأرب "15/ 385"، "يوم الحائر وهو يوم ملهم".

2 بلاد العرب "304".

ص: 135

وقعت الجوامد فلا شفعة في الحدود1.

والأرض عامر أو غامر، والعامر المأهول والمزروع والمستغل، والغامر خلاف العامر، وهو الخراب. وقد قسم "عمر" السواد إلى عامر وغامر، أي عامر وخراب. والغامر الأرض ما لم تستخرج حتى تصلح للزراعة والغرس، وقيل: هو ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة، وإنما قيل له غامر؛ لأن الماء يبلغه فيغمره2 ويقال للأرض العامرة:"السوداء"، وأرض سوداء، أرض مغروسة، والأرض في عرف العرب إذا غرست اسودت واخضرت، و"البيضاء" الخراب من الأرض؛ لأن الموات من الأرض يكون أبيض3.

والبور: الأرض قبل أن تصلح للزرع، وقيل: هي الأرض التي لم تزرع، أو الأرض كلها قبل أن تستخرج حتى تصلح للزرع أو الغرس، وفي كتاب النبي لأكيدر دومة: ولكم البور والمعامى وأغفال الأرض، فالبور الأرض الخراب التي لم تزرع، أو هي التي تجم سنة لتزرع من قابل4. وذكر أن المعامي الأعلام من الأرض ما لا حد له. والأغفال ما لا يقال على حده من الأرض5. والمعامى على حد قول بعض العلماء: أغفال الأرض التي لا عمارة بها، أو لا أثر للعمارة بها6. والغفل: ما لا عمارة فيه من الأرضين، وقيل الموات، وأرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة، وأرض سبسب ميتة لا علامة فيها، وكل ما لا علامة فيه ولا أثر عمارة من الأرضين والطرق ونحوها غفل، وبلاد أغفال لا أعلام فيها يهتدى بها7. وقد ورد في كتاب الرسول إلى الأكيدر:"أن له الضاحية والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور"8.

1 تاج العروس "2/ 325"، "جمد".

2 تاج العروس "3/ 454"، "غمر".

3 تاج العروس "5/ 10"، "بيض".

4 تاج العروس "3/ 60"، "بدر".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 289".

6 تاج العروس "10/ 255، "عمى".

7 تاج العروس "8/ 47"، "غفل".

8 ابن سعد، طبقات "1/ 288 وما بعدها".

ص: 136

والضاحية ما كان خارج السور من النخل، والضاحية البادية، وضواحي قريش النازلون بظواهر مكة1.

والعامر، إما ملك للحكومة، وإما ملك للملوك ولذويهم، وإما ملك للمعبد، أي أوقاف حبست على المعابد، وإما ملك لأسر وأفراد، وذلك بالنسبة للحضر، وفي العربية الجنوبية بصورة خاصة. وأما بالنسبة إلى الأعراب، سكنة البوادي، فأرض القبيلة –كما سبق أن قلت- ملك لها، إلا ما حمى منها، فهو من حق أصحاب الإحماء. فالأرض إذن مشاعة بين أبناء القبيلة، ويدخل في ذلك الماء والكلأ.

وقد عبر في أحد النصوص عن الأرض التي آلت إلى صاحبها بطريق التملك بـ"مقبلت قنيو"، أي الأرض التي أقبلت إلى الشخص بطريق الملكية2. ومعناها الأرض المقتناة أي الملك. وهي أرض ملكها صاحبها إرثًا من أهله. وذلك تمييزًا لها عن الأرض التي يتملكها صاحبها شراء، وقد عبر عنها بـ"شامتهو"، أي الأرض المشتراة3.

وتعد كل الأرضين التي لا تملكها الجهات المذكورة ملكًا للدولة. ورقبتها بيد الحكومة، وتسجل باسم الشعب الحاكم. فإذا كانت الحكومة حكومة معين، تسجل الأرض باسم شعب معين، وإذا كانت الأرض في سبأ، تسجل باسم شعب سبأ، وقد توسعت رقعة الأرضين الحكومية بالفتوحات الواسعة التي تمت في عهد الملك "كرب ايل وتر"، وفي عهود الملوك المحاربين مثل "شمر يهرعش" الذين إذا انتصروا على خصومهم جعلوا أرضهم وما يملكونه غنيمة لحكومتهم، تابعة لبيت المال. وذلك على نحو ما فعله المسلمون في الفتوحات من تسجيلهم الأرضين التي فتحوها باسم "بيت مال المسلمين".

وقد تؤجر أرض التاج للقبائل والعشائر بعقد يتفق عليه، تذكر فيه شروطه في الوثائق التي تدون لهذه الغاية، ويتم الدفع بموجبها، فيكون إما عينًا، وإما نقدًا. وقد يقوم سادات القبائل باستغلال الأرضين المؤجرة على حسابهم، وقد

1 تاج العروس "10/ 218"، "ضحو".

2 Rep. Epigr. 2876، Tome، V، P.209.

3 الفقرة الثالثة من النص المذكور.

ص: 137

يؤجرونها أو يؤجرون أجزاءً منها إلى حاشيتهم أو أتباعهم في مقابل جعل يدفع لهم. فيكون دخلهم من هذه الأرض المؤجرة من العوائد التي اتفقوا على استحصالها من المستأجرين الثانويين ومن صغار الفلاحين.

وقد كان الفلاح مغبونًا في الأكثر؛ لأنه بحكم فقره واضطراره إلى استئجار الأرض بشروط صعبة في الغالب، مضطر إلى الاستدانة في أغلب الأحيان، لضمان معيشته في مقابل تعهده بدفع ما استدانه في آخر موسم الحصاد وقطف الثمر فإذا حل الأجل، اضطر إلى دفع ديونه وما ترتب عليها من ربا فاحش، وما عليه من حق للحكومة ولصاحب الأرض، فلا يتبقى لديه ما يكفيه في عامه الجديد، فيضطر إلى تجديد الاستدانة، والغالب أن أصحاب الأرض هم الذين يقومون بتقديم الديون إلى الفلاحين، لربطهم طول حياتهم بالأرض، فلا يتمكن الفلاح من الهروب منها بسبب ثقل ما عليه من الديون، ووجوب دفعها مع فائضها كاملة إنْ أراد تركها، وهو حل لا يتمكن من تنفيذه، فيظل لذلك مرتبطًا مع عائلته بأرض المالك صاحب الديون.

وكانت حكومة سبأ تستغل أرضها الخاضعة للخزينة العامة، أي "أرض السلطان"، إما بإدارتها نفسها وباستغلالها بتشغيل المزارعين بها على حساب الدولة، وإما ببيعها، وإما بتأجيرها في مقابل "أجر" يقال له "اثوبت" في لغتهم1.

وامتلكت المعابد أرضين واسعة شاسعة، استغلتها باسم الآلهة، ودرت عليهم أرباحًا كثيرة. وهي أرضين سجلت باسمها منذ نشأت المعابد وظهرت، فارتبطت بها، وصارت وقفًا عليها. منها ما سجل في عهد "المكربين" أي حكومات رجال الدين في العربية الجنوبية، يوم كان "المكرب" هو رجل الدين والحاكم الدنيوي، فكانت نظرتهم أن الأرض وما عليها ملك للآلهة، ورجال الدين الحكام هم خلفاء الآلهة على الأرض، وهم وحدهم لهم حق الحكم والفصل بين البشر، وما يقرونه حق، وما يخالفونه ويحرمونه فهو باطل. وهم الذين يفصلون بين الحرام وبين الحلال، ويقررون ما يوافق حكم الآلهة وما يخالفه. فهم حكام الشرع والقانون.

1 Glaser 904، Haevy 51، 1571، Handbudh، I، S. 137. Rhodokanakis، Katab. Texte، I، S. 70.

ص: 138

وكانت للمعابد الأخرى أحباس خصصت بها، وحميت للمعبد ولما ينذر له ويحبس عليه من حيوان يرعى فيه، فلا يتطاول عليه أحد، وقد سبق أن تحدثت عن حرم "العزى"، وهو شعب حمته قريش للصنم، يقال له "سقام" في وادي حراض، وقد كان حرمًا آمنًا، لا يجوز قطع شجره ولا الاعتداء على ما يكون فيه من إنسان وحيوان1. وهو قرب مكة بين "المشاش" و"الغمير" فوق ذات عرق، إلى البستان، وقيل بالنخلة الشامية2. كما كان للبيت الحرام، حرم واسع به شجر وزرع، سبق أن تحدثت عنه.

وقد وجدت في بعض المناطق، مثل أرض قبيلة "بكل""بكيل"، أملاك واسعة حبست على "المقه"، كانت تديرها وتتصرف بها عشيرة "مرثد"، ووجدت أرضون واسعة في مناطق أخرى، جعلت المعبد من أكبر ملاك الأرض. وقد استغل المعبد بنفسه بعض أملاكه، وأجر بعضًا آخر للأسر المتنفذة ولسادات القبائل، بموجب اتفاقات دونت وحفظت في خزائن المعابد. وقد كان المتنفذون قد استولوا على بعض حبوس المعابد، واستغلوها، ولما كانوا أقوياء، والأوقاف في مناطق نفوذهم، ولا يمكن للمعبد أن ينتزعها منهم، اضطر إلى تأجيرها لهم ببدل إيجار رمزي، ليحافظ بذلك على اسم وقفه، فلا يستبد أولئك السادة به، ويسجلونه ملكًا باسمه. فصارت هذه الأملاك من أملاك المعبد بالاسم، ومن أملاك الملاك الأقوياء بالفعل.

ولا نجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود حبوس كبيرة وكثيرة، على المعابد في العربية الغربية أو العربية الوسطى أو العربية الشرقية، على نحو ما وجدناه في اليمن، ويعود سبب ذلك في رأيي إلى صغر مساحات الأرضين الخصبة المزروعة في هذه الأقسام، وإلى قلة الماء فيها، مما جعل من الصعب على الناس التخلي عن أرضين كبيرة للمعبد. بل ترينا أخبارهم أن أهل هذه المناطق كانوا لا يتأثمون أحيانًا من التطاول على "حرم" المعابد، فكانوا يقطعون شجره ويستقطعون قطعًا من أرضه لاتخاذها منازل لهم كالذي حدث لـ"حرم" بيت الله.

وقد كان الملوك وكبار الملاك يقطعون أرضهم إقطاعات لاستغلالها. ويعبر عن

1 البلدان "5/ 91"، "6/ 166".

2 تاج العروس "5/ 19"، "حرض".

ص: 139

ذلك بلفظة "بضع" في المسند، أي القطعة. وقد يراد بها الأرض المعطاة لجماعة لاستغلالها في الزراعة1.

وفي أواخر عصور الملكية في سبأ، نجد طبقة الأشراف وسادات "الأعراب""أعربم" والقبائل وقد ازداد نفوذها وقوي سلطانها، فنازعت الملك على صلاحياته في بعض الأحيان. وصار لرؤساء القبائل نفوذ قوي في المملكة، حتى قلصت حكم الـ"مزود" واستأثرت بالأرض، واحتكرتها، فاضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أولئك الرؤساء في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والمبالغ التي يجب على رئيس القبيلة أن يقدمها إلى الملك في مقابل استغلاله للأرض، ويقوم الرئيس بإيجار أرضه لأتباعه المتنفذين في القبيلة أو لأفراد قبيلته الاعتياديين، يتقاضى على ذلك أجرًا يتفق عليه، باهظًا مرهقًا للفلاح المسكين الذي لا يملك في العادة أرضًا، فتحولت العربية الجنوبية بذلك إلى دولة إقطاعية، أرباحها وحاصلها وناتجها وقف وإقطاع لطبقات معينة متنفذة.

وفي جملة تلك الواجبات تقديم عدد يتفق عليه من أتباع من حصل على أرض حكومية للقيام بالخدمات العسكرية، ووجوب الدفاع عن الحكومة عند ظهور خطر عليها. فيقوم المقتطع للأرض بإرسال رجاله على حسابه للدفاع عن الملك. وبذلك صارت جيوش الملك مؤلفة من جنود مرتزقة وجنود أرسلوا إلى القتال إرسالًا بأمر سادتهم تنفيذًا لالتزاماتهم التي ألزموا أنفسهم بها مع الملوك.

ويمكن حصر الأشخاص الذين تمتعوا بنعم الإقطاع وامتيازاته بالملوك وبذويهم، والملك هو الراعي الشرعي للحق العام، وهو الناظر والوصي لأرض الدولة، وهو بهذه الصفة يصطفي لنفسه ولأولاده ولأهله خيرة الأرضين، ثم يليه من بعده رجال الدين الناطقون باسم الآلهة، وهم في نظر الشرع، أي الدين أصحاب الأرض؛ لأن الأرض ملك الآلهة. ثم يليهم قادة الجيش وصفوة الملوك وكبار الحكام، والسادات. سادات الحضر وسادات القبائل. أما السواد، وهم غالبية الناس، فليس منهم من يملك إلا المساحات الصغيرة من الأرض، وإلا البيوت، وأغلب الباقين عالة على غيرهم، يتعيشون باستعمال أيديهم في كسب قوتهم.

1 راجع الفقرة الثانية من النص:

Glaser 1000، A، B، 1693، Rhodokanakis، Kataba. Texte، Ii، S. 41.

ص: 140

وقد يؤجر سيد القبيلة أو سادات الأرض ما استحوذوا عليه من الحكومة من أرضين إلى أناس غرباء أجراء أم إلى قبائل أخرى، في مقابل شروط يعينها، فيستغلون الأرض بموجبها، ويكونون عندئذ في حمايته وفي رحمته ورعايته، فيعاملون عندئذ وكأنهم فرع من فروع قبيلة صاحب الأرض. وإذا استمر العقد، فقد يدمجهم الزمن في قبيلة سيد الأرض فيعدون منها، وينسبون إليها، مع أنهم غرباء عنها. ومن هنا نرى أن القبائل في العربية الجنوبية، لم تكن على نحو ما نفهمه من معنى القبيلة، من أنها بنوا أب واحد، وأصحاب نسب واحد يصعد حتى يتصل بجد، بل قد تكون من قبائل وعشائر مختلفة ومن جماعات عمل، تمثل مختلف الحرف، انضمت إلى قبيلة كبيرة1، أو إلى ملاك كبير، للعمل في أرضه أو لأداء خدمات له، فلما طال بها المقام اندمجت في القبيلة الكبيرة، أو في قبيلة الملاك الكبير، فعدت منها، أو في آل وأتباع صاحب الأرض، فعدوا من أتباعه، ونسبوا إليه، حتى إذا طال الزمن وتقادم العهد، صار ذلك الرئيس جدًّا لهم، وعد نسبهم منه.

ولما ظهر الإسلام. كان الأقيال وسادات القبائل قد استبدوا بالأمر وتحكموا في رقاب الأرض، وأقطعوها فيما بينهم. ولقب بعضهم كما سبق أن تحدثت عن ذلك أنفسهم بألقاب الملوك. ومن هؤلاء "بنو وليعة" ملوك حضرموت:"حمدة"، و"مخوس"، و"مشرح"، و"أبضعة"2. و"الحارث بن عبد كلال"، و"نعيم بن عبد كلال"، و"النعمان" قيل ذي دعين "ذي يزن" ومعافر وهمدان3 وشريح بن عبد كلال، وزرعة ذي رعين4. و"جيفر بن الجلندي" و"عبد بن الجلندي" وهما من الأزد. وكان "جيفر"، يلقب نفسه بلقب ملك عمان5. و"ذو الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع"، و"ذو عمرو"6، و"معدي كرب بن أبرهة" صاحب

1 J. Rychmans، L’institution Monarchique، P.178.

2 ابن سعد، طبقات "1/ 349".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 356".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 264 وما بعدها".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 262".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

ص: 141

خولان1. و"ربيعة بن ذي مرحب" الحضرمي، وآل ذي مرحب، وكانوا يملكون الأموال والنحل والرقيق والآبار والمياه والسواقي والشراجع بحضر موت2. و"وائل بن حجر"، من كندة حضرموت، وكان يملك الأرضين والحصون والأودية، وكان "الأشعث" وغيره من كندة ينازعونه في واد3.

ويقال لتقديم الفلاح أو المستأجر لأرض ما، ما عليه من حقوق تجاه الحكومة، التي استأجر الأرض منها، أو صاحب الملك، الذي استأجر أرضه لزراعتها، "دعتم""دعت"4، أي "غلة"، تسلم إلى وكلاء الحكومة أو صاحب الأرض عن حقهم المتفق عليه.

وتعرف الأرضون الحكومية التي تعطى باللزمة والإجارة لمن لا يملكها بـ"مقبلت" و"قبلت"، و"مقبل"، ومن أصل "قبل"5. تعطى في مقابل تعهد يتعهد الملتزم والمؤجر بدفع مبلغ معين أو حصة معينة إلى الملك أو ممثليه من الموظفين أو أصحاب الأرض، وذلك في مقابل استغلاله للأرض. وقد تدون شروط الاتفاق وتثبت ليرجع إليها إذا حدث اختلاف.

وقد صالح الرسول أهل خيبر، على حقن دمائهم، وعلى أن يقوموا على النخل والزرع؛ لأن لهم علمًا بإصلاح الأرض وخدمة الزرع، ولم يكن لرسول الله وأصحابه غلمان يقومون بذلك، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما6. فبقوا يستغلونها على نصف ما خرج منها، فكان "الخارص" يأتي إليهم عند الموسم يخرص ما يخرج منها، فيأخذ النصف، ويترك النصف الآخر لليهود7. وصالح الرسول أهل "فدك" على نصف الأرض بتربتها، وعلى نصف النخل8.

1 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 287".

4 Handbuch، I، S. 137.

5 Rep. Epigr. 2876، Tome، V، P.209.

6 البلاذري، فتوح "37".

7 البلاذري، فتوح "39 وما بعدها".

8 البلاذري، فتوح "42 وما بعدها".

ص: 142