الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس والتسعون: الإرواء
مدخل
…
الفصل السادس والتسعون: الإرواء
تعطي الديانات السامية الماء أهمية كبيرة. وقد أثابت الأشخاص الذين يتقربون إلى آلهتهم بتقديم الماء إلى العطاشى، وفرضت عليهم تقديم الماء إلى العطشان لإغاثته وإنقاذه من الهلاك. وفي الأسفار القديمة أمثلة عديدة على ذلك، كما أشادت تلك الأديان بقيمة الماء في الحياة.
ولا بد أن تكون للوثنية العربية النظرة ذاتها التي نراها في الأديان الأخرى بالنسبة إلى الماء، بأن أعطته شيئًا من التقديس والأهمية، وجعلت له مكانة في عقائدها، وذلك قياسًا على ما قلته من تقديس الأديان الأخرى له. وإن كنا نجهل ذلك لعدم ورود شيء عن ذلك في المسند. ولكن عدم ورود شيء من ذلك في المسند لا يكون دليلًا على عدم تقديس العرب الجاهليين له؛ لأن نصوص المسند لم تختم بعد، وما وصل إلينا ليس إلا شيئًا قليلًا بالنسبة إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل ولا شك.
وفي الأخبار المروية عن الجاهليين وغيرهم من تقديس بعض الآبار والعيون، والتبرك بشرب الماء منها، دليل على نظرة التقديس التي نظرتها الشعوب السامية وغيرها إلى الماء. فالماء هو الحياة. وفي القرآن الكريم:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1. ولا بد أن تكون هذه النظرة التقديسية هي التي حملت الجاهليين
1 الأنبياء، الرقم 21، الآية 30.
على تقديس بئر زمزم. ولا يقدر أهمية البئر حق قدرها إلا قطان هذا البلد الكائن في واد غير ذي زرع وماء، ولولا زمزم والآبار الأخرى التي احتفرها أهله، والآبار والعيون الواقعة في أطرافه، يحملون منها الماء إلى بلدهم حملًا، لهلك أهله، أو هجروه. ولا يدرك المرء قيمة الماء إلا إذا كان في صحراء فقرة لا ماء فيها ثم نفد ماؤه. ولهذا كان الغيث رحمة عظمى للأعراب، يغيثهم بعد أن يتعرضوا للجدب والهلاك.
ولا غرابة بعد ذلك، إذا رأينا العرب تقول في دعائها على الإنسان: ما له أحر الله صدره، أي أعطشه. وفي الدعاء: سلط الله عليه الحرة تحت القرة! يريد العطش مع البرد، ورماه الله بالحرة والقرة، أي بالعطش والبرد. وقالوا: أحر الرجل، فهو محر: عطشت إبله1. وأي شيء أعظم مصيبة وخطرًا على الإنسان من العطش في أرض حارة!
وتعد بقاع جزيرة العرب من الأرضين الجافة، فالأمطار فيها، ولا سيما أقسامها البعيدة عن البحر شحيحة، والأنهار الكبيرة معدومة فيها، والعيون قليلة أيضًا، وجوها جاف لا نكاد نستثني منها إلى سواحلها، وهذا لجفاف صير القسم الأكبر من أرضها صحاري قاحلة تكسوها طبقة غليظة من الرمال في بعض الأماكن مثل الربع الخالي، كما جعلها غير قابلة للزرع. على أن من الممكن أن تبعث الحياة في مناطق واسعة شاسعة من هذه الأرضين، فتجعل أرضين منتجة مخصبة نافعة، إذا اتبعت الأساليب العلمية في معالجة الأرض، وفي استنباط الماء، وفي السيطرة على الأمطار والسيول التي تنشأ منها في بعض الأحيان وتغور في الرمال دون أن يستفاد منها، بإقامة السدود والحياض الصناعية التي تخزن فيها إلى وقت الحاجة، وذلك كما فعل الجاهليون في بعض الأماكن، وخاصة في العربية الجنوبية، من إقامة سدود تحجز السيول وتحبسها، فإذا انقطعت الأمطار وحل الجفاف استفيد منها في الإرواء.
ونجد في بطون الكتب أسماء مواضع عديدة كبيرة كانت ذات عيون ومياه وآبار ونخيل وأناس عند ظهور الإسلام2. وهي اليوم صحاري خالية أو مواضع صغيرة لا أهمية لها. وذلك بسبب إهمال الإنسان لها واعتدائه عليها، وتحول
1 اللسان "4/ 178 وما بعدها". "حرر".
2 ابن المجاور "1/ 9، 16 وما بعدها، 132".
الطرق التجارية عنها. ويظهر أن لاشتراك القبائل في الفتوح، ونزولها في العراق وفي بلاد الشأم والأماكن الغنية الأخرى بعد دخول هذه الأماكن في الإسلام أثرًا في هجرة الناس عن مواضع العيون والآبار في الحجاز وفي بقية جزيرة العرب، لقلة خيراتها وحاصلاتها وعدم تعلق الفلاح بالأرض في تلك الأماكن. أما في الوطن الجديد الذي حمله الفتح إليه، فقد وجد فيه خيرًا كثيرًا وأرضًا وماءً وجوًّا ألطف وأرق من الجو الذي كان يعيش فيه، وبذلك خسرت جزيرة العرب عددًا كبيرًا من سكانها، ممن فضل الهجرة على القعود.
ومن يقرأ كتاب "صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز" وكتبًا أخرى من هذا القبيل، يعجب من التدهور الذي أصاب الزراعة في جزيرة العرب بعد الإسلام، إذ يجد أسماء مواضع عديدة كانت تكفي نفسها، أو تصدر الحاصل الزراعي إلى الأسواق المجاورة، ثم قل حاصلها كثيرًا بإهمال الزراعة. وإعراض الناس عنها، حتى بعض النواحي القريبة من مكة والمجاورة لها، كانت مشهورة بالخضر والفواكه والأزهار والرياحين، ثم فقدت شهرتها من بعد. وذكر "ابن المجاور" أن موضع "الزهران" كان معروفًا بزراعة "الزعفران"، وكان الموظفون يجبون جباية لا بأس بها منه ومن الزرع والضرع وسقي الأنهار. "فلما دار الدهر، نقص جميع ما ذكرناه، لاختلاف النيات مع قلة الأمانات"1. وفي هذا الكتاب أمثلة عديدة على هذا التدهور المؤسف الذي حل بالزرع وبالماء وبالأيدي العاملة المشتغلة بإصلاح الأرض، والذي كان من جملة أسبابه ما قلته من هجرة المتمولين والمثرين والسادة الكبار من الحجاز وبقية جزيرة العرب إلى العراق وبلاد الشأم، لوجود مجال واسع للإثراء، لا مثيل له في جزيرة العرب.
وللعرب مصطلحات كثيرة في الإرواء وفي سقيهم وسقي إبلهم، لارتباط حياتهم بالماء، ولأثر الحر والعطش والجفاف فيهم وفي أموالهم، وفي جملة هذه المصطلحات "الشريعة"، "مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون. وربما شرعوها دوابهم، فشرعت تشرب منها. والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينًا لا يستقى بالرشاء. وإذا كان من السماء والأمطار، فهو الكرع. وقد أكرعوه إبلهم فكرعت فيه وسقوها بالكرع. وهو مذكور في موضعه كالمشرعة"2. وتقابل هذه اللفظة لفظة "مشترعن" في
1 ابن المجاور "1/ 9".
2 تاج العروس "5/ 395"، "شرع".
لغة المسند، أي "المشترع"، والمشرعة1.
وقد تخصص أناس باستنباط المياه وتقدير حفر الآبار، كما تخصص آخرون بالسيطرة عليها وحصرها بالسدود. وسمى علماء اللغة المقدر لمجاري المياه "القناقن" وهو مثل المهندس في هذا الفن2. وذكر بعضهم أن "القناقن" البصير بحفر المياه واستخراجها، والمهندس الذي يعرف موضع الماء تحت الأرض، أو هو الذي يسمع فيعرف مقدار الماء في البئر قريبًا أو بعيدًا3.
وقد قسم بعض العلماء المياه المستخرجة إلى ثلاثة أقسام: مياه أنهار، ومياه آبار، ومياه عيون.
وقسموا مياه الأنهار إلى ثلاثة أقسام: أنها كبار لم يحفرها الآدميون، وأنها صغار، لم يحتفرها إنسان، وأنهار احتفرها الناس. فتكون ملكًا لمن احتفرها، لا حق لغيرهم في الانتفاع منها.
وأما الآبار، فآبار تحفر للسابلة، فيكون ماؤها مشتركًا، وآبار تحفر للارتفاق بمائها. كالبادية إذا انتجعوا أرضًا وحفروا فيها بئرًا لشربهم وشرب مواشيهم. كانوا أحق بمائها ما أقاموا عليها في نجعهم، فإذا ارتحلوا عنها صارت البئر سابلة. وآبار مملوكة. وتكون ملكًا لمالكها لا ينازعه عليها منازع.
وقسموا العيون إلى ثلاثة أقسام: عيون لم يستنبطها الآدميون. وعيون استنبطها إنسان، فتكون ملكًا لمن استنبطها، ويملك معها حريمها. وعيون يستنبطها الرجل في ملكه، فتكون ملكًا له4.
واليمن مثل سائر أقسام جزيرة العرب، خالية من الأنهار الكبيرة كدجلة والفرات والنيل، وخلوها من أمثال هذه الأنهار أثرت كثيرًا –ولا شك- في وضع الزراعة فيها. ولكن الطبيعة عوضتها بعض التعويض عن هذه الخسارة، فصار حالها أحسن كثيرًا من حال الأقسام الشرقية أو الوسطى من جزيرة العرب. فجعلت لها رياحًا تحمل إليها الأمطار في مواسم معروفة، وجعلت لها أمكنة ملائمة لخزن هذه الأمطار الهاطلة، استبدت بها أيدي الإنسان، وتحكمت فيها بأن جعلت
1 Rhodokanakis، Stud.، Lexi.، I، S. 113.
2 المعاني الكبير "المجلد الثاني"، "ص640".
3 تاج العروس "9/ 315"، "قنن"، المخصص "10/ 33".
4 الأحكام السلطانية "197 وما بعدها".
لها أبوابًا ومنافذ، وسدودًا في بعض المواضع، وتمكنت بذلك من خزن هذه الأمطار للاستفادة منها في أيام الحاجة. ثم جعلت لها تربة حسنة طيبة أريضة تنبت كل ما يبذر فيها، وتنبت ما يتساقط عليها من بذور متطايرة مع الهواء، حتى شاع صيتها وانتشر خبرها بين الناس، فعرفت باليمن الخضراء.
وقد ساعدت هذه الأمطار أهل اليمن كثيرًا في تطوير أحوالهم من النواحي الاجتماعية، فمال كثير منهم إلى الاستقرار وإلى الاشتغال بالزراعة والتعيش منها. وساعد ذلك على سكناهم في المدر وفي القرى والمدن، على عكس ما يحدث في الأرضين التي غلبت عليها الطبيعة الصحراوية لانحباس المطر عنها، وهي حالة اضطرت أصحابها إلى التنقل فيها من مكان إلى مكان طلبًا للكلأ والماء، وجعلت من أصحابها أناسًا فقراء، يعيشون عيشة شظف وضنك وفقر، مع ما وهبتهم الطبيعة من ذكاء مفرط واستعداد للتطور إن تهيأت لهم الظروف الملائمة وساعدتهم الأحوال.
والأمطار قليلة بصورة عامة في جزيرة العرب، فلم تعتمد الزراعة فيها على الأمطار كما تعتمد في البلاد الأوروبية، وإنما تعتمد على الجعافر والحسي والعيون والآبار. ولهذا السبب انحصرت الزراعة في الأماكن التي توجد فيها هذه الموارد المائية. ويختلف عمق الآبار باختلاف المواقع، وباختلاف سطوح المياه الجوفية عن سطح الأرض. ولما كانت بعض الآبار عميقة جدًّا بسبب بعد سطح مائها عن سطح الأرض، لم يستفد منها في الزراعة كثيرًا، وإنما استفيد منها في شرب الإنسان والحيوان فقط.
وفي العربية الغربية مواضع عديدة كانت ذات ماء، ورد اسمها في كتب اللغة وفي كتب "الجغرافيا" والبلدان والرحلات. تكونت من سقوط الأمطار على الجبال والمرتفعات. وبعضها ماء عذب، وبعض منها ماء مج أو مالح، وقد استفيد منها في السقي وفي الزرع. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عنها، أنه قد كان في الإمكان الاستفادة منها واستغلالها لأغراض زراعية، لو كان لأهل هذه الأرضين علم بكيفية السيطرة على الماء، وكيفية استنباطه من باطن الأرض، وكيفية الهيمنة عليه بحفر مجار له. فقد كانت لبني الحارث بن بهثة بن سليم. عيون ماء في صخور، لم يتمكنوا من الانتفاع بها؛ لأنهم لم يتمكنوا أن يجروها
إلى حيث ينتفعون بها1. وكان في "يليل" عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماء، لم يزرعوا عليها إلا في مواضع يسيرة؛ لأنها تجري في رمل2، ولم يكن علم على ما يظهر في كيفية استخراج هذا الماء من ذلك الرمل. وكان في إمكانهم مسك مسايل الماء من الجري نحو البحر، وحبسها في أحباس، بصنع سدود لها، لو كان لهم علم ومال وحكومة كبيرة تكون عندها المؤهلات والإمكانيات لعمل السدود، للاستفادة من مياه بعض المنابع التي كانت تجري طيلة أيام السنة، فتحول بينها وبين الذهاب عبثًا على البحر، فتحيي بذلك أرضين مواتًا وعدم وجود حكومات كبيرة تقوم بمثل هذه الأعمال بضبط الأمن. وإشاعة الاستقرار، هو من أهم العوامل التي كانت سببًا في عدم الاستفادة من المياه وفي تأخر الزراعة في جزيرة العرب، فلو كانت هنالك حكومات كبيرة، لكان في وسعها الاستفادة من المياه الظاهرة والباطنة ومن مياه السماء، فتحيي بذلك أرضين كثيرة خصبة، وتحمي الزرع من عبث العابثين وتشيع الأمن والطمأنينة في النفوس فيقبل الناس على الزرع والعناية بالضرع.
وقد ذكر "عرام" اسم موضع دعاه "ذا مجر"، ذكر أنه غدير كبير في بطن وادي قوران، وبأعلاه ماء يقال له "لقف"، وهو آبار كثيرة، عذبة المياه، ليس عليها مزارع ولا نخل، لغلظ موضعها وخشونته، وفوق ذلك ماء يقال له "شسي" ماء آبار عذاب3. وذكر اسم جبل يقال له "مغار" في جوفه أحساء، منها حسي يقال له "الهدار" يفور بماء كثير، لم يستفد منها فائدة تذكر4، فكانت المياه تذهب عبثًا إلى سباخ لعدم وجود من يتغلب عليها بعقله وبعلمه وبماله ويستروضها لتخدمه في إحياء الأرض وفي إعاشته وإعاشة ماشيته.
أما العربية الشرقية والعربية الوسطى، فإنهما أقل مياهًا من العربية الغربية، لقلة ما يسقط عليهما من الأمطار. ولذلك صارت مواضع الماء فيها متباعدة، والمسافات التي يجب أن يقطعها المسافرون من موضع إلى موضع أطول من المسافات التي تقطع بين منازل العربية الغربية، لتباعد مواضع المياه. ومن أهم موارد الماء
1 عرام، أسماء جبال تهامة "407".
2 عرام، أسماء جبال تهامة "398".
3 عرام، أسماء جبال تهامة "433".
4 عرام، أسماء جبال تهامة "433 وما بعدها".