المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل المائة: التجارة البحرية - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٣

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث عشر

- ‌الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين

- ‌الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات

- ‌مدخل

- ‌التربة:

- ‌الفصل التسعون: الزرع

- ‌مدخل

- ‌الحصاد:

- ‌الفصل الحادي والتسعون: المحاصيل الزراعية

- ‌الحبوب:

- ‌القطنية:

- ‌الكمأ:

- ‌فصيلة اليقطين:

- ‌النبات الشائك:

- ‌الفصل الثاني والتسعون: الشجر

- ‌مدخل

- ‌الجوز:

- ‌اللوز:

- ‌الثمر:

- ‌الأشجار العادية:

- ‌جماعة الشجر:

- ‌الفحم وقطع الشجر:

- ‌آفات زراعية:

- ‌الأسوكة:

- ‌الفصل الثالث والتسعون: المراعي

- ‌مدخل

- ‌الحمض والخلة:

- ‌أصناف الرعاة:

- ‌الرعاة والحضارة:

- ‌الفصل الرابع والتسعون: الثروة الحيوانية

- ‌مدخل

- ‌الطيور:

- ‌تربية النحل:

- ‌الأسماك:

- ‌الفصل الخامس والتسعون: الأرض

- ‌مدخل

- ‌ظهور القرى:

- ‌عقود الوتف:

- ‌الإقطاع:

- ‌الحمى:

- ‌الموات:

- ‌إحياء الموات:

- ‌الماء والكلأ والنار:

- ‌الأرض ملك الآلهة:

- ‌الخليط:

- ‌الفصل السادس والتسعون: الإرواء

- ‌مدخل

- ‌انحباس المطر:

- ‌أنواع السقي:

- ‌المطر:

- ‌الاستفادة من مياه الأمطار:

- ‌الذهب:

- ‌الحياض:

- ‌الأنهار:

- ‌الحسي:

- ‌الآبار:

- ‌العيون:

- ‌الكراف:

- ‌القنى:

- ‌التلاع:

- ‌التحكم في الماء:

- ‌المسايل:

- ‌المصانع:

- ‌السكر:

- ‌الأحباس:

- ‌السدود:

- ‌سد مأرب:

- ‌توزيع الماء:

- ‌حقوق الري:

- ‌الخصومات بسبب الماء:

- ‌الفصل السابع والتسعون: معاملات زراعية

- ‌المحاقلة

- ‌المساقاة:

- ‌إكراء الأرض:

- ‌بيوع زراعية:

- ‌جمعيات زراعية:

- ‌الهروب من الأرض:

- ‌العمري والرقبى:

- ‌العرية:

- ‌الفصل الثامن والتسعون: الحياة الاقتصادية

- ‌مدخل

- ‌التجارة البرية:

- ‌قوافل سبأ:

- ‌الفصل التاسع والتسعون: ركوب البحر

- ‌الفصل المائة: التجارة البحرية

- ‌الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة

- ‌مدخل

- ‌السلع:

- ‌تجار يثرب:

- ‌فهرس الجزء الثالث عشر:

الفصل: ‌الفصل المائة: التجارة البحرية

‌الفصل المائة: التجارة البحرية

الفصل المئة: التجارة البحرية

وليس في كتابات المسند التي وصلت إلينا شيء عن التجارة البحرية. ولا يعقل بالطبع ألا يكون لسكان سواحل جزيرة العرب علم بالبحر، وإلا تكون لهم سفن مهما كان حجمها، كانوا يركبونها في اتجارهم مع إفريقية ومع بلاد الهند وإيران. فقد علمنا أن العرب الجنوبيين كانوا قد أقاموا دولة "اكسوم" في الحبشة. وقد رأينا أن من المستشرقين من يرى أن أصل كلمة "حبشت""حبشة"، من أصل عربي، وأن "الحبشة" أرض في العربية الجنوبية في الأصل، منها هاجر الحبش، سكان تلك الأرض، وهم من العرب فنزلوا بالأرض التي سميت باسمهم في إفريقية، وقد رأينا أيضًا أن العرب امتلكوا السواحل الإفريقية المقابلة للعربية الجنوبية أمدًا طويلاً، كما امتلكوا بعضًا منها في الإسلام إلى عهد غير بعيد، ولا يعقل بالطبع ذهابهم إلى تلك السواحل ونزولهم بها بغير ركوب سفن، ولا يعقل أن يكونوا قد ذهبوا إليها بسفن أجنبية، بل لا بد وأن يكونوا قد عبروا إلى تلك السواحل بسفن كانت تعود لهم، ولا بد وأن لهم أسطول تجاري كانوا يمخرون به عباب البحار للاتجار.

وقد رأينا من كتب بعض الكتبة اليونان واللاتين أن الصومال كان يحكمه حكام عرب، وأن التجار العرب كانوا يشاهدون بكثرة في "رهابتا""Rahapta" على مقربة من "زنجبار". وأن مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"،

ص: 261

كان قد ذكر أن رئيس "معافر" كان يحكمها بموجب حق قديم. وأن أهل مدينة "Muza" يحكمونها باسمه، ويبعثون إليها بسفن تجارية يديرها ربابنة ووكلاء عرب ألفوا أهل البلاد، واختلطوا بهم، وصاهروهم، وخبروا الساحل، واطلعوا على لغتهم1.

إن خلو كتابات المسند من كل إشارة إلى البحر وإلى السفن وإلى الاتجار مع الأقطار الواقعة على السواحل، لأمر يؤسفنا كثيرًا، فقد حرمنا الكلام على البحرية العربية وعلى علم العرب الجنوبيين بالبحار، وبات علمنا بالتجارة علمًا ضئيلًا محدودًا، وليس لنا إلا التطلع إلى المستقبل، فهو وحده الكفيل بزيادة علمنا في هذا الموضوع.

وقد كان أكثر ثراء العربية الجنوبية من التجارة، التجارة البرية والتجارة البحرية، والاتجار بالمواد الناتجة في جزيرة العرب ذاتها، والاتجار بالمواد المستوردة من الخارج ولا سيما السواحل الإفريقية أو الهند.

وقد كان الاتجار مع إفريقية سهلًا يسيرًا بالنسبة إلى تجار العربية الجنوبية، ولا سيما تجار اليمن. فإن الشقة بين سواحل إفريقية وسواحل اليمن ليست واسعة كبيرة، ولهذا كان في استطاعة السفن الشراعية أن تقطعها بدون مشقات وصعوبة كبيرة. تذهب إلى أفريقية تحمل إليها حاصلات اليمن، ثم تعود إليها وهي محملة بالبضائع الإفريقية الثمينة، مثل الأخشاب والعاج، وببضاعة ثمينة أخرى: بضاعة حية تتحرك وتنطق، هي الزنوج. يستوردونهم شراء من أسواق النخاسة، أو اقتناصًا من السواحل، لحاجة البلاد إلى استخدامهم في الإنتاج وفي أداء الخدمات التي يأنف العربي عادة من القيام بها. وقد كان هذا الوارد عصبًا حساسًا في الإنتاج في ذلك العهد.

ولم ترد في كتابات المسند التي عثر عليها في جزيرة العرب وياللأسف معلومات عن أسفار العرب البحرية، لا إلى سواحل أفريقية ولا إلى سواحل الهند وجنوب إيران. ولكن وجود السبئيين في الساحل الإفريقي وتكوينهم حكومة هناك، ثم احتلال الحبش للعربية الجنوبية الغربية مرارًا، وذهاب المسلمين الأوائل مهاجرين إلى الحبشة، وحث الرسول لهم على الذهاب إلى أرض الحبشة؛ لأن بها ملكًا

1 Periplus، 7، 10، 14، 17.

ص: 262

لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق1. وذهاب المسلمين إلى مرسى "الشعيبة" للسفر منه بسفن التجار إليها، كل ذلك دليل على وجود اتصال بحري بين إفريقية واليمن.

وقد أشرت في الجزء الثاني من هذ الكتاب، إلى عثور العلماء على كتابات معينة في جزيرة "ديلوس" Delos من جزر اليونان، وهي نصوص ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى بحثنا هذا، فإنها ترينا وصول المعينيين إلى هذه الجزيرة وإقامتهم فيها، واتجارهم مع اليونان، ومن يدري، فلعلهم كانوا قد توغلوا شمالًا أيضًا، ونزلوا بلاد اليونان، وتاجروا هناك، ومع شعوب أوروبة في ذلك العهد. وقد ورد في نص من هذه النصوص:"هنا" أي "هانئ"، و"زيد ايل" من "ذي خذب"، نصبا مذبح ود وآلهة معين بـ"دلث"، أي بـ"ديلوس" وقد كتب بالمسند، وباليونانية، وقد جاء في النص اليوناني:"يا ود إله معين يا ود". وفي هذا النص والنصوص الأخرى دلالة على وجود جالية معينية في هذه الجزيرة وسكناها فيها، وعلى تعلقها بدينها وبآلهتها وعدم تركها لها حتى في هذه الأرض البعيدة عن وطنها. ومن يدري؟ فلعلها كانت على اتصال ببلادها، وكانت تتجر معها، فترسل إليها حاصلات اليونان ومنتوجات أوروبة، وتستورد منها حاصلات اليمن والعربية الجنوبية وأفريقية والهند.

وقد أشرت في ذلك الجزء أيضًا إلى عثور العلماء على كتابة معينية بمصر، كتبت حوالي سنة "263"، قبل الميلاد، وذلك بالجيزة. وهي كتابة قصيرة، ولكنها ذات أهمية كبيرة؛ لأنها تشير إلى وجود المعينيين بمصر في ذلك العهد. وعن وجود صلات تجارية ربطت بين مصر وجزيرة العرب من البر والبحر. وهي تتحدث عن رجل اسمه "زيد بن زيد ايل" من "آل ظبرن"، اعترف بوجود دين عليه وواجب هو توريد وتزويد "ابيتت الالت مصر"، أي "بيوت آلهة مصر"، أو "معابد آلهة مصر" بـ"امررن وقلمتن""قليمتن"، أي بـ"المر والقليمة". ويقصد بلفظة "قليمتن""قلمتن"، ما يقال له "Calamus" في الانكليزية و"Kalamus" في الألمانية، ويراد به ما يقال له قصب الذريرة أو قصب الطيب. و"امررن"، بمعنى "المر"، وهو معروف مشهور

1 الروض الأنف "1/ 204".

ص: 263

عند العرب، ودواء كالصبر مر، استعمل في معالجة أمراض عديدة1. وقد كان ذلك في شهر "كيحك" من السنة الثانية والعشرين من حكم الملك "بطلميوس"2.

وقد ذهب "رودوكناكس""Rhodokanakis" ناشر النص المذكور ومترجمه إلى احتمال كون "زيد ايل" كان كاهنًا في معابد مصر، ولو كان من أصل غير مصري، فقد كان المصريون قد تساهلوا في هذا العهد –كما يرى- فسمحوا للغرباء بالانخراط في سلك الكهان وخدمة المعابد، وتساهلوا مع "زيد ايل" هذا فأدخلوه في طبقة "اويب""Ueeb" وانتخبوه كاهنًا ليضمن لهم الحصول على المر والقليمة بأسعار رخيصة لاستيراده إياها باسمه ومن موطنه مباشرة من غير وساطة وسيط3.

وقد ذهب "رودوكناكس" أيضًا إلى أن "زيد ايل"، كان يستورد المر والقليمة لا لحسابه الخاص ومن ماله، بل لحساب المعابد المصرية ومن أموالها. فلم يكن هو إلا وسيطًا وشخصًا ثالثًا يتوسط بين البائع والمشتري، يشتري تلك المادة ويستوردها باسمه، ولكنه يستوردها للمعابد ولفائدتها، وهو لا يستبعد مع ذلك احتمال اشتغاله هو لنفسه وعلى حسابه في التجارة، يستوردها لنفسه ويبيعها في الأسواق، ويتصرف بالأرباح التي تدرها كما يريد. وهو لا يستبعد أيضًا احتمال مساعدة المعابد له بتجهيزه بالمال لتقوية رأس ماله، أو انتشاله من خسارة قد تصيبه.

وقد أصيب هذا التاجر كما يظهر من هذا النص بخسارة كبيرة في شهر "حتحر" ربما أتت على كل ما كان يملكه، فهبت المعابد المصرية لإنقاذه، وإعادة اعتباره المالي إليه، بإسناده بتقديم أقمشة الـ"بص""بوص" إليه. وقد أخذها وصدرها في سفينته التي يستورد بها المر والقليمة إلى الأسواق، فربح منها. واستورد المر والقليمة وأعاد إلى المعابد ثمن ما أخذه منها من تلك السلعة، وأدى ديونه في شهر "كيحك". وقد عاد إليه اعتباره وأنقذ من تلك الضائقة المالية التي حلت

1 تاج العروس "3/ 537"، "مرر".

2 Rep. Epigr. 3427، Tome، V، P.151، Rhodokanakis Die Sarkophaginschrift Von Gizeh، S. 113، In Zeitschrift Fur Semitistik، Bd.، Ii، 1924، Conti Rossini، Chrest. Ar. Merid.، 1931، P.86.

3 Zeitschrift Fur Semitistik Und Verwandte Gebiete، Bd.، 2، 1924، S. 116. Ff.

ص: 264

به بمدة قصيرة لا تتجاوز شهرًا كما يرى ذلك "رودوكناكس"1.

ولم يذكر النص اسم الجهة التي ذهبت السفينة إليها، ولا اسم الموضع الذي أرسل "البوص" إليه، ولا اسم المكان الذي استوردت القليمة وكميات المر منه.

و"البص""البوص"، هو "البز" في عربيتنا. والبز: الثياب، وقيل ضرب من الثياب، وبائعه البزاز2. ويظهر أنه كان من الأصناف الجيدة، التي امتازت مصر به، فاشتهر في الخارج، فكان يصدر إلى الأسواق الخارجية، وهي لفظة معربة، عربت من أصل يوناني هو "Vissas"، ومعناه نسيج كتان، ونسيج من كتان هندي رقيق جدًّا3.

لقد كانت حكومة البطالمة قد احتكرت صناعة نسيج الكتاب وتجارة البز "بوص"، وبيع المر والبخور والعطور والصبر وغير ذلك. وكانت تنتهج في خطتها الاقتصادية نهج احتكار الدولة بين السلع الرائجة المهمة. نعم، سمحت للتجار المستوردين باستيراد ما يشاءون من المر والبخور واللبان والصمغ والصبر وما شاكل ذلك من الخارج، ولكنها لم تسمح لهم ببيعها أو تحويلها أو تغيير شكلها من غير استئذان الحكومة وموافقتها، ذلك؛ لأنها تعدها من المواد الداخلة في دائرة الانحصار والاحتكار "Statesmonopol"، والتابعة لمراقبة الحكومة.

أما نسج "البوص""البص" البز، فقد أودع أمره إلى المعابد، تشرف عليه وتدير صناعته، ورثت ذلك من عهود سبقت أيام البطالمة، وذلك في مقابل السماح لها بأخذ ما يحتاج إلى استعماله في المعابد أو لحاجات رجال الدين الخاصة، وتسليم بقية ما ينسج إلى دوائر الحكومة المختصة لبيعه للناس4.

ويظهر من المؤلفات اليونانية واللاتينية أن العرب كانوا يملكون سفنًا في البحر الأحمر وفي البحر العربي وفي الخليج، إلا أن سفنهم لم تكن ضخمة، ولهذا لم تتمكن من مجابهة السفن الرومانية والسفن اليونانية حين نزلت تلك البحار؛ لأنها كانت أضخم منها، وكانت ذات أربعة صفوف من المجاذيف، كما أنها كانت سريعة الحركة وذات مرونة في الاستدارة وفي الالتفاف وفي الرجوع والانتقال،

1 Zeitschrift Fur Semitistik Und Verwandte Gebiete، Bd. 2، 1924، S. 117.

2 تاج العروس "4/ 7"، "بز".

3 غرائب "256".

4 المصدر نفسه "ص115 وما بعدها".

ص: 265

وذلك بفضل أشرعتها التي طورت تطويرًا كبيرًا ليناسب تطورها هذا فعل الرياح بها، ولتتمكن من السير مع الأهوية أو ضدها، وبسبب آخر هو تطوير هندستها بصورة مستمرة، لتجاري التيار ولتقطعه بكل سهولة، دون أن يعيقها أو يلحق أذى بها، وبفضل هذا التطوير تمكنت تلك السفن من التغلب على السفن العربية، ومن ملاحقة لصوص البحر "القرصان" الذين كانوا يتحرشون بالسفن ليأخذوا ما فيها، بسفنهم الصغيرة البدائية، وبذلك صار في مستطاع السفن اليونانية والرومانية دخول الموانئ العربية والموانئ الإفريقية ومن الوصول إلى الهند.

وقد أشار "أغاثرشيدس" إلى هذا التفوق، كما أشار إليه "سترابو" في أثناء كلامه على حملة "أوليوس غالوس" وعن خطأه في تقدير موقفه من البحرية العربية. فقد ذكر "سترابو" أن "أوليوس غالوس" ظن أن للعرب سفنًا كبيرة في البحر وأنها ستظهر أمام سفنه وستقاومه، لهذا أمر ببناء سفن طويلة لمجابهة تلك السفن، مع أن العرب قوم تجارة وبيع وشراء، ولم يكونوا أمة حرب، لا في البحر وحده، بل في البر أيضًا. ومع ذلك بنى ما لا يقل عن ثمانين سفينة حربية، منها سفن ذوات صفين من المجاذيف ومنها ذوات ثلاثة، ومنها ذوات صف واحد

ولما أدرك خطأه ابتنى مئة وثلاثين سفينة للحمل، ركب فيها نحو من عشرة آلاف من المشاة

وبعد أن خسر كثيرًا من سفنه، غرق عدد منها وغرق من فيها من بحارة، وذلك بسبب صعوبة الملاحة لا بمقاومة من عدوّ1.

ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يشير إلى وجود قوى بحرية عربية، بل نجد فيها أن سفن الروم كانت هي التي تمخر عباب البحر الأحمر وكانت هي المهيمنة عليه وأنها كانت تصل إلى سواحل أفريقية وتذهب إلى الهند، ونجد فيها أن سفن الحبشة كانت تأتي "الجار" و"الشعيبة"، وموانئ عربية أخرى لتتاجر معها، وأن سفن الساسانيين كانت تهيمن على مياه الخليج العربي والبحر العربي، ثم نجد في روايات أهل الأخبار عن كيفية احتلال الحبش لليمن واحتلال الفرس لها وعن هجرة المهاجرين الأولين من مكة إلى الحبشة ووصفهم لكيفية بناء الكعبة وأخذهم لخشب سفينة رومية ما يؤيد أن الجاهليين لم يكونوا يملكون سفنًا

1 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 264"، لسنة 1952م.

ص: 266

كثيرة كبيرة قوية في ذلك العهد، وأنهم كانوا قد تركوا البحر إلى غيرهم منذ عهد قبل الإسلام.

ويعود تفوق سفن اليونان والرومان على السفن العربية في البحار إلى ما قبل الميلاد. لا بل نستطيع أن نرجع هذا التفوق إلى ما قبل أيام اليونان والرومان، نستطيع أن نرجعه إلى أيام المصريين. فقد ورد في أخبارهم أنهم أرسلوا سفنهم إلى البحر الأحمر فوصلت إلى السواحل الإفريقية، وأنهم كانوا قد حفروا قناة لتصل بين نهر النيل والبحر الأحمر، فيكون في وسع السفن القادمة من البحر الأبيض من اليونان أو من إيطاليا أو من أي مكان آخر دخول نهر النيل والمرور من القناة إلى البحر الأحمر ثم إلى المحيط للاتجار مع أسواق البلاد الحارة، والعودة من تلك الأسواق بحاصلات آسيا وإفريقية إلى أوروبة. وهو مشروع يدل على ذكاء وحنكة في السياسة، مهد الدرب لمشروع قناة السويس الحديث.

ولما استولى "دارا""داريوس" على مصر، قرر إعادة ذلك المشروع المصري القديم، الذي كان قد اندثر وأكلته الرمال، بأن أمر بشق قناة تصل النيل بالبحر الأحمر عن طريق الفرع البلوزي أحد فروع النيل القديمة، بالقرب من الزقازيق، مخترقة وادي الطميلات ثم البحيرات إلى السويس. وهو مشروع يدل على ذكاء ذلك الملك وإدراكه لأهمية ربط البحرين بطريق مائي، وإلى ما فيه من فوائد في السياسة وفي الاقتصاد وفي الناحية العسكرية.

ووضع "الإسكندر" الأكبر مشروعًا خطيرًا آخر يفوق كل ما وضع من قبله من مشاريع. فقد وضع خطة السيطرة على المياه الدافئة بالسيطرة على سواحل جزيرة العرب، وذلك بالاستيلاء عليها، ويكون بذلك ملك أكبر انبراطورية عرفت حتى ذلك اليوم تمتد من الهند إلى مصر وما وراء مصر من أرضين1. وقد كلف قواده بالالتفاف حول جزيرة العرب، وباشروا بتنفيذ الأمر بالفعل، وقد رأينا قائده "نيرخوس" "Nearchus" على رأس أسطول ضخم، لعله أعظم أسطول شاهده الخليج والبحر العربي حتى ذلك العهد. وقد رأينا كيف قرر الإحاطة بجزيرة العرب من الجنوب والغرب بالسيطرة على سواحلها وإنشاء أسطول يمخر المياه المحيطة بها، بعد أن هيمن على السواحل الشرقية. وقد استعان

1 Arrianus، Anabasis، Vii، 19، 20.

ص: 267

نفسه بخبرة الفينيقيين وعلمهم بالبحر. نقلهم إلى هذه المياه وكلفهم بناء السفن له، وبإدارتها له. ولو قدر للإسكندر أن يعيش طويلًا لتحقق مشروعه الضخم، ولكن القدر قضى عليه مبكرًا، فمات مشروعه معه، ولم يكن لخلفائه ما كان لسيدهم من عزم، فتركوا المشروع، ولم يتحمسوا له1.

وقد أدرك البطالمة قيمة القناة القديمة التي كانت تربط النيل فالبحر المتوسط بالبحر الأحمر، فأمر "بطلميوس الثاني""185-146ق. م" بإعادتها، ومكن بذلك تجاره من دخول البحر الأحمر ومن نقل التجارة من أسواقها الأصلية إلى مصر، ومنها إلى أسواق اليونان والرومان وسائر بلاد أوروبة بالطرق المائية، وضبط بذلك الممر المائي العالمي القديم، هذا الممر الذي فتح ذهن "دلسبس" فيما بعد فجعله يفكر في موضع أصلح رآه في المكان الحالي المعروف بـ"قناة السويس"، القناة العالمية التي تلعب اليوم دورًا خطيرًا في الاقتصاد العالمي وفي السياسة الدولية والموقف الحربي للدول. وعين البطالمة موظفين خاصين مهمتهم الإشراف على إدارة التجارة البحرية وسير السفن. فنجد في كتابة تعود إلى سنة "130" قبل الميلاد إشارة إلى موظف كان مسؤولًا عن سير السفن وعن الطريق الصحراوية الممتدة إلى قفط، ونجد أخبارًا تعود إلى ما بين سنتي 120 و110 قبل الميلاد تتحدث عن سفن كانت تسير بين مصر والهند، كما نجد فيها وفي نصوص تعود إلى عهود متأخرة عن هذه إشارات إلى وجود موظفين مسؤولين عن البحرين الأحمر والهندي2.

وقد كان لوقوف "هيبالس""Hippalus"، وهو أحد اليونان أو الرومان على سر الاستفادة من الرياح الموسمية في تسيير السفن وفي تقصير الوقت في قطع المسافات، وفي تمكينها من الابتعاد عن أخطار السير في محاذاة السواحل أهمية كبيرة في تطوير فن الملاحة الأوروبية بالنسبة لذلك العهد3. ويمكن اعتبار وقوف هذا الملاح على هذا السر من أهم الأحداث البارزة التي حدثت في ذلك العهد والتي مكنت الغربيين من التوفق في البحر بالنسبة لتلك الأيام. أضف إلى

1 Arrianus، Anabasis، Vii، 19، 20.

2 حوارني "ص66".

3 Pliny، Vi، 26، Tarn، The Greeks In Bactria And

India، P.366.

ص: 268

ذلك أن الذين خبروا البحر وعركوه من بعده أضافوا ما استفادوه من فنه ومن علم من تقدم عليه علمًا آخر مكن البحارة البطالسة ثم الرومان الذين جاؤوا من بعدهم فحكموا مصر، ثم اليونان من السيادة على البحار ومن انتزاع المغانم من التجار العرب ومن غيرهم ومن إلحاق ضرر بالغ بهم، وبذلك وضعوا لمن جاء بعدهم من دول أوروبة خطط السيطرة على البحار وعلى العالم القديم.

ويعد القيصر الروماني "أغسطس قيصر" من أهم القياصرة الذين وجهوا أنظارهم نحو الشرق، ونستطيع أن نقول أنه خليفة "الإسكندر الأول" في هذا الباب، ومن أستاتذة "نابليون" في خططه العسكرية الرامية إلى السيطرة على الشرق، لقد نوى الاستيلاء على بلاد العرب، وربما على ما وراء بلاد العرب من أرضين، وكانت غايته من هذه النية –كما قال سترابو- "إما أن يسترضي العرب، وإما أن يخضعهم، كما أنه فعلت في نفسه الروايات الشائعة منذ القدم أن العرب قوم واسعوا الثراء، وأنهم يستبدلون الفضة والذهب بعطرهم وحجارتهم الكريمة، دون أن ينفقوا مع الغرباء ما يحصلون عليه في مقايضاتهم التجارية. فأمل أحد أمرين: إما أن يحصل على أصدقاء موسرين، وإما أن يتغلب على أعداء موسرين"1.

وإذا كان "أغسطس" قد أخفق في تحقيق مشروعه في احتلال جزيرة العرب، فإنه لم يهمل ناحية الاستفادة من البحار، فشجع الملاحين وزاد عدد السفن الذاهبة إلى الهند، وقد كان عددها لا يزيد على عشرين سفينة في السنة الواحدة قبل أيامه، فارتفع عدد ما يصل إلى الهند منها إلى ما لا يقل عن "120"، سفينة في السنة الواحدة2. وقد أقام اليونان والرومان معبدًا في موضع "Mauziris" على ساحل الـ"مالابار" في أيام "أغسطس"، ووجود هذا المعبد في هذا الموضع دليل على المدى الذي وصل إليه التجار اليونان والرومان في بلاد آسية، وعلى مقدار تشجيع القيصر لأولئك التجار3.

وبدلًا من أن ينتظر التاجر الروماني أو اليوناني البضائع الثمينة، تأتي إليه إلى أسواق مصر أو بلاد الشأم محملة بسفن عربية أو على ظهور جمال القوافل كما كان

1 الصفحة "264"، من المجلد الثاني من مجلة المجمع العلمي العراقي لسنة "1952م".

2 حوراني "ص75"، Strabok، 17، I، 13.

3 حوراني "ص75".

ص: 269

ذلك في الغالب، وهي بأسعار عالية، ارتاد هو البحر الأحمر، ومنه المحيط الهندي إلى سواحل إفريقية أو سواحل العربية الجنوبية أو الهند فما وراءها، يشتري من موانئها وأسواقها ما يريد، بأسعار رخيصة جدًّا بالقياس إلى تلك الأسعار التي كانت يدفعها للتجار الموردين في أسواق مصر أو أسواق بلاد الشأم، فاستفاد هو، واستفادت حكومته منه، وخسر التجار العرب بوصول هؤلاء التجار إلى تلك الأسواق ومنافستهم لهم خسائر فادحة، أوجدت خللًا في الحياة الاقتصادية للدول العربية، وضررًا عامًّا في جميع نواحي الحياة الأخرى.

وطالما تشكى الرومان واليونان من فداحة الأرباح والضرائب التي كان يفرضها التجار العرب على البضائع المرسلة إليهم، والتي كانوا يحتاجون إليها ويشترونها بأي ثمن كان. وقد ذكر "سترابون" الجغرافي الشهير في جملة الأسباب التي حملت القيصر "أغسطس" على إرسال حملته الشهيرة، هو ثراء أهل تلك البلاد، وحصولهم على أرباح مفرطة من الغرباء وفي ضمنهم الرومان واليونان من اتجارهم معهم، ومن تحكمهم في وضع الأسعار، دون أن يعطوا أولئك التجار والبلاد التي يحملون تجارتهم إليها شيئًا1.

وقد كان للأحداث السياسية، في الامبراطوريتين الرومانية واليونانية أثرًا كبيرًا في حالة الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي. ففي أيام الفتن والاضطرابات وحدوث القلاقل، لم يكن في وسع أصحاب السفن الرومان أو اليونان التوغل في البحار البعيدة عن مناطق نفوذ الانبراطوريتين، لضعف وسائل حماية السفن التجارية وحماية التجار والمستعمرات العديدة المقامة على السواحل. ولهذا نجد "سترابو" يذكر أنه قبل أيامه لم تكن هنالك سفن كثيرة تجتاز البحر الأحمر، فقد كان كل ما يرسله الرومان من السفن لا يزيد على العشرين سفينة، تجتاز هذا البحر، فتصل إلى ما وراءه في المحيط2.

وأخذ التجار اليونان والرومان يقصدون سواحل أفريقية وبلاد العرب والهند، ويقيمون في موانئها للاتجار، وقد عثر على نقود يونانية ورومانية في مواضع متعددة من هذه السواحل، كما عثر فيها على آثار معابد ومباني تشير إلى أصل يوناني

1 راجع الترجمة المنشورة في مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 763"، "1952م".

2 Strabo، 17، I، 13.

ص: 270

وروماني، كذلك نجد أخبارًا لأشخاص يونانيين ورومانيين ذهبوا إلى أرض سبأ للاتجار.

ولم يجد الرومان ولا اليونان مقاومة تذكر حينما ولجوا البحر الأحمر والمحيط الهندي. لقد كانت سفنهم أكبر وأقوى من سفن العرب، وأحدث منها، وأقدر على الحركة والمقاومة. تتحمل صعاب البحر، وتقاوم الأعاصير والظروف القاسية الشديدة، وتتسع لاستيعاب أعداد كبيرة من الرجال، وتحمل حملًا كبيرًا بالقياس إلى السفن العربية. وهذا مما يقلل بالطبع من أجور النقل، ومن أخطار الغرق والاصطدام بصخور السواحل، ومن التعرض للصوص البحر، ويخفض من أثمان البضائع في الأسواق، ويزيد في عدد المستهلكين.

وقد رأى البحر الأحمر سفنًا أقوى وأضخم من السفن العربية الصغيرة ومن سفن سكان سواحل أفريقية: رأى سفنًا تسير بقوة أربعة صفوف من المجاذيف Quadriremes"1 أخذت تتعقب لصوص البحر، وتحمي سفن اليونان والرومان، وتحمي المستعمرات التي أنشئت على سواحل البحر الأحمر لإيواء تلك السفن، وتقديم المساعدات إلى أصحابها، وشراء السلع من القبائل الساكنة على مقربة منها، وسرعان ما صارت أسواقًا للبيع وللشراء، يبيع فيها هؤلاء التجار الأجانب ما يأتون به من تجارة من حوض البحر المتوسط، ويشترون منهم ما عندهم من مواد أولية، يقبل عليها أهل مصر واليونان والرومان وسكان البحر المتوسط. وقد أثرت هذه الأسواق بالطبع في مصالح التجار العرب الذين كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال، ألحقت بهم ضررًا ولا شك.

ولوعورة الساحل العربي على البحر الأحمر ولكثرة صخوره المؤذية للسفن، ولكثرة لصوص البحر فيه، ولأسباب أخرى تجنبت السفن الرومانية واليونانية هذا الساحل قدر إمكانها، فلم ترس به إلا في المواضع الآمنة التي أمنت النزول بها، وسيطرت عليها بوضع حاميات عسكرية بها، أو بعقد محالفات وعهود ومواثيق مع سكانها. وقد كان ميناء "مخا""Muza" الميناء المفضل لها. قصدته للاتجار

1 حوراني "ص59"، Agatarchides، I، 83، 85، 88.

ص: 271

ولتموين نفسها بالماء والغذاء1. وقد كان في استطاعة سفن تلك الأيام السير على مبعدة من ذلك الساحل ودون توقف حتى تصل إلى الميناء المذكور، أو إلى ميناء عدن "Arabia Eudaemon"، وبذلك تجنبت السفن المخاطر والمهالك التي كانت ستتعرض لها فيما لو سارت في محاذاة الساحل العربي.

ويظهر أن موضع "لويكه كومه"، أي "القرية البيضاء" كان ميناءً معروفًا في القرن الأخير قبل الميلاد، ففيه هبط "أوليوس غالوس" سنة "25 أو 24" قبل الميلاد في حملته التي أمر القيصر "أغسطس" بإرسالها على اليمن. ولو لم يكن من المرافئ الحسنة الصالحة لرسو السفن لمن نزل به الجيش الروماني. ويكتنف تأريخه الغموض، فلم يرد اسمه كثيرًا في كتب اليونان والرومان ولا في كتب الإسلاميين. ويقال إنه ظل قائمًا حتى نهاية القرن الثالث بعد الميلاد2. ولعله "الحوراء"، مرفأ سفن مصر قديمًا، وقد ذكره أصحاب الرحل3.

و"الجار"، فرضة أهل المدينة، ترفأ إليها السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن والصين والبحرين، وبحذائها جزيرة في البحر ميل في ميل يسكنها التجار4. فهي من الموانئ التي كان يقصدها التجار من السواحل المقابلة ومن سواحل إفريقية الشرقية والمحيط الهندي. وذكر أن الناس كانوا لا يعبرون إلى الجزيرة إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة. وأن بينها وبين المدينة يوم وليلة، وبين أيلة نحو من عشر مراحل، وإلى ساحل "الجحفة" نحو ثلاث مراحل5، وقد عرفت تلك الجزيرة بـ"قراف"، وسكانها تجار كنحو أهل الجار6.

و"الشعيبة" من المراسي القديمة في الحجاز، وهي أقدم من جدة. وهي خور أمين تقصده السفن لتتزود بما تحتاج إليه من زاد وماء، ولتفرغ فيه ما تأتي

1 "المخا: موضع باليمن بين زبيد وعدن، بساحل البحر. وهو مقصود"، البلدان "7/ 202"، "ومخا: مقصورة، بساحل بحر اليمن تجاه باب المندب

قال الصاغاني: ترفأ بمكلئها السفن"، تاج العروس "10/ 328".

2 Handbuch، I، S. 114.

3 تاج العروس "3/ 161"، "حور".

4 تاج العروس "3/ 112"، "جار".

5 البلدان "3/ 35".

6 عرام، أسماء جبال تهامة وسكانها "ص398 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات"، تاج العروس "6/ 220"، "قرف".

ص: 272

به من شحن من أفريقية إلى الحجاز. وهو مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. وإليه جنحت سفينة "باقوم"، التي تحطمت بدفع الريح لها، فاستعانت قريش في تجديد عمارة الكعبة بخشب تلك السفينة على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على تجديد بناء الكعبة قبل المبعث بقليل1. ومنه هاجر المسلمون إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث، حيث وجدوا سفينتين للتجار حملوهم فيها إلى الحبشة2. ومنه كان يذهب تجار مكة إلى أفريقية للتجارة قبل الإسلام.

وميناء "Muza" = "Muza" من موانئ اليمن المهمة على البحر الأحمر3، وكان مقصودًا، وتصل إليه السفن البيزنطية والسفن الواردة من مصر، ومن هنا كانت تتزود تلك السفن بضائع البلاد العربية، أو تبيع فيه ما استوردته من مصر أو من سواحل حوض البحر المتوسط. وقد تتزود ما تحتاج إليه من ماء وزاد، ثم تتجه إلى أفريقية أو إلى سواحل الهند. وقد كانت به جاليات من اليونان أو من غيرهم مقيمة هناك للاتجار والتعامل مع الوطنيين. وهو ميناء "مخا" المشهور4. ويذكر أهل الأخبار، أن بين "مخا" وبين "باب المندب"، أي الساحل الأفريقي المقابل للساحل العربي يومين أو أكثر، وأن باب المندب، مرسى ببحر اليمن، وهو اسم ساحل مقابل لزبيد اليمن، وهو جبل مشرف ندب بعض الملوك إليه الرجال حتى قدوه بالمعاول؛ لأنه كان حاجزًا ومانعًا للبحر عن أن ينبسط بأرض اليمن، فأراد بعض الملوك أن يغرق عدوه، فقد هذا الجبل وأنفذه إلى أرض اليمن، فغلب على بلدان كثيرة وقرى أهلك أهلها وصار منه بحر اليمن الحائل بين أرض اليمن والحبشة والآخذ إلى عيذاب وقصير إلى مقابل "قوص"، والملك هو "الإسكندر"5. وبهذه الطريقة أوجد أهل الأخبار لهم تأريخًا لباب المندب، وحلوا مشكلة كيفية انفصال أفريقية عن اليمن!

وميناء "Arabia Eudaemon"، هو ميناء "عدن"، وهو ميناء مهم في ذلك الوقت أيضًا، ولا يزال يحافظ على مركزه وأهميته من الوجهة العسكرية

1 البلدان "5/ 276"، ابن المجاور، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز، "القسم الأول ص42"، وما بعدها".

2 الطبري "2/ 329".

3 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "8/ 97".

4 البلدان "7/ 202"، تاج العروس "10/ 338"، "مخى".

5 تاج العروس "1/ 482"، "ندب".

ص: 273

والاقتصادية1. وقد ذكره "بطلميوس" باسم "Rabia Emporion". وقد كان مركزًا لتبادل السلع الإفريقة والهندية والمصرية، ومكانًا تبحر منه السفن إلى الهند، كما تلتجئ إليه السفن الواردة من تلك البلاد. وقد استولى عليه الرومان في فترات.

ويذكر أنه في حوالي سنة "345"، أسس أحد المبشرين واسمه "ثيوفيلوس""Theophilus" المعروف بالهندي، كنيسة في "عدن2 "Adane".

وجزائر "فرسان"، من الجزر التي كان يتاجر أهلها مع الحبشة، ويذكر "الهمداني" أن سكانها كانوا يعملون في التجارة إلى بلاد الحبش، ولهم في السنة سفرة3.

وميناء "Cana""قنا"، هو موضع "حصن غراب""حصن الغراب". وهو سوق اللبان الذي يزرع داخل البلاد، يؤتى به إلى ذلك الميناء على ظهور الجمال، أو في الأرماث المصنوعة من الجلد، وفي القوارب. وهو ميناء تجارة كذلك مع مدن الساحل البعيد، مع بعض مدن الهند، وميناء "عمانه""Umana""عمان" والموانئ التي على الخليج4. وتقع "قنا" على مرتفع، قريب من "ميفع"5، و"ميفع"، قرية على الساحل، و"ميفعة"، بلدة بين "ميفع" و"أحور"، إلا أنها ليست على الساحل، بل بينهما مرحلة6.

وأما ميناء "Moscha"، فهو "ظفار" من أعمال الشحر، قريب من صحار. وبجبال ظفار "اللبان"، وإليه يحمل، وبه يقسم ويوزع، ولا يسمح بحمله إلى غيره7. وقد ذكر عدد من المؤلفين اليونان واللاتين. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "مسقط" وأنه "Mosca Portus".8 ويذكر أهل الأخبار،

1 البلدان "6/ 127"، ابن المجاور "1/ 106 وما بعدها".

2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام، 8/ 98 وما بعدها".

3 الصفة "53".

4 Periplus، 20. F27.

5 تاج العروس "10/ 305"، "قنا".

6 تاج العروس "5/ 566"، "يفع".

7 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 342"،

Glaser، Skizze، Ii، S. 180، Ptolemy، Vi، 7، 10.

8 Geography، Ii، S. 757.

ص: 274

أن "ظفار" قرب مرباط، وتعرف بـ"ظفار" الساحل، وإليها ينسب القسط، وهو العود الذي يتبخر به؛ لأنه يجلب إليها من الهند، ومنها إلى اليمن، كنسية الرماح إلى "الخلط"، فإنه لا ينبت به، وهي قريبة من "الشحر"1.

وكان أهل "جرها""Gerrha" على ساحل الأحساء من أنشط الناس في التجارة، يتاجرون في البر والبحر، ويتاجرون مع الهند وسواحل إيران الجنوبية، كما كانوا يتاجرون مع العربية الجنوبية وأرض العراق. وكانوا قومًا مسالمين لا يرغبون في الحروب. فلما أراد "أنطيوخس""Antiochus" الثالث الاستيلاء على المدينة وذلك في حوالي سنة "205"، قبل الميلاد، سألوه الصلح والمهادنة، "وألا يقضى على ما أعطتهم الآلهة من سلام وحرية أزليين"2.

وأما مدينة "أبولوكس""Apologus"، فهي الأبلة في الكتب الإسلامية و"Uubulum" في الكتابات الأكادية. وقد كانت من أهم موانئ أعالي الخليج في أيام فتح المسلمين للعراق. تصدر إلى الهند حاصلات العراق وبلاد الشأم وآسية الصغرى وأوروبة، وتستورد منها أخشاب الصندل والآبنوس ومنتجات الهند وسيلان والصين3. وقد عرفها أهل الأخبار، فذكروا أنها كانت أقدم من البصرة؛ لأن البصرة، مصرت في أيام "عمر"، وكانت الأبلة حينئذ مسالح من قبل كسرى، وقد كان تجارها يربحون ربحًا عظيمًا، وهي أرض واسعة. قال "خالد بن صفوان": "ما رأينا أرضًا مثل الأبلة مسافة، ولا أغذى نطفة، ولا أوطأ مطية، ولا أربح لتاجر، ولا أحفى بعابد"4.

وهناك مواني عديدة أخرى، ذكر المؤلفون اليونان واللاتين أسماءها، وقد تحدثت عنها في الجزء الثالث من كتابي:"تاريخ العرب في الإسلام"، وشخصت مواقعها قدر الإمكان. وقد كان لا بد من أن يكثر عدد الموانئ في تلك الأيام، فسفن ذلك العهد لم تكن ضخمة كسفن هذا اليوم، ولم يكن في استطاعتها لهذا الابتعاد عن السواحل كثيرًا، ولا السير إلى مسافات شاسعة، إذ كان لا بد لها

1 تاج العروس "3/ 370"، "ظفر".

2 Polybius، Historia، Book، 13، Chapter 9.

3 Pliny، Iv، 31، 32، Dio Casius، Roman History، 68، 28، 29.

جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "8/ 100".

4 تاج العروس "7/ 200"، "ابل".

ص: 275

من التزود دومًا بالماء والغذاء، ولا سيما بالنسبة إلى السفن الصغيرة، فأخذت ترسو في مراسي كثيرة لتموين نفسها ولإراحة أصحابها، من عناء البحر، ولم تتخلص السفن من تعدد الرسو في المواني إلا بعد تحسن صناعة بناء السفن، وظهور السفن البخارية، فانتفت حاجتها إليها، وقد قضى هذا التحسن على أكثر المواني، فماتت وذهبت مع العصور التي ولدت فيها.

وقد تتجه السفن من ميناء "مخا" إلى السواحل الإفريقية مخترقة مضيق المندب، وقد تتجه إلى "عدن"، ثم تواصل سيرها نحو السواحل الإفريقية، بعد أن تتمون بما تحتاج إليه من ماء وزاد، أو تتجه إلى ميناء "أكيلا""Acilla"، الواقع على مقربة من "رأس الخيمة""Massandum"، للإقلاع منه إلى الهند1. وهو أقرب طريق يوصل العرب الجنوبيين وعرب سواحل عمان إلى تلك البلاد.

ولما تحسنت هندسة بناء السفن صار في إمكانها قطع مسافات أبعد من دون حاجة إلى الرسو في موانئ عديدة، وصارت السفن القادمة من مصر ترسو في ميناء "عدن" رأسًا، وبعد أن يستريح أصحابها يتجهون إلى سواحل أفريقية أبعد مما كانوا يصلون إليها في السابق، أو يتجهون نحو الهند. وبذلك قصر الوقت وقلت كلفة الأسفار، وصار في وسع اليونان والرومان دخول الأسواق الأصلية رأسًا، يأخذون منها ما يريدون ويبيعون فيها ما عندهم دون حاجة إلى وسيط. وكانت السفن اليونانية والرومانية تتحمل من صعاب البحر، وتقاوم الأعاصير والظروف القاسية الشديدة، وتتسع لاستيعاب أعداد كبيرة من الرجال، وتحمل حملًا كبيرًا بالقياس إلى السفن العربية. وهذا ما قلل بالطبع من أجور النقل، وخفض من أثمان البضائع في الأسواق، وزاد في عدد المستهلكين.

ولكن السفن اليونانية والرومانية جوبهت مع ذلك بلصوص البحر الذين كانوا يتعقبون السفن، ويغيرون عليها عند تقربها من السواحل. كان هؤلاء اللصوص قد ابتنوا سفنًا لهم، فإذا رأوا سفنًا يونانية أو رومانية أو غيرها وقد وقعت في قبضة الأعاصير، أو اصطدمت بالصخور البحرية أو كانت على مقربة منهم وفي مناطق يمكن وصولهم إليها، أغاروا عليها وأخذوا منها كل ما تقع أيديهم عليه.

1 Pliny، Vi، 32، Glaser، Skizze، Ii، S. 186.

ص: 276

ولا ينجو منها أحد، حتى أصحابها يؤخذون أسرى، فيباعون في الأسواق خولًا.

ولحماية السفن والتجار، أنشأ الرومان واليونان قوة بحرية حربية، تولت حراسة السفن التجارية وحماية المستعمرات التي أقاموها على سواحل هذه الطرق المائية العالمية المهمة. ولم تكن المسافات بين المستعمرات الساحلية قصيرة، ليكون في الإمكان الدفاع عنها والتعاون فيما بينها. وللتغلب على هذا الضعف ولحمايتها حماية قوية زودوها بما تحتاج إليه من مياه عذبة ومن أطعمة ومن جنود لصد غارات المعتدين. وبذلك هيمنوا على البحار: وضبطوا البحر الأحمر بصورة خاصة، ولم يبق للعرب من مجال في التجارة العالمية إلى بسلوك الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشأم والعراق.

وقد تكون في إشارة "بليني""Plinus" إلى وجود جاليات يونانية على سواحل بلاد العرب في مواضع غير بعيدة عن موضع "Attevae" الذي هو "عدن"، إيماءة إلى وجود مستعمرات يونانية على سواحل جزيرة العرب أنشئت قبل أيامه لضبط الأمن في البحار وللاتجار مع العرب وبسط نفوذ. الروم عليهم وفي جملة تلك الأماكن التي ذكرها:"Arethusa" و"Larisa" و"Chalcis"، ذكر أنها كلها كانت قد خربت بسبب الحروب، مما يدل على أنها كانت قد أقيمت قبل أيامه بزمان1.

وقد ضمنت تلك القوة البحرية الضخمة للرومان السيطرة على البحر الأحمر وعلى البحر العربي، واستطاعت احتلال "عدن". ففي أيام "كلوديوس""Claudius""41-54م" كان هذا الميناء في قبضة الرومان2. وكانت به حامية رومانية. وتمكن هذا القيصر الذي كانت عدن خاضعة له في أيام مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"، أو أي قيصر آخر، قد يكون "Coligula" وقد يكون "طبريوس""Tiberius"، من عقد معاهدة مع الملك "كرب ايل""Charibael""ملك سبأ وذو ريدان" في ذلك الوقت. ولم يشر مؤلف

1 Pliny، 6، 159، Die Araber، I، S. 120.

2 Wissmann، Geogr. Grundlagen، 107، Grohmann، Arabien، S. 28، Periplus Maris Erythraei.، 26.

ص: 277

الكتاب المذكور الذي لا نعرف اسمه اليوم إلى اسم القيصر، بل اكتفى بذكر اللقب فقط، وهو "قيصر"، وهو كما نرى لقب عام، يطلق على كل من يحكم انبراطورية الرومان. وقد ذهب بعض الباحثين إلى عدم إمكان التفكير في القيصر "أغسطس"، وإلى احتمال كونه قيصرًا آخر، وقد يكون بالإضافة إلى ما ذكرته "نيرو" أو "تراجان"، أو "سبتيموس سويرس""سبتيميوس سفيروس""Septimius Severus"1.

واهتم "تراجان" بأمر التجارة البرية والبحرية، جعل أرض النبط ولاية خاصة دعاها:"الكورة العربية" أو "المقاطعة العربية""Arabia Provincia" وذلك سنة "106" للميلاد. واهتم بالطرق البرية، فأصلح طريقًا مهمة تمر من دمشق إلى أيلة فبصرى والبتراء، وهي طرق قديمة ومعروفة، بالنسبة للاتجار مع بلاد العرب، وكانت في حاجة إلى عناية وإصلاح ووضع معالم. واعتنى بميناء "أيلة" فعمره ووضع إدارة "كمركية" فيه، وجعله من الفرض المهمة في خليج العقبة، بل والبحر الأحمر، وأصلح القناة القديمة بعد أن تراكمت فيها الأتربة حتى سدت مجراها، وحفر قسمًا جديدًا من طرفها الغربي، أوصلها بالنيل عند "بابلون""Babylon"، موضع مصر القديمة. وبذلك سهل الاتصال بالفرع الغربي للنيل المؤدي إلى الأسكندرية، وبرز ميناء "القلزم""Clysma" حيث التقت قناة تراجان بالبحر الأحمر2.

وعثر على كتابة دونها قوم من أهل تدمر، اشتغلوا بالملاحة في البحر الأحمر، أشادوا بفضل القيصر "هدريان" هدريانوس" "117-138م" عليهم3. وتدل هذه الكتابة على اشتراك التدمريين في الملاحة، مع أنهم من أهل مدينة صحراوية، عماد حياتها التجارة بالبضائع الواردة إليها بالطرق البرية.

وقد توغل الملاحون في أيام أسرة "انطونينوس""Antonines""98-192م". حتى أدركوا موضع "رهابتا" على مقربة من "زنجبار" في السواحل الإفريقية، ووصلوا إلى سواحل الصين في آسية. وهذا هو سر وجود أسماء مواضع في جغرافيا

1 Die Araber، I، S. 43.

2 حوراني "86".

3 Dio Casius، 68، 14، Ptolemy، Iv، 5، 14.

ص: 278

"بطلميوس""في حوالي 150-160 للميلاد" لم ترد في كتب المؤلفين السابقين الذين عاشوا قبل هذا الجغرافي اليوناني الشهير. وفي جملة ما ذكره هذا الجغرافي أسماء مواضع عديدة في جزيرة العرب، لم يشر إليها المؤلفون اليونان والرومان السابقون، وأوصاف أدق وأصدق من الأوصاف التي ذكروها، وفي ذلك دلالة على زيادة علم اليونانيين والرومان في هذه الأيام بأحوال الشرق نتيجة زيادة اختلاطهم واتصالهم بالشرقيين.

ومعارفنا بأخبار الملاحة في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي في العهد البيزنطي، أي العهد الذي أصبحت فيه القسطنطينية فيه عاصمة بدلًا من روما "330م"، قليلة ضحلة؛ لأن أكثر المؤرخين الذين عاشوا في هذه الحقبة ثم ما بعدها إلى ظهور الإسلام إنما اهتموا بالأمور الدينية، وكانوا إذا ما تطرقوا إلى النواحي الجغرفاية أو التاريخية المعاصرة للبلاد الخارجة عن نطاق الانبراطورية البيزنطية أو نفوذها السياسي، أوجزوا القول إيجازًا لا يعطي القارئ رأيًا في الأحوال العامة وفي ضمنها التجارة والملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

لقد أثرت الأوضاع السياسية القلقة التي حدثت في الدولة البيزنطية، والحروب المتوالية بين الساسانيين والبيزنطيين، أثرًا خطيرًا على البحرية البيزنطية في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي، إذ حدت من توسعها، وقلصت من عدد سفنها، ولم تجد بسبب انشغال الحكومة في تلك الحروب عناية ورعاية، ولهذا اقتصر نشاطها على البحر الأحمر وعلى السواحل الإفريقية التي كانت على صلات حسنة بالبيزنطيين. فكانت تصل إلى ميناء "أدولس"، ومنه يصل التجار إلى أسواق الحبشة الداخلية، أو إلى مواني "سقطرى"، وقد كان بها مستوطنون يونانيون، أقاموا فيها منذ أمد طويل، وبنوا بها كنائس ومستوطنات للإقامة فيها، وظل بعضهم بها إلى أيام الإسلام.

وكانت السفن اليونانية تمون نفسها بما تجده في "ادولس" وفي "سقطرى" من تجارات، بعضها من نفائس تجارة الهند جاءت بها السفن الساسانية إلى هذه المواضع، فيشتريها التجار اليونان ويأخذونها إلى بلادهم.

ويذكر أهم الأخبار أن "سقطرى" كانت مركزًا هامًّا من مراكز التجارة في البحر، وكان بها قوم من اليونان يحفظون أنسابهم محافظة شديدة. وقد كانوا بها

ص: 279

من أيام ما قبل الميلاد، وربما كانوا بها قبل أيام "الإسكندر". ولما ظهرت النصرانية تنصر من كان بها من اليونانيين. ويذكرون أن قومًا منهم طرحهم "كسرى" في هذه الجزيرة. وكانت بوارج الهند تأوي إليها. وقد اشتهرت بالصبر الجيد الذي لا يوجد مثله في غيرها، وبدم الأخوين، وهو صمغ شجر يسمونه "القاطر"، وهو "الأيدع"، وقد ساكن العرب اليونان1. ويذكر أهل الأخبار أن "أرسطو"، هو الذي أشار على "الإسكندر"، بإجلاء أهل "سقطرى"، وإسكان طائفة من اليونان بها، لحفظ "الصبر" لعظيم منفعته. وذكروا أن بينها وبين "المخا" ثلاثة أيام مع لياليها، وأن من مدنها:"بروه" و"ملتده"، و"منيسة"، وهي مسكن ملك الزنج2.

أما البحرية والتجارة البحرية الساسانية، فإننا لا نعرف عنها في هذا العهد معرفة واسعة، ولا نستطيع أن نتحدث عن وجود قوة بحرية ساسانية، أو نشاط بحري في البحر الأحمر في كل العهود، وإنما كان أقصى ما وصل إليه نفوذ الساسانيين في البحر، هو باب المندب، أي مدخل البحر الأحمر، حيث وقفوا عنده. وقد صار البحر الأحمر، منذ استيلاء اليونان والرومان على مصر، بحرًا يونانيًّا رومانيًّا بيزنطيًّا، حرسوه بأساطيل قوية، ضمنت لهم التفوق فيه، فلم يكن في وسع الفرس ولوجه أو التوغل فيه.

وقد ذكر أن "أردشير" الأول "225-241م" بنى جملة مواني بحرية وأن "نرسي""292-302م" عقد صلات ودية مع ملك الزنوج في شرق الصومال، وأن "سابور" الثاني حوالي سنة "310م" هاجم البحرين، وأقام حامية بها، وفتك بقبائل عديدة، وذلك ردًّا على هجوم تلك القبائل على سواحل فارس.

وصار للفرس نشاط ملحوظ في الخليج وفي المحيط الهندي. وقد أنشأ الفرس جملة كنائس في سواحل الهند وسقطرى، أنشأها الفرس النساطرة، وكانوا تجارًا، نزلوا في هذه المواضع للاتجار، كما كانت هنالك سفن فارسية في "أدولس". وكان الساسانيون يستغلون الظروف الحرجة، والأوضاع القلقة التي

1 البلدان "5/ 93 وما بعدها".

2 تاج العروس "3/ 273"، "السقطري".

ص: 280

تقع في انبراطورية الروم، فيزيدون من نشاطهم في البحر، ويمنعون في مطاردة التجار البيزنطيين في البحر العربي وفي الخليج وفي الهند، حتى قل عدد سفن الروم، في المحيط، واكتفت بالوصول إلى باب المندب والسواحل الإفريقية في بعض الأحيان، عند اشتداد الأزمات، ووقوع قلاقل داخلية، أو نزول كوارث بالروم في الحروب.

وقد وجد الساسانيون أن من الأصلح لهم نقل التجارة الآتية التي تجارهم من الصين والهند وسيلان إلى الخليج حيث لا يزاحمهم أحد، ومنه إلى العراق، أو من الهند والصين إلى فارس، ثم العراق ومنه إلى "نصيبين"، أو إلى بلاد الشأم، لبيعها إلى البيزنطيين، وفي جملة مواد هذه التجارة "الحرير" الذي كان مطلوبًا عند البيزنطيين؛ لأنه من الألبسة الفاخرة بالنسبة للطبقة الحاكمة ولرجال الكنيسة وللطبقة المترفة المرفهة، فكان يباع بأغلى الأثمان1.

وقد دخل الأحباش البحر، فكانوا يسيرون سفنهم بين السواحل الإفريقية والسواحل العربية الغربية والجنوبية. ولو لم تكن لهم قوة بحرية ما تمكنوا من الاستيلاء على اليمن وعلى مواضع من العربية الجنوبية جملة مرات. آخرها فتحهم اليمن سنة "525" للميلاد. وقد تولت سفنهم نقل حاصلات الحبشة والسواحل الإفريقية إلى بلاد العرب، وكان التجار العرب ينقلون هذه السلع إلى بلاد الشأم أو العراق. وقد ذكر أهل الأخبار أن "الجار"، وهي مدينة على ساحل بحر القلزم بينها وبين المدينة يوم وليلة وبينها وبين أيلة نحو من عشر مراحل، وإلى ساحل الجحفة نحو ثلاث مراحل، كانت فرضة، ترفأ إليها السفن من الحبشة ومصر وعدن والصين وسائر بلاد الهند، وبحذاء الجار جزيرة في البحر تكون ميلًا في ميل لا يعبر إليها إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة2.

ولكن قوة الحبشة البحرية لم تكن قوة قوية ضخمة، ولم تكن مكونة من سفن كبيرة ذات مرونة وقابلية على الحركة، بل كانت سفنًا صغيرة لا تضاهي السفن اليونانية في الضخامة وفي الفن. ولم تكن كثيرة العدد، ولا سيما في الجاهلية القريبة من الإسلام، بدليل ما ورد في بعض الروايات من أن السفن التي حملت

1 Runciman، Byzantine Civilization، P.164.

2 البلدان "3/ 35".

ص: 281

جيش ملك الحبشة إلى اليمن لاحتلالها سنة "525" للميلاد، وذلك في عهد "ذي نواس" كانت سفنًا يونانية أمر القيصر بإرسالها إلى الحبشة لحمل الجيش إلى اليمن1. وبدليل ما ورد في روايات إخراج الحبش وطردهم من اليمن، من أن السفن التي حملت الفرس إلى اليمن كانت ثماني سفن، غرق منها سفينتان، وبقيت ست سفن فقط، وقد تغلب من كان بها مع ذلك على الحبش. فلو كان للحبش أسطول بحري قوي، ولو كانت لهم هيمنة على البحر، لما كان في إمكان هذه السفن الفارسية الست الوصول إلى مياه اليمن، وإنزال ما فيها من جنود، ومن التغلب على الحبش والقضاء على حكمهم هناك.

وضعف بحرية الحبشة، هو الذي جعلها لا تستطيع الوفاء بوعدها للقيصر "جستنيان""Justinian" في شراء الحرير من الهند ومن وراء الهند، وبيعه للروم. فقد كان هذا القيصر قد أرسل في عام "531م" وفدًا إلى "أكسوم"، ليفاوض الحبش في هذا الموضوع لحرمان الساسانيين من ربح كبير كانوا يجنونه من الاتجار بالحرير المستورد من الهند ومن وراء الهند، فوافقوا على ذلك، لكنهم لم يتمكنوا في النهاية من الوفاء بالوعد، لعدم تمكن سفنهم البحرية من الوصول إلى الهند ومن منافسة التجار الفرس الذين كانوا قد استقروا في سيلان وفي الهند وفي مواضع أخرى منذ عهد طويل2.

ولم يتمكن الأحباش أن يفيدوا فائدة تجارية كبيرة من فتحهم لليمن. ولم يحصل البيزنطيون على ما كانوا يتوقعون الحصول عليه من الاتصال بالحبش من البر، وذلك عن طريق "المقاطعة العربية" في جنوب بلاد الشأم فالحجاز إلى اليمن. فلم يتمكن الحبش من احتلال الحجاز، للاتصال بالروم. وأخفق "أبرهة" في الاستيلاء على مكة على نحو ما تحدثت عنه في موضعه. وتمكن الفرس من طردهم من اليمن بكل سهولة، دون أن يقوم الحبش ولا حلفاؤهم البيزنطيون بإرسال قوات بحرية لمقاتلة السفن الساسانية القليلة التي جاءت بمقاتلين من المساجين المجرمين، لا بجيش نظامي مدرب، وقد تمكنوا من ذلك من التغلب على الحبش، بمساعدة كبيرة بالطبع من اليمانيين أنفسهم الذين كانوا قد أعلنوا

1 الطبري "2/ 127".

2 Procopius، Persian Wars، I، 29، 9-13، Malalas، 18، 456-459.

ص: 282

ثورة عامة على الحبش. ولو كان للحبش أو لحلفائهم البيزنطيين أساطيل من السفن المحاربة القوية، لما تمكن الفرس من الاستيلاء على اليمن بتلك القوة الضعيفة!

ولم يكن الساسانيون أقوياء في البحر عند ظهور الإسلام، وآية ذلك وأن عاملهم على اليمن، كان يرسل ألطاف اليمن وما يجمعه منها إلى "كسرى" عن طريق البر، وقد تحدثت عن تعرض "بني تميم" بقافلة كسرى التي كانت قادمة من اليمن في طريقها إلى "المدائن"، ولو كان للفرس أسطول قوي من سفن ضخمة على نمط سفن البيزنطيين، لاستخدموه واسطة للنقل بين اليمن والعراق، ولسمعنا بوجوده في البحر. وقد يقال إن الفرس استخدموا البر؛ لأنه أسهل عليهم من البحر، وأقصر مسافة وأسرع من حيث الوقت، ثم هو يمر بأرضين صديقة للفرس أو موالية لهم، أو تابعة لأمراء موالين لهم، خاضعين لسيادتهم، وليس في ذلك دليل على عدم وجود أسطول قوي لهم في البحر، ولكننا مع موافقتنا على هذا التعليل، فإننا لا نسمع في أخبار أهل الأخبار المنقولة من روايات فارسية أصلية، ما يفيد بوجود فعل وأثر لأسطول ساساني ما وراء عمان إلى السواحل الإفريقية، ثم إن الفرس كانوا قد تحكموا في السواحل العربية الجنوبية قبل فتحهم لليمن، ولكنا لا نجد في هذا العهد أثرًا لحكم فارسي على السواحل العربية الجنوبية، مما يدل على زوال حكمهم عنها وعدم وجود أسطول ساساني في مياه السواحل، فتخلصت منهم، واستقلت بأمرها وإدارتها.

وقد استفاد أهل مكة، من الأحداث التي وقعت في اليمن، ولا سيما بعد موت أبرهة وموت مشروعه في الاستيلاء على مكة قبل وفاته. وإني أرى أن حملة "أبرهة" على مكة، لم تكن حملة غايتها هدم الكعبة، ونقض قواعدها، كما يذكر ذلك أهل الأخبار، وإنما كانت لدوافع اقتصادية وسياسية، فقد كانت مكة قد برزت وظهرت إلى الوجود، قبل أبرهة، واستغل أهلها مواهبهم وذكاءهم في كيفية جمع المال، حتى صاروا تجارًا ووسطاء في التجارة، يتاجرون بين بلاد الشأم واليمن، وبين الحبش والعراق، وصاروا أصحاب مال، لهم نقود: دنانير، ودراهم، وذهب، وفضة، وغير ذلك مما يسيل له لعاب التاجر وصاحب المال، أضف إلى ذلك وقوع مكة في موقع مهم، والاستيلاء عليه يمهد للسير نحو بلاد الشأم، للاتصال بالروم، أصحاب مشروع الحملة الأصليون،

ص: 283

كما تحدثت عن ذلك. فالعوامل إذن اقتصادية سياسية، وليست العوامل التي ذكرها أهل الأخبار.

وقد ساهم أهل الهند في تسخير البحر كذلك، فكانت سفنهم تمخره ما بين الهند وساحل الخليج إلى "الأبلة"، كما كانت تتجه نحو "سقطرى" وسواحل إفريقية الشرقية، فقد ذكر أهل الأخبار أن "بوارج الهند" كانت تتاجر مع هذه الجزيرة1. وقد مونت الهند جزيرة العرب بالحديد الجيد، الذي صنعت منه السيوف الهندوانية، نسبة إلى الهند. و"التهنيد"، عمل الهند. كما مونتهم بالعود الطيب، وبالخشب الصلد2.

وبظهور الإسلام، وباستيلاء المسلمين على مصر وعلى شمالي إفريقية، وبفتح بلاد الشأم والعراق وإيران وما وراء إيران تغير الحال بالطبع، فماتت الإنبراطورية الساسانية، ومات أسطولها معها، وانقطعت صلة البحرية البيزنطية بالبحر الأحمر وبالمحيط الهندي، وأبعد الأوروبيون من البحار الدافئة إلى أن تبدلت الدنيا مرة أخرى، فظهر المكتشفون الأوروبيون وفي مقدمتهم البرتغال، فعاد التفوق البحري للغرب، وانتزع البحر من البحرية الإسلامية؛ لأنها ظلت جامدة محافظة لم تحدث تغييرًا في هندسة السفن، ولا في أسلوب القوى المحركة لها وفي قابليتها على الحركة، فصارت عاجزة عن مقاومة العقل الحديث، وغلبت على أمرها نتيجة جمود العقلية وعدم التطور مع عقلية الزمن.

هذا ولا بد لي هنا من لفت نظر القارئ إلى ورود شيء في كتب أهل الأخبار عن حملات الروم على بلاد العرب وعلى البحر الأحمر، ولو أن هذا المذكور المدون في كتبهم، هو من نوع القصص المعروف المألوف الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، فيه مبالغة وغرابة وخيال، وفيه سذاجة تنم عن عقلية سطحية تروي كل ما يقال لها من غير نقد ومناقشة. وقد أخذ من أهل الكتاب وفي الإسلام في الغالب. ولكنه قصص يستند –على كل حال- إلى أصل وسبب وإن كان بعيدًا. ثم إنه قصص طريف يريك مبلغ علم القوم بأحوال الماضين، وكيف يروون قصص الحوادث المتقدمة وينقلونه على أنه تأريخ للماضين ويكاد يكون أكثر تأريخ من تقدم زمن الإسلام من هذا النوع.

1 البلدان "5/ 93".

2 تاج العروس "2/ 547"، "هند".

ص: 284