الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات
مدخل
…
الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات
والزراعة هي عماد ثروة اليمن وبقية العربية الجنوبية، والمواضع التي تتوفر فيها المياه في جزيرة العرب، وهي رأس مالها الأكبر في حياتها، والمورد الأول الذي يتعيش عليه الناس وقد انحصرت في المواضع الخصبة، أي في المواضع التي جادت عليها الطبيعة بالأمطار أو بالينابيع والجعافر والعيون وبالماء الجوفية القريبة من سطح الأرض وبالحسي وما أشبه ذلك. وحيث أن أغلب أرض بلاد العرب هي أرض صحراوية موات، لهذا فإن الزراعة فيها معدومة، ويمكن في المستقبل إحياء قسم منها، وذلك باستخدام الوسائل الحديثة التي استنبطها العقل والتي سيستنبطها في استخراج الماء وفي إصلاح التربة، وسيتحول شكل جزيرة العرب عندئذ عما هو عليه الآن كثيرًا ولا شك، وقد حولت في هذه الأيام مناطق موات، إلى أرض عمار، تسقى بالمياه المنبعثة من الآبار "الارتوازية" ومن السدود التي حبست مياه السيول، وصارت تنتج في مواضع عديدة من جزيرة العرب غلة زراعية وافرة بفضل استعمال الفن الحديث في استنباط الماء وفي كيفية الاستفادة من التربة وفي إدخال أساليب الزراعة الحديثة إلى هذه الأماكن. وقد يأتي يوم، تتحول فيه معظم أرض جزيرة العرب الفارغة المهملة التي يخشى الإنسان من ولوجها إلى أرض خصبة منتجة، إذا ما زرعت زراعة حديثة، تناسب جو بلاد العرب وتركيب تربتها، واستنبطت المياه الكافية من جوفها للزراعة وللشرب ونحن وإن كنا لا نملك مراجع جاهلية مكتوبة واسعة تتحدث عن الزراعة في
جزيرة العرب قبل الإسلام وعن أنواعها وتفاصيلها وأساليبها وطرقها وضرائبها وعن كيفية استغلال الأرض وطرق الاستفادة منها وواجب الفلاح تجاه صاحب الأرض، وعن الحاصلات السنوية ومقدار ما تأخذه الحكومة من المزارعين من ضرائب، وأمثال ذلك من أمور متصلة بالزراعة، لكنا قد تمكنا من تكوين رأي فيها من مراجعتنا للكتابات الكثيرة التي وصلت إلينا، وفيها أمور متعددة لها علاقة بهذه الموضوعات، كما أن آثار الأقنية والسدود الجاهلية المنتشرة في مختلف نواحي اليمن، هي في حد ذاتها شاهدة على مقدار توسع اليمانيين في الزراعة في ذلك العهد، ونجد مثل هذه الآثار الجاهلية في مواضع أخرى من جزيرة العرب، وهي دليل واضح على أنها كانت مزروعة معمورة، لا مغمورة مهملة كما هو شأنها في الوقت الحاضر.
أما بخصوص الزراعة واستغلال الأرضين وإيجارها وجباية الضرائب عنها والعقود التي كان يعقدها الملوك مع كبار الاقطاعيين وتنظيم المياه وأمثال ذلك، فقد وصلت إلينا كتابات وأوامر عامة فيها، كان يصدرها الملوك و"الكبراء"، يعلنونها على الناس، ليطلعوا عليها، وليعملوا يموجبها، تكتب على الحجارة، وتوضع في محلات عامة، أو في خزانات المسؤولين بموجبها، وذوي الشأن، ليرجع إليها حين الحاجة.
وهنالك كتابات كتبها رؤساء عشائر وأصحاب أملاك، عن حدود أملاكهم، أو عن تأجيرها لغيرهم، أو عن إنشاء سدود لضبط المياه وتوزيعها، أو عن حفر آبار، وأمثال ذلك، وهي كلها على صفتها الشخصية ذات قيمة بالقياس إلى هذا، لما ورد فيها من أفكار ومصطلحات فنية، تمكننا من تكوين رأي في الزراعة والنظم الاقتصادية في العربية الجنوبية في ذلك العهد.
وإذا كنا قد حصلنا على فكرة ما عن الزراعة في اليمن، وفي بعض أقسام العربية الجنوبية استنادًا إلى الألفاظ والمصطلحات الزراعية في الكتابات الجاهلية وإلى الوثائق الخاصة بالأرض وبالضرائب وبالتأجير وبعقود البيع والشراء، وإلى بعض الصور المنقوشة على هذه الكتابات، فإننا لم نعثر، ويا للأسف، على كتابات جاهلية تتحدث عن هذه الأمور في الحجارة وفي أواسط جزيرة العرب وفي الأقسام الشرقية منها، وآراؤها عنها مستمدة في الدرجة الأولى من المراجع الإسلامية ومن مشاهدات السياح لمناطق الآثار ووصفهم آثار الزراعة في المناطق التي مروا بها، ومن تقارير الخبراء "الجيولوجيين" وغيرهم من موظفي شركات النفط العاملة في جزيرة العرب.
وفي لغة المسند مصطلحات زراعية تعبر عن معان خاصة، وفيها مسميات لآلات وأدوات استخدمت في الزراعة، ولا بد أن تكون لهجات أهل العربية الجنوبية أوسع ألفاظًا في الزراعة من لهجات العرب الآخرين القاطنين في الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، بسبب تنوع الأجواء في العربية الجنوبية، وما أعقب ذلك من تنوع الزرع وطرق الزراعة فيها، أضف إلى ذلك خصب التربة ووجود الماء فيها، وجودًا لا يماثله أي مكان آخر في جزيرة العرب، فظهرت فيها ألفاظ زراعة ومصطلحات زراعية لم تعرفها عربيات بقية جزيرة العرب، اضطرت اللهجات الأخرى إلى أخذها منها، لعدم وجودها عندها، ونجد في معجمات اللغة وفي كتب النبات والأدب ألفاظًا زراعية، نص العلماء على أنها من لغات أهل اليمن.
وقد حفظت الأيام بعض الحجارة المكتوبة بالمسند، وعليها صور، أفادتنا في تكوين فكرة عن ملامح المزارع قبل الإسلام، وفي تبيين طراز معيشته، وشكل بعض ملابسه، وما شابه ذلك، وبين هذه الحجارة المصورة المكتوبة، حجر حفرت عليه صورة حراث حافي القدمين وقد ارتدى ثوبًا بلغ ركبتيه وشد وسطه بحزام وأمسك بيده اليسرى الحبل أو النطاق المتصل بالمحراث، وباليمين آلة على هيئة فأس من خشب، ربما استعملها في ضرب ثوري المحراث، أو استعملها في حفر الأرض أيضًا وفي تفتيت التراب المحفور. وقد ربط الثوران بالمحراث، وأخذا يحرثان الأرض، والفلاح يوجههما. ورسمت تحت الصورة صورة ثلاثة رجال، يظهر من ملامحهم ومن شكل ملابسهم أنهم كانوا من أصحاب الأرض.
ولأهل اليمن سبق على غيرهم من أهل جزيرة العرب في الزراعة، وهم حتى الآن على ما كانوا عليه من ميل إليها، ويشتغل عدد منهم اليوم في المملكة العربية السعودية أجراء لغيرهم في زراعة الأرض، أو مشاركون لأصحاب الأرض في الحاصل، أما الأعراب، فكانوا يزدرون شأنها، وينقصون من قدر المزارع "الخضار". ونجد هذه النظرة الازدرائية إلى المزارع عند أهل الحضر أيضًا، حتى أن بعض الصحابة كرهوا تعاطي العمل في الأرض، حتى بعد الفتح، تارركين ذلك إلى أهل الذمة. روي عن "أبي أمامة الباهلي" أنه قال، إذ رأى سكة وشيئًا من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي يقول: لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل. قالوا في تفسيره: "لما يلزمهم من حقوق الأرض التي يزرعونها، ويطالبهم بها الولاة، بل ويأخذون منهم الآن فوق ما عليهم بالضرب والحبس،
سبل ويجعلونهم كالعبيد أو أسوأ من العبيد، فإن مات أحد منهم، أخذوا ولده عوضه بالغضب والظلم، وربما أخذوا الكثير من ميراثه ويحرمون ورثته، بل ربما أخذوا من ببلد الزارع فجعلوه زراعًا، وربما أخذوا ماله"1. وهو تفسير فيه شيء من التكلف، يفصح عن كراهية القوم للزراعة أكثر من المعنى المذكور، وأما الحديث نفسه، من حيث الصحة أو الضعف، فللعلماء كلام فيه، وفي كتب الحديث أحاديث أخرى تحث على الزراعة والزرع.
وورد في الحديث أن الرسول كان يحدث جمعًا من الصحابة عن الجنة، وعن رجل زرع في الجنة فاستوى نباته، وعنده رجل من أهل البادية، فلما انتهى الرسول من كلامه، قال الأعرابي:"والله لا تجده إلا قرشيًّا أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرع. وأما نحن، فلسنا بأصحاب زرع"2.
وكراهة الزرع، كراهية نشأت من عدم توفر الماء والأرض لأكثر الناس، فصاروا يكرهونها، أما الذين ملكوهما فلم يزدروها ولم يغضوا من شأنها، والأعرابي لا يملك شيئًا، فصار يكره كل شيء لا يملكه ولا يقدر عليه، من زراعة ومن حرف ومن قيود اجتماعية ومن تنظيم، ومن كل ما يخالف مألوفه من عرف وتقاليد. ولذلك صارت الزراعة من عمل أهل المدر، وعمل كل من وجد لديه الماء الوافر، ليأخذ منه ما يلزمه للزرع، وسادت القبائل، الذين توفر الماء عندهم، أو كان لديهم المال لتشغيله في البحث عن الماء، زرعوا مثل أهل الحضر، وشغلوا العبيد وأتباعهم في الزراعة، لما وجدوا فيها من مكسب وربح، وكان للكثير منهم زرع وحوائط.
ونظرًا لتغير الحال عند العرب في الإسلام، وظهور الدعوة فيه إلى الأمة والجماعة، فقد حث الرسول المسلمين على الزرع، وظهر من روى عن الرسول أنه قال الزراعة أفضل المكاسب، وذلك لما فيها من عموم الانتفاع، حتى أن منهم من فضلها على التجارة للتوسعة على الناس، ولما للقوت الذي يأتي منها من صلة بحياة الناس3. ومع ذلك، فقد بقي العرف الجاهلي مسيطرًا على عقلية السادة
1 إرشاد الساري "4/ 172".
2 إرشاد الساري "4/ 190".
3 إرشاد الساري "4/ 171"، "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو انسان أو بهيمة إلا كان به صدقة"، صحيح البخاري "كتاب المزارعة وفي كتاب الأدب في باب رحمة الناس والبهائم"، صحيح مسلم "كتاب البيوع في باب فضل الغرس والزرع"، زاد المسلم "2/ 333 وما بعدها".
الكبار، من افتخارهم بحيازة الأرض، ومن ازدرائهم من الاشتغال بأنفسهم بها، فكانوا يستخدمون العبيد والأجراء وكراء الأرض في استغلالها، فهؤلاء وأمثالهم خلقوا للعمل في الأرض، أما هم فقد خلقوا ليكونوا سادة، عملهم امتلاك الأرض، وقد ظهر من هؤلاء جبل امتلك أرضين واسعة في البلاد المفتوحة شغل فيها أهل الذمة، والنبط وسكان الأرضين المفتوحة، ومئات وآلافًا من الرقيق والعبيد، كان عليهم العمل، ولسيدهم الكسب الوفير والمغنم.
وقد يزرع أهل الحضر في جوف القرية من النخيل والأشجار، أو داخل ما طاف به سور المدينة، ويقال لذلك "الضامنة"؛ لأن أربابها قد ضمنوا عمارتها وحفظها، فهي ذات ضمان، محروسة آمنة، وتحت رعاية وعيون أصحابها، وقد يزرعون خارج قريتهم، وخارج العمارة في البر، أي في الضاحية، ويقولون لذلك "الضاحية"، وفي كتاب النبي لأكيدر: إن لنا الضاحية من البعل، وإن لكم الضامنة من النخل1. وقد كان زرع أهل الطائف وأهل يثرب وقرى اليمامة واليمن وغيرها بين ضاحية وضامنة. والضاحية أوسع وأكثر بالطبع، لاتساع العين ووفرة الماء.
ولم يكن من الممكن بالنسبة لأيام الجاهلية، زرع مساحات واسعة بالحبوب أو الخضر والنخيل وبقية الشجر، لصغر حجوم المياه، وقلة المطر، وعدم كفايته لإرواء الزرع منذ بذر بذوره حتى حصاده، وللظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت مهيمنة على مجتمع ذلك العهد، من عدم وجود حكومات قوية كبيرة ترعى الأمن وتحمي حقوق المزارع وزرعه من العبث به، ثم تشجيعه وتقديم المعونة له، لذلك كان من الصعب ظهور مزارع كبيرة تنتج غلات عظيمة تعرض للاستهلاك المحلي وللتصدير. ولم يكن في وسع أحد إنشاء مثل هذه المزارع إلا إذا كان متمكنًا ذا مال ونفوذ، وصاحب عشيرة قوية، تحمي حقه ممن يريد الاعتداء عليه.
وزرع، بمعنى طرح البذر. وقيل الزرع نبات كل شيء يحرث. ويقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البر والشعير. والزريعة الشيء المزروع، والزرعة البذر2. فالزراعة إذن، هي التي تكون بفعل إنسان، يطرح بذرًا أو يغرس
1 تاج العروس "9/ 266"، "ضمن".
2 تاج العروس "5/ 368"، "زرع".
غرسًا، أو ينبت نبتًا، وأزرع الزرع طال. وموضع المزروع المزرعة. وقد غلب على المكان الذي يزرع برًّا وشعيرًا1.
ويكون "الغرس" بفعل إنسان، يقوم بغرس الغرس، وغرس الشجر يغرسه غرسًا، أثبته في الأرض، والغرس الشجر، والغراس وقت الغرس2. فلا يكون الغرس ببذور، وإنما بغرس غرس، ينمو ويكبر، فيصير غرسًا، ولا تعبر لفظة "غرس" عن ظهور النبات بفعل الطبيعة، وإنما تعبر عن غرس "فسيل" ليصير شجرًا. من ذلك فسيل النخل، وقضبان الكروم والأوراد، وأمثال ذلك3. ويعبر عن صغار الفسيل بـ"الودي". وفي حديث أبي هريرة، لم يشغلني عن النبي غرس الودي4. و"التغاريز" ما حول من فسيل النخل5.
وغرسوا الشجر سككًا. والسكة السطر المصطف من الشجر والنخيل. وقد كانت بساتين يثرب سككًا مسطرة بسطور النخل. ومنه الحديث: خير المال: سكة مأبورة ومهرة مأمورة. المأبورة المصلحة الملقحة من النخل، والمأمورة الكثيرة النتاج والنسل6. وغرسوا النخل أسطرًا على جانبي مسايل الماء والجداول والسواقي. والسطر، الصف من الشيء كالكتاب والشجر والنخل. يقال بني سطرًا من نخل، وغرس سطرًا من شجر، أي صفًّا7.
وغرسوا "الكرم" سككًا كذلك. وقد يتخذون له "عريشًا" يعترش العنب. و"العريش"، ما عرش للكرم من عيدان تجعل كهيأة السقف، فتجعل عليها قضبان الكرم فتعترشها8.
ويعبر بلفظة "نبت" عن كل ما نبت من نفسه، أي بدون فعل فاعل، وإنما بفعل الطبيعة في التربة، وذلك في الغالب المألوف. وذلك بتأثير المطر عليها، أو بتأثير السيول والطوفان والرطوبة والمياه الجارية، وأمثال ذلك، مما يكون سببًا
1 تاج العروس "5/ 368"، "زرع".
2 تاج العروس "4/ 201"، "غرس".
3 تاج العروس "8/ 58"، "فسل".
4 تاج العروس "10/ 387"، "ودي".
5 تاج العروس "4/ 64"، "غرز".
6 تاج العروس "7/ 143"، "سك".
7 تاج العروس "3/ 266 وما بعدها"، "سطر".
8 تاج العروس "4/ 322"، "عرش".