الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد استغلت الأرض في العربية الجنوبية، ولا سيما في اليمن استغلالًا حسنًا بالنسبة إلى باقي أنحاء جزيرة العرب، وذلك لسقوط المطر الموسمي بها بكميات مناسبة للزراعة، ولوجود موارد طبيعية للمياه بكثرة فيها بالقياس إلى المواضع الأخرى من جزيرة العرب، ثم لوجود فجوات ومنخفضات بين الجبال والهضاب ساعدت على خزن مياه الأمطار بها، كما ساعدت على إقامة السدود في أفواه الأودية لحصر المياه في المنخفضات ومنعها من السيلان في البحر. وبسبب هذه الميزات ظهر في اليمن اقتصاد زراعي وحاصل زراعي، أمكن استغلاله في الداخل وتصدير الفائض منه إلى الخارج.
الإقطاع:
الإقطاع في الإسلام يكون تمليكًا ويكون غير تمليك. والقطائع إنما تجوز في عفو البلاد التي لا ملك لأحد فيها ولا عمارة فيها لأحد، وفيما ليس بمملوك كبطون الأودية والجبال والموات، فيقطع الإمام المستقطع منها قدر ما يتهيأ له عمارته بإجراء الماء إليه أو باستخراج عين منه، أو بتحجر عليه للبناء فيه. ومن الإقطاع إقطاع أرفاق لا تمليك كالمقاعدة بالأسواق التي هي طرق المسلمين، فمن قعد في موضع منها كان له بقدر ما يصلح له ما كان مقيمًا فيه، فإذا فارقه لم يكن له منع غيره منه، كأبنية العرب وفساطيطهم، فإذا انتجعوا لم يملكوا بها حيث نزلوا منها، ومنها إقطاع السكنى. وفي الحديث: لما قدم النبي المدينة أقطع الناس الدور، معناه أنزلهم في دور الأنصار يسكنونها معهم، ثم يتحولون عنها. ومنه الحديث، أنه أقطع الزبير نخلًا، يشبه أنه إنما أعطاه ذلك من الخمس الذي هو سهمه؛ لأن النخل مال ظاهر العين حاضر النفع، فلا يجوز إقطاعه، وأما إقطاع الموات، فهو تمليك1.
وهو ضربان: إقطاع تمليك. وإقطاع استغلال. فأما إقطاع التمليك فتنقسم فيه الأرض المقطعة ثلاثة أقسام: موات وعامر ومعادن. فأما الموات، فعلى ضربين أحدهما ما لم يزل أمواتًا على قديم الدهر فلم تجر فيه عمارة ولا يثبت
1 تاج العروس "5/ 474"، قطع"، إرشاد الساري "4/ 206"، صبح الأعشى "13/ 113 وما بعدها".
عليه ملك، فهذا الذي يجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ومن يعمره، والضرب الثاني من الموات ما كان عامرًا، فصار مواتًا عاطلًا. وذلك ضربان: أحدهما ما كان جاهليًّا، فهو كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة، ويجوز إقطاعه. والضرب الثاني ما كان إسلاميًّا جرى عليه ملك المسلمين ثم خرب حتى صار مواتًا عاطلًا وقد اختلف فيه الفقهاء.
وأما العامر فضربان: أحدهما ما تعين مالكه فلا نظر للسلطان فيه، والضرب الثاني من العامر ما لم يتعين مالكوه ولم يتميز مستحقوه، وهو على ثلاثة أقسام: تكلم فيها الفقهاء.
وأما إقطاع الاستغلال فعلى ضربين: عشر وخراج. فأما العشر: فإقطاعه لا يجوز. وأما الخراج، فيختلف حكم إقطاعه باختلاف حال مقطعه، وله ثلاثة أحوال، ذكرت في كتب الفقه.
وأما إقطاع المعادن، فهو ضربان، ظاهرة وباطنة، فأما الظاهرة، كمعادن الكحل والملح والقار والنفط، وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه. وأما المعادن الباطنية، ففي جواز إقطاعها قولان: أحدهما لا يجوز كالمعادن الظاهرة، وكل الناس فيها شرع. والقول الثاني: يجوز إقطاعها. وفي حكمه قولان: أحدهما أنه إقطاع تمليك يصير به المقطع مالكًا لرقبة المعدن كسائر أمواله في حال عمله وبعد قطعه يجوز له بيعه في حياته وينتقل إلى ورثته بعد موته. والقول الثاني أنه إقطاع أرفاق لا يملك فيه رقبة المعدن ويملك به الارتفاق بالعمل فيه مدة مقامه عليه، وليس لأحد أن ينازعه فيه ما أقام على العمل، فإذا تركه زال حكم الإقطاع عنه وعاد إلى حال الإباحة. فإذا أحيا مواتًا بالإقطاع أو غير إقطاع فظهر فيه بالإحياء معدن ظاهر أو باطن ملكه المحيي على التأييد كما يملك ما استنبطه من العيون واحتفره من الآبار1.
وما الإقطاع عند أهل الجاهلية، فكان معروفًا عندهم، وقد أشير إليه في نصوص المسند. وقد كان إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال.
فأما إقطاع التمليك، فيشمل الموات والعامر والمعادن. وقد أقطع الحكام في كل هذه الأقسام الثلاثة. فكان الملوك، يهبون الموات أو العامر إلى من يريدون
1 الأحكام السلطانية، للماوردي "190 وما بعدها".
من أقربائهم أو قواد جيوشهم أو سادات القبائل، أو كبار الموظفين ومن يرضون عنه. يعطونهم أرضًا مواتًا لا أصحاب لها، أو أرضًا عامرة لها أصحاب وملاك فقد كانوا يحاربون، فإذا انتصروا اصطفوا لأنفسهم ما أحبوا من أرض مملوكة للدولة أو للأشخاص، فسجلوه ملكًا باسمهم، وأعطوا ما شاءوا إلى خاصتهم وذوي رحمهم وقواد جيشهم، ملكًا لهم، يملكون رقبته وكل ما عليه من شجر ونبات وماء ومعادن ورقيق وأناس، لا ينازعهم في ذلك منازع، لهم حق بيعه إن شاءوا، أو حق إيجاره، أو إعطائه لأي شخص آخر لاستغلاله، وإن وجدت فيه معادن، فهي لهم أيضًا.
وقد يغضب ملك أو أي حاكم متفرد بأمره على من هو من تبعته، فينتزع منه ملكه، ويستولي عليه وعلى كل ما عليه، وقد يقطعه كله أو جزءًا منه أحد خاصته، أو يقطعه إقطاعًا، لجملة أشخاص هبة أي تمليكًا، أو غير تمليك، أي عارية، رقبته للحاكم ومنفعته لمن أقطع له إلى أجل معين أو إلى أجل غير محدود، يكون له ولورثته حق الانتفاع منه. والحاكم الذي يقطع الإقطاع لمن يشاء ويهب الأرض لمن يحب، لا يعجز عن استعادة ما أقطعه تمليكًا أو استغلالًا متى أحب، فهو الآمر بأمره والناهي، لا يعارضه معارض، متى أراد الاستيلاء على أرض أو على إقطاع أقطعه أحدًا، أمر بالاستيلاء عليه، فيطاع أمره وينفذ ما دام قويًّا له الحول والطول.
ولا يعني الإقطاع عند الجاهليين وجوب وجود العبيد أو الأقنان في الأرض لاستغلالها ولإعمارها، فقد يتعامل الإقطاعي، مع أجراء أو أحرار يتفقون معه على استثمارها في مقابل حقوق يدفعونها له. أما إذا كان متمكنًا غنيًّا له خدم ورقيق وأتباع، فقد يستخدمهم في خدمة ملكه بأجر ملكه بأجر أو بغير أجر، حسب مبلغ هيمنته عليهم ومقدار نفوذه بين قومه وأهله.
وقد عرف إقطاع المعادن عند الجاهليين، ما ظهر من المعادن، وما بطن. ويظهر أن أهل اليمن لم يكونوا يفرقون في الإقطاع بين النوعين من المعدن. فكانوا يقطعون المعادن الظاهرة، مثل الذهب والملح، كما كانوا يقطعون المعادن الباطنة، أي المعادن التي يكون جوهرها مستكنًا فيها، لا يوصل إليه إلا بالعمل، كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد، فهذه معادن باطنة سواء احتاج المأخوذ
منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج، في حين أن المعادن الظاهرة، ظاهرة على سطح الأرض، ولا يبذل لإخراجها ما يبذل في إخراج المعادن الباطنة. أما الإسلام، فقد جعل حكم المعادن الظاهرة حكم الماء العد من ورده أخذه، لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه1.
وفي كتب السير والتأريخ أن الرسول أقطع بعض سادات القبائل ورؤساء الوفود إقطاعًا، وأمر فكتبت لهم كتب التملك. فأعطى "الزبير بن العوام""ركض فرسه من موات النقيع "البقيع"، فأجراه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوه منتهى سوطه"2. وفي حديث "أسماء" بنت "أبي بكر"، أنه أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير ذات نخل وشجر3.
وقد سأل "الأبيض بن حمال" رسول الله، أن يستقطعه ملح مأرب، فأقطعه. "فقال الأفرع بن حابس التميمي، يا رسول الله إني وردت هذا الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس فيها غيره، من ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بالأرض. فاستقال الأبيض في قطيعة الملح. فقد أقلتك على أن تجعله مني صدقة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو منك صدقة، وهو مثل الماء العد من ورده أخذه"4. و"الأبيض بن حمال"، سبأي من أهل مأرب، وكان من سادة قومه. وفد على أبي بكر، لما انتقض عليه عمال اليمن، فأقره أبو بكر على ما صالح عليه النبي، من الصدقة، ثم انتقض ذلك بعد أبي بكر وصار إلى الصدقة. وكان مصابًا بـ"حزازة" في وجهه، وهي القوباء، فالتقمت أنفه5.
وأقطع الرسول "بلال بن الحارث، المعادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث
1 الأحكام السلطانية، للماوردي "197".
2 الأحكام السلطانية "190"، "في أحكام الإقطاع".
3 إرشاد الساري "4/ 210"، البلاذري، فتوح "24، 42"، "موات البقيع"، صبح الأعشى "13/ 105".
4 الأحكام السلطانية "197"، "في أحكام الإقطاع"، صبح الأعشى "13/ 105".
5 الإصابة "1/ 29"، "رقم 19".
يصلح الزرع من قدس، ولم يقطعه حق مسلم"1. وذكر أن المراد من الجلسي والغوري: أعلاها وأسفلها، وذكر أن الجلسي بلاد نجد والغوري بلاد تهامة2.
وذكر أن "القبلية"، ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: ناحية من نواحي الفرع بين نخلة والمدينة، وهي التي أقطعها الرسول، بلال بن الحارث. وورد أيضًا:"معادن القلبة"3. ولم يذكر العلماء أسماء المعادن التي كانت في هذه الأرض. وقد باع بنو "بلال""عمر بن عبد العزيز" أرضًا منها، فظهر فيها معدن أو معدنان، فجاءوا إليه، وقالوا: إنما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعادن. فقال "عمر" لقيمه: أنظر ما خرج منها وما أنقفت وقاصهم بالنفقة ورد عليهم الفضل4.
وأقطع الرسول "وائل بن حجر" أرضًا بحضرموت5. وكان أبوه من أقيال اليمن، وفد على النبي واستقطعه أرضًا فأقطعه إياها وكتب له عهدًا6. وأقطع "زيد الخيل" الشاعر الفارس لما وفد عليه في سنة تسع من الهجرة أرضين. هي "فيد" وكتب له بذلك7. فلم وصل موضع "قردة"، توفي بها فدفن هناك، وأقام عليه "قبيصة بن الأسود بن عامر" المناحة سنة8.
وأقطع الرسول "حمزة بن النعمان بن هوذة""جمرة" العذري، أرضًا من وادي القرى، وكان سيد "بني عذرة"9، وكان "جمرة" أول من قدم بصدقة "بني عذرة" إلى النبي، وقدم في وفد قومه. وقد نزل أرضه التي أقطعها الرسول له إلى أن مات10. وأقطع الرسول "ساعدة التميمي العنبري"
1 الأحكام السلطانية "198"، "في أحكام الإقطاع"، تاج العروس "9/ 275"، "عدن".
2 الأحكام السلطانية "198".
3 تاج العروس "8/ 73"، "قبل".
4 البلاذري، فتوح "27".
5 إرشاد الساري "4/ 210".
6 الإصابة "3/ 592"، رقم "9102".
7 تاج العروس "7/ 315"، "خيل".
8 الإصابة "1/ 555"، "رقم 2941".
9 البلاذري، فتوح "48"، "حمزة". وضبطه الآخرون "جمرة"، الإصابة "1/ 244"، "رقم 1184"، "1/ 396"، "رقم 2110".
10 الإصابة "1/ 244"، "رقم 1184".