الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعتبرناهم من ضمن الشعراء، لاضطررنا إلى تغيير هذا الرقم، بإضافة هؤلاء عليهم. ومع ذلك، فإننا لا نستطيع القول أن هذا الرقم هو رقم نهائي ومضبوط لشعراء الجاهلية، فالمنطق يحملنا على تصور وجود عدد آخر من الشعراء فات خبرهم عن رواة الشعر، لأسباب عديدة، منها قدم أولئك الشعراء، بحيث لم تتمكن ذاكرة حفظة الشعر من استيعابهم، ثم بُعد بعضهم عن الأَرَضِين التي حصر علماء الشعر فيها نشاط بحثهم عن الشعر الجاهلي وعن شعرائه، ثم كون قسم منهم من الشعراء المحليين، أو الشعراء المقلِّين الذين لم ينتشر شعرهم بين الناس.
وقد فطن إلى ذلك القدماء فقال "أبو عمرو بن العلاء": "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"1. وذكر غيره أن العلماء على حرصهم على العناية بجمع شعر الشعراء، لم يتمكنوا مع ذلك من جمع أشعار قبيلة واحدة، فكيف بشعر كل القبائل2! والواقع أن في العرب قابلية على قول الشعر، وبين الصحابة عدد كبير نظموا شعرًا روي في الكتب، ومع ذلك، فلم يعدُّهم العلماء في جملة الشعراء، وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل الجاهلية، فقد كان بينهم عدد كبير ينظم الشعر.
1 المزهر"2/ 474"، ابن سلام، طبقات "23".
2 الشعر والشعراء "1/ 8 وما بعدها".
إنشاد الشعر
مدخل
…
إِنْشَادُ الشِّعْرِ:
وللشعراء طريقة خاصة في إنشاد الشعر. يذكرون أن الشاعر منهم كان إذا أراد إلقاء شعر، تهيأ لذلك واستعد له، وأظهر للناس أنه يريد إلقاء شعر. ومن أصولهم في الإلقاء أن ينشد الشاعر شعره وهو قائم1. وأن يلبس الوشي والمقطعات والأردية السود وكل ثوب مشهر2.
وذكر أن من عادة الشعراء في الهجاء، أن أحدهم كان إذا أراد الهجاء
1 العمدة "1/ 26".
2 البيان والتبيين "60"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1959م"، البيان والتبيين "3/ 115"، "هارون".
"دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلا واحدة"1. وقد ذكر "المرتضي"، في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر، وكان فيهم "لبيد بن ربيعة"، وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدوا وجه النعمان عنهم، فأرادوا تقديم "لبيد" ليرجز بالربيع بن زياد رجزًا مؤلِمًا ممضًّا، وكان هو الذي صرف الملك بالطعن فيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان. فقام وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة على فعل شعراء الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم أنشد رجزه الذي أثر في النعمان، حتى صار سببًا في إبعاد "الربيع بن زياد" عنه2.
وإذا أراد شاعر إنشاد شعر، وقف وأنشد شعره، بأسلوبه الخاص في الإنشاد3. وقد يترنمون في إنشادهم ليكون الإلقاء أوقع أثرًا في نفوس السامعين. وقد يلقي راوية الشاعر شعر شاعره إذا كان أقدر منه على الإنشاد. وذكر أن "النشيد" هو الشعر المتناشد بين القوم ينشد بعضهم بعضًا، ومنه نشد الشعر وأنشده، إذا رفعه. وأنشد بهم، هجاهم، "وفي الخبر أن السليطين قالوا لغسان: هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا"4. لا يخلو الإنشاد من الترنم على اللحن الذي يتسمح به الطبع، ومن مد الصوت، ليكون للشعر وقع على نفوس سامعيه، وتأثير جميل على المنصتين له.
وذكر أن الشعراء كانوا لا ينشدون إلا قيامًا، وقد يعلو أحدهم موضعًا مشرفًا، أو يركب ناقته، ليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره، وكذلك كان يفعل الخطيب5. وقد استدل بعض المستشرقين من هذا الوصف على أن الشعراء إنما أخذوا تقليدهم هذا من السحرة: الشعراء الأوائل ومن الكهنة، لأن السحرة والكهنة كانوا ينظمون الشعر وينشدونه على هيئة خاصة، يلبسون فيها أَرْدِيَة خاصة ويقفون في وضع خاص حين إنشاد الشعر.
1 أمالي المرتضى "1/ 191".
2 أمالي المرتضى "1/ 191"، الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 23".
3 العمدة "1/ 26".
4 اللسان "3/ 422 وما بعدها"، "نشد".
5 العمدة "1/ 26".
وذكر أن الملوك كانوا يجلسون خلف الستور حين يستمعون إلى شاعر. فروي أن "عمرو بن هند" كان يسمع الشعراء من وراء سبعة ستور1. وأن الشاعر "الحارث بن حِلِّزَة اليشكري" لما طلب قومه منه إنشاد قصيدته أمام "عمر بن هند" قال لهم: "والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء. إذا انصرفت عنه، وذلك لبرص كان به". فلما سمع قصيدته أمر برفع الستور سترًا سترًا، حتى صار مع الملك في مجلسه، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء""وأمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئًا"2.
ولكن العادة أن الشاعر يقف أمام الملك، الذي قد يكون جالسًا على سرير، فينشده شعره بعد أن يكون قد أستأذنه بذلك. وقد يكون في المجلس جملة شعراء، أذن لهم بالدخول عليه جملة واحدة، لينشدوا الملك شعرهم وما جاءوا به من شعر في مديحه. ويكون المجلس عامرًا بأهل الحظوة من المقربين إلى الملك ومن الشعراء الملازمين له. وكانت مجالس ملوك الحيرة، عامرة بهذه المناسبات، أكثر بكثير من مجالس الغساسنة، لغلبة النزعة الأعرابية على ملوك الحيرة وقلة تأثرهم بالحضارة، وتغلب الحياة الحضرية على الغساسنة وتأثرهم بالحياة اليومية لأهل الشأم، وبنزعة الروم في الحكم وفي آداب السلوك، حتى إنهم كانوا يتلذذون في الاستماع إلى غنائهم، ولهم قيان في قصورهم وبيوتهم يغنين لهم بغناء الروم.
وكان من عادة الأعراب الطواف حول قبة الملك مع رفع الصوت بالرجز، ليسمع الملك صوت الراجز، فإذا عرفه أو أعجبه رجزه، إذن له بالدخول. وكان الملوك يضربون قبة على أبوابهم، يقعد فيها الناس حتى يؤذن لهم3 وقد يكون هذا الرجز مقدمة لدخول الشاعر على الملك حتى يلقي عليه ما يكون نظمه في مدحه وفي مدح آله من شعر.
وكان من عادة الملوك وسادات القوم والأشراف إنهم إذا سمعوا الشاعر، واستحسنوا شعره، طربوا حتى يظهر الطرب عليهم وأظهروا استجادتهم لشعره، وربما شربوا إذا كانوا في مجلس الشرب، وأدنو الشاعر إليهم، وأسقوه من
1 شرح المعلقات، للزوزني "154"، "صادر".
2 شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص379 وما بعدها"، "معلقة عمرو بن كلثوم التَّغلبي".
3 الخزانة "4/ 158"، "بولاق"، "الشاهد الثامن والثمانون بعد السبعمائة".