الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر
مدخل
…
الفَصْلُ الثَّالِثُ والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: أَشْهَرُ رُوَاةِ الشِّعْرِ
اشتهر مخرمة بن نوفل بن أهيب "وهيب" بن عبد مناف بن زهرة، وهو من قريش برواية الشعر وبالعلم به. "وكان من مسلمة الفتح، وله سر وعلم، كان يؤخذ عنه النسب1، ولا سيما نسب قريش إذ كان من العالمين به. وكان عالِمًا بأنصاب الحرم. فبعثه "عمر" هو وسعيد بن يربوع، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، فجددوها. وكانت أمه رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف شاعرة، وكانت لدة عبد المطلب2.
وعُرف أبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف بالعلم بالشعر. وهو من بني عدي. وكان من معمري قريش ومن مشيختهم، وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب. وكان شديد العارضة، وكان "عمر" يمنعه حتى كف من لسانه. وكان من مسلمة الفتح، وكان مقدما في قريش معظمًا، وكانت فيه وفي بنيه شدة وعرامة3.
وكان أبو بكر من الحافظين للشعر الراوين له، روى المطلب بن المطلب
1 كتاب نسب قريش "262"، "وهيب"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 101".
2 الإصابة "3/ 370"، "رقم7842".
3 الإصابة "4/ 35 وما بعدها"، "رقم 207"، الاستيعاب "4/ 31 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، نسب قريش "369، 372".
ابن أبي وداعة عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر -رضي الله تعالى عنه- عند باب بني شيبة، فمر رجل وهو يقول:
يا أيها الرجل المحول رحله
…
ألا نزلت بآل عبد الدار
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم
…
منعوك من عدم ومن إقتار
قال: فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله
…
الا نزلت بآل عند منف
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم
…
منعوك من عدم ومن إفراف
الخالطين فقيرهم بغنيهم
…
حتى يعود فقيرهم كالكافي
ويكللون جفانهم بسديفهم
…
حتى تغيب الشمس في الرجاف
منهم علي والنبي محمد
…
القائلون هلم للأضياف
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "هكذا سمعت الرواة ينشدونه"1.
وكان أبو بكر أحد العلماء بالنسب في قريش، وكانوا إذا أرادوا الوقوف على نسب رجل جاءوا إليه يسألونه، فهو عالم من علماء قريش فيه.
وكان عمر بن الخطاب ممن يحفظون الشعر، ووصف بأنه كان عالمًا به2 وبأنه "كان أعلم الناس بالشعر"، وكان يحكم على الشعر وينتقده، ولا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر3، وأنه كان بصيرا به، حتى قيل عنه إنه كان "لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر"4، ورووا له أمثلة كثيرة من حفظه للشعر ومن حسن نقده له، ونفاذه في باطن معانيه ومحاسنه5.
1 الأمالي، للقالي "1/ 241 وما بعدها".
2 العمدة "1/ 76"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 239".
3 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 241 وما بعدها".
4 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 241".
5 العِقْدُ الفريد "6/ 120 وما بعدها".
وذكر أنه كان يقدم امرأ القيس على بقية الشعراء1.
وكانت عائشة من رواة الشعر، وكانت تحفظ منه ما شاء الله، قيل إنها قالت:"إني لأروي ألف بيت للبيد، وأنه أقل مما أروي لغيره2. وإنها كانت تحفظ من شعر كعب بن مالك شعرًا كثيرًا، منها القصيدة فيها أربعون بيتًا ودون ذلك3، وكان تتمثل بالأشعار، وربما دخل عليها رسول الله، فوجدها تنشد الشعر4. قال "أبو الزناد": "ما رأيت أحدًا أروى لشعر من عروة. فقيل له: ما أرواك، فقال: روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا"، وورد عن عروة قوله: "ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة"5. وروي أنها كانت تحث على تعلم الشعر وروايته، بقولها: "رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم"6.
وكان ابن عباس من رواة الشعر وحفاظه. سأله عمر أن ينشده شعرًا، فطلب منه أن يذكر له اسم الشاعر لينشد
له شعره، فقال زهير بن أبي سلمى، فأنشده "إلى أن برق الصبح"7، وزعم أنه كان يفسر كلمات كتاب الله بالشعر، قال أبو عبيد:"إنه كان يُسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر"8. وزعم أهل الأخبار أن نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر، سألا ابن عباس عن كلمات واردة في القرآن، فجلس لهما بفناء الكعبة، وأخذ نافع يسأله الكلمة تلو الكلمة وهو يشرحها لهم بشعر، وقد دون نصها العلماء، أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب الوقف، والطبراني في معجمه الكبير، ويرجع سند ابن الأنباري إلى ميمون بن مهران، ويرجع سند الطبراني إلى الضحاك بن مزاحم، وقد أخذ السيوطي بالروايتين وسجلهما في كتابه
1 الأغاني "8/ 199"، الفائق "1/ 343".
2 العِقْدُ "6/ 125".
3 الْمُزْهِرُ "2/ 309".
4 الأغاني "3/ 117".
5 الإصابة "4/ 349"، "رقم 704"، الاستيعاب "4/ 348 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
6 العِقْدُ "6/ 125".
7 الأغاني "10/ 291".
8 السيوطي، الإتقان "2/ 55".
"الإتقان في علوم القرآن"، بعد أن حذف منها نحو بضعة عشر سؤالا1. وقد وردت هذه الرواية الرواية بصورة مختلفة2، وذكر أن أبا عبيدة معمر بن المثنى، أخذ أسئلة نافع وأدخلها في كتابه في غريب القرآن3.
وكان معاوية ممن يروي ويحفظ الشعر الجاهلي، وقد رووا عن حفظه للشعر الجاهلي واستشهاده به في كلامه شيئًا كثيرًا، فزعموا أنه كان يمتحن الناس بأشعار الجاهليين، فإذا وجد في أحدهم علمًا بها زاد في عطائه وقدمه عنده وأجزل عليه4. ورووا أنه كتب إلى زياد بشأن ابنه، وقد وجده عالما بكل ما سأله عنه إلا الشعر: "ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاق ليرويه فيبر، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل5. ويروى أنه سأل عبد الله بن زياد: ما منعك من روايته؟ قال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدري، فقال: أعزب! والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مرارًا، ما يمنعني من الإنهزام إلا أبيات ابن الإطنابة، وتمثل بها، ثم كتب إلى أبيه أن روِّه الشعر، فرواه فما كان يسقط عليه منه شيء6.
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الشعر الجاهلي فقال: "والعرب أوعى لما تسمع، وأحفظ لما تأثر، ولها الأشعار التي تقيد عليها مآثرها، وتخلد لها محاسنها. وجرت من ذلك في إسلامها على مثل عادتها في جاهليتها، فبنت بذلك لبني مروان شرفًا كثيرًا ومجدًا كبيرًا وتدبيرًا لا يحصى"7. وقد كان لبني سفيان وآل مروان
1 الإتقان "2/ 55- 88".
2 الكامل، للمبرد "566 وما بعدها".
3 السيوطي، الوسائل في مسامرة الأوائل "112"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "243".
4 الأغاني "3/ 100 وما بعدها"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 333"، "3/ 9"، الفائق "1/ 240".
5 العِقْدُ الفريد "6/ 125".
6 الْمُزْهِرُ "2/ 310 وما بعدها"، وتروى هذه القصة بروايات أخرى، راجع المصون، للعسكر "136"، مجالس ثعلب "82" الأمالي، للقالي "1/ 158"، عيون الأخبار "1/ 126"، ديوان المعاني "1/ 114"، المرزباني، معجم "9"، "فراج"، عيون الأخبار "3/ 159"، مجالس ثعلب "67"، "عبد السلام محمد هارون".
7 البَيَانُ والتَّبْيينُ "88"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت 1959م، المطبعة الكاثوليكية".
عناية فائقة بالشعر الجاهلي، فقد كان "معاوية" كما ذكرت يحفظ كثيرًا من ذلك الشعر، وينقب عنه، وكان يسأل من يجد فيه العلم عنه، حتى زعم أنه ذكر قصيدتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حِلِّزةَ اليَشْكُرِيّ، وقال:"كانتا من مفاخر العرب، وكانتا معلقتين بالكعبة دهرًا"1. وزعم أن بني أمية "كانوا ربما اختلفوا وهم بالشأم في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريدًا إلى العراق":2، وأنهم كانوا يسألون الوافدين عليهم من سادات القبائل ومن الأعراب ومن العارفين بالشعر عن الشعراء، وقد يذكرون بيتًا أو شعرًا حفظوه لا يدرون اسم قائله، فكانوا يستفسرون عن قائله، وعن المناسبة التي قال الشاعر شعره فيها، ويحسنون جائزة من له علم بالشعر والأخبار3.
وكان عبد الملك بن مروان من العلماء بالشعر الجاهلي، قيل إنه كان يمتحن الناس به، ومنهم الحجاج بن أبي يوسف الثقفي4. وقد ذكر أنه استدعى إليه عامر بن شراحيل الشعبي، ليحدثه عن الحلال والحرام، وعن أشعار العرب وأخبارهم، وكان الشعبي من ذلك الطراز البارع في الشعر وفي أخبار العرب وفي الحلال والحرام5، وروي أن عبد الملك كان قد طرح أربعة من شعراء المعلقات، وأثبت مكانهم أربعة6، وإذا صح هذا الخبر دل على وجود القصائد المسماة بالمعلقات في ذلك العهد.
وروي أنه كان يقول: إذا أردتم الشعر الجيد، فعليكم بالزرق من بني قيس بن ثعلبة، وبأصحاب النخيل من يثرب، وأصحاب الشعف من هذيل7. ويظهر أنه كان من المعجبين بشعر الأعشى، روي أنه قال لمؤدب ولده: "أدبهم برواية شعر الأعشى فإنه لكلامه عذوبة"8. والأعشى هو من بني قيس بن ثعلبة،
1 الخزانة "3/ 162"،
2 العسكري، التَّصحيف والتَّحريف "4".
3 الأغاني "3/ 91".
4 ياقوت، إرشاد "1/ 27"، الأمالي، للقالي "1/15".
5 إرشاد "1/ 96 وما بعدها"، الخزانة "2/ 250"، "هارون".
6 الخزانة "1/ 61"، الخزانة "1/ 288"، "بولاق".
7 العِقْدُ "6/ 124".
8 جمهرة أشعار العرب "63".
وقد كان يقيم وزنًا كبيرًا للشعر في تأديب الأولاد. فكانت وصيته لمؤدب ولده: "روهم الشعر، روهم الشعر، يمجدوا وينجدوا"1. وروي أنه تمثل وهو بمرضه الذي مات فيه بشعر ابن قميئة، وذلك أمام الشعبي، فأنشده الشعبي شعرًا من شعر لبيد2.
ونجد في الأخبار أن عبد الملك، كان إذا شك في شعر، أو أراد الوقوف عليه وعلى ظروفه، كتب إلى العلماء به، يسألهم عنه، أو يستدعي من يعرف أن له علمًا به، فيسأله عنه، أو يسأل آل الشعر أو أحد أفراد قبيلته عنه. وكان كثير الحفظ له، حتى كاد لا يدانيه فيه كثير من حفاظ الشعر، وكان يجمع إليه الشعراء في يوم، حتى يستمتع بإنشاد شعرهم، وشعر المتقدمين عليهم. وكان له ذوق في الشعر ونقد دقيق له، ذكر أنه قال يومًا للشعراء وقد اجتمعوا عنده:"تشبهوننا بالأسد والأسد أبخر، وبالبحر والبحر أجاج، وبالجبل مرة والجبل أوعر، أقلتم كما قال أيمن بن خريم" ثم ذكر شعره في بني هاشم3. وقال للأخطل، وقد كان قد قال له: "يا أمير المؤمنين، قد امتدحتك فاستمع مني" "إن كنت إنما شبهتني بالصقر والأسد فلا حاجة لي في مدحتك، وإن كنت كما قالت أخت بني الشريد4 لأخيها صخر فهات. فقال الأخطل: وما قالت يا أمير المؤمنين؟ قال: هي التي تقول:
وما بلغت كف امرئ متناول
…
من المجد إلا حيث ما نلت أطول5
ثم قرأ عليه الأبيات. ولما دخل "جرثومة" الشاعر على عبد الملك بن مروان، فأنشده والأخطل حاضر، "قال عبد الملك للأخطل: هذا المدح ويلك يابن النصرانية"6.
وكان يجمع بين الشعراء، ويستمع إلى شعرهم، يجمعهم حتى إن كانوا
1 العِقْدُ "6/ 125".
2 الخزانة "2/ 251"، "هارون ".
3 المصون في الأدب، لأبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري "ص62"، "تحقيق عبد السلام محمد هارون"، "الكويت 1960م".
4 يعني الخنساء.
5 المصون "63".
6 المصون "64".
متعادين متنافسين، فقد جمع بين جرير، والفرزدق، والأخطل، في مجلس واحد، وذكر أنه سأل أعرابيًّا شاعرًا عن أهجى بيت في الإسلام، وعن أرق بيت في الإسلام، فأشار إلى أبيات لجرير، وفضل جريرًا عليهما، فأيده عبد الملك في هذا الرأي1.
وقد وصف عامر الشعبي، "عبد الملك بن مروان" وصفًا يدل على شدة إعجابه به؛ إذ يقول في وصفه له:"فلما فرغ من الطعام وقعد في مجلسه واندفعنا في الحديث، وذهبت لأتكلم، فما ابتدأت بشيء من الحديث إلا أستلبه مني فحدث الناس به، وربما زاد فيه على ما عندي، ولا أنشدته شعرًا إلا فعل مثل ذلك. فغمّني ذلك، وانكسر بالي له، فما زلنا على ذلك بقية نهارنا، فلما كان آخر وقتنا التفت إلي وقال: يا شعبي، قد والله تبينت الكراهية في وجهك لما فعلت، وتدري أي شيء حملني على ذلك؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: لئلا تقول: لئن فازوا بالملك أولا لقد فزنا نحن بالعلم، فأردت أن أعرفك أنَّا فُزنا بالملك وشاركناك فيما أنت فيه"2، ولهذا اجتمع إليه الشعراء وعلماء الأخبار ورواة الناس، حتى حفلت بهم مجالسه، وكان يذاكرهم ويحادثهم وينوه بهم ويدني مجالسهم3. وذكر أن عبد الملك أرسل إلى الحجاج أن يرسل إليه الشعبي، فأرسله إليه، فلما دخل عليه كان الأخطل عنده، فأخذ يسأله عن الشعر، ويسأل الأخطل عنه، حتى إذا انتهى، قال له: يا شعبي، إنما أعلمناك هذا، لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة، فلن يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق"4. وكان الشعبي قد جعل الخنساء أشعر النساء أما عبد الملك ففضل ليلى الأخيلية عليها. فشق ذلك على الشعبي، فقال له ذلك القول، وردد عليه أبيات الأخيلية حتى حفظها. والرواية المتقدمة التي أخذتها من الرافعي هي هذه الرواية بشيء من التغيير.
وكان يتمثل بالشعر الجيد، ويثني على الحسن منه، ويحسن نقده. تمثل بشعر
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 45 وما بعدها".
2 الزجاجي، مجالس العلماء "209".
3 الرافعي "1/ 407".
4 آمالي المرتضى "2/ 16 وما بعدها".
لهذيل بن مشجعة البولاني، وقال:"هذا والله شعر الأشراف. نفى عن نفسه الحسد واللؤم والانتقام عند الإمكان، والمسألة عند الحاجة:"1.وله مجالس كان يسأل فيها الناس عن الشعر، يمتحنهم، وذكر أنه سأل رجل وهو بالكوفة عن شعر ذي الأصبع العدواني" وعن أخباره، وكان من عدوان، فلما وجده جاهلا حط من عطائه2، وذكر أنه اجتمع بالربيع بن ضبيع الفزاري، وسأله عن أخباره3 وأنه كان يبدي ملاحظات قيمة على أشعار الشعراء الجاهليين والمعاصرين له4. وروي أنه كان يبحث عن شعر الشعراء بما فيهم الشعراء والمعاصرون له، فلما قدم الأجرد "الأحرد"، وهو من شعراء ثقيف في نفر من الشعراء، قال له: إنه ما شاعر إلا وقد سبق إلينا من شعره قبل رؤيته فما قلت"5.
وكان الوليد وسليمان ابنا عبد الملك من المولعين بالشعر كذلك، وذكر أن الوليد كان يقدم النابغة على غيره من الشعراء، وكان سليمان يقدم امرأ القيس، فذكر ذلك لعبد الملك، فبعث إلى أعرابي فصيح، ليكون الحكم بينهما6.ورويت القصة بشكل آخر، ورد فيها أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة الذبياني في وصف طول الليل أيهما أجود، فرضيا بالشعبي فأحضر، فصار الحكم بينهما7.
وكان هشام بن عبد الملك من المولعين بالشعر كذلك، ذكر أنه كتب إلى عامله في أشخاص "حماد" الراوية إليه لبيت سمع لم يعرف اسم قائله.
وكان الوليد بن يزيد من المتيمين بالشعر، وهو نفسه شاعر مجيد، وكان يستدعي حماد الرواية ليسأله عن الشعر، وقد قتل في سنة ست وعشرين ومائة. وكان منهمكًا في اللهو وشرب الخمر وسماع الغناء، ذكر أنه استفتح
1 رسائل الجاحظ "1/ 362 وما بعدها"، "كتاب فصل ما بين العداوة والحسد".
2 أمالي المرتضى "1/ 249 وما بعدها".
3 أمالي المرتضى "1/ 253".
4 أمالي المرتضى "1/ 278".
5 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 620".
6 الزجاجي، مجالس العلماء "272".
7 الخزانة "2/ 325 وما بعدها".
القرآن، فخرج له:{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد} 1، فألقاه ونصبه غرضًا ورماه بالسهام، وقال:
تهددني بجبار عنيد
…
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
…
فقل: يا رب مزقني الوليد2
وكان إذا أراد الاستفسار عن شعر جاهلي خفي أمره عليه، أرسل إلى حماد يسأله عنه3، كما كان يسأل غيره عنه كذلك.
وروي أنه نشر يومًا المصحف، وجعل يرميه بالسهام، وهو يقول:
تذكرني الحساب ولست أدري
…
أحقًّا ما تقول من الحساب
فقل لله يمنعني طعامي
…
وقل لله يمنعني شرابي
وأنه قال:
اسقياني وابن حرب
…
واسترانا بإزار
فلقد أيقنت أني
…
غير مبعوث لنار
واتركا من طلب الجنـ
…
ـة يسعى في خسار
سأسوس النسا حتى
…
يركبوا دين الحمار4.
إلى غير ذلك من أشعار وأخبار، وروايات تتهجم عليه، نسبت بعضها إلى أهله وأقاربه، بل زعم أن الرسول لعنه في حديثه5، ومثل هذه الأحاديث من الحديث الموضوع.
1 إبراهيم، الآية:15.
2 الخزانة "2/ 228"، "هارون"، الخزانة "1/ 328"، "بولاق".
3 الخزانة "4/ 129"، "بولاق"، وورد بصورة أخرى تختلف بعض الاختلاف عن هذه الرواية، أمالي المرتضى "1/ 130".
4 أمالي المرتضى "1/ 129"، ورويت بصورة أخرى، الأغاني "7/ 46"، رسالة الغفران "444".
5 أمالي المرتضى "1/ 129"، راجع رسالة الغفران حيث تجد بعض أشعاره "444 وما بعدها".
وفي شعر الوليد سلاسة وطبع، وعدم مبالاة، فالحياة في نظره، سماع غناء، وخمر طيب، أما الحكم والملك، فلا يساويان شيئًا:
أنا الأمامُ الوليد مفتخرًا
…
أجرّ بردي، وأسمع الغزلان
أسحب ذيلي إلى منازلها
…
ولا أبالي من لامَ أو عذلا
ما العيش إلا سماع محسنة
…
وقهوة تترك الفتى ثملا
لا أرتجي الحور في الخلود وهل
…
يأمل حور الجنات من عقلا؟
إذا حبتك الوصال غانية
…
فجازها بذلها كمن وصلا
ويقال إنه لما أحيط به، دخل القصر وأغلق بابه وقال:
دعوا لي هندًا والرباب وفرتني
…
ومسمعة، حسبي بذلك مالا
خذوا ملككم، لا ثبت الله ملككم
…
فليس يساوي بعد ذاك عقالا
وخلُّوا سبيلي قبل عيرٍ وما جرى
…
ولا تحسدوني أن أموت هزالا1
وكان ابن شهاب الزهري من رواة الشعر، وكان من المؤلفين، وقد توفي سنة "124هـ"2، وكان راوية للشعر، يحفظ الكثير منه، حتى كان الأمويون إذا أشكل عليهم أمر من أمور الشعر، أرسلوا إليه يسألونه عنه3.
وكان عروة بن الزبير من رواة الشعر، ويعد من أشهر رواته عند أهل الحجاز، روى عن عائشة، وكان يقول:"روايتي في رواية عائشة"4، وقد روى عن أختها أسماء بنت أبي بكر، روى عنها شعرًا لزيد بن عمرو بن نفيل، ولورقة بن نوفل5 وكان يزور آل مروان، رآه الحجاج "قاعدًا مع عبد الملك بن مروان، فقال عروة: أنا لا أم لي! وأنا ابن عجائز الجنة! ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له يا ابن المتمنية! فقال عبد الملك: أقسمت عليك أن تفعل، فكف عروة. والمتمنية، هي الفريعة بنت همام، أم الحجاج
1 رسالة الغفران "444 وما بعدها"، الأغاني "7/ 46، 73".
2 المعارف "472".
3 الأغاني "4/ 248".
4 الإصابة "4/ 349"، "رقم704".
5 الأغاني "3/ 124 وما بعدها".
وهي القائلة:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
…
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج1
وللمتمنية قصة، لا تخلو أن تكون من وضع أعداء الحجاج.
وقد نسب أهل الأخبار إلى بعض رواة الشعر حفظ الشيء الكثير من ذلك الشعر، نسبوا إلى بعضهم حفظ آلاف القصائد عدا القطع والأراجيز، وذكروا مثلا أن حمادًا الرواية كان يحفظ "27" قصيدة على كل حرف من حروف الهجاء ألف قصيدة2. وأن الأصمعي كان يحفظ "16" ألف أرجوزة3، وأن أبا ضمضم كان يروي لمائة شاعر اسم كل منهم عمرو4، وأن أبا تمام حفظ "14" ألف أرجوزة من أراجيز الجاهلية غير القصائد والمقاطيع5، إلى أمثال ذلك من أرقام لا تخلو من مبالغات أهل الأخبار.
وروي أن فتيانًا جاءوا إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قلتم كبر الشيخ فنتلعبه عسى أن نأخذ عليه سقطة! فأنشدهم لمائة شاعر، وقال مرة أخرى لثمانين، كلهم اسمه عمرو6. وقال الأصمعي:"فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين. فهذا ما حفظه أبو ضمضم، ولم يكن بأروى الناس، وما أقرب أن يكون من لا يعرفه من المسمين بهذا الاسم أكثر ما عرف".
ولما نشأ التدوين بالمعنى المفهوم من هذه اللفظة في الإسلام، كان الشعر في طليعة الموضوعات التي عني الناس بها في أيام الأمويين فما بعد. فجمعوا شعر الشعراء على انفراد، وجمعوا شعر جماعة منهم، أو شعر قبيلة أو قبائل، وجمعوا
1 الفائق "3/ 52 وما بعدها".
2 النجوم الزاهرة "1/ 420"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية"1/ 77".
3 ابن خِلِّكَان "1/ 121"، طبقات الأدباء "151"، زيدان "1/ 77".
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "4"، زيدان "1/ 77".
5 ابن خِلِّكَان "1/ 121"، زيدان "1/ 77".
6 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "9"، "الثقافة".
شعر طبقة من الطبقات الاجتماعية، كما عنوا بالاختيارات وغير ذلك1.
وقد أخذ بعض رواة الشعر الجاهلي من منابعه، أي من القبائل، "قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: دخل أبو عمرو إسحاق بن مرار البادية ومعه دستيجان من حبر، فما خرج حتى أفناهما يكتب سماعه عن العرب"2. وأبو عمرو هذا، هو أبو عمرو الشيباني.
وقد أشار ابن النَّدِيم والعلماء الذين عنوا بالشعر إلى أسماء نفر من العلماء عنوا واشتغلوا بجمع الشعر، وذكروا أسماء كتبهم واختياراتهم. وقد وصل إلينا بعض ما اشتغلوا فيه وجمعوه، فطبع، ومنه ما لا زال مخطوطًا محفوظًا في خزائن الكتب. وهو معروف يعرف الناس المواضع التي يوجد فيها، وقد يهيأ له من يقوم بطبعه وتيسيره بذلك للناس، غير أننا لا نزال نجهل مصير عدد كبير من الدواوين والأشعار والاختيارات التي ذكر ابن النَّدِيم وغيره أسماءها مع أسماء جامعيها، لا ندري إذا كانت اليوم في خزائن الكتب لا يعرف الناس من أمرها شيئًا، لعدم إحاطة المسئولين بأمر تلك الخزائن العلم بها، أو أنها عند أسر لا تعرف من أمرها المخطوطات شيئًا، لجهلها بها وبالعلم، أو أنها تلفت وولت لعوامل عديدة، فلا أمل إذن من بعثها ونشرها.
وقد تحرش الجاحظ بنموذج من رواة الشعر بالبصرة، فقال: "وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين ومن لم يروِ أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتف من كل شيء. ولقد شهدتم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروى عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتياني متغزل.
وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن المنجم، وأبي مالك
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 67".
2 نزهة الألباء "ص61 وما بعدها".
عمرو بن كركرة، مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده. وكان خلف يجمع ذلك كله"1.
ولم يقتصر عمل الراوية على رواية الشعر وإنشاده للناس، بل كان يقوم أيضًا بشرح غامض ألفاظه وبإجلاء ما قد يكون في الشعر من معان خفية غامضة، كما كان يقوم بشرح الظروف والمناسبات التي نظم الشعر فيها، إلى غير ذلك من أمور تتعلق بالشعر. ولهذا فإن راوية الشاعر، هو ديوان حي للشاعر، فيه كل ما يتعلق بشعر ذلك الشاعر.
ولم يقتصر الشعر على عشاقه ورواته والعلماء به، أو على الرواة الشعراء، بل ساهم فيه أناس تخصصوا بأمور أخرى، كان لاختصاصهم اتصال متين بالشعر، مثل علماء النسب وعلماء الأيام والأخبار. وفقد أمدنا هؤلاء بمادة لا بأس بها من الشعر الجاهلي في الجاهلية وفي الإسلام. وكانوا إذا تحدثوا عن نسب قبيلة أو عن نسب رجل معروف، ذكروا ما قيل في حقها أو في حقه من مدح أو هجاء، وكانوا إذا تكلموا عن أيام الجاهلية، اضطروا إلى سرد ما قال فيها أبطالها وفرسانها من شعر. فقد كان من عادة الأبطال إنشاد شعر التبجح بالنفس وبمفاخرها وبمفاخر القبيلة حين نزولهم ساحة القتال، وكان من عادة المنتصر تخليد نصره بأشعار ينشدها أبناء القبيلة، لتكون تسجيلا لمفاخره بني الناس.
وساهم علماء العربية: علماء اللغة والنحو والتفسير والحديث مساهمة تذكر في تخليد الشعر الجاهلي، بما جمعوه من شواهد في اللغة وفي النحو وفي الصرف، وفي تفسير القرآن والحديث من أبيات وقطع بل قصائد أحيانًا. فقدموا لنا بفعلهم هذا مادة ساعدتنا في زيادة معارفنا عن شعر ما قبل الإسلام وفي ضبط الشعر الوارد في المصادر الأخرى، وتصحيح ما قد يكون قد وقع في الروايات المتضاربة من أوهام، كما أمدتنا بمادة لا بأس بها، بل جديدة ونادرة أحيانًا عن أصحاب الشعر وعن المناسبات التي قيل فيها.
وقد تعرض الجاحظ لأمر هؤلاء في الشعر، فقال: "ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب. ولم أرَ غاية رواة الشعر إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه
1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "100"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".
الشاهد والمثل"1.
يقول بروكلمن: "ولم يبدأ جمع الشعر إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين، بيد أن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرًا غريبًا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجماع أنفسهم شعراء، فقد ظنوا أنه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبًا عليهم أيضًا في بعض الأحيان أن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا أيضًا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد أراد حماد الراوية أن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لأصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم أنه وجد الشعر الذي كتب بأمر النعمان ودفن في قصره الأبيض بالحيرة، ثم كشف في أيام المختار بن أبي عبيد.
لقد غير الرواة بعض أشعار الجاهلية عمدًا، ونسبوا الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أن يكون وضع أشعار قديمة، منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع إثباته.
على أنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دورًا ثانويًّا. وقد روى علماء المسلمين أشعارًا للجاهليين تشتمل على أسماء أصنام وعبادتها، وأن أسقطوا أيضًا أبياتًا أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لأن الشعور الديني لم يكن غالبًا على نفوس العرب في الجاهلية"2.
ويعود الفضل في جمع الشعر الجاهلي وتدوينه وتخليده إلى مدينتين اشتهرتا بالعلم، هما: الكوفة والبصرة، فقد كان علماء هاتين المدينتين في طليعة من عني بجمع الشعر الجاهلي وتقصِّيه، ولا نكاد نجد مدينة إسلامية، بلغت مبلغهما في
هذه الناحية، أو تمكنت من مزاحمتهما في جمع شتات هذا الشعر وحصره في كتب مدونة صارت مرجعًا للعلماء ولعشاق هذا الشعر إلى يومنا هذا. ونكاد لا نجد كتابًا في الشعر أو في الأدب، إلا وهو عيال على علم علماء هاتين المدينتين.
1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "101"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1959م".
2 بروكلمن "1/ 65 وما بعدها".
ولم تساهم مكة مدينة قريش، مساهمة الكوفة أو البصرة في جمع الشعر الجاهلي، الذي زعم أنه نظم بلغتهم، ولم تلحق يثرب بالمدينتين المذكورتين في هذا المضمار كذلك. ولم تبلغ دمشق التي صارت حاضرة العالم الإسلامي بعد مقتل "علي" وتولي "معاوية" الحكم، مبلغ المدينتين في هذا العلم وفي علوم العربية الأخرى، مع حب الأمويين للشعر الجاهلي، ورغبتهم في توفيق بلاد الشأم المؤيدة لهم، على العراق لمشاكسته لهم، ومعارضته للشأم منذ ما قبل الإسلام. ويظهر أن أرض دمشق لم تكن أرضًا خصبة بالنسبة للشعر الجاهلي لأن سكانها حتى الفتح كانوا بين سوريين، أي من بني إرم، وبين إغريق وعناصر أعجمية أخرى، بينما كانت الحيرة والأنبار وعين التمر وسائر القرى العربية الأخرى، تعلم العربية في مدارسها، وتدرس الخط العربي، وكان رجال الدين فيها، قد وقفوا على الثقافة اليونانية، ونقلوا كتبًا منها إلى السريانية، ولكونهم من النصارى الشرقيين، كانت لغة العلم والدين عندهم السريانية، ولكنهم كانوا يعظون ويعلمون بالعربية. أما عرب الشأم، فقد أقاموا في قرى ومضارب في أطراف بلاد الشأم، ومع احتفال سادات غسان بالشعراء، فإن عنايتهم بهم لم تبلغ مبلغ عناية آل لخم بهم، ولعل ذلك بسبب ارتباطهم الشديد بالروم، وهيمنة الروم عليهم، بحيث لم يكونوا يسمحون لهم بالتحرك إلا بعد استشارتهم، ولا أن يتصلوا بالعرب إلا بأمر منهم، ولهذا لم يجدوا لهم منفعة تذكر بالإغداق على الشعراء وبإغراء الشعراء بالمجيء إليهم لمدحهم، اللهم إلا إذا جاء الشعراء إليهم، ورموا بأنفسهم ضيوفًا عليهم، أما سادات الحيرة، فقد كانوا أكثر تحررًا في أمورهم وسياستهم من منافسيهم الغساسنة، وكان نفوذ الفرس خفيفًا عليهم، وقد بلغ حكمهم في أيام امرئ القيس "328م" أسوار نجران، وكانت البحرين تابعة للحيرة، يحكمها عامل بعينه ملك الحيرة، كما كان نفوذ الملوك يمتد إلى نجد فاليمامة، فلملوك الحيرة إذن مصالح سياسية خاصة في منطقة واسعة من جزيرة العرب، ولهم روابط مع سادات القبائل، ونظرًا إلى ما للشعر والشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء والإغداق عليهم والترحيب بهم، لشراء ألسنتهم، أما من كان يوشى به عندهم، فيغضبون عليه، أو يجد أنه لم يكافأ على مدحه لهم، وقيامه بشعره بالدعاية لهم، مكافاة عادلة، فكان يهرب إلى أعداء آل لخم،
الغساسنة، ليجد له مأوى عندهم، كما فعل النابغة والمتلمس. ولما كان الغساسنة قد تأثروا بالحياة الحضرية، أكثر من ملوك الحيرة، وقد تشربوا بالثقافة البيزنطية، فعاشوا في بيوت بدمشق بين الحضر، وبنوا القصور الكبيرة في القرى التابعة لهم، وهي مواضع خصبة، وقد أثثوها على الطريقة الرومية، وكانوا يسمعون الغناء الرومي، وكانت مصالحهم بالأعراب وبجزيرة العرب -كما قلت- غير ذات بال، لم يحفلوا بالشعراء الوافدين عليهم احتفال ملوك الحيرة بهم، ولم يغدقوا إغداق المناذرة عليهم، فصار عدد الشعراء الوافدين عليهم قليلا إذا قيس بعدد من كان يذهب منهم إلى قصور الحيرة، كما يظهر ذلك جليًّا من كتب الأخبار والأدب التي تحدثت عن الشعراء الجاهليين، ولعل هذا الصدّ عن الشعراء هو الذي حمل النابغة على ألا يمكث عند الغساسنة طويلا، فحمل حمله، وعاد إلى الحيرة معتذرًا إلى النعمان عما بدر منه من خطأ، راميًا سبب ما وقع بينهما من قطيعة إلى عمل الوشاة الحساد. ولعله كان أيضًا في جملة العوامل التي جعلت العراق يتقدم على الشأم في رواية الشعر الجاهلي وفي نشره، فنحن لا نكاد نعرف رجلا من أهل الشأم الصميمين، قام بالشعر الجاهلي، أو بأمر شعراء العرب في الشأم من أهل الجاهلية، كما قام به أهل العراق. ولم تشتهر دمشق ولا غيرها من مدن بلاد الشأم بما قامت به مدن العراق من جمع الشعر الجاهلي على الرغم من تحمس الأمويين وكلفهم في جمعه وتدوينه.
وقد تعرض العلماء لأمر المدينة، فقالوا: "فأما مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا نعلم بها إمامًا في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة. زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة.
وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخفت روايته، وهو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب، يكنى أبا الوليد، وكان شاعرًا وعلمه بالأخبار أكثر1. وذكر أن في جملة ما صحفه من الشعر، قول الحارث بن حِلِّزةَ اليَشْكُرِيّ:
أيها الكاذب المبلغ عنا
…
عبد عمرو وهل بذاك انتهاء
1 الْمُزْهِرُ "2/ 413 وما بعدها".
وإنما هو: عند عمرو1.
وأقدم ما لدينا من مدونات الشعر الجاهلي، الاختيارات التي جمعها حماد الراوية، المعروفة بالمعلقات، والتي عرفت بالسموط. ولعلها الديوان الذي ذكر ابن النَّدِيم أنه أرسله إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فاستعان به مع ديوان آخر بعثه إليه جناد، ليجمع منهما ومن غيرهما ديوان العرب وأشعارها2، وقد يكون ديوانًا آخر أوسع من هذا المجموع.
ويلي هذه الاختيارات، اختيارات أخرى جمعها رجل من أهل الكوفة أيضًا، ورواية من رواة الشعر المعروفين هو المفضل بن محمد بن يعلى الضبي، المتوفى سنة "164هـ""780م"، أو "168"، أو "170هـ"، على اختلاف الروايات. وقد اتخذه المنصور مؤدبًا لابنه المهدي فعمل له الأشعار المختارة المسماة المفضليات، وهي مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه، والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي قال: وأول النسخة التي لتأبط شرًّا:
يا عبد ما لك من شوق وإبراق
…
ومر طيف على الأهوال طراق3
"هذا وقد وقع في الجزء الأول من هذا الكتاب سهو، إذا سقطت لفظة "مائة" من: "وهي مائة وثمان وعشرون قصيدة"، فصارت على هذا النحو: "وهي ثمان وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص"4، ولذلك أحببت أن ألفت نظر القراء لإصلاح هذه الهفوة"
ويلي هذه الاختيارات اختيارات أخرى جمعها الأصمعي، سأتحدث عنها أثناء حديثي عنه بعد قليل، ثم اختيارات أخرى عرفت بـ"جمهرة أشعار العرب"، قد جمعت في أواخر المائة الثالثة للهجرة. "وهي مجموعة سباعية تشتمل على سبعة أقسام، أولها المعلقات السبع، وتحمل الأقسام الستة الباقية حلى من العناوين المختارة
1 الْمُزْهِرُ "2/ 362".
2 الفِهْرِسْت "140".
3 الفِهْرِسْت "108"، الأغاني "5/ 125"، بروكلمن "1/ 73".
4 "68".
وهي: المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثي، المشوبات، الملحمات"1.
ويسمى جامعها أبا زيد القرشي، وقيل إن سند رواية أبي زيد هذا، وهو المفضل، كان في المرتبة السادسة من سلالة الخليفة عمر بن الخطاب، وإذا فلا بد أن حياته كانت في أواخر القرن الثالث الهجري. على أن كلا الرجلين: أبي زيد والمفضل، مجهول بالكلية فيما عدا ذلك. ويبدو لنا أن تسميتها موضوعة على اسمي كل من أبي زيد الأنصاري النحوي المشهور وشيخه المفضل. ولكن لما كان كتاب الجمهرة معروفًا لابن رشيق "390- 456هـ/ 1000- 1046م"، فقد يكون تم تأليفه في القرنين الثالث والرابع للهجرة"2.
وهناك مجموعات أخرى مثل ديوان الحماسة لأبي تمام "المتوفي 231هـ"، وديوان الحماسة للبحتري "205- 284هـ"، وحماسة "الخالديين"، أو كتاب الأشباه والنظائر، للأخوين: أبي عثمان سعيد "المتوفي حوالي 350هـ"، وأبي بكر محمد "المتوفي380هـ"، ومجموعات أخرى معروفة، مثل كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، ذكرها "بروكلمن" و"جرجي زيدان"، وغيرهما ممن بحث عن الشعر الجاهلي، فلا حاجة إذن إلى ذكرها في هذا المكان.
ولم يلزم رواة الشعر الأول وعلماء اللغة والنحو أنفسهم النص على اسم المنبع الذي عرفوا الشعر أو الخبر منه، فصار من الصعب علينا، بل من غير الممكن التعرف على السبيل الذي سلكه هذا الشعر الجاهلي من الجاهلية حتى وصل إلى حماد الراوية، أو خلف الأحمر، أو غيرهما من رواة الشعر، ولو كانوا قد نصوا عليه، لأمكن التثبت من صحة الشعر، بنقد سلسلة السند، أو المصدر المكتوب إن كان مكتوبًا، فيخفف بذلك من هذا الشك الذي يحوم حول صحة المصادر التي أخذ الرواة منها معينهم عن هذا التراث الخالد الجاهلي.
وقد اكتفى الرواة أحيانا بذكر اسم أعرابي، نسبوا أخذ شعرهم أو خبرهم إليه، اتصلوا به أثناء قدومه البصرة أو الكوفة، أو في أثناء ذهابهم إلى البادية لجمع العلم بأخبار العرب وبشعرها القديم منها، ومعظمهم من قبائل مختارة
1 بروكلمن "1/ 75".
2 بروكلمن "1/ 75".
نصوا على اسمها، مثل تميم، وأسد، وهي القبائل التي ارتضى علماء اللغة الأخذ عنها، وكان بعضهم ممن ترك البادية وعاش في الحاضرتين، وأظهروا مقدرة وكفاءة في الرد على أسئلة العلماء، واستوجبت توثيقهم وتقديمهم، حتى صار بعضهم من طبقة العلماء.
ولم يشرِ العلماء أحيانًا إلى اسم الأعرابي، أو الأعراب الذين أخذوا عنهم، بل اكتفوا بالإشارة إلى أنهم سمعوا ما ذكروه من أعرابي، أو من أعرابي فصيح، أو من فصحاء الأعراب، أو فصحاء العرب. ولا ندري حال هؤلاء الأعراب وحظهم من العلم والمعرفة بعلوم اللغة، وبأمور القبيلة في الجاهلية، وقد يصح الأخذ منهم في أمور لغوية تخص لهجة قبيلتهم، أما في موضوع الشعر والأخبار، فهناك مشاكل شائكة تجعل من الصعب قبول روايتهم، لمجرد أنهم أعراب، وأنهم أعلم من الحضر بأمور قبيلتهم، فبينهم من كان لا يبالي من التحقق بإجابته، فيجيب حسب مزاجه وهواه.
وقد اشتهر وعرف بعض الأعراب، حتى دخلت أسماؤهم في الكتب، وقد دون ابن النَّدِيم أسماء جماعة منهم في باب دعاه:"أسماء فصحاء العرب المشهورين الذي سمع منهم العلماء، وشيء من أخبارهم وأنسابهم"1. وقد ذكر أن من بين هؤلاء من كان معلما، يعلم الصبيان بأجرة، ويؤخذ منه العلم، وكان شاعرًا، مثل أبي البيداء الرباحي، وهو أعرابي نزل البصرة، وعلم بها، وأبي مالك عمرو بن كركرة، وكان يعلم في البادية ويورق في الحضر مولى بني سعد، راوية أبي البيداء، وكان عالما باللغة، وله رأي طريف: "يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء"2، وأبي عرار، وهو أعرابي من بني عجل، قريب من أبي مالك، في غزارة علم اللغة، وكان شاعرًا، وكان ممن يتصل به جناد وإسحاق بن الجصاص"3. ولبعضهم مؤلفات، ذكر أسماءهم ابن النديم. وقد أقام معظمهم بين الحضر، في المدن المشهورة التي كانت تبحث عن أمثال هؤلاء، مثل البصرة والكوفة، ثم بغداد، وكان أكثرهم ينظم الشعر، ومنهم من كان كاتبًا قارئًا، طابت له الإقامة بين الحضر، ووجد له الرزق بينهم، ففضل وطلب المال على الإقامة في أرض الشح والفقر.
1 الفِهْرِسْت "ص71 وما بعدها".
2 الفِهْرِسْت "ص72".
3 الفِهْرِسْت "ص72".