الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد السابع عشر
الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:
الأعراب والعربية
واللحن
الاعراب والعربية
…
الفَصْلُ الرَّابعُ والأربعونَ بعدَ الْمِائَةِ: الإعْرَابُ والْعَرَبِيَّةُ واللَّحْنُ
الإعراب والعربية:
ولا بد لنا وقد تحدثنا عن لغات العرب وعن العربية الفصحى من التحدث عن "الإعراب" لما له من صلة بها. فأقول الإعراب في تعريف علماء اللغة: الإبانة والإفصاح عن الشيء. يقال للعربي: أعرب لي أي بَيِّنْ لي كلامك. وأعرب الكلام وأعرب به بَيَّنَهُ. روي عن النبي أنه قال: "الثيب تعرب عن نفسها"، أي تفصح. وفي رواية أخرى:"الثيب يعرب عنها لسانها، والبكر تستأمر في نفسها". وإنما سمي الإعراب إعرابًا لتبيينه وإيضاحه. ومن هنا يقال أفصح وأبان. وعَرَّبَهُ: علمه العربية. "وفي حديث الحسن أنه قال له البتي: ما تقول في رجل رُعِفَ في الصلاة؟ فقال الحسن: إن هذا يعرب الناس، وهو يقول رُعِفَ، أي يعلمهم العربية، إنما هو رعف". وتعرب واستعرب: أفصح، قال الشاعر:
ماذا لقينا من المستعربين ومن
…
قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا1
وعرف الإعراب، بأنه أن لا تلحن في الكلام. يقال أعرب كلامه إذا لم
1 اللسان "1/ 588 وما بعدها"، "عرب"، تاج العروس "1/ 370 وما بعدها".
يلحن في الإعراب1. فربطوا هنا بين الإعراب واللحن. وذكروا أيضًا "أن الإعراب الذي هو النحو، إنما هو الإبانة عن المعاني والألفاظ"2، "وإنما سمي الإعراب إعرابًا، لتبيينه وإيضاحه"3، "وعرَّب منطقه أي: هذَّبه من اللحن"4. وروي عن أبي هريرة قوله: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه"، والمراد بالغريب أن تكون اللفظة حسنة مستغربة في التأويل، لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وقد عدُّوا من ذلك في القرآن كله سبعمائة لفظة أو تزيد قليلا 5.
ورد في تأريخ "الطبري" أن رجلا من العباديين مَرَّ بجمع من المسلمين أصابوا جرابًا من "كافور" فحسبوه ملحًا، فأخذوا يلقون منه طعامهم، فقال لهم:"يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم، فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه"6 فاستعمل المعربين في معنى العرب، ولعل العبادين، وهم نصارى الحيرة كانوا يطلقون على العرب الخلص معربين، لوضوح لسانهم بالنسبة لغيرهم ممن كان لا يعرب على طريقة العرب الخلص من أهل البوادي.
وقد ذهب "ابن فارس" إلى وجود "الإعراب" عند العرب العاربة، إذ يقول:"وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا نصبًا ولا همزًا"7. وقد رد على من أنكر وجود الإعراب عن العرب قبل الإسلام8، وأورد حديثًا في ذلك، إذ قال: "وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعربوا القرآن"9. وقد ورد أن عمر بن الخطاب، وجَّه كتابًا إلى أبي موسى الأشعري، عامله على البصرة فيه: "أما بعد، فتفقهوا في السُّنَّة، وتفقهوا في العربية،
1 تاج العروس "1/ 372"، "عرب".
2 تاج العروس "1/ 371"، "عرب"، اللسان "1/ 589"، "صادر"، "عرب".
3 اللسان "1/ 588"، "عرب".
4 المصدر نفسه "1/ 589"، "عرب".
5 الرافعي "2/ 57".
6 الطبري "3/ 497".
7 الصاحبي "35".
8 الصاحبي "37" وما بعدها.
9 الصاحبي "66"، "أعربوا القرآن، فإنى عربي"، الزينة "117" وما بعدها.
وأعربوا القرآن، فإنه عربي، وتمعددوا فإنكم معديون"1، ووجه إليه كتابًا آخر فيه، "أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفقهوا في العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2. غير أن من العلماء من فسر الإعراب في القرآن بأن المراد به معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة وهو ما يقابل اللحن3.
وعرف الإعراب، بأنه:"الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما ميز فاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت، ولا تعجب من استفهام، ولا صدر من مصدر، ولا نعت من تأكيد. وذكر بعض أصحابنا أن الإعراب يختص بالإخبار. وقد يكون الإعراب في غير الخبر أيضًا، لأنَّا نقول: أزيدٌ عندك؟ وأزيدًا ضربت؟ فقد عمل الإعراب وليس هو من باب الخبر"4، فبالإعراب تميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلمين5. وأنواع الإعراب رفع، ونصب، وجر، وجزم، فالإعراب عبارة عن الحركات6. وقد جعل الإعراب من العلوم الجليلة التى اختصت بها العرب7. والإعراب في الواقع، هو التعرب، أي التكلم بالعربية وفق طريقة العرب الخلص في مراعاة أواخر الكلم، ومراعاة التصرف الإعرابي.
والإعراب في نظري، أن يتكلم الإنسان بطريقة العرب في كلامهم، وذلك بأن يبين وفقًا لقواعد لسانهم، وقد عرفنا ورود لفظة "عرب" و "عربية" في النصوص الآشورية واليونانية والسريانية، فالإعراب إذن من هذا الأصل، أي من العربية، ثم أطلق على النطق وفقًا لأساليب العرب في كلامهم ووفقًا لقواعد لسانهم.
1 كنز العمال "5/ 228"، خورشيد أحمد فارق، حضرت عمر "135"، "القسم العربي".
2 حضرت عمر "139 وما بعدها"، "القسم العربي".
3 السيوطي، الإتقان "2/ 3".
4 ابن فارس، الصاحبي "66، 77".
5 الصاحبي "190 وما بعدها".
6 السيوطي، الأشباه والنظائر "1/ 72 وما بعدها".
7 المزْهِر "1/ 327".
وللوقوف على معنى: "العربية"، يجب الرجوع إلى ما ورد عنها في الأخبار. فقد ورد أن الرسول "دخل المسجد فرأى جمعًا من الناس على رجل، فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله، رجل علَّامة، قال: وما العلَّامة؟ قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بشعر، وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر" 1. وهو خبر يرجع سنده إلى أبي هريرة.
ووردت اللفظة في روايات أخرى يرجع الرواة زمانها إلى أيام الخليفة "عمر بن الخطاب". فقد روي عن "عثمان المهري"، أنه قال:"أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء، ويذكر فيها: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة"2. وقد روي أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بجر رسوله، فتوهم عطفه على المشركين. فقال: أَوَ بَرِئ الله من رسوله؟ فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية"3. وروي أن الخليفة المذكور، كتب إلى "أبي موسى الأشعري"، يوصيه، فكان مما قاله له: "خذ الناس بالعربية، فإنه يزيد في العقل ويثبت المروءة"4.
ونسبت إلى "عمر" رسائل أخرى، ذكر أنه وجهها إلى عاملة المذكور فيها:"أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي وتمعددوا فإنكم معديون"5. و"أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"6، أو أنه قال: "تفقهوا في الدين، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وتعلموا العربية"7. وفسر "الحسن" العربية، بأنها التنقيط، أي
1 ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين "1/ 87".
2 صبح الأعشى "1/ 168".
3 صبح الأعشى "1/ 169".
4 اللسان "1/ 155"، "مرأ"، تاج العروس "1/ 117"، "مرأ"، خورشيد أحمد فارق "141"، "النص العربي".
5 كَنْزُ العُمَّال "5/228"، خورشيد أحمد فارق "139"، "النص العربي".
6 القِفْطي، إنباه "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق "139".
7 السجستانى، المصاحف "142".
أن ينقط المصحف بالنحو1. وذكر أن النبي قال: "عليكم بتعلم العربية، فإنها تدل على المروءة وتزيد في المودة"2. وروي أن عمر كتب: "أما بعد: فإني آمركم بما أمركم به القرآن، وأنهاكم عنه محمد، وآمركم باتباع الفقه والسنة والتفهم في العربية"3، و "مُرْ من قبلك بتعلم العربية، فإنها تدل على صواب الكلام، ومُرْهم برواية الشعر، فإنه يدل على معالم الأخلاق"4.
وورد أن "عبد الله بن مسعود" كان يتعاطى العربية والشعر، وقد كان يسأل في ذلك "زر بن حُبَيش"، وكان من أعرب الناس5. "قال عاصم: كان من أعرب الناس. وكان ابن مسعود يسأله عن العربية"6. وورد: "كان بعض اليهود قد علم كتاب بالعربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول"7.
وورد أن أهل الحيرة كانوا يتعلمون "العربية" في الكتاتيب، وأن لهم ديوانًا يكتب بالعربية، كما كان للفرس ديوان يدون الرسائل إلى العرب بالعربية، وأن أهل الأنبار كانوا يكتبون بالعربية ويتعلمونها.
وبعد، فما هي تلك العربية التى كان "العلَّامة؟ " المزعوم يعلمها في المسجد وكان من أعلم الناس بها؟ وما هي تلك العربية التى كان الخليفة يوصي حكامه وأصحابه بأخذ الناس بها؟ أو العربية التى علمها اليهود بيثرب؟ عربية بمعنى الإبانة والإفصاح وتحريك الفم تحريكًا كفيلا بإخراج الحروف من مخارجها إخراجًا واضحًا؟ أم عربية أخرى؟ أم عربية الكتابة أي: تقليم الخط، أم بالمعنى الذي دفع "أبا الأسود" على وضع العلامات لضبط الحركات ولصيانة الألسنة من الوقوع في اللحن. ولو سألتني رأيي، لقلت لك حالا: إنها العربية الثانية. العربية الكفيلة بضبط الألسنة وتعليمها كيفية النطق الصحيح وفقًا لقواعد العربية، أي الإعراب وتفسير معانى الألفاظ، أي اللغة، وأوضح دليل على ما أقوله، ما جاء في الرواية المتقدمة من أن "عمر بن الخطاب" لما سمع خطأ الأعرابي
1 السجستاني، المصاحف "142".
2 الفائق "3/ 153".
3 خورشيد أحمد فاروق "140"، "النص العربي".
4 كنز العمال: "5/ 241"، خورشيد أحمد فارق "140".
5 ابن سعد "6/ 71".
6 الإصابة "1/ 560"، "رقم2971".
7 فتوح البلدان، للبلاذري "459"، المعارف لابن قتيبة "192".
الفاحش في قراءة الآية أَمَر "أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية"، ومن وصيته بأخذ الناس بالعربية، ومن قوله أيضًا:"تعلموا الفرائض والسنن واللحن كما تعلمون القرآن"، و"تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب في القرآن"، أو "تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم"1.
فلم يكن خطأ "الأعرابي" هو خطأ في كيفية إخراج الحروف من مخارجها، ولا في كيفية الإفصاح وإبانة الكلم، وإنما في جره رسوله، وتوهمه عطفها على المشركين، مما أخرج الآية إلى عكس ما أراده الله منها. أي غلطه في اللغة، ولهذا فزع الخليفة فحثَّ الناس على تعلم العربية، لتكون دليلا لمن يتعلمها وهاديًا له في صون لسانه من الوقوع في الخطأ، وفي هذا الحث دلالة على وجود علم سابق عند العرب بكيفية حفظ الألسنة من الوقوع في الخطأ ومجانبة القواعد العامة. ويعود هذا العلم إلى ما قبل الإسلام.
أضف إلى ذلك ما ذكرته سابقًا من قول عمر: "أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2. فإذا صح هذا الخبر دل على وجود الإعراب في زمن عمر، وعلى أن المراد من الإعراب الذي كلف "أبا الأسود" أن يعلم أهل البصرة به، هو النحو، أي قواعد صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ في الكلام.
ولو تساهلنا فأخذنا "العربية" الواردة في قول "عمر" وغيره بالمعنى اللُّغوي الظاهر في اللفظة، وهو الإفصاح والإبانة وإخراج الكلم حسب أصول النطق عند العرب، فإن هذا المحمل يحملنا على الذهاب إلى وجود علم سابق، كان الناس يراعونه ويسيرون بمقتضى اعتباراته وقواعده في كيفية النطق بالكلم، ويسمونه: العربية.
ويتبين مما ذكره أهل الأخبار من أن "أبا الأسود""كان أول من وضع العربية"3، أن مرادهم من العربية المذكورة هذه العلامات التى تدل على الرفع
1 اللسان "13/ 381"، "لحن"، صبح الأعشى "1/ 148".
2 القفطي، إنباه "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق "139".
3 المعارف "434"، الصاحبي "37".
والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون، تلك العلامات التى استعملها في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسَمَّوا كلامهم نحوًا سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود 1. وبهذا المعنى نستطيع فهم ما ورد في الحديث والأخبار من وجوب الإعراب في القرآن. أي إظهار حركات الكلم عند القراءة. فالعربية، تعنى النحو. "ولما وضع أبو الأسود النحو وأطلق عليه لفظ العربية"2، كان يقصد منه صيانة اللسان من الخطأ، والنطق بصحة. فقد ورد أن الرسول قال: أعربوا القرآن، أو أعربوا القرآن فإنه عربي، وأن "عمر بن الخطاب" "قال: تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه3"، وروي أنه قال: "تعلموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض"4.
وبهذا المعنى وردت "العربية" في حديثهم عن الشاعر عدي بن زيد العبادي، فقد ذكروا أنه تعلم "العربية" في كتاب بالحيرة حتى غدا من أكتب الناس بها، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتاب الفارسية، فتعلم مع أولاد المرازبة5. وذكروا أنه "قرأ كتب العرب والفرس"6، إذ لا يعقل أن يكون مرادهم تعلم حروف الهجاء وحدها، أو الخط، أو مجرد معاني الألفاظ.
وقد تحدثت عن التنقيط عند أهل الكتاب في أثناء حديثي عن نشأة الخط العربي. ويظهر أن كتاب المصاحف، لم يكونوا على اتفاق في موضوع العواشر، أي تعشير القرآن، والتنقيط والخواتم، والفواتح، والألفاظ المفسرة في المصحف، بدليل ما ورد عنهم من اختلاف رأي في هذا الموضوع، فمنهم من كان يأمر بتجريد القرآن من كل ذلك ومنهم من جوَّز، ومنهم من كره نقط القرآن بالنحو7.
1 ضحى الإسلام "2/ 287".
2 الرافعي، تاريخ آداب العرب "1/ 326".
3 الزينة "117 وما بعدها".
4 البيان والتبيين "2/ 219".
5 الأغاني "2/ 96 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "1/ 441".
6 الطبري "2/ 193"، "دار المعارف".
7 السجستاني، المصاحف "138 وما بعدها".
وقد اختلف العلماء في تفسير معنى جملة "يريد أن يعربه فيعجمه" الواردة في شعر ينسب لِرُؤْبَة ويقال للحُطَيئة، هو:
الشعر صعب وطويل سلمه
…
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
وقوله:
والشعر لا يسطيعه من يظلمه
…
يريد أن يعربه فيعجمه
فذهب بعضهم إلى أن مراد الشاعر أنه يأتى به أعجميًّا، يعنى يلحن فيه، وقيل يريد أن يبينه فيجعله مشكلا لا بيان له، وقيل أزال عجمته بالنقط1.
والذي أراه أن قول العلماء: "العجم النقط بالسواد مثل التاء عليها نقطتان، يقال: أعجمت الحرف والتعجيم مثله"، وقولهم:"معجم الخط هو الذي أعجمه كاتبه بالنقط، تقول: أعجمت الكتاب أعجمه إعجامًا"2، هو تعريف يجب أن يكون قد وضع بعد وضع الإعجام، أي التنقيط، فإذا كان الإعجام من وضع "أبي الأسود" الدؤلي، فيجب أن يكون ظهوره منذ أيامه فما بعد، أما إذا كان قبله فيجب أن يكون من مصطلحات الجاهليين.
ويذكر علماء اللغة أن "أعجم الكتاب خلاف أعربه، أي نقطه" فأزال الكاتب عجمة الكتاب بالنقط3. ومعنى هذا أن النقط قد أزال الغشاوة عن الحروف المعجمة، أي المتشابهة في الشكل، بوضع النقط فوقها، فصارت حروفًا معربة واضحة. ولولا الإعجام لما استبان الكلام، ولوقع سوء الفهم واللبس في كثير من الألفاظ التى ترد فيها الحروف المعجمة، ففي الإعجام لبس ووقوع في خطأ، وفي اللحن مثل ذلك أيضًا، ولهذا أرى وجود صلة كبيرة بين اللحن، الذي هو الخطأ في الكلام، بسبب الجهل بالإعراب. وقد رأيت قول العلماء:"أعجم الكتاب خلاف أعربه"، أي وضحه وصححه بالنقط. فبين الاثنين ترابط في. الأصل، فالإعجام خلاف الإعراب، واللحن خلاف الإعراب كذلك.
1 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".
2 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".
3 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".
وقد صار النقط، أو وضع الحركات على الحروف لإرشاد القارئ إلى القراءة الفصيحة الصحيحة، ضرورة لازمة، بدونها قد يخطئ الإنسان فهم المعنى، وقد يقع في أخطاء جسيمة لو أخليت الكتابة من النقط والإعجام. وقد ضرب العلماء الأمثال على أخطاء وقع بها الناس بسبب طريقة الكتابة القديمة التي لم تكن تنقط الحروف ولا تعجمها، فكان القارئ يقع في أخطاء.
والإعراب بعد، لا يختص بالعربية وحدها، بل نجد آثاره في لغات سامية أخرى، وإنما ظهر وعرف في عربيتنا، لأن اللغات الأخرى قد ماتت في الغالب، فلم يبق أحد من الناطقين بها، لنتبين كلامه، ولأن نصوصها غير مشكلة، وهي خالية من الحروف التي تدل على الشكل والحركات، لذلك لا نستطيع التحدث عن وجود الإعراب بها. ولكن بعض النصوص البابلية تشير إلى وجود الإعراب بها، واللاتينية مع أنها من اللغات الآرية فهي لغة معربة، يراعي الكاتبون والمتكلمون بها خصائص الإعراب، واليونانية القديمة هي معربة كذلك. ويخيل لي أن معظم لغات الأدب في العالم القديم كانت تراعي الإعراب، لترتفع بذلك عن ألسنة العامة، ولتكون اللسان الرفيع الذي يخاطب الإنسان به أربابه، ثم خفت حدة الإعراب فيما بعد، مجاراة لتطور العقل الإنساني. ونجد معظم الشعوب في الوقت الحاضر، تبسط لغتها وتختزل قواعدها وجمل كلامها ليتناسب الكلام مع عقلية السرعة التي أخذت تسيطر على الإنسان الحاضر.
وما قلته عن اللغات الأخرى من صعوبة التكلم عن إعرابها، بسبب عدم وجود نصوص مشكلة عندنا تشير إلى طرق الإعراب بها، ينطبق كذلك على اللغات العربية الجنوبية، وعلى اللغات الأخرى، مثل الصفوية، والثمودية واللحيانية، لعدم وجود الحركات بها أو العلامات الدالة على الإعراب. وخلو هذه اللغات من العلامات التي تقوم الإعراب، لا يمكن أن يُتَّخذ دليلا على عدم وجوده في تلك اللغات، لأن العماد في الإعراب، هو بالنطق في اللسان، وهو ما لا يمكن استخراجه من الكتابة العربية الجنوبية، فاللسان هو الذي يشكل ويحرك الألفاظ وفق مقتضيات قواعد الألسنة: أما النبطية، وهي من اللهجات العربية الشمالية، ففيها ظواهر بارزة تشير إلى أنها كانت لغة معربة، وهي في نظري أقرب اللغات العربية الجاهلية إلى عربية القرآن الكريم، فالأسماء في النبطية، معروفة في عربيتنا قليلة في العربيات الأخرى، وهي قريبة من هذه العربية في أمور أخرى نحوية وصرفية.