المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌اللَّحْنُ: من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش، - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع عشر

- ‌الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:‌‌ الأعراب والعربيةواللحن

- ‌ الأعراب والعربية

- ‌اللَّحْنُ:

- ‌الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

- ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

- ‌مدخل

- ‌خبر شعراء الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌الشَّاعِرُ:

- ‌عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌إنشاد الشعر

- ‌مدخل

- ‌سُوقُ عُكَاظٍ:

- ‌يَثْرِبُ:

- ‌تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌المغلبون:

- ‌بَدْءُ الشَّاعِرِ:

- ‌أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:

- ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

- ‌الْخَمْرُ والشِّعْرُ:

- ‌شَيطَانُ الشَّاعِرِ:

- ‌الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

- ‌مدخل

- ‌الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:

- ‌الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

- ‌مدخل

- ‌التمليط:

- ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

- ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

- ‌الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

- ‌مدخل

- ‌نَقْدُ الشِّعْرِ:

- ‌أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:

- ‌الشِّعْرُ والإِسْلامُ:

- ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌رُوَاةُ الشِّعْرِ:

- ‌الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:

- ‌التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:

- ‌الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:

- ‌الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

- ‌مدخل

- ‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

- ‌الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

- ‌مدخل

- ‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

- ‌الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

- ‌الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:

- ‌فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:

الفصل: ‌ ‌اللَّحْنُ: من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش،

‌اللَّحْنُ:

من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش، أي بلغتهم، وفي حديث عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن، بالتحريك، أي اللغة"1، ومنه قول "عمر":"تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تعلمون القرآن"2. ومن معانيه الخطأ في الكلام. "قال أبو عبيد في قول عمر -رضي الله تعالى عنه: تعلموا اللحن -أي الخطأ في الكلام- لتحترزوا منه"، وورد:"وأما قول عمر رضي الله عنه: تعلموا اللحْن والفرائض، فهو بتسكين الحاء، وهو الخطأ في الكلام. قال أبو عدنان: سألت الكلابيين عن قول عمر: تعلموا اللحن في القرآن كما تعلمونه، فقالوا: كُتِب هذا عن قوم ليس لهم لغوٌ كلغونا، قلت: ما اللَّغو؟ فقال: الفاسد من الكلام. وقال الكلابيون: اللحن اللغة. فالمعنى في قول عمر: تعلموا اللحن فيه، يقول: تعلموا كيف لغة العرب فيه الذين نزل القرآن بلغتهم""وجاء في رواية تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب بإعرابها"4، ووردت اللفظة بمعان أخرى. وقد أجمل العلماء ما جاء فيها من معانٍ بستة معانٍ: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى5.

وقد ذكر أن الرسول لما أرسل "سعد بن معاذ"، وهو يومئذ سيد الأوس و"سعد بن عبادة"، وهو يومئذ سيد الخزرج إلى "كعب بن أسد"، وكان قد نقض عهده الذي عهده للرسول وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله، قال لهما:"انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقًّا فالحنوا إلى لحنًا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"، فلما أتياهم وجداهم على أخبث ما بلغهما

1 اللسان "13/ 380 وما بعدها"، "لحن"، تاج العروس "9/ 331"، "لحن"، الفائق "2/ 99"، "2/ 457".

2 الأمالي، للقالي "1/ 5". السيوطي، الإتقان "2/ 260".

3 اللسان "13/ 380 وما بعدها""لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن".

4 اللسان "13/ 381"، "لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن".

5 اللسان "13/ 381"، "لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن".

ص: 14

عنهم، نالوا من رسول الله، "وقالوا: من رسول الله! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد"، فلما عادا إلى رسول الله قالا: "عضل والقارة. أي كغدر عضل والقارة"، فاللحن هنا بمعنى الإيماءة والإشارة والرمز1، فاللحن هنا أن تريد الشيء فتوري عنه2.

والذي أريده من اللحن، الخطأ في الكلام، والزيغ عن الإعراب، وهو معنى لا نستطيع فهمه من النصوص الجاهلية، لخلو تلك النصوص من الحركات، ومن الإشارة إلى قواعد لغاتها. ولذلك فلا مناص لنا لفهمه إلا بالرجوع إلى الموارد الإسلامية. وهي تذكر أن اللحن بهذا المعنى، لم يظهر إلا في الإسلام، ظهر بسبب دخول الأعاجم في دين الله، واختلاطهم بالعرب، وأخذهم لغتهم واتصال العرب بهم، ففسدت الألسنة، وظهر اللحن بين الموالي وبين العرب. وقد عيب ظهوره في العربي، حتى عُيِّرَ من ظَهَر اللحن على لسانه، فلما فشا وكثر، صار شيئًا مألوفًا حتى غلب على ألسنة الناس. وهم يذكرون أن العربي القُحُّ الأصيل، لم يكن يخطئ في كلامه، لأنه يتكلم عن طبع وسجية، ومن كان هذا شأنه، لا يقع اللحن في كلامه، أو لأنهم كانوا يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة3.

يقول العلماء: وكان أول لحن ظهر بين العرب على عهد النبي، فقد رووا أن الرسول سمع رجلا يقرأ فلحن، فقال: ارشدوا أخاكم4، أو ارشدوا أخاكم فإنه قد ضل5، ثم فشا وانتشر في مواضع الاختلاط خاصة، حيث اختلط العجم بالعرب، كالعراق وبلاد الشام ومصر، حتى دخل أعمال الحكومة، فأخطأ الكتاب في النحو، وأفحشوا في الإعراب، فكتب كاتب من كتاب "أبي موسى" الأشعري كتابًا فيه، "من أبو موسى

" أو ما شابه ذلك من خطأ في القول، فكتب "عمر" إلى عامله: "سلام عليك. أما بعد

1 الروض الأُنُف "2/ 190"، ابن هشام، سيرة "2/ 190"، "حاشية على الروض".

2 الأمالي: للقالي "1/ 6".

3 الرافعي "1/ 240"، "وبهذا الاعتبار نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية البتة". الرافعي "1/ 242".

4 كنز العمال "1/ 151".

5 ابن جني: الخصائص "2/ 8"، "دار الكتب".

ص: 15

فاضرب كاتبك سوطًا واحدًا، وأخر عطاءه سنة"1: أو "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطًا واعزله عن عملك"2، أو "قنع كاتبك سوطًا"3، أو:"إن كاتبك الذي كتب إلى لحن، فاضربه سوطًا"4، وذكر "الجاحظ"، أن "الحصين بن أبي الحر" كتب إلى "عمر" كتابًا "فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطًا".

وسبب ذلك أنهم كانوا يرون أن اللحن عيب مشين. قال "عبد الملك بن مروان": اللحن هجنة على الشريف، والعُجْب آفة الرأي. وكان يقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه"5.

ولا يمكن تفسير قول القائل أن "اللحن بمعنى الخطأ محدث، لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة"6، إلا أن يكون مراده أن الجاهليين كانوا يتكلمون بطباعهم السليمة بلغاتهم، كل يتكلم بلغته، ووفق سجيته ولسانه الذي أخذه من بيته، فهو ينطق وفق ما سمع وحفظ، فلا يلحن في الكلام بلسانه الذي أخذه من أهله، وهو رأي أقول إنه على الجملة مقبول معقول. أما إذ أريد به، أن العرب كانوا جميعًا يتكلمون بلسان واحد، فلا يخطئ أحدهم فيه ولا يلحن، فإن ذلك يتعارض مع قولهم بوجود اللغات، وبأن تلك اللغات كانت تتباين في أمور كثيرة في جملتها قواعد في النحو والإعراب، كما في "ذي" الطائية، وفي إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرًّا وذلك في لغة "بلحرث" و "خثعم" و "كنانة"، فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان7، وكما في "كم" الخبرية، حيث ينصب "بنو تميم" تمييز "كم"، ولغة غيرهم وجوب جره وجواز إفراده وجمعه، وكما في إعراب "الذين" من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم في لغة

1 مراتب النحْويين "6"، الرافعي "1/ 243".

2 كنز العمال "5/ 224"، حضرت عمر "137"، "القسم العربي".

3 أدب الكتاب، للصولي "129"، حضرت عمر "138".

4 حضرت عمر "138".

5 البيان والتبيين "2/ 216".

6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة "5/ 239".

7 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 144 وما بعدها".

ص: 16

"هذيل"، أو "عقيل" وفي قول بعضهم: هذه النخيل. وقول بعض آخر: هذا النخيل إلى غير ذلك من مواطن خلاف وتباين بحث فيها العلماء1، لا مجال للبحث فيها في هذا المكان، ووجود هذا الاختلاف، هو دليل في حد ذاته على خروج القبائل على قواعد اللغة، والخروج على القواعد هو اللحن.

لقد أقر علماء العربية بوجود خلاف بين القبائل المتكلمة بلهجات عربية شمالية، وقد أشرت إلى مواضع ذكروها في هذا الباب، وكشف علماء النحو عن خلاف في قواعد النحو في مثل اختلاف القبائل في التذكير والتأنيث، كما في مثل الطريق والسوق والسبيل والتمر، فهي ألفاظ مؤنثة عند أهل الحجاز، وهي مذكرة عند قبائل أخرى، وكشفوا عن أمور أخرى، إن تكلم المتكلم أو كتب بها عَدَّ صدور ذلك لحنًا منه، فهل يعد العربي المتكلم بلهجة من هذه اللهجات المخالفة مخالفًا لقواعد العربية، أي لَحَّانًا، كما نعدُّ الأعجمي الذي يقع في الخطأ نفسه، أم نعده فصيحًا، عربي اللسان والسليقة؟ أما الأعجمي الذي يقع في الخطأ ذاته فنعده لحانًا لحنة!

لقد ذكروا أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللُّغوية، على حين أن أصحابه -رضوان الله عليهم- ومن يَفِدُ عليه من وفود العرب الذي لا يوجه إليهم الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي بن طالب -كرم الله وجهه- وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات"2، فهل يعقل بعد، أن يقال إن العربي كان لا يلحن ولا يخطئ في كلامه ولا يزيغ عن العربية المبينة، والعرب هم على ما هم عليه من اختلاف اللهجات، الذي يدفع حتمًا على وقوع اللحن، لو تكلموا بالعربية القرآنية، أي هذه العربية التي يسميها علماء اللغة لغة قريش، والتي هي اللسان العربي المبين على تسمية القرآن لها.

1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 120 وما بعدها".

2 المزهر "1/ 325".

ص: 17

ثم كيف نفسر حديث: "أرشدوا أخاكم"، أو "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" مع قولهم إن العربي لا يخطئ في كلامه ولا يلحن، لأنه يتكلم عن طبع وسليقة، ولم يكن هذا الذي لحن أمام الرسول، أعجميًّا، وإنما كان عربيًّا، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف وقع اللحن إذن؟ ثم كيف نفسر خبر سماع الإمام "علي" أعرابيًّا، وهو يلحن في القرآن ويقرأ:"لا يأكله إلا الخاطئين"1، أو خبر ذلك الأعرابي الذي قرأ "أن الله بريء من المشركين ورسولِه" بالجر، لأن رجلا من أهل المدينة أقرأه إياها على هذا النحو، فبلغ ذلك "عمر"، فأمر ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو2، والأعراب هم لب العرب، وصفوتهم في الكلام، فكيف وقع هذا الأعرابي في اللحن يا تُرَى؟ ثم كيف نفسر قول من زعم أن في القرآن آيات فيها لحن، مثل:"إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ"3 {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} 5، ومواضع أخرى تحتاج إلى تأويل ليستقيم إعرابها6، أو إلى إصلاح إملائها لتنجو من اللحن7.

ثم كيف اختلف قراء القرآن في نصب "الطير" في الآية: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أو رفعها8، واختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 9، واختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية:{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} 10، وغير ذلك من مواضع اختلاف، اختلف فيها القراء، مع كونهم من العرب الأَقْحَاح.

ثم كيف نفسر اضطراب العلماء وذهابهم مذاهب في قراءة الآية: {قَالُوا

1 نزهة الألباء "8"، "محمد أبو الفضل إبراهيم".

2 المصدر نفسه.

3 [طه، الآية: 63] .

4 [النساء، الآية: 162] .

5 [المائدة، الآية: 69] .

6 السيوطي، الإتقان "2/ 269".

7 السيوطي، الإتقان "2/ 271".

8 [سبأ: 34، الآية: 10] . تفسير الطبري "22/ 46" وما بعدها".

9 [التوبة، الآية: 128] ، تفسير الطبري "11/ 55"، تفسير الآلوسي "11/ 47".

10 [سورة الروم، الرقم: 30، الآية: 1 وما بعدها] .

ص: 18

{إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} 1، وتأويلهم القراءة جملة تأويلات، لأن القاعدة النحوية تقول:"إنَّ هذين" بينما القراءة: "إنَّ هذان"، فعلَّلوها جملة تعليلات، منها أن هذه القراءة نزلت بلغة "بني الحارث بن كعب" ومن جاورهم يجعلون الاثنين، أي المثنى في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، كما في قول بعض "بني الحارث بن كعب":

فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى

مساغًا لناباه الشجاع لصمما

وقيل إن القراءة، هي قراءة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد ومن وليهم من اليمن2. ونسبها "الزجاج" إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة3.

ثم ما ورد في خبر آخر عن سعيد بن جبير، من قوله:"في القرآن أربعة أحرف لحن: {الصَّابِئُون} 4، {وَالْمُقِيمِين} 5، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} 6، {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 7" إلى غير ذلك من أخبار. ثم ما ورد من قول "عثمان": "إن في القرآن لحنًا، وستقيمه العرب بألسنتها"، وأمثال ذلك8، وما ذكر من أن "أبا بكر"، كان يستحب أن يسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها9، أفلا يدل هذا الخبر، على أن اللحن كان معروفًًا ومتفشيًا في عهد "أبي بكر"، وما روي في رواية تقول: "لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان رضي الله عنه فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف

1 [سورة طه، الرقم: 20، الآية: 63] .

2 تفسير الطبري "16/ 136 وما بعدها".

3 تفسير النيسابوري "6/ 118"، "حاشية على تفسير الطبري". السيوطي، الإتقان "2/ 273".

4 [المائدة، الرقم: 5، الآية: 72] .

5 [النساء، الرقم: 4، الآية: 161] .

6 [المنافقون، الرقم: 63، الآية: 10] .

7 [سورة طه، الرقم: 20، الآية:63. السيوطي، الإتقان "2/ 273".

8 المصاحف "33"، السيوطي، الإتقان "2/ 273 وما بعدها".

9 الرافعي "1/ 240".

ص: 19

والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه"1، ثم ما ورد من وقوع اللحن من عرب أقحاح، ومنهم من ولي الحكم وإدارة أمور المسلمين2، ومنهم ابنة "أبي الأسود الدؤلي" التي لحنت أمامه، فعمل باب التعجب على ما يزعمه الرواة3.

وتوحي الأحاديث الواردة في الحث على إعراب القرآن، والكتب التي ألفها العلماء في إعرابه، أن من العرب: من أهل مدر وأهل وبر، من كان يقرأ القرآن بغير إعراب، إما لأن لغته لم تكن معربة، وإما لأن إعرابها كان لا يتجانس مع إعراب القرآن، وسببه أن الجاهليين لم يكونوا يتقيدون جميعًا بقواعد الإعراب، فمنهم من كان يتحلل منه، ومنهم من يعمل به وفق قواعد لغته ولهجته، ودليل ذلك قراءة الصحابة القرآن بألسنتهم، مما سبب في ظهور مشكلة القراءات، وهذا ما أخاف الصحابة، وجعلها تخشى من احتمال ظهور قَرَائِين مختلفة، مما حمل "عثمان" على توحيد لغة القرآن، وتدوين كتاب الله حسب التوصيات التي أعطاها إلى اللجنة التي كلفها بتدوينه.

أضف إلى ذلك ما نجده في الكتب من إجازة إصلاح اللحن والخطأ في الحديث. من مثلما نسب إلى الأوزاعي من قوله: "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقوله:"أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربًا"، ومثل ما نسب إلى "يحيى بن معين" من قوله:"لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية" وإلى "ابن أبي رباح" حين سئل عن الرجل يحدِّث بالحديث فيلحن، هل يحدث به كما سمع منه أم يعرِب، فقال لسائله: لا، بل أعربه. وما ورد في أقوال العلماء في جواز أو عدم جواز إصلاح اللحن في الحديث، واختلافهم فيه4، هو دليل على أن من العرب من كان يقع في اللحن أيضًا، وإن اللحن لم يقع من الأعاجم وحدهم.

1 مفتاح السعادة "2/ 277".

2 "وزعم المدائني أن خالد بن عبد الله قال: إن كنتم "رجبيون" فإنا رمضانيون، ولولا أن تلك العجائب قد صحت عن الوليد ما جوزت هذا على خالد". البيان والتبيين "2/ 216".

3 "كان الذي حداه على ذلك أن ابنته قالت له: يا أبت ما أشدُّ الحر، وكان في شدة القيظ، فقال ما نحن فيه! فقالت: إنما أردت أنه شديد. فقال: قولي: ما أشدَّ، فعلم باب التعجب"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329".

4 محمود أبو ريَّة، أضواء على السنة المحمدية "108 وما بعدها".

ص: 20

ثم إن من غير المعقول إلا يقع اللحن من أهل اليمن ومن بقية عرب العربية الجنوبية، الذين كانوا يتكلمون بألسنة عربية جنوبية، رأينا أنها تختلف عن عربيتنا في مفردات الألفاظ وفي وقواعد النحو والصرف.

إن كل من صدر منهم اللحن، ممن أشرت إليهم وممن لم أشر، كانوا من العرب، منهم من كان من أهل الْمَدَر، ومنهم من كان من أهل الوَبَر، بهم بدأ اللحن، أما لحن العجم، فقد بدأ بعد اللحن الذي ظهر في أيام الرسول، وفي أيام "عمر" بدأ بالطبع بالفتوح، فلحن العرب إذن أقدم عهدًا من لحن العجم، يؤيد ذلك ما يرويه العلماء من وقوع الشعراء الجاهليين في أخطاء نحوية، هي لحن وخروج على القواعد في نظرهم. والشعراء الجاهليون عرب، ومن لسانهم استمد علماء النحو نحوهم وصرفهم. قد زعموا أن "النابغة" أخطأ في قوله:"في أنيابها السم ناقع"، ولحن لحنًا شنيعًا، وكان عليه أن يقول:"في أنيابها السم ناقعًا"1، أخطأ ولحن على زعمهم، مع أن كلامه حجة عندهم، واستشهدوا به في قواعد النحو والصرف.

وأخذ "حفص بن أبي بردة"، وهو من أهل الكوفة ومن أصحاب "حماد" الراوية على "المرقش" أنه كان يلحن، زعم أنه لحن في شعره، وقد أشير إلى زعمه هذا في شعر هجاء هجوه به، هو:

لقد كان في عينيك يا حفص شاغل

وأنف كثيل العود عما تتبع

تتبعت لحنًا في كلام مرقش

وخلقك مبني على اللحن أجمع

فعيناك إقواء وأنفك مكفأ

ووجهك إبطاء فأنت المرقع2

وزعم علماء الشعر، أن "امرأ القيس" حامل لواء الشعر، ومن جاء بعده من الشعراء، مثل:"النابغة"، و"بشر بن أبي خازم"، و"الأعشى"، أقووا في شعرهم، والإقواء: هو اختلاف إعراب القوافي، وهو أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور. ويكثر وروده في

1 ضحى الإسلام "2/ 288".

2 الشعر والشعراء "2/ 601". المرزباني، معجم "280"، السمط "3/ 39". يوهان فك "64"، "فعينك أقواء". البيان والتبيين "2/ 215"، الشعر للشاعر "البردخت"، وهو "علي بن خالد الضبي العكلي"، العقد الفريد "2/ 481".

ص: 21

اجتماع الرفع مع الجر، وأما الإقواء بالنصب فقليل. وهو في نظرهم عيب1. وزعموا أن بعضًا من شعراء الجاهلية أكفأوا في شعرهم. والإِكفَاء، المخالفة بين حركات الروي رفعًا ونصبًا وجرًّا، أو المخالفة بين هجائها، أي القوافي: فلا يلزم حرفًا واحدًا تقاربت مخارج الحروف أو تباعدت، ومثله أن يجعل بعضها ميما وبعضها طاء، وقال بعضهم: الإكفاء في الشعر هو التعاقب بين الراء واللام والنون. وهو أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والإصراف، والإكفاء، والسناد2.

وقد روى أهل الأخبار قصة زعموا أنها وقعت للنابغةن وكان لا يعرف شيئًا عن إقوائه بشعره، فلما وقعت له عرف به فعافه، ذكروا أن الناس خافوا تنبيه الشاعر إلى إقوائه، وبقي هو عليه، حى دخل يثرب، فأرادوا إظهار عيبه له فأمروا قينة لهم أن تغنيه شعره، فغنته:

أمن آل مية رائج أو مغتدي

عجلان ذا زاد وغير مزود

زعم البوارح أن رحلتنتا غدًا

وبذاك حدثنا الغراب الأسود3

ففطن إليه ولم يعد إلى إقواء. "قال أبو عمرو بن العلاء: فَحْلان من الشعراء كانا يُقْوِيان، النابغة وبشر بن أبي خازم، فأما النابغة فدخل يثرب فغني بشعره ففطن فلم يعد للإقواء، وأما بشر فقال له أخوه سوادة: إنك تقوي، قال: وما الإقواء؟ قال: قولك:

ألم تر أن طول الدهر يسلي

وينسي مثل ما نسيت جذامُ

ثم قلت:

وكانوا قومنا فبغوا علينا

فسقناهم إلى البلد الشآمِ

فلم يعد للإقواء"4.

1 تاج العروس "10/ 307"، "قوي".

2 تاج العروس "1/ 108"، "كفأ".

3 الشعر والشعراء "1/ 106"، "دار الثقافة".

4 الشعر والشعراء "1/ 190"، "دار الثقافة"، الخزانة "2/ 262".

ص: 22

ورويت قصة إقواء "بشر بن أبي خازم" بشكل آخر، فقد زعم أن أخاه "سوادة" قال له: إنك تُقْوِي، قال: وما الإقواء؟ قال: قولك:

ألم تر أن طول الدهر يُسلي

وينسي مثل ما نسيت جذامُ

ثم قلت:

وكانوا قومنا فبغوا علينا

فتقناهم إلى البلد الشآم

فلم يعد للإقواء"1، أو أن أخاه "سمير"، قال له: "أكفأت وأسأت.

فقال: وما ذاك؟ "2.

وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن المصاحف لما كتبت "عرضت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيروها، فإن العرب ستغيرها -أو قال ستعربها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل توجد هذه الحروف"3، وقد كان كل من اختارهم الخليفة لكتابة القرآن من خالص العرب، ولم يكن من بينهم من هو من المولدين أو الموالي، وقد كانوا من الفصحاء الألباء، فكيف وقع منهم اللحن إذن؟

بل زعموا أن "عمر ضرب أولاده لما لحنوا، وأن "معاوية "كلم "عبيد الله بن زياد"، فوجده كيسًا عاقلا على أنه يلحن فكتب إلى والده بذلك4، وزعموا أن "الحجاج" كان يلحن، زعموا أنه لحن في القرآن، فقرأ: "إنا من المجرمون منتقمون"5، وزعموا أنه لحن في آيات أخرى6، والحجاج من ثقيف، ولم يكن أعجميًّا، حتى يظهر اللحن منه، مع إنهم جعلوه أحيانًا من أفصح العرب، ومن لم يلحن في حياته في جد ولا هزل. قال "الأصعمي": "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن

1 الشعر والشعراء "1/ 190"، الموشح 59، الخزانة "2/ 262 وما بعدها".

2 مصادر الشعر الجاهلي "49".

3 السيوطي، الإتقان "3/ 270".

4 الفائق "2/ 99"، البيان والتبيين "2/ 210". الخزانة "3/ 14". "بولاق".

5 البيان والتبيين "2/ 218"، "عبد السلام هارون".

6 ابن سلام، طبقات "6"، نزهة الألباء "16 وما بعدها".

ص: 23

يوسف، وابن القرية. والحجاج أفصحهم"1. وزعموا أن "الوليد بن عبد الملك"، وأخاه "محمد بن عبد الملك" كانا لحانين2. ذكر أن "الوليد"، خطب الناس يوم عيد، فقرأ في خطبته "يا ليتُها كانت القاضية" بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك3. ورووا قصصًا عن لحنه. وذكر أن "عبد الملك" قال: "أضر بالوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية، يقصد أنه كان يلحن بسبب عدم إرساله إلى الأعراب ليأخذ عنهم اللسان الفصيح. وقد كان أخوه محمد لحانًا كذلك، وذكر أنه لم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة4. قال "الجاحظ":"وكان الوليد بن عبد الملك لحنة، فدخل عليه أعرابي يومًا، فقال: أنصفني من ختني يا أمير المؤمنين. فقال: ومن ختنك؟ قال: رجل من الحي لا أعرف اسمه. فقال عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: من ختنك؟ فقال: هو ذا بالباب. فقال الوليد لعمر: ما هذا؟ قال: النحو الذي كنت أخبرتك عنه. قال: "لا جرم فإني لا أصلي بالناس حت أتعلمه"5. وذكر "الجاحظ" أمثلة على اللحن6. وروى أن كتب "الوليد" كانت تخرج ملحونة. فسأل "اسحاق بن قبيصة" حد موالي "الوليد" ما بال كتبكم تأتينا ملحونة وأنتم أهل الخلافة؟ فأخبره المولى بقولي، فإذا كتابٌ قد ورد علي: أما بعد فقد أخبرني فلان بما قلت، وما أحسبك تشك أن قريشًا أفصح من الأشعرين، والسلام"7.

وقد ورد في شعر "مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري" قوله:

وحديث الذّهُ هو مما

ينعت الناعتون يوزن وزنًا

منطق صائب وتلحن أحيا

نًا وخير الحديث ما كان لحنا

وقد ذكر أنه لم يُرِد اللحن في الإعراب الذي هو ضد الصواب، وإنما أراد

1 القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "58".

2 البيان والتبيين "2/ 205".

3 الرافعي "1/ 246".

4 البيان والتبيين "2/ 204 وما بعدها، 216".

5 المحاسن والأضداد "6".

6 المصدر نفسه.

7 البيان والتبيين "2/ 205".

ص: 24

الكناية عن الشيء والعريض بذكره، والعدول عن الإفصاح عنه. قيل: تكلمت "

هند بنت أسماء بن خارجة"، أخت الشاعر المذكور فلحنت، وهي عند الحجاج، فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس؟! فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال:

منطق صائب وتلحن أحيا

نًا وخير الحديث ما كان لحنًا

فقال لها الحجاج: إنما عني أخوك اللحن في القول، إذا كَنَّى المحدث عما يريد، ولم يعن اللحن في العربية، فأصلحي لسانك. غير أن منهم من رأى أن المراد بهذا اللحن، اللحن المخالف لصواب الإعراب1.

وقد ذكر "السهيلي"، أن الجاحظ قد أخطأ حين قال في كتابه "البيان والتبيين"، أن الشاعر لم يقصد اللحن الذي هو الخطأ في الكلام وإنما أراد استملاح اللحن من بعض نسائه، وخطَّأه في هذا التأويل2، قال: فلما حدث الجاحظ بحديث "الحجاج"، "قال: لو كان بلغني هذا قبل أن أُؤَلف كتاب البيان، ما قلت في ذلك ما قلت! فقال له: أفلا تغيره؟ فقال: كيف وقد سارت به البغال الشهب، وانجدَّ في البلاد وغار". و"قال السيرافي: ما عرفت حقيقة معنى النحو إلا من معنى اللحن الذي هو ضده، فإن اللحن عدول عن طريق الصواب، والنحو قصد إلى الصواب"3.

وذكروا أن بعض شعراء الدولة الأموية كان يلحن، وممن وقع منه اللحن "الفرزدق". رووا أن "عبد الله بن يزيد الحضرمي" البصري، كان ينتقده ويتعقب لحنه، فهجاه الفرزدق، بقوله:

فلو كان عبد الله مولى هجوته

ولكن عبد الله مولى المواليا

فقال له الحضرمي: لحنت. ينبغي أن تقول مولى موالٍ4.

1 أمالي المرتضى "1/ 15". الأمالي، للقالي "1/ 5".

2 البيان والتبيين "1/ 147".

3 الروض الأنف "2/ 190".

4 الرافعي "1/ 256".

ص: 25

"وقالوا: تربع ابن جؤية في اللحن، حين قرأ: "هؤلاء بناتي هنَّ أَطْهَرَ لكم"، وجعلوه حالا، يعني: أطهر. وليس هو كما قالوا"1. و"تكلم معاوية بن صَعْصَعَة بن معاوية يومًا، فقال له صالح بن عبد الرحمن: لحنت. فقال له معاوية: أنا ألحن يا أبا الوليد، والله لنزل بها جبريل من الجنة"2.

وقد فشا اللحن وانتشر حتى بين العلماء، وبين علماء النحو واللغة أيضًا، حتى غلط بعضهم بعضًا، ونسب بعضم اللحن إلى البعض الآخر، قال "ابن فارس":"وقد كان الناس قديمًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب. فأما الآن فقد تجوزوا حتى إن المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب! وإنما نحن محدثون وفقهاء"3. ولما كثر اللحن في الحديث، جوزوا إعرابه. قال "الأوزاعي": "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقال أيضًا:"أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربًا" وقال النضر بن شميل: "كان هشيم لحانًا، فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة، يعني بالإعراب"4.

وبعد، فقد رأيت من روايات أهل الأخبار أنفسهم، أن اللحن لم يكن قاصرًا على العجم، بل كان قد عرف بين العرب كذلك، وعلى هذا يجب ألا نلقي مسئولية ظهوره على الأعاجم، بل على العرب أولا، لأنهم هم الذين بدءوا باللحن، بدءوا به قبلهم بأمد طويل، لحنوا في الجاهلية، أي قبل دخول العجم في الإسلام. فنحن نظلم الأعاجم إذن، إن ألقينا على عاتقهم مسئولية إشاعة اللحن بين العرب. ولكن هل يعقل وقوع اللحن من عرب كالجاهليين، ومن شعراء فحول، استمد علماء اللغة قواعد النحو والصرف من شعرهم مثل "النابغة" الشاعر المعظم، أو من غيره؟ لقد سبق أن ذكر علماء اللغة أن العربي، لا يزال في كلامه وحاشا له أن يلحن أو يخطئ في لسانه، لأنه إذا تكلم تكلم عن سليقة وطبع، وقد حماه الله من الوقوع في زلل الكلام! إذن فكيف

1 مجالس ثعلب "43".

2 مجالس ثعلب "47".

3 الصاحبي "66".

4 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "108 وما بعدها".

ص: 26

نفسر ما ذكروه من وقوع النابغة في اللحن، ومن وجود الإقواء في شعره وفي شعر غيره، ومن ظهور اللحن في أيام الرسول؟ هل نرجع ذلك إلى خطأ الرواة في رواية شعر النابغة وأمثاله، أو نرجع ذلك على التزوير، فنقول إن ذلك الشعر مفتعل، وإنه ليس من شعر النابغة، وإنما هو شعر منحول وضع عليه، ومن ثم وقع الخطأ. ولكن الذي نعرفه أن من كان ينحل العرب الشعر وينسبه للجاهليين، كان من أتقن الناس لشعر الجاهلية ومن أعرف الناس بالعربية، ومن البارعين الحاذقين بقواعدها، وأناس على هذا الطراز من الفهم والعلم، هل يعقل وقوع مثل هذا الغلط منهم؟ أو هل نرجع ذلك إلى الخطأ في التدوين والاستنساخ، ولكن كيف غفل العلماء من النص على ذلك؟

وجوابي أن القول بأن اللحن بمعنى الخطأ في الكلام، يستوجب وجود لغة فصيحة ذات قواعد نحوية وصرفية مقدرة ومقننة وثابتة تعد اللغة الفصيحة العالية في نظر أصحابها، من يخالف قواعدها يعد لحانًا لا يحسن القول ولا الكلام. وهو قول لا يعارضه أحد بالنسبة إلى وجوده في الإسلام، بعد أن فرض الإسلام دين الله على المؤمنين به كتابًا سماويًّا ولسانًا عربيًا مبينًا، تثبتت قواعد نحوه وصرفه في الإسلام. فمن سار عليها عدَّ فصيحًا، ومن خالفها عدَّ لحانًا عاميًّا. أما بالنسبة لأهل الجاهلية، فالقول بوجود اللحن عندهم، يقتضي التسليم بوجود لغة فصيحة عُليا لديهم، لها قواعد مقررة، من تكلم وِفْقَهَا عدَّ فصيحًا، حسب درجة إعرابه وملكته في اللغة، ومن خالفها عدَّ عاميًّا جلفًا. وقد أكد علماء اللغة، وجود هذه العربية الفصيحة، التي هي عندهم عربية قريش، عند ظهور الإسلام، وقالوا: إن بها كان نزول عربية القرآن، وبها نظم الشعر الجاهلي، وبها نثر الكلام الجاهلي المنثور. أما اللحن، فقد أنكروا وجوده، ولم يسلموا بوقوعه، وحجتهم ما ذكرته من أن العربي فصيح بطبعه، إذا تكلم تكلم عن سجية فيه وسليقة، لم يلحن ولم يخطئ في كلامه في الجاهلية، إلى أن كان الإسلام، فاختلط العرب بالأعاجم، ودخل الغرباء بين العرب، ففسد الطبع وظهر الخطأ في اللسان، وفشا اللحن.

وقد يعقل تصور وجود هذه العربية الفصحى، إذا افترضنا -مع المفترضين الأخباريين- أن تلك العربية، هي عربية أهل مكة ومن عاش حولهم، وأنها كانت عربية قريش، وأن المتكلمين بها كانوا بشرًا عصموا عن الخطأ في اللسان

ص: 27

وجبلوا على التكلم بها على الفطرة، ولكننا لا نستطيع القول أنها كانت عربية كل عرب جزيرة العرب، إذ رأينا العرب الجنوبيين، وقد كانوا يتكلمون بلغات أخرى، ووجدنا عرب أعالي الحجاز، ولهم ألسنة تباين عربية القرآن، ورأينا للقبائل لهجات، تختلف بدرجات عن هذه العربية. فكيف يتصور إذن اتفاق العرب كلهم على التكلم بلسان قريش، وبغير خطأ أو زلل في اللسان.

وفي نفي علماء اللغة وجود اللحن عند الجاهليين تعارض مع رواياتهم القائلة بوجود الإقواء والإكفاء في شعر بعض الشعراء الجاهليين، وبلحن "النابغة" في قوله:"في أنيابها السم ناقع"، وبلحن الأعرابي في حضرة الرسول، وبتباين لغات العرب، تباينًا تحدثت عنه في فصل "لغات العرب" وقد وقع في كثير من صميم خصائص اللغات، ومن بينها أمور تخص قواعد الإعراب، وفيه تعارض أيضًا مع القراءات الشهيرة والشاذة للقرآن، وبينها أمور تخص قواعد النحو والصرف والإعراب، وفيه تعارض مع ما ذكروه من أن "أطراف الجزيرة لم تكن خالصة العروبة في القديم، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم، فلم يكن لهم من معنى اللغة إلا تعاور المنطق والاستبداد بالكلمات يتلقفونها ممن حولهم، لأن ملكات الوضع العربي فيهم غير صحيحة، وشروطه غير تامة، وليس كل عربي الجنس عربي اللسان، وإلا فما بال الحميريين ومن قبلهم من الأمم السالفة؟ "1.

وكيف يعقل نفي اللحن عن العرب مع وجود اللغات، ووجود التعارض والاختلاف البين بين قواعد هذه اللهجات، هل يعقل أن يتكلم العربي الجنوبي، باللغة العربية الفصيحة من غير خطأ ولا لحن، ولسانه غير لساننا، وعربيته غير عربيتنا، وقواعده على خلاف قواعدنا، وإعرابه على خلاف إعرابنا، كما أثبت ذلك بالبرهان القاطع من الكتابات الجاهلية، وبأقوال علماء العربية أنفسهم، وفي مقدمتهم "أبو عمرو بن العلاء"، القائل:"ما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا". ثم إننا إذا أخذنا القراءات المتنوعة التي قرئ بها القرآن، والشواهد الشعرية الكثيرة التي أوردها علماء العربية والنحو على الشواذ، وما يذكره العلماء من خلاف في النحو، فإننا لا يمكن تفسير خروجها على القواعد إلا بأنها أثر من أثر بقايا اللهجات. وخروجها على القواعد، هو لحن. ومن خرج على

1 الرافعي "1/ 258".

ص: 28

القواعد عدَّ لحانًا، مهما كان عصره أو جنسه، جاهليًّا كان أم مسلمًا، عربيًّا كان أم أعجميًّا، لأن اللحن لا يختص بعصر أو جنس.

إن ما دعوه باللحن، وما أخذوا الأعاجم عليه، من عدم تمكنهم من التعلق ببعض الحروف، أو من وقوعهم في أخطاء نحوية، نراه قد وقوع للعرب الفصحاء في الجاهلية وفي الإسلام، فما كان ينطقه بعض العرب من إشمام الصاد صوت الزاي، أو من النطق بالجيم "كافًا" على اللهجة المصرية، يعد لحنًا، إن صدر من أعجمي، أما إن صدر من عربي، فلا يقال لذلك لحنًا، بل يقال إنه لغة من لغات العرب. وإذا تصورنا أن عربية الجاهليين، كانت عربية عالية واحدة، على نحو مايراه أهل الأخبار وعلماء اللغة، وجب اعتبار هذه اللغات لغات عامية، المتكلم بها خارج على قواعد اللغة، فهو ممن يلحن ويخطئ سواء كان عربيًّا، أم أعجميًّا، جاهليًّا أم إسلاميًّا، فنحن نتكلم هنا عن أسلوب كلام، لا عن رس وأصل.

أننا حين نقول أن اللحن لم يكن معروفًا بين أهل الجاهلية، نكون قد حصناهم بالعصمة: بعصمة اللسان، ونكون قد جعلناهم بذلك شعبًا مختارًا، فضل بعصمة لسانه على ألسنة سائر البشر، ولكن العلم لا يعرف عصمة ولا حصانة في لسان، وهو يرى أن اللحن لا بد وأن يقع عند أي شعب، أو قوم، أو قبيلة، حتى أن كانت القبيلة في سرة البادية، وفي معزل ناء، لأن الطبيعة توجد من اختلاف قابليات أفراد القبيلة ومن اختلاف مستوى عقلياتهم وثقافاتهم وتباعد سكنهم بعضهم عن بعض، خروجًا على اللسان، فيظهر اللحن الشاذ، ويبرز النشاز في اللغة، مهما كان موطن هذه القبائل، في جزيرة العرب أو في أي موضع آخر من العالم، فاللحن، أي التبلبل في الألسنة من الأمور الطبيعية، التي توجدها طبيعة البشر وطبيعة الأقاليم، وأمور أخرى بحث فيها علماء اللغة والاجتماع، ولا يمكن أن يكون العرب بمنجاة منها!

لقد تحير "السيوطي" وغيره في تفسير خبر ورد عن "سيعد بن جبير" من أنه "كان يقرأ: والمقيمين الصلاة، ويقول: هو لحن من الكتاب". فقل: "وهذه الآثار مشكلة جدًا، وكيف يظن بالصحابة أولاً أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن، وهم الفصحاء واللد! ثم كيف يظن بهم ثانيًا في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنزل، وحفظوه، وضبطوه، وأتقنوه

ص: 29

ثم كيف يظن بهم ثالثًا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته! إلخ! وفي بعض هذه القراءات خطأ حصل من الكتابة، قال "هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 2، وعن قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 3. وعن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} 4 فقالت: يا أخي، هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب"5، أي من الرسم، وهو في الأكثر، فهذا الخطأ في الرسم القديم للكتابة، هو الذي جعل العلماء يسمونه لحنًا، وهو ليس بلحن في الأصل، وإنما جاء اللحن من قراءة القراء بألحانهم، أي على حسب لغاتهم، وإلا فلا يعقل تطاولهم على القرآن بقراءاتهم له قراءة مخالفة للإعراب ولما نزل به الوحي. وهكذا كان الأمر بالنسبة للمواضع الأخرى مثل:{اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} 6، فقد قرئ بسكون الشين وهي لغة تميم، وكسرها وهي لغة الحجاز، وفتحها وهي لغة7، ومثل "الصراط"، فقد قرأت بالسين وبالصاد، والقراءتان لهجتا قبائل، ومثل"حتى"، فقد قرئت "عتى"، قرأها "ابن مسعود" على لسانه، إذ كان من هذيل.

وقد ذكر "المعري" أمثلة على قراءات في القرآن قرأها علماء مشهورون مثل "حمزة بن حبيب"، هي منكرة في نظر غيره من العلماء، "ينكرها عليه أصحاب العربية، كخفض الأرحام في قوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ"، وكسر الياء في قوله تعالى: "وما أنتم بمصرحيِ"، وكذلك سكون الهمزة في قوله تعال: "استكبارا في الأرض ومكر السيئ"، وجاء بأمثلة أخرى من قراءات غيره للقرآن8.

والخلاف الذي نلاحظه في أمور النحو بين علماء أهل البصرة وعلماء أهل الكوفة، في مثل عمل الأسماء والأدوات: أدوات الجر، أو الخفض، وأدوات النصب، وأدوات الجزم، وأمثال ذلك، هو في حد ذاته دليل على وجود إعراب متعدد

1 السيوطي، الإتقان "2/ 270".

2 [طه: 63] .

3 [النساء، الآية: 162] .

4 [المائدة، الآية: 69] .

5 السيوطي، الإتقان "2/ 269".

6 [البقرة، الآية: 60] .

7 السيوطي، الإتقان "2/ 277".

8 رسالة الغفران "367 وما بعدها".

ص: 30

للعرب، وقف العلماء على شيء يسير منه، فوقعوا من ثم في بلبلة من أمره، بسبب عدم اهتمامهم بأمر تلك اللغات، واقتصارهم في جمعهم قواعد النحو على لهجات الأعراب الذين اتصلوا بهم، فظهر لهم وكأنه نشاز، ولو فطنوا يومئذ إلى أنه من إعراب لغات، لكان حكمهم حكمًا آخر ولا شك. ومن هؤلاء الأعراب الذين أخذ عنهم البصريون: قيس، وتميم، وأسد، "فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكل في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف. ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"1، والقبائل المذكورة باستثناء الطائيين، هم من مجموعة "مضر"، وليس فيها قبيلة من "ربيعة"، لذلك نستطيع القول أن العربية قد بنيت على لهجات مضر، وحيث أن علماء اللغة أهملوا لغات القبائل الأخرى وبينها قبائل من مضر كذلك، فلم يأخذوا منها إلا عرضًا، تولد من عملهم هذا بناء العربية على تلك اللهجات وبموجب اجتهاد واستقصاء أولئك العلماء، فظهر من أجل ذلك الغريب والنشاز، والاختلاف في الإعراب، الذي أشار إلى قسم منه العلماء وهو الذي احتاجوا إليه للاستشهاد به في الشواهد والمناظرات وأكثره من لغات مضر، وأهملوا الباقي، ولو هم سجلوا كل ما عرفوه من نشاز لتجمع من ذلك تراث كبير كثير من تراث اللغات الجاهلية من اختلاف في لغة وقواعد إعراب وصرف.

لقد تمسكت القبائل بقواعد ألسنتها حتى في الإسلام، فكان أفرداها ينطقون بلهجتهم، من ذلك ما ذكره "الزجاجي" من اختلاف "عيسى بن عمر" الثقفي، و"أبي عمرو بن العلاء" في رفع أو نصب:"ليس الطيب إلا المسك"، ومن احتكامهما إلى "أبي المهدي"، فلما ذهبا إليه وجداه لا يرفع، فلما حاولا إقناعه بالرفع، أبى عليهما ذلك وقال:"لا، ليس هذا من لحني ولا من لحن قومي"، فلما ذهبا إلى "المنتجع" التميمي، وجداه لا ينصب وأبى إلا الرفع، وذكر "الزجاجي":"ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع"2. وقع ذلك في الإسلام وبعد تثبيت القواعد، وكان هذا حال قبائل الحجاز، وحال تميم في الجاهلية ولا شك،

1 السيوطي، الاقتراح "19".

2 مجالس العلماء "1" وما بعدها".

ص: 31

فهل يعد هذا الاختلاف دلالة على عدم وجود اللحن عند أهل الجاهلية، أم يعد دليلاً على وجوده عندهم؟

لقد أدى اقتصار العلماء في أخذهم العربية عن القبائل التي ذكروها وفي تمسكهم برأيهم في أن تلك القبائل، هي صاحبة اللغة الفصيحة، إلى نبذ اللهجات العربية الأخرى، لاعتبارهم أياها لهجات مستقبحة، ولغات حشوية، فخسرت العربية بذلك خسارة كبرى، وظهر بسبب ذلك التنابذ في مذاهب علماء العربية، بسبب اعتمادهم على لغات معينة محدودة، وليس على كل اللغات العربية القريبة من لغة القرآن، ليتمكنوا بذلك من استقرائها كلها واستنباط القواعد الكلية منها.

ومن جملة الأمور التي يجب أن نشير إليها وننتبه إليها، هو أن علماء العربية حين كانوا يشيرون إلى لهجة من اللهجات، مثل لهجة أهل الحجاز، أو لهجة هذيل، أو تميم، وأمثالها، كانوا يشيرون إليها بالتعميم، مثل: جاء هذا على لغة أهل العالية، أو على لغة أهل الحجاز، أو على لغة تميم، مع أن حكمهم هذا لم يؤخذ من دراسة لغة القبيلة المشار إليها، وإنما أخذ من لسان أعرابي أو أكثر، بينما الحكم على منطق إنسان واحد أو اثنين أو ثلاثة، لا يمكن أن يتخذ حجة للحكم على منطق قبيلة بأكملها، أضف إلى ذلك أن القبائل الكبيرة، كانت موزعة منتشرة، والحجاز، وحده ذو قبائل كثيرة، متعارضة اللغات، فكيف يقال: جاء هذا على لغة أهل الحجاز، وكان أسد وتميم متجزئة منتشرة في مناطق واسعة، وهذا مما جعل لهجاتها تتأثر بالإقليمية وبالجوار، فلم يكن لها لسان واحد، غير أن علماء العربية لم يفطنوا إلى هذه الأمور، فوقعوا من ثم في أخطاء، فأخذوا من بعض تميم، ونسبوا ما أخذوه على كل تميم مثلا.

ثم إنهم لم يستخلصوا النحو من القرآن رأسًا، وقد كان عليهم الاعتماد عليه أو لأنهم إنما اتخذوا النحو لصيانة اللسان من الخطأ في القرآن وفي لغة التنزيل، وإنما مالوا عنه إلى الشعر، وإلى كلام أعراب من قبائل معينة وثقوا بصحة كلامهم وزاد ابتعادهم عن الأسلوب العلمي، بأخذهم بالعصبية العلمية، فهرت الآراء المتعصبة للمدن وللعلماء، فهذا رجل محب للبصرة، مفرط في حبها، لا يقدم على علمائها عالم، وهذا كوفي متعصب لنحو الكوفة، لا يقدم على أهل الكوفة أحدًا. ثم زاد هذا التعصب للعلماء، فهذا تلميذ عالم يُتعصب له، ويُأخذ برأيه كأنه رأي نزل من السماء، وهذا عالم كبير يعيب علم عالم

ص: 32

منافس له، ويتهجم هو وتلامذته عليه، وهذا نحوي يعيب نحو الآخرين، وقد دفعت هذه العصبية، بعض العلماء إلى الابتعاد عن العلم، باللجوء إلى الوضع والافتعال والاتهام، لإقحام الخصوم، حتى جاء بعضهم بشواهد نحوية وصرفية مفتعلة، وبشهود من الأعراب، تكلموا باطلا لتأييد عالم على عالم، وفي المسألة الزنبورية التي وقعت بين سيبويه والكسائي، وفي مجالس الجدل التي تجادل فيها العلماء في محضر الخلفاء في قضايا النحو واللغة والشعر أمثلة عديدة على ما أقول1.

وعندي أن ما نسب إلى بعض الشعراء الجاهليين من وقوعهم في أغلاط نحوية أو لغوية أو شعرية، لم يكن خطأ بالنسبة لهم، وإنما بان الخطأ عند علماء العربية، حين قاسوا الشعر بمقياس واحد، هو العربية التي جمعوا قواعدها ودونوها في الإسلام، والعروض الذي ضبطه "الخليل" ومن جاء بعده، ولو كانوا قد درسوا لهجات القبائل، وعلموا أن الشعراء، كلهم أو بعضهم كان ينظم شعره بلسانه، وأن الشعر الجاهلي، جاء بألسنة متعددة، لعلموا إذن سر وقوع هذا الاختلاف في الشعر، ولأراحوا أنفسهم من دراسة كثير من هذا الغريب والشاذ الذي أدخلوه كتب النحو واللغة، بعد صقل الشعر وتهذيبه. وقد فطن إلى ذلك "المعري"، فاعتذر عما نسب إلى "امرئ القيس" من خروج عن القواعد بسوء الرواية وبالتصحيف2، وبأنهم في الجاهلية كانوا لا يعدون ذلك خروجًا على قاعدة، وإنا كان ذلك شيئًا مألوفًا عندهم، فملا جاء "المعلمون في الإسلام""غيروه على حسب ما يريدون"3، وجعله يقول عن "الأقوياء": "لا نكرة عندنا في الإقواء4 واعتذر عما نسب إلى غيره من الشعراء من عيوب أحصاها علماء الإسلام عليهم، بأن قال إن هذه لم تكن من العيوب في أيامهم، وإنما هي صارت عيوبًا في الإسلام.

لقد اعتمد علماء العربية على الشعر الجاهلي وعلى لغات العرب التي وثقوا منها في جمع قواعد العربية وتثبيتها، كما استشهدوا بالقرآن، الذي نزل بلسان عربي مبين، والذي ثبت العربية. أما"الحديث"، فقد اختلفوا في جواز الاستشهاد

1 راجع مجالس العلماء.

2 رسالة الغفران "313 وما بعدها".

3 رسالة "317 وما بعدها".

4 رسالة "220".

ص: 33

به، وذلك لأن الحديث لم ينقل كما سمع من النبي وإنما روي بالمعنى، ولهذا فإن أئمة النحو المتقدمين من المصرين: البصرة والكوفة لم يحتجوا بشيء منه، وقد جوز بعض العلماء الاستشهاد به على تقدير التسليم بأن النقل كان بالمعنى، إنما كان في الصدر الأول، وقبل تدوينه في الكتب وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ، ولهذا يجوز الاحتجاج به، لأن السلائق العربية لم تكن قد فسدت بعد. وموضوع الخلاف، هو أن النقل لم يكن بالحرف، وإنما بالمعنى، ولو كان بالأول لما وقع الخلاف في وجوب الاستشهاد به، ولجرى ذلك مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية بموجبه. قال "سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين إنهم يروون بالمعنى"1. وقد وقع اللحن كثيرًا فيما روي من الحديث لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ويتعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، فدخل من ثم هذا اللحن في الحديث، ولهذا امتنع علماء المصرين من الاستشهاد بالحديث في النحو. وقد جوز بعض المتأخرين الاستشهاد بالأحاديث والأمثال النبوية الفصيحة، ولم يجوزوا الاستشهاد في غير ذلك2 للسبب المذكور.

هذا وقد ألف العلماء كتبًا عديدة في إعراب القرآن وفي معانيه وغريبه، وصل بعض منها إلينا. وقد أشار "ابن النديم" إلى أسماء عدد من تلك المؤلفات3. وهي مرجع هام بالنسبة لعلماء العربية، لورود آراء لغوية ونحوية قيمة فيها، تفيد في شرح النحو العربي.

1 الخزانة "1/ 5 وما بعدها".

2 الخزانة "1/ 6 وما بعدها".

3 الفهرست "60".

ص: 34