الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو
والنحو في اللغة الطريق والجهة والقصد، ومنه نحو العربية. وهو إعراب الكلام العربي. أُخِذ من قولهم: انتحاه إذا قصده. وهو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره ليلحق به من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها، وإن لم يكن منهم أو إن شذَّ بعضهم عنها رد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع، أي نحوت نحوًا، كقولك قصدت قصدًا ثم خص به انتحاء هذا القبيل مع العلم. وقيل لقول علي بن أبي طالب بعدما علم الأسود الاسم والفعل وأبوابًا من العربية:"انح هذا النحو"1. أو لأن أبا الأسود لما وضع ما وضع في النحو وعرضه على "علي"، قال"علي" له: "ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! ولذلك سمي النحو نحوًا"2. ولكننا نجد "الجاحظ" يشير إلى وجود اللفظة في أيام "عمر"، إذ يقول:"وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا النحو كما تعلَّمون السنن والفرائض"3، ويشبه هذا الخبر خبرًا آخر نسب
1 اللسان "15/ 310"، "نحا". تاج العروس "10/ 360"، "نحا". الفهرست "ص65"، "المقالة الثانية من كتاب الفهرست". "ابن الانباري نزهة""3 وما بعدها"، المثل السائر "7". الجمحي، طبقات "ص5"، ابن خلكان "1/ 240". إرشاد "1/ 280".
2 ابن الأنباري، نزهة "4 وما بعدها"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم"، "القاهرة 1967م".
3 البيان والتبيين "2/ 219".
إليه أيضًا، فقد ذكروا أنه قال:"تعلموا إعراب القرآن تعلمون حفظه"1، وأنه قال:"تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تعلمون القرآن"2. ويظهر أن الكتاب قد صحفوا في خبر "عمر"، فخلطوا بين "اللَّحن" و"النحو"، وعلى تلك فإن بين اللفظين صلة. وإذا صح خبر "الجاحظ"، واعتبرنا لفظة "النحو" لفظة صحيحة غير محرفة، دلت على وجود هذه التسمية علمًا لهذا العلم في أيامه، وقبل أيامه، أي في أيام الجاهليين.
والجمهور من أهل الرواية أن النحو علمٌ ظهر في الإسلام. ظهر بظهور الحاجة الماسة إليه لضبط اللسان وصيانته من الخطأ، ولتعليم الأعاجم نمط الكلام بالعربية. ورجع أكثرهم مصدره وأساسه إلى الإمام "علي بن أبي طالب"، ويقولون إن أبا الأسود الدؤلي "69هـ" أخذ هذا العلم عنه. وأن الإمام ألقى عليه شيئًا من أصول النحو. فاستأذن التلميذ أستاذه أن يصنع نحو ما صنع، فأذن له به، فسمى ذلك نحوًا 3. وذكر بعضهم أن الإمام دفع إلى أبي الأسود رقعة مكتوبًا فيها:"الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى. وأعلم أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر. ثم وضع أبو الأسود بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى أن وصل إلى باب إن وأخواتها ما خلا "لكن" فلما عرضها على عليٍّ أمره بضم "لكن" إليها، وكلما وضع بابًا من أبواب النحو عرضه عليه"4. وذكر بعض آخر أن أول من أسس العربية وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، أبو الأسود الدؤلي، وضع العربية "حين اضطرب كلام العرب فغلبت السليقة، فكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب،
1 الزينة "117 وما بعدها".
2 الأمالي، للقالي "1/ 5"، الإتقان "2/ 260".
3 الفهرست "66"، الروض الأنف "1/ 69" ابن خلِّكان "1/ 662"، الحلبي، الزبيدي، طبقات "13 وما بعدها"، الفائق "1/ 611"، طبقات، ابن سلام "5". ياقوت إرشاد "4/ 280"، المثل السائر "7".
4 ضحى الإسلام "2/ 285"، "القاهرة 1961"، ابن الأنباري، نزهة "4 وما بَعْدَهَا".
والْجَزْم"1. وقال ابن قتيبة: "وهو أول من وضع العربية"2. وذكر ابن حجر، أنه أول من وضع العربية ونقط المصاحف3. وروى ابن النديم أن أربع أوراق، وجدت فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود الدؤلي، وكانت بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا خط علان النحوي، وتحته هذا خط النضر بن شميل4. ففي هذه الأوراق دلالة على أن هذه الأوراق من كلام أبي الأسود، وأنه كان صاحب علم النحو.
وروى ابن النديم رواية أخرى، ذكر فيها أن الطبري قال:"إنما سمي النحو نحوًا لأن أبا الأسود الدؤلي قال لعلي عليه السلام وقد ألقى عليه شيئًا من أصول النحو. قال أبو الأسود: واستأذنته أن أصنع نحو ما صنع، فسمي ذلك نحوًا. وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو، فقال أبو عبيدة أخذ النحو عن علي بن أبي طالب أبو الأسود، وكان لا يخرج شيئًا أخذه عن علي -كرم الله وجهه- إلى أحد، حتى بعث إليه زياد أن اعمل شيئًا يكون للناس إمامًا ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئًا يقرأ: "أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه" بالكسر، فقال: ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا فرجع إلى زياد، فقال: افعل ما أمر به الأمير فليبغني كاتبًا لقنًا يفعل ما أقول، فأتى بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتى بآخر. قال أبو العباس المبرد أحسبه منهم، فقال أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فِيَّ بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت فِيَّ فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف. فهذا نقط أبي الأسود. قال أبو سعيد رضي الله عنه ويقال: إن السبب في ذلك أيضًا أنه مر بأبي الأسود سعد، وكان رجلا فارسيًّا من أهل زندخان، كان قدم البصرة مع جماعة من أهله فدنوا من قدامة بن مظعون وادَّعوا أنهم أسلموا على يديه، وأنهم بذلك من مواليه. فمر سعد هذا بأبي الأسود وهو يقود فرسه. قال: مالك يا سعد لم لا تركب؟ قال: إن فرسي ضالع أراد
1 ضحى الإسلام "2/ 287".
2 المعارف "ص334".
3 الإصابة "2/ 233"، "رقم4329".
4 الفهرست "ص67 وما بعدها".
ظالعًا. قال فضحك به بعض من حضره. فقال أبو الأسود هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة، فلو عملنا لهم الكلام. فوضع باب الفاعل والمفعول"1.
"وقيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم؟ -يعنون النحو- فقال: لقنت حدوده من علي بن أبي طالب –عليه السلام وكان أبو الأسود من القراء، قرأ على أمير المؤمنين عليه السلام"2.
وتذكر رواية أخرى، أن أبا الأسود دخل على "علي" فوجده مطرقًا مفكرًا، فسأله عن سبب ما به، فذكر له أمر اللَّحن وما فشا من الخطأ في ألسنة الناس، وأنه يريد أن يصنع كتابًا في أصول العربية، فانصرف عنه، وهو مغموم، ثم عاد إليه بعد أمد، فألقى الإمام عليه رقعة كتب فيها:"الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى"، ثم أمره أن ينحو نحوه، وأن يزيد عليه، فجمع أبو الأسود أشياء وعرضها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكر منها: إن، وأن، وليت، ولعل، وكأن، ولم يذكر لكن، فأشار الإمام عليه بإدخالها عليها3.
وذكر "ابن الأنباري 577هـ"، "أن من وضع علم العربية، وأسس قواعده، وحدَّد حدوده، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخذ عنه أبو الأسود. "وسبب وضع علي رضي الله عنه لهذا العلم، ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء -يعني الأعاجم- فأردت أن أضع لهم شيئًا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى إلي الرقعة، وفيها
1 الفهرست "65 وما بعدها"، القِفْطي، إنباهالرواة "1/ 6"، "ذكر أول من وضع النحو". أخبار النحْويين، للسيرافي "16 وما بعدها"، الإصابة "2/ 233". "4329".
2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 15".
3 القِفْطي "1/ 4"، "ذكر أول من وضع النحو"، معجم الأدباء "14/ 49"، ابن الأنباري، نزهة الألباء "5".
مكتوب: الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما جاء لمعنى. وقال لي: أُنْحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، وأعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم.
قال أبو الأسود: فكان ما وقع إلي: إن وإخوانها ما خلا لكن فلما عرضتها على علي رضي الله عنه قال لي: وأين لكن؟ فقال ما حسبتها منها، فقال: هي منها فألحقها، ثم قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت، فلذلك سمي النحو نحوًا؟ 1.
وتذكر رواية أن أبا الأسود وضع بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام؛ إلى أن وصل إلى باب إن وإخواتها2.
وهناك رواية تنسب إلى الأصمعي تذكر أنه قال: "سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: جاء أعرابي إلى علي عليه السلام فقال، السلام عليك يا أمير المؤمنين، كيف تقرأ هذه الحروف؟ "لا يأكله إلا الخاطون" كلنا والله يخطو، قال: فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: يا أعرابي: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُون} . قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان الله ليظلم عباده، ثم التفت أمير المؤمنين إلى أبي الأسود الدؤلي، فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئًا يستدلون به على صلاح ألسنتهم، ورسم له الرفع والنصب والخفض"3.
وروي من حديث علي رضي الله عنه مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئ: "إن الله برئ من المشركين ورسوله" حتى قال الأعرابي: برئت من رسول
1 ابن الأنباري، نزهة "4 وما بعدها".
2 ابن الأنباري، نزهة "5"، "حاشية رقم 2".
3 الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية، لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي "72". "تحقيق حسين بن فيض الله الحرازي"، "دار الكتاب العربي"، "1957"، عبد العال سالم مكرم، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "52"، ابن الأنباري نزهة "8".
الله، فأنكر ذلك علي عليه السلام ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمه ما لا يجهل موضعه"1.
ونجد رواية أخرى تذكر أن أبا الأسود كان أول من وضع العربية، وأول من أملى في الفاعل والمفعول به، والمضاف، والنصب، والرفع، والجر، والجزم، وكان قد أخذ العلم من "علي بن أبي طالب". وحدث أن ابنته لحنت في فعل التعجب، فقالت لأبيها وكان اليوم حارًّا شديد الحر:"ما أشد الحرُّ"، وكانت تقصد "ما أشد الحرَّ"، أي على باب التعجب. فلما علم أبو الأسود بخطئها، نبهها إلى موضع الخطأ. ثم ذهب إلى "زياد" والي البصرة، وطلب منه السماح بوضع علم النحو، فلم يسمح له. ولما أخطأ رجل أمام زياد كبر عليه ذلك فوضع أبو الأسود قواعد النحو فأخذ عنه "الليثي" هذا العلم ووسعه، ثم وسع "عيسى بن عمر" في كتابيه الجامع والمكمل2.
ورويت قصة وضع النحو بشكل آخر، روي أيضًا أن زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئًا يصلح به الناس كلامهم، ويعرب به كتاب الله تعالى! فأبى أبو الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجَّه زياد رجلا وقال له: اقعد على طريق أبي الأسود، فإذا مر بك، فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ:"أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِهِ" بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجهُ الله أن يبرأ من رسوله! ورجع من حاله إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلي ثلاثين رجلا، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلا من عبد القيس، فقال:
1 الخصائص "2/ 9".
2 القِفْطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة "1/ 16"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم"، "مطبعة دار الكتب المصرية 1950م"، الزبيدي، طبقات النحويين واللغات "13"، "القاهرة 1954". طبقات، لابن سلام "5". العسكري، المصون"118".
John A. Haywood، Arabic Lexicography، Leiden، 1965، p. 12. f.
خذ المصحف وصبغًا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف. وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين"1.
"وقيل: إنه دخل إلى منزله، فقالت له بعض بناته: ما أحسن السماءُ! قال: أي بنية نجومها، فقالت: إني لم أرد أي شيء منها أحسن؟ وإنما تعجبت من حسنها، فقال: إذًا فقولي ما أحسن السماءَ! فحينئذ وضع كتابًا"2. و"قيل: وأتى أبو الأسود عبد الله بن عباس، فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت؛ فأردت أن أضع شيئًا لهم يقومون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو؛ أما إنه حق، واستعن بسورة يوسف"3. و"قال أبو حرب بن أبي الأسود: أول باب رسم أبي من النحو باب التعجب. وقيل: أول باب رسم باب الفاعل والمفعول، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم"4.
"ومن الرواة من يقول: إن أبا الاسود هو أول من استنبط النحو، واستخرجه من العدم إلى الوجود، وأنه رأى بخطه ما استخرجه، ولم يعزه إلى أحد قبله"5. وكان"أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها"6. وروي عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل عن أبيه، قال:"كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة"7.
وتذكر رواية أن أبا الأسود الدؤلي إنما وضع النحو بأمر من الخليفة "عمر"، روت أن أعرابيًّا قدم المدينة في خلافته، فقال:"من يقرئني شيئًا مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل سورة براءة فقال: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله! إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه! فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله!
1 ابن الأنباري، نزهة "9"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329".
2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 16"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329".
3 المصدر نفسه.
4 كذلك.
5 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 7".
6 المصدر نفسه "1/ 14".
7 ابن الأنباري، نزهة "10".
فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرأني، فأقرأني هذا سورة براءة، فقال:"إن الله بريء من المشركين ورسولِهِ"، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر رضي الله عنه ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو"1.
وذكر أن عمر بن الخطاب كتب إلى "أبي موسى" الأشعري، كتابًا فيه:"أما بعد: فتفقهوا في الدين وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2.
ويفهم من هذا الكتاب، أن أبا الأسود كان على علم بالنحو وبالإعراب قبل أيام "علي"، ولهذا طلب الخليفة من عامله أن يكلف أبا الأسود بتعليم أهل البصرة الإعراب.
ويظهر من الرواية التي ذكرتها عن التقاء أبي الأسود بعبد الله بن عباس، وقوله له: أني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع شيئًا لهم يقومون به ألسنتهم، ومن رد عبد الله بن عباس عليه بقوله له:"لعلك تريد النحو"3، إن ابن عباس، كان على علم بالنحو، ودليل على ذلك نصه على اسمه، مما يدل على أنه كان معروفًا. وذكل إن جاز لنا التصديق بصحة هذه الروية، التي أرى أنها من المصنوعات.
وكان أبو الأسود مثل غيره من العرب الفصحاء يكره اللحن واللحانين. روي عنه أنه ذكر اللحن، فقال:"إني لأجد للحن غمزًا كغمز اللحم"4.
ولأبي الحسن أحمد بن فارس المتوفى سنة 395 للهجرة، وهو كما نعلم من مشاهير علماء اللغة، رأي طريف في منشأ هذا العلم خلاصته: أن أبا الأسود كان
1 ابن الأنباري، نزهة "8"، الكشاف، للزمخشري "2/ 191".
2 القِفْطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق، حضرت عمر كي سر كاري خطوط "دهلي1959"، "ص139 وما بعدها"، "القسم العربي"، John A. Haywood، Arabic Lexicography، p. 14.
3 القِفْطي "1/ 16".
4 عيون الأخبار "2/ 158".
أول من وضع العربية، لكن هذا العلم قد كان قديمًا، وأتت عليه الأيام، وقلَّ في أيدي الناس، ثم جدده هذا الإمام1. فأبو الأسود الدؤلي هو مجدد هذا العلم وباعثه، وليس موجده ومخترعه.
فنحن إذن أمام رأي جديد، رأي يرجع علم العربية إلى ما قبل الإسلام وكفى لكنه لم يفصل ولم يشرح ولم يتعرض لموضوع متى كان ظهور هذا العلم في القديم وكيف وجد وهل كان للألسنة الأعجمية كاليونانية أو السريانية أثر في ظهوره ونشوئه؟ ثم إنه لم يتعرض للأسباب التي جعلت الأيام تأتي عليه حتى قل في أيدي الناس، إلى أن ظهر أبو الأسود فأعاده إلى الوجود، ولم يذكر كيف عثر أبو الأسود على هذا العلم ومن لقنه به حتى بعثه وجدده؟
تعرض "ابن فارس" لبحث منشأ علم النحو في أثناء كلامه على الخط العربي فقال: "وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا"2. وهو يرى أن رأيهم باطل، وأن بين العرب من كان يقرأ كما كان بينهم من كان أميًّا، وجاء بأمثلة في تفنيد دعواهم، ثم خلص إلى هذه النتيجة: "فإذا لم نزعم أن العرب كلها -مدرًا ووبرًا- قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة"3. ثم قال: "والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أوَّلها:
شاقتك أظعان لليلى
…
دون ناظرة بواكر
فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها، لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقًا من غير قصد لا يكاد يكون.
فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية،
1 الصاحبي "ص37 وما بعدها".
2 الصاحبي "ص35".
3 "ص36".
وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العلمين قد كانا قديْمًا وأتت عليهما الأيام وقلَّا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان. وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب1.
وقال "ابن فارس": "ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم العربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمزة، والمد، والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا في مثل: الخبء، والدفء، والملء"2.
وقد استخدم ابن عباس لفظة "العربية" في معنى: الإعراب، وذكر لفظة "النحو" قبل كلمة:"الإعراب"، حيث قال كما ذكرت ذلك قبل قليل:"وإنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا". وذكر غيره أيضًا أن أبا الأسود "أول من وضع العربية"، و"أول من نقط المصحف ووضع العربية"3. وقد استنتج المرحوم أحمد أمين من ذلك الاستعمال أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم "نحوًا" سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتًا"4. ففرق "أحمد أمين" بين "العربية" و"النحو" وجعل للعربية سابقة على علم النحو، وجعل النحو وليدًا ولد من العربية. وهو رأي لا يتفق مع رأي "ابن فارس"، الذي نص على النحو بذكر اسمه، كما نص على الإعراب من بعده.
هذا هو المشهور المعروف المتداول بين أكثر الناس عن منشأ علم النحو. وقد تعرض "ابن النديم" لهذا الموضوع فقال: "قال محمد بن إسحاق: زعم أكثر العلماء أن النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأن أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ثم روى روايات أخرى،
1 الصاحبي "ص37 وما بعدها".
2 الصاحبي "39".
3 ضحى الإسلام "2/ 287"، الإصابة "2/ 233"، "رقم 4329".
4 ضحى الإسلام "2/ 387".
تذكر أن غيره قام برسم النحو، إذ قال:"وقال آخرون رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي، ويقال الليثي. قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب، أنه قال: روى ابن أبي لهيعة عن أبي النضر، قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء"1.
وقد رد "ابن الأنباري" على من ذهب إلى أن علم النحو من صنع رجل آخر غير "أبي الأسود"، إذ قال: فأما زعم من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح، لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضًا نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن"2. وكان قد ذكر ما ورد في الأخبار من قيام أبي الأسود به، ثم رجحها على غيرها بقوله: "والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه روي عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه"3.
ويلاحظ أن الذين رجعوا سبب وضع النحو إلى الخطأ في قراءة الآية: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 4، قد اختلفوا فيما بينهم في العهد الذي لحن فيه قارئ الآية في قراءتها، فمنهم من جعله في عهد عمر 5، ومنهم من صيره في عهد علي6، ومنهم من رجعه إلى أيام "زياد بن أبيه"، فأنت أمام رواية واحدة، لكنك تراها وقد نسبت إلى ثلاثة عهود، ومثل هذا الاختلاف أمر غير غريب بالنسبة إلى مراجعي الموارد الإسلامية، إذ نجد فيها أمثلة كثيرة من أمثاله، ويظهر أن الرواة تلاعبوا في الخبر، فنسبه كل واحد منهم إلى عهد لغاية أرادها، من هذا التحريف والتغيير.
1 الفهرست "ص65".
2 نزهة الألباء "10"، "تحقيق محمد أبي الفضل إبرهيم".
3 المصدر نفسه"11".
4 [التوبة، الآية: 3] .
5 نزهة "8".
6 الخصائص "2/ 9".
وقد رجح "أحمد أمين" نسبة النحو إلى أبي الأسود، إذ يقول:"ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وأنه ابتكر شكل المصحف. وواضح أن هذه خُطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو. وعلى هذا فمن قال إن أبا الأسود وضع النحو، فقد كان يقصد شيئًا من هذا، وهو أنه وضع الأساس بضبط المصحف حتى لا تكون فتحة موضع كسرة، ولا ضمة موضع فتحة، فجاء بعد من أراد أن يفهم النحو على المعنى الدقيق، فاخترع تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، والاسم إلى ظاهر ومضمر، وغير ظاهر ولا مضمر، وباب التعجب وباب إن"1.
وقال: "فالذي يظهر أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وإن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم نحوًا سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتًا. فالظاهر أن عمله كان في أول الأمر ساذجًا بسيطًا، وهو وضع علامات الرفع والنصب وما إليهما ولم يزد على ذلك، فلما سمى العلماء بعدُ بعضَ ضروب الرفع فاعلا وبعض ضروب النصب مفعولا قالوا: إن أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول، وإن كان أبو الأسود نفسه لم يعرف فاعلا ولا مفعولا، بل ربما لم يعرف أيضًا رفعًا ولا نصبًا، فإنهم يروون أنه8 قال لكاتبه: إذا رأيتني قد فتحت فِيَّ بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت في فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت. وهو تعبير ساذج يتفق وزمن أبي الأسود"2.
ولإبراهيم مصطفى، رأي قريب من رأي "أحمد أمين". فهو يرى أن المصطلحات والقواعد التي ذكر أن أبا الأسود وضعها بأمر "علي" لا يمكن
1 ضحى الإسلام "2/ 286 وما بعدها".
2 ضحى الإسلام "2/ 287 وما بعدها".
أن تتفق وزمنه، لأن المصطلحات النحوية إنما ظهرت في وقت متأخر، ويذكر أن الآراء النحْوية، لم تظهر أيضًا في عهده، بدليل أننا لا نجد في كتاب سيبويه ولا في كتب النحو الأخرى رأيًا له. ويستنتج من ذلك أن عمل أبي الأسود كان وضع الإعراب وضبط المصحف1.
وقد درس المستشرقون موضوع نشأة علم النحو وأصله، فمنهم من قال إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون برأي علماء العربية، من أنه عربي الأصل والنجار، وقد نبت كما تنبت الشجرة في أرضها. وتوسط آخرون، فقالوا: إنه كان من إبداع العرب، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق، وتعلموا أيضًا شيئًا من النحو، وهو النحو الذي كتبه "أرسطوطاليس"، وبرهان هذا أن تقسيم الكلمة مختلف، قال "سيبويه":"فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فيقسم فيها الكلام إلى اسم وكلمة ورباط، أي الاسم هو الاسم، والكلمة هي الفعل، كما يقال له في اللغات الأوروبية VERB، والرباط هو الحرف، كما يقال له في اللغة الأوروبية conjunction أي ارتباط، وهذه الكلمات اسم وفعل ورباط، ترجمت من اليوناني إلى السرياني، ومن السرياني إلى العربي، فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات اسم وفعل وحرف فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت ولا نقلت2.
ثم أن "القياس" هو من أهم الأسس والأصول في المنطق اليوناني، وحيث إنه كان من أهم أدوات علماء النحو في تفريع علم النحو، حتى صار من مميزات مدرسة البصرة، والبصرة غير بعيدة عن "جنديسابور" وعن مدارس نصرانية، كان فيها علماء يدرسون علوم اليونان، ومنها المنطق والنحو، فلا يستبعد تأثر أبي الأسود الدؤلي ومن جاء بعده بهذه الدراسات، ودليل ذلك، هو ظهور هذا العلم في البصرة دون سائر المدن الأخرى، ومنها مدن الحجاز مهد الإسلام.
ويرى "فون كريمر" أن ما يقال من أن ظهور اللحن، كان السبب
1 مجلة كلية الآداب، المجلد العاشر "ص71"، "دسمبر 1948م".
2 ضحى الإسلام "2/ 292 وما بعدها".
وضع النحو، دعوى لا يعوَّل عليها، ولا أساس لها، وإنما هو وليد الحاجة التي أحس بها الأعاجم من آراميين وفرس، لتعلم العربية، وللتكلم بها على وجه صحيح1.
وقد ألف بعض المستشرقين بحوثًا في موضوع النحو العربي ومدارسه، منهم المستشرق "فلوكل"2، و"هول"3، و"رايت"4، وغيرهم، وقد تطرقوا فيها إلى قواعد العربية وآراء علمائها فيها.
وقد ذهب بعض المحدثين مذهب المستشرقين القائلين بتأثر النحو العربي بالنحو اليوناني، وذلك لأمور، منها: أن تقسيم الكلم المألوف المتبع في النحو، هو تقسيم يوناني، واعتبار القياس أصلا من أصول النحو، ووجود مدارس سريانية كانت تدرس علوم النحو في مدارسها عند ظهور الإسلام، ووجود يونان وأديرة في العراق، فهذه الأسباب وأشباهها تحمل الإنسان على القول إن النحو العربي قد تأثر بالنحو اليوناني وبمنطق أرسطو خاصة، ولا سيما وأن النحو قد ظهر في العراق، وهو ملتقى الحضارات. وقد تأثر خاصة في عهد "الخليل بن أحمد" الذي كانت له صلات وثيقة مع العلماء السريان، مثل حنين بن إسحاق وأضرابه، حتى ذهب بعض الباحثين إلى وقوف الخليل على اللغة اليونانية.
وقد ذهب "مصطفى نظيف" إلى أن يعقوب الرهاوي، كان من معاصري أبي الأسود الدؤلي، وكان من تلامذة سويرس سيبخت، ومن البارعين في الفلسفة والنحو والتأريخ، ومن المؤلفين في النحو السُّرياني، ومن الذين أدخلوا التنقيط والحركات. وكان في البصرة، والبصرة ملتقى الثقافة، وحولها أديرة ومدارس، وهي غير بعيدة عن "جندبابور"، فلا يستبعد إذن تأثر أبي الأسود بهذه التيارات اليونانية التي كانت هناك5.
1 فون كريمر، الحضارة الإسلامية. "90"، "تعريب مصطفى بدر".
2 Flugel G، Die Grammatischen Schulen der Araber، 1862.
3 M. S. Howell، Grammer of the Classical Arabic Language، 7 Vols، Allahabad، 1880-1911.
4 W. Wright، Arabic Grammer، Cambridge، 1896-8.
5 مجلة المجمع اللُّغوي، المجلد السابع "ص248"، عبد العال سالم مكرم، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النَّحْويَّة "55".
وأنا على رأي ابن فارس القائل إن الإعراب كان قديمًا عند العرب، قدم معرفتهم بالحروف، وإن علم العربية كان قديمًا، ثم جدده أبو الأسود الدؤلي على نحو ما حكيته من قوله في ذلك قبل قليل1. وعندي أن علم "العربية" كان معروفًا في العراق، وأنه كان يدرس في مدارس الحيرة وعين التمر والأنبار وربما في مواضع أخرى، كان غالبية سكانها من العرب النصارى، كان يدرسه لهم رجال الدين، الذين كانوا يتقنون الإرمية، وكانوا قد أخذوا علومهم في النحو من اليونان، بتأثير النصرانية ودراسة الأناجيل والكتب الدينية المؤلفة باليونانية. ولما كان أهل المواضع المذكورة من العرب، فلا يستبعد ظهور جماعة من رجال الدين النصارى العرب، اتخذت من مبادئ النحو التي وضعت للسريانية والمنقولة عن اليونانية، قواعد لضبط العربية بموجبها، كما ضبطوا الكتابة بها بالأبجدية التي صارت الأبجدية التي انتشرت بين أهل مكة ويثرب وأماكن أخرى. وبين هذه الأبجدية وبين العربية، من حيث هي قواعد صلة متينة. فلا يستبعد قيام رجال الدين بتعليم العربية والخط للعرب، لأنهم كانوا يقومون بالتبشير، وكان من مصلحتهم نشر الكتابة بين من يبشرون بينهم، وتعليمهم أصول اللغة، ليكون في وسع من يعتنق النصرانية تثقيف المشركين، وكانت هذه طريقتهم في التبشير في المواضع الأخرى من العالم.
وأنا لا استبعد احتمال وقوف علي بن أبي طالب، أو أبو الأسود الدؤلي على تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف. وقفًا عليه باتصالهم بالحيرة أو بعلماء من أهل العراق كانوا على علم النحو وعلوم اللغة في ذلك العهد، وقد كان ذلك في الأسس والمبادئ، فلما جاء الإسلام، وأخذ المسلمون علم العربية عن المتقدمين، زادوا فيه وفرَّعوا واستقصوا وقاسوا، وأخذوا من كلام العرب ومن الشعر، حتى تضخم النحو فبرز على الصورة التي نجدها في "كتاب" سيبويه وفي الكتب التي وضعت بعده.
ومما يؤسف له كثيرًا أن المؤرخين اليونان واللَّاتين والسُّريان لم يذكروا أي شيء عن علوم العربية عند العرب، وفي ضمنهم المؤرخون الذي أرَّخوا تأريخ الكنيسة والنصرانية، بسبب أنهم لم يكونوا يحفلون كثيرًا بأمور العرب، وأكثر ما ذكروه
1 الصاحبي "38 ومابعدها".
عنهم إنما تناول الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل على حدود الإمبراطوريتين، فأضاعوا علينا بذلك فوائد كبيرة، كان يمكن الاستفادة منها في تديون تأريخ ظهور الكتابة وعلوم العربية عند العرب. أما الموارد الإسلامية، فقد رأينا رأيها في أول ظهور النحو، وقد رأينا حاصل روايات مضطربة، يكتنفها غموض، ثم هي عاجزة في النهاية عن بيان كيفية توصل الإمام "علي" أو أبي الأسود إلى استنباط هذا التقسيم الثلاثي للكلم، ثم البحث في "العطف" و"النعت" والتعجب والاستفهام، وباب إن وأخواتها، والفاعل والمفعول، ونحو ذلك من قواعد، لا يمكن لإنسان استنباطها بمفرده من غير علم سابق له بقواعد اللغات، مهما أوتي ذلك الإنسان من ذكاء خارق وقوة إبداع!
وأنا لا أستطيع أن أتصور أن إنسان يستطيع أن يجلس بمفرده ثم يجيل النظر في محيط اللغة التي تكلَّم بها قومه، وهو غير مسلح بعلم سابق باللغات ولا بمعرفة مسبقة بقواعدها. ثم تنثال عليه المعرفة ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن لأحد وضعها إلا إذا كان ذا علم بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى، لأنها مصطلحات علمية منطقية، لا يمكن أن تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى نقول إنها حاصل ذكاء وعقل متقد. وكيف يعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط أن الكلمة إما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها هذا الحصر الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى اليوم، بمجرد إجالة نظر وإعمال فكر من دون إن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود جذوره إلى ما قبل الميلاد، ثم كيف يتوصل إلى إدراك القواعد المعقدة الأخرى التي لم يبتدعها إنسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل وعمل الفاعل وما يقع منه الفعل على المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا يمكن أن يتوصل إليها عقل إنسان واحد أبدًا.
لقد كان للبابليين ولغيرهم من أهل العراق علم باللغات، وكان لهم أساس في النحو وفي دراسة اللغة، كما كان لليونان ولغيرهم علم بالمنطق والنحو واللغات، وصل إلى العراقيين قبل النصرانية وبعدها، بطرق لا مجال للتحدث عنها في هذا المكان. وبقي هذا العلم العراقي اليوناني إلى الإسلام، ومنه جاء في نظري علم
النحو وعلوم العربية، وبسببه صار العراق القطر الإسلامي الأول الذي نبت فيه علم العربيات والنحو، لا بسبب لحن وقع من أعاجم أو من أعراب جهلاء، ولا بسبب تلك القصص التي ساقوها في أسباب اختراع النحو، وإنما بسبب وجود علم سابق في العربية عند أهل الحيرة والأنبار والقرى العربية الأخرى، وبسبب ظهور الحاجة إليه، لتعليم العرب وغيرهم أصول لغتهم وكيفية صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ، فكان ما كان من وقوف علي أو أبي الأسود وهما من أصحاب الذكاء الخارق والتعطش إلى البحث والاستقصاء، فأخذا به، وتوسع من جاء بعدهما في تفريعه وفي تثبيته في كتب، كملت وتمت بالتدريج، فهي من حاصل ذلك التراث العربي الجاهلي.
ولسابقة العراق هذه في الجاهلية بَزَّ سائر الأقطار الإسلامية في علوم العربية، حتى يثرب ومكة، وهما موطنا الإسلام ومهبطه، لم ينافساه فيها. قال السيوطي:"فأما مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا نعلم بها إمامًا في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة. وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه، وخفيت روايته"1. "وممن كان بالمدينة أيضًا علي الملقب بالجمل، وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا2. وأما مكة، فكان بها رجل من الموالي يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئًا من النحو ووضع كتابًا لا يساوي شيئًا". وفي انفراد العراق، وتفوقه على غيره من الأمصار في هذه العلوم، دلالة على وجود البذور القديمة لها في هذه الأرض قبل الإسلام، فلما دخل العراق في الإسلام أينعت واتسعت، فكان ما كان من ظهورها فيه.
وقد تأثر النحاة والمناطقة في الإسلام بمنطق أرسطو. هذا الإمام الشافعي يشير إلى تأثير القوم بمنطقه، إذ قال:"ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس"3. وقد توفي الشافعي سنة "204"
1 المزهر "2/ 413 وما بعدها".
2 المزهر "2/ 414".
3 السيوطي، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام "15"، "علي سامي النشار"، "مطبعة السعادة".
للهجرة1، فلا بد من أن يكون ميل الناس إلى هذا المنطق قد كان هذا العهد. ولعله قصد بـ"لسان أرسطوطاليس" العلوم اللسانية التي كان قد برع بها اليونان. فتكلموا عن أقسام الكلمة وعن بناء التركيب القياسي وعن الموضوع والمحمول وأنواع الإعراب بحسب لغتهم وعن النعت والضمائر والأفعال وما إلى ذلك من قواعد.
وأبو الأسود الدؤلي، هو ظالم بن عمرو بن سفيان، أو "عمرو بن ظالم بن سفيان" أو "عويمر بن ظليم"، من أشياع علي بن أبي طالب ومن أصحابه. استعمله عمر وعثمان على البصرة، ثم استعمله علي عليها بعد ابن عباس. وقد ذكر أبو عبيدة، أنه كان كاتبًا لابن عباس على البصرة، وكان ابن عباس يكرم أبا الأسود لما كان عاملا بالبصرة لعلي ويقضي حوائجه. وقد اشترك مع علي في وقعة صفين. ويذكر أنه توفي في وباء سنة تسع وستين، وقيل مات بعد ذلك، توفي بالبصرة. قال عنه الجاحظ:"أبو الأسود الدؤلي، معدود في طبقات الناس، وهو فيها كلها مقدم، ومأثور عنه الفضل في جميعها. كان معدودًا في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحْويين، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصلع الأشراف"2. وله أجوبة مسكتة مع معاوية، ومع أشخاص آخرين أرادوا التحرش به3"، تدل على بديهة وذكاء.
ولأبي الأسود الدؤلي شعر، وقد طبع شعره في ديوان، وقد استشهد به في شواهد اللغة والنحو، ونجد نتفًا منه في الكتب التي تعرضت لسيرته4، وليس
1 الفهرست "309".
2 وقد اختلف في اسمه، فقيل أيضا "عمرو بن عمران"، و"عثمان بن عمرو"، الإصابة "2/ 233"، رقم 4329. أدب الكاتب، لابن قتيبة "611". الخزانة "1/ 136""بولاق". الأغاني "11/ 105 وما بعدها". إنباه الرواة "1/ 12 وما بعدها". المرزباني، معجم "240". السمط "66". تهذيب ابن عساكر "7/ 104"، الشعر والشعراء "1/ 615".
3 أمالي المرتضى "1/ 293 وما بعدها".
4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 542 وما بعدها، 934"، الخزانة "1/ 136 وما بعدها". كتاب خلق الإنسان، لأبي محمد ثابت بن ثابت "241"، "الكويت 1965". "عبد الستار أحمد فراج"، خلق الإنسان، للأصمعي "212". المخصص "2/ 18".
شعره على مستوى رفيع من الوجهة الفنية، ولا يتعرض للأحداث التأريخية التي وقعت في أيامه1.
وقد أخذ عن أبي الأسود جماعة من التلامذة، صاروا من مؤسسي علم النحو عند العرب، ومن مبوبيه ومصنفيه. منهم ابنه عطاء. وكان قد بعج العربية وبرز بها2. ومنهم يحيى بن يعمر وهو من عدوان بن قيس، وكان عدده في بني ليث بن كنانة، ولقي ابن عباس وابن عمر، وروى عنه قتادة. ومنهم عنبسة بن معدان، المعروف بـ"عنبسة الفيل"، ويقال إن نصر بن عاصم أخذ عن أبي الأسود3، وأخذ عن نصر "أبو عمرو بن العلاء" البصري، وأخذ عن أبي عمرو "الخليل بن أحمد"، وأخذ عن الخليل "سيبوبه"، وأخذ عن سيبويه "الأخفش"4. وممن أخذ عن أبي الأسود: ميمون الأقرن، وعبد الرحمن بن هرمز 5.
وفي رواية: أن الذي برع بعد أبي الأسود ميمون الأقرن، وبعد ميمون عنبسة الفيل، وبعده عبد الله بن أبي إسحاق، فقاس وأكثر، ثم برع بعده أبو عمرو بن العلاء، ولحقه الخليل بن أحمد، إلا أن نظر أبي عمرو أقدم من نظر الخليل.
ثم أتى الخليل في النحو بما لم يأت بمثله أحد قبله في تصحيح القياس، واللطافة والتصريف.
وكان يونس في عصر الخليل، وبقي بعده مدة طويلة، ويقال إن سيبويه مات قبل يونس.
وكان عيسى بن عمر في عهد أبي عمرو وعهد الخليل وكان بارعًا
أيضًا6. وكان عنبسة الفيل، من أبرع أصحاب أبي الأسود الذين كانوا
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 172".
2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 21".
3 الفهرست "68"، "تسمية من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي".
4 القِفْطي "1/ 6".
5 ابن الأنباري، نزهة "11"، طبقات، لابن سلام "5".
6 العسكري، المصون "119".
يتعلمون منه العربية1. وذكر أن الناس اختلفوا إليه بعد أبي الأسود، وكان من بينهم ميمون الأقرن الذي كان من أبرع أصحابه. وقد ذكرت رواية تنسب إلى أبي عبيدة اسم "ميمون الأقرن" قبل عنبسة2.
وأما نصر بن عاصم الليثي 89هـ، 90هـ، فإنه كان فقيهًا عالِمًا بالعربية، فصيحًا قرأ القرآن على أبي الأسود، وقرأ أبو الأسود على "علي"، فكان أبو الأسود أستاذه في القراءة3.
وابن أبي اسحاق الحضرمي، هو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق 117هـ، وكان قيمًا بالعربية والقراءة، شديد التجريد للقياس. ويقال إنه كان أشد تجريدًا للقياس من أبي عمرو بن العلاء، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسع علمًا بكلام العرب ولغاتها وغريبها. ويقال إنه أول من علل النحو. وكان قد قرأ على يحيى بن يعمر، وعلى: نصر بن عاصم، وزعم أنه كان أول من بعج النحو ومد القياس والعلل4.
وأما يحيى بن يعمر العدواني "129هـ"، فكان عالمًا بالعربية والحديث، لقي عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة. وكان يستعمل الغريب في كلامه5. وقد لحق بخراسان، وكتب ليزيد بن المهلب، ألحقه بها الحجاج6.
وكان عيسى بن عمر الثقفي "149هـ"، ثقة عالمًا بالعربية والنحو والقراءة، وصنف كتابين في النحو، يسمَّى أحدهما: الجامع، والآخر الإكمال، وقد ذكرهما الخليل بن أحمد بقوله:
1 ابن الأنباري، نزهة "12 وما بعدها"، إنباه الرواة "2/ 381 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 233".
2 ابن الأنباري، نزهة "13، 406".
3 ابن الأنباري، نزهة "14"، إنباه الرواة "3/ 343"، بغية الوعاة "3/ 313 وما بعدها".
4 ابن الأنباري، نزهة "18 وما بعدها"، إنباه الرواة "2/ 104 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 40"، المزهر "2/ 398، 423". طبقات، لابن سلام "6".
5 بغية الوعاة "2/ 345"، المزهر "2/ 398 وما بعدها"، ابن الأنباري، نزهة "16 وما بعدها".
6 طبقات، لابن سلام "6".
ذهب النحو جميعًا كله
…
غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع
…
فهما للناس شمس وقمر1
وبلغ النحو درجة كبيرة من التقدم، حين انتقلت الزعامة فيه إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي كان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس"2. "فهو الذي بسط النحو ومد أطنابه وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحجاج فيه حتى بلغ أقصى حدوده. ثم لم يرض أن يولِّف فيه حرفًا ويرسم منه رسمًا. واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، وامتنع على من تأخر بعده"3، وقد كان علم الخليل، في جملة المنابع التي غرف منها سيبويه في كتابه: الكتاب. وقد ذكر سيبويه اسمه في "410" مواضع من كتابه، وأشار إلى آرائه دون أن يذكر اسمه في "174"، مكانًا آخر، وهو وأن لم يشر إلى اسمه، لكن العلماء ذكروا أنه قصده 4.
وأورد سيبويه له في كتابه آراء أستاذه في إعراب آيات القرآن الكريم، وتأويلها، كما جاء له بشواهد من الشعر في شرح قواعد نحوية، منها أشعار نص على أسماء قائليها، مثل أمية بن أبي الصلت، وطرفة والنابغة والأعشى، وغيرهم. ومنها أشعار لشعراء محضرمين وإسلاميين، ومنها أشعار لم يذكر أسماء أصحابها5.
ونعت بأنه "نحوي عروضي، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه أحد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم. وقيل إنه دعا بمكة أن يرزق
1 ابن الأنباري، نزهة "21 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 237 وما بعدها".
2 الفهرست "70".
3 كلما قال سيبويه سألته، أو قال:"قال" من غير أن يذكر قائله، فهو الخليل،
ابن الأنباري. نزهة "55". السيوطي، بغية "244"
Wofgang Reuschel، Al-Halil ibn Ahmad der Lehrer Sibawaih's، Als Grammatiker، Berlin، 1959، S. 9.
وسأرمز إليه بـ: Reuschel.
علمًا لم يسبق إليه أحد، ولا يؤخذ إلا عنه، فرجع من حجه، ففتح عليه بالعروض"1. وذكر أنه كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله، وكان أول من حصر أشعار العرب. دخل عليه ولده وهو يقطع العروض، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني
…
أو كنت تعلم ماتقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني
…
وعلمت أنك جاهل فعذلتكا3
ويظهر من دراسة كتاب سيبويه أن أثر الخليل عليه كان كبيرًا، لا يدانيه أثر أي عالم آخر عليه، وأن علم الخليل بالنحو، كان غزيرًا جدًّا، يؤيده استشهاد سيبويه بآرائه أكثر من استشهاده برأي أي عالم آخر من علماء هذا العلم، مثل أبي عمرو بن العلاء "154هـ"، وعيسى بن عمر الثقفي "149هـ"، ويونس بن حبيب "182هـ". ويظهر أن الخليل لم يدوِّن علمه بالنحو في رسائل أو كتب، وإنما كان يعلم من يقصده مشافهة3، فكان تلامذته يسمعونه ويحملون العلم عنه، وذلك على طريقة أكثر العلماء في ذلك العهد.
وللخليل بعد، آراء خاصة في النحو، ونجد الخوارزمي يتكلم في الفصل الثاني من فصول النحو، بقوله:"في وجوه الإعراب وما يتبعها على ما يحكى عن الخليل بن أحمد"4، مما يشير إلى وجود آراء خاصة له به، أشير إليها في كتب النحو، وربما وضعها بعضهم في مؤلفات خاصة بآرائه في النحو. ومن آرائه استعماله مصطلح الرفع في الاسم المضموم المنون، ومصطلح الخفض في الاسم المجرور المنون، والنصب في الاسم المفتوح المنون، على حين يسمي بقية الحركات
1 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 342".
2 ابن الأنباري، نزهة "45 وما بعدها"، إنباه الرواة "1/ 341 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 557 وما بعدها"، المزهر "2/ 401 وما بعدها"، مراتب النحويين "37 وما بعدها".
3 Reuschel، S. 63. f، John Sib، Sibawaihs Buch uber die Grammatik، Berlin 1884-1900، Bd، I، 2، I، 2.
4 مفاتيح العلوم "30".
العارية من التنوين في الأحوال والصيغ المختلفة بأسماء الحركات العامة، أي: الضم، والكسر، والفتح، كما أنه يسمَّى بالجر حركة الكسر التي تربط بين آخر الصيغة الفعلية وبين همزة الوصل. ولا يوجد عنده ما يدل على تأثير النظرية القائلة بأن اختلاف حركات الكلمات المتصرفة متوقف على العامل النحوي، إلا في التفرقة التي جعلها بين التوقيف، أي عدم الحركة في أواخر الحروف وما شاكلها، والجزم، أي سكون الفعل المجزوم1.
وكان سند علماء العربية ومنبعهم الذي أخذوا منه علمهم في وضع قواعد العربية كتاب الله والشعر وكلام العرب. ويكون كلام العرب، المنبع الأول الذي استمدا منه علمهم في اللغة وفي وضع القواعد، وهو ما أخذ عن القبائل والأفراد، ونجد للهجات أهل الحجاز وتميم أهمية كبرى في كتب الشواهد والقواعد2. ونظرًا لاعتماد العلماء على هذا المورد أكثر من غيره، وقعوا في مشاكل، جعلتهم يتحايلون في حلها، ويرجعون إلى التأويل والتفسير، من ذلك ما وقعوا فيه من عدم تمكنهم من التوفيق بين القواعد التي وضعوها، وبين ما جاء في القرآن أو الشعر من أمور لا تنسجم مع هذه القواعد. وكل هذ الموارد المذكورة، هي موارد أخذ منها بالسماع، وهناك قواعد وضعها العلماء قياسًا على كلام العرب، استنبطوها بطريق القياس، والقياس من أهم الميزات التي ميزت البصرة على الكوفة في وضع قواعد اللغة.
والقياس ركن من ركنين مهمين، قام عليهما علم النحو. أما الركن الأول، فهو السماع. وللدور الخطير الذي قام به القياس في تكوين أصول وقواعد النحو، قال المستشرقون وغيرهم بتأثر النحو العربي بمنطق أرسطو وممن أخذ وعمل به في النحو عبد الله بن أبي إسحاق الخضرمي، قيل عنه: وكان شديد التجريد للقياس. ويقال إنه كان أشد تجريدًا للقياس من أبي عمرو بن العلاء"3. وفرع النحو وقاسه4، وكان أول من بَعَجَ النحو ومدَّ القياس والعلل5.
1 مفاتيح العلوم "30"، يوهان فك، العربية "11".
2 reuschel، s،63.
3 نزهة "18"، مراتب النحويين "18"، بغية "2/ 40".
4 المزهر "2/ 398"،
5 ابن سلام، طبقات "6 وما بعدها".
وكان الخليل بن أحمد رأس العاملين بالقياس في فتاوي النحو. كان قياسًا بارعًا فيه. قيل عنه: إنه سيد قومه، وكاشف قناع القياس في علمه1. وقد تأثر سيبويه بقياس الخليل، فاستعمله في تثبيت العربية. فتجد في كتابه جملا مثل: وللقياس كذا أو والقياس يأباه، وسألت الخليل عن قول العرب ما أميلحه، فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الأسماء"2.
وقد انقسم علماء اللغة والنحو إلى فئتين بالنسبة لاستعمال القياس في اللغة والنحو. ولكن الأغلبية معه، وقد وقع فعلا، وأثَّر في وضع القواعد أثرًا خطيرًا. فبه أوجد النحاة كليات القواعد. "قال ابن الأنباري: اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يعلم أحد من العلماء أنكره. وينسب إلى الكسائي أنه قال:
إنما النحو قياس يتبع
…
وبه في كل أمر ينتفع3
ولعلماء اللغة، كلام طويل في مدى جواز استعمال القياس، وفي حالة ورود السماع لأن اللغة في نظر بعض منهم سماع، فإذا كانت سماعًا، وجب الأخذ بالسماع، فإذا ورد السماع بطل القياس4. وقد تحدث العلماء عنه. قال ابن فارس:"أجمع أهل الغة -إلا من شذ عنهم- أن للغة العرب قياسًا، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض". غير أنه قال: "وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه، لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها، ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نقيسه الآن نحن"5.
ولابن جني رأي في القياس. قال: "واعلم أنه إذا أدَّاك القياس إلى شيء ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت
1 الخصائص "1/ 366 وما بعدها".
2 ضحى الإسلام "2/ 292".
3 ضحى الإسلام "2/ 281".
4 البَغْدادي، خزانة "3/ 559". أحمد تيمور باشا، السماع والقياس "11".
5 الصاحبي "67"، المزهر "1/ 345 وما بعدها".
عليه ما هم عليه، فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته، فأنت فيه مخير، تستعمل أيهما شئت، فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك أنت كنت على ما أجمعوا عليه البتة وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولد، أو لساجع، أو الضرورة، لأنه على قياس كلامهم"1.
والإجماع أن النحو لم يجمع ولم يرتب ترتيبًا علميًّا إلا في الإسلام، وإلا في أيام العباسيين، حيث أظهر علماء العربية نشاطًا عظيمًا في تتبع القواعد واستنباطها من المظان التي أشرت إليها. وقد استقر وثبت، بعد أخذٍ وردٍّ بين علمائه في المسائل الفرعية التي أثارت الاختلاف فيما بينهم، فكانت ردود وتخطئة بعض منهم لبعض، ثم استقر في كتب تمثل اليوم ثروة قيمة تقدر في هذه اللغة الواسعة الثرية بألفاظها وبقواعدها.
ولا بد في نظري لمن يريد فهم النحو العربي فهمًا صحيحًا واضحًا، من دراسة نحو اللغات الجاهلية من عربية جنوبية ومن ثمودية ولحيانية وصفوية ونبطية،
لأنها وإن فارقت العربية القرآنية في أمور إلا أنها عربية في النهاية، ودراستها
تفيدنا فائدة كبيرة في الوقوف على تأريخ تطور عربيتنا والعربيات البعيدة عن الإسلام، وهي كما نعلم من أقدم اللهجات العربية التي أفادتنا في تقديم كتابات مدونة في تلك الأيام، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. وقد تحدثت عن نحو اللهجات العربية الجاهلية وعن أمور من صرفها في الجزء السابع من كتابي الأول المعروف بتأريخ العرب قبل الإسلام، المطبوع ببغداد.
هذا وقد عثر حديثًا على آثار في إمارة أبي ظبي وفي مواضع أخرى من سواحل الخليج، قد تقدم لنا علمًا جديدًا عن لهجات عربية قديمة لا نعرف اليوم من أمرها شيئًا، وبذلك يتسع علمنا عن لهجات العرب قبل الإسلام، وقد نستطيع بواسطتها الوقوف على كيفية تطور اللغة العربية القرآنية وعلى حصر المواضع التي كان سكانها يتكلمون بها، أو بلهجات قريبة منها.
بل أرى ضرورة دراسة اللغات السامية للاستفادة من هذه الدراسة المقارنة في فهم خصائص اللغة العربية ولحل بعض مشاكلها في النحو والصرف والألفاظ. وقد بذل المستشرقون -والحق يقال- جهودًا يشكرون عليها في دراسة هذه اللغات دراسة مقارنة. ولدينا اليوم مؤلفات كثيرة في هذه الدراسة، تعرضت
1 الخصائص "1/ 126".
للحروف بنوعيها: الحروف الصامتة the consonant sounds"، والحروف المتحركة "the vowels"، والضمائر، وللأسماء الموصولة وأدوات الوصل، وللأسماء، وللجموع وللأفعال، ولحروف الجر، وغير ذلك من الموضوعات التي تجدها في الكتب التي بحثت عنها1.
ومن أهم الموضوعات التي يجب توجيه العناية إليها، موضوع: علم الأصوات "phonology" بالنسبة إلى اللغات السامية، مثل دراسة مخارج الحروف، والحركات، والإمالة، والتفخيم، والإشمام في العربية على وجه خاص، ثم دراسة صرف هذه اللغات "morphology" مثل جذور الألفاظ التي يغلب عليها الطابع الثلاثي "triconsonantal" المكون من الحروف الصامته، بينما تقل فيها الجذور المكونة من حرفين صامتين أو من أربعة حروف صامتة. ومثل دراسة كيفية تكون الأسماء، وأبنيتها، ودراسة الجنس في هذه اللغات، والعلامات التي تميز الجنس: المؤنث عن المذكر، ثم العدد: المفرد، والمثنى، والجمع. جموع التذكير وجموع التأنيث، وجموع التكسير، ثم الظرف، وحروف الجر، والعطف، ودراسة الأفعال بأنواعها، وحالات الجمل، وغير ذلك من أمور تخص علم اللغات2.
E. Renan، Histoire Generale des Langues Semitigues، Paris، 1855، William Wiight، Lectures on the Comparative Grammar of the Semitic Languages، Amsterdam، 1966، Zimmern Verleichende Grammer D. Semltischen Sprache، Berlin، 1898، De Lacy O'leary، Comparative Grammar the Smltlc Languages،London، 1923.
وللوقوف على أسماء المؤلفات الموضوعة في مثل هذه الدراسات أرجح الرجوع إلى المصادر الآتية:
H Zimmern، Vergleichende Grammatic der Semitischen Sprachen، Berlin، 1898، Barth J.، Sprachwlssenschaltliche Untersuchungen zum Semitischen، Lelp2ing، 1907-11، G. Bergstrasser، Elnfuhrung in die Semitischen Sprachen، Munchen، 1928، C. Brockelmann، Grundriss der Vergleichenden Grammatit der Semitischen Sprachen، 2 Bande، Semitlsche Sprachwlssenschaft 2 Aufiage، Leipzig، 1916، P. Dhonne، Langues et Ecritures Semltiques، Paris، 1930، Fleisch، Introduction ft l'6tude des Langues S6mitiques، Paris، 1947، 1. H. Gray، Introduction to Semitic Comparative Linguistics، New YorK، 1934، B. Spuler، Handbuch der Orii ntallstifc، III، Semitistik، Leiden، 1953-54، J. H. Kramers، De Semletische Talen، Leiden، 1949، LevI Delia Vlda، Unguistica Semitlca، Roma، 1961، Noldeke، Beitrage zur Semitischen Sprachwissenschaft، Strsbourg، 1904، Neue Beitrage zur Semitischen Sprach-wlssenschaft، Strasbourg، 1910، G. Kolandi، Le Lingue Semitiche، Torino، 1954، Sabatino Moscti، An Introduction to the Comparative Grammer of the Semitic Languages، Phonology and Morphology، Wiesbaden، 1964.
وقد عالج بعض العلماء موضوعات خاصة من موضوعات النحو والصرف، مثل موضوع الفعل في اللُّغات السامية1. وموضوع الصلة بين العربيات الجنوبية وبين اللغة الحبشية2. والصلة بين العربية وبين اللغات السامية الأخرى، أو بين لغة سامية ولغة سامية أخرى من حيث قواعد النحو والصرف3.
1 G Bertin، Suggestions on The Voice-Formation of the Semitic Verb، In Journal of the Royal Asiatic، vol. XV، 4. Prlthlof Rundgren، Erneurung des Verbal aspekts.htm' im Semltlschen Funktlonell-Diachronische Studlen zur Semltlschen Verblehre، Upsala، 1963، G. R. Castellino، The Akkadian Personal Pronouns and Verbal System in the light of Semitic and Hamltlc، 1962، Barth J.، Die Nomlnalbldung in den Semitlschen Sprache، Leipzig، 1894، Hurwltz، Root Determinatives In Semitic Speech، New York، 1913.
2 A. Murtonen، Early Semitic، A Dlachronlcal Inquiry Into the Relationship of Ethlopic to the other So-called South-East Semitic Languages، Leiden،1937.
3 De Lagarde، Ubersicht XJber ule im Aramalschen، Arablschen und Hebralschen Ubliche Bildung der Nomlna، Gottlngen، 1889 Barth، Die Nominalbildung in den Semltischen Sprachen، Leipzig، 1889.