المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر ‌ ‌مدخل … الفَصْلُ السَّادِسُ والْأَرْبعونَ بَعْدَ المائةِ: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع عشر

- ‌الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:‌‌ الأعراب والعربيةواللحن

- ‌ الأعراب والعربية

- ‌اللَّحْنُ:

- ‌الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

- ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

- ‌مدخل

- ‌خبر شعراء الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌الشَّاعِرُ:

- ‌عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌إنشاد الشعر

- ‌مدخل

- ‌سُوقُ عُكَاظٍ:

- ‌يَثْرِبُ:

- ‌تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌المغلبون:

- ‌بَدْءُ الشَّاعِرِ:

- ‌أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:

- ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

- ‌الْخَمْرُ والشِّعْرُ:

- ‌شَيطَانُ الشَّاعِرِ:

- ‌الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

- ‌مدخل

- ‌الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:

- ‌الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

- ‌مدخل

- ‌التمليط:

- ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

- ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

- ‌الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

- ‌مدخل

- ‌نَقْدُ الشِّعْرِ:

- ‌أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:

- ‌الشِّعْرُ والإِسْلامُ:

- ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌رُوَاةُ الشِّعْرِ:

- ‌الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:

- ‌التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:

- ‌الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:

- ‌الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

- ‌مدخل

- ‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

- ‌الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

- ‌مدخل

- ‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

- ‌الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

- ‌الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:

- ‌فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:

الفصل: ‌ ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر ‌ ‌مدخل … الفَصْلُ السَّادِسُ والْأَرْبعونَ بَعْدَ المائةِ:

‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

‌مدخل

الفَصْلُ السَّادِسُ والْأَرْبعونَ بَعْدَ المائةِ: الشِّعْرُ

الشعر والْحِكَم والكَهَانة والخطابة وأضرابها، هي أهم المظاهر التي تحدد لنا معالم العقلية الجاهلية، وتعطينا فكرة عامة عن العقل الجاهلي.

أما الشعر الجاهلي، فلم يصل إلينا من الجاهلية مدونًا قطُّ، وإنما وصل إلينا مدونًا في الإسلام. وأقصد أننا لم نعثر حتى الآن على أي شيء منه مكتوبًا بقلم جاهلي، أو محفورًا على نص جاهلي. ولك ما نحفظه ونعرفه من ذلك الشعر، هو مما وصل إلينا بنقول الإسلاميين.

وللعلماء، من إسلاميين قدامى ومحدثين، ومن مستشرقين، آراء في هذا الشعر. منهم من يبالغ في اليقين، فيرى أن كل ما وصل إلينا منه صحيح، ومنهم من يبالغ في الشك، فيرى أن أكثر ما وصل هو شعر منتحل فاسد موضوع، وضع لأغراض عديدة يذكرونها: دينية وسياسية وجنسية وغير ذلك، ومنهم من يتوسط فيرى أن فيه الصحيح وفيه الفاسد المدسوس، وإن من الخير البحث فيه من نواحٍ متعددة ودرسه دراسة علمية حديثة ونقده نقدًا علميًّا لتمييز صحيحه من فاسده، ولكل فريق حجج وأدلة مدوَّنة، وكتب أفردوها، فيها رأيهم وحججهم، إليها أَسْتَحْسِنُ رجوع من يريد الوقوف على تلك الآراء.

ومن الكتب المؤلفة في الأدب الجاهلي، واشتهرت خاصة بين أدباء العربيات بنقد الشعر الجاهلي وبتوجيه الشك إلى صحة أكثره، فأثارت لذلك ضجة كبيرة

ص: 62

كتاب ألَّفَهُ الدكتور طه حسين في العربية بعنوان: "في الأدب العربي". وقد رد عليه أدباء عديدون في مصر وغيرها من البلاد العربية الأخرى. وقد أوضح الدكتور في كتابه العوامل التي حملته على تكوين رأيه المذكور في الأدب الجاهلي.

وليس مرجع هذا الاختلاف هو في حقيقة وجود شعر جاهلي أصلا، أو في عدم وجوده. فوجود شعر للجاهليين، حقيقة لا يُشَك فيها أبدًا، لأن الجاهليين هم مثل سائر الناس، لهم حسٌّ ولهم شعور، وما دام الحسّ موجودًا، فلا بد أن يظهر على شكل شعر أو نثر. وإنما الاختلاف هو في هذا الشعر المروي لنا، والمدون في بطون الكتب. هل هو جاهلي حقًّا، أو هو منحول فاسد محمول على الجاهليين؟ أو وسط بَيْنَ بَيْن، وفي كمية الصحيح منه، بالنسبة إلى مقدار الفاسد منه؟ هذا موضع الاختلاف بين العلماء.

وقد وصف القديس "نيلوس" المتوى حوالي السنة 430 للميلاد غارة بدوية على دير سيناء، وقعت سنة410م، وتحدث عن تغني الأعراب بأشعارهم وهم يستقون الماء1. كما أشار المؤرخ "سوزيموس" إلى تغني العرب بأشعارهم وذلك في المعارك التي وقعت بينهم وبين الروم في حوالي سنة "440م"، وهي أغانٍ تشبه الأشعار التي كان يتغنى بها الأعراب في حروبهم وغزواتهم، مثل يوم ذي قار2، والمعارك التي وقعت في فتوح العراق والشأم. ولا زال الأعراب يترنمون بالشعر عند غزوهم بعضهم، لأن الشعر عندهم سلاح مهم من أسلحة القتل.

ثم إن شعر المخضرمين، هو في حدِّ ذاته دليل على وجود شعر سابق جاهلي، فشعر مثل هذا لا يمكن أن يكون قد ظهر فجأة من غير شعر سابق ومن غير شعراء ماضين مهدوا الجادة لمن جاء بعدهم ووضعوا لهم البحور المعروفة، وقد وجدها المخضرمون، فنظموا عليها.

وفي القرآن الكريم سورة تسمَّى "سورة الشعراء"3، وهي تدل على كثرة الشعراء، وعلى تأثر الناس بهم، وعلى تأثير شعرهم في النفوس وتلاعبه بأفئدة

1 غرونباوم "133".

2 غروبناوم "134". Die araber، II،s، 330.

3 رقم السورة "26".

ص: 63

الجاهليين، وتجاسر بعض الكفار على الرسول، فوصفوه بأنه شاعر. ووصفه بهذه الصفة دليل على ما كان الشعر من أثر في نفوس القوم. وقد ورد في الحديث: أن الرسول قال: "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمًا"، أو "إن من الشعر لحكمة"1. وفي الأخبار أنه كان يرفع أُنَاسًا ويذل آخرين، وأن من الناس من كان يشتري ألسنة الشعراء. وورد في الحديث، أن الرسول ذكر الشعر فقال:"إن من الشعر لحكمة، فإذا ألبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر، فإنه عربي"2. ووردت عنه أحاديث أخرى في حق الشعر3.

وورد في خبر آخر أن "العلاء بن الحضرمي"، لما وفد على رسول الله، قال له الرسول: أتقرأ شيئًا من القرآن؟ فقرأ سورة عبس، ثم زاد فيها من عنده: "وهو الذي أخرج من الحبلى نسمة، تسعى بين شراسيف وحشى، فقال رسول الله كفَّ فإن السورة كافية، ثم قال: أتقول شيئًا من الشعر؟ فأنشده:

وحي ذوي الأضغان تسب قلوبهم

تحيتك الأدنى فقد يدبغ النَّعلُ

فإن دحسوا بالكره فاعفُ تَكَرُّمًا

وإن أخنسوا عنك الحديثَ فلا تسل

فإن الذي يؤذيك منه استماعه

وإن الذي قالوا وراءك لم يقل

فقال النبي: "إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما 4 ".

وورد أن الرسول كان يسأل الصحابة أن يسمعوه شعرًا، سأل مرة "الشريد بن سويد الثقفي" أن ينشده شيئًا من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشده مائة بيت، فقال الرسول: كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسْلِم، أو أن كاد ليسلم5. وكان الرسول يقول: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: أَلَا كُلُّ شَيءٍ

1 بلوغ الأرب "3/ 134".

2 اللسان "4/ 410"، "شعر". العمدة "ص27"، "إذا اشتبه عليكم شيء من القرآن فاطلبوه في الشعر"، مجالس ثعلب "317".

3 العمدة "ص27".

4 بلوغ الأرب "3/ 133 وما بعدها"، "إن من الشعر حكمًا، وإن من البيان سحرًا". وفي هذه الأبيات روايات متباينة، عيون الأخبار "2/ 18"، "طبعة دار الكتب المصرية"، كَنْزُ العُمَّالِ "2/ 178".

5 إرشاد الساري "9/ 100 وما بعدها"، الإصابة "2/ 146"، "رقم3892"، المزهر "2/ 309"، "مائة قافية"، ابن سعد "5/ 376"، صحيح مسلم "7/ 48"، "كتاب الشعر".

ص: 64

ما خلا الله باطل، أو أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل1.

وورد أنه استشهد ببيت شعر لطَرَفَةَ بن العبد، هو:

ستبدي لك الأيامُ ما كانت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوَّدِ2

وورد أنه جلس في مجلس من الخزرج، فاستنشدهم شعر: قيس بن الخطيم، فأنشدوه بعض شعره3. وللرواة أخبار عديدة تشير إلى سماع الرسول الشعر وإلى وقوفه عليه وعلمه به، وأنه كان يكلف الصحابة بأن ينشدوه من شعر الشعراء، وذكر أنه نهى من رواية رثاء أمية بن أبي الصَّلت قتلى قريش في معركة بدر، لما فيها من رثاء لمشركين ومن تحريض على الإسلام4. وورد أن الشاعر العباس بن مرداس"، شهد مع النبي حنينًا على فرسه "العُبيد"، فأعطاه النبي أربع قلايص، فقال:

أتجعل نهبي ونهب العبيـ

ـد بين عيينة والأقرع

وكانت نهابًا تلافيتها

بكري على المهر في الأجرع

فقال الرسول: اقطعوا عنَّا لسانه5. ولسانه هو شعره.

وروي عن عمر قوله: "نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته فيستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم، مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الأبية، وعز الأنفة، وسلطان القدرة6".

وقديمًا قال ابن عباس: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله، فاطلبوه في

1 إرشاد السَّاري "9/ 101 وما بعدها"، صحيح مسلم "7/ 49"، "كتاب الشعر".

2 معجم الشعراء "202".

3 الأغاني "3/ 7".

4 الأغاني "4/ 122 وما بعدها"، الفائق "3/ 52"، الأغاني "8/ 243"، ابن سعد "5/ 376"، المزهر "2/ 309".

5 الشعر والشعراء "2/ 634"، الاشتقاق "188".

6 بلوغ الأرب "3/ 82".

ص: 65

الشعر، فإنه ديوان العرب"1. وقيل إنه -أي ابن عباس- ما فسَّر آية من كتاب الله، إلا نزع فيها بيتًا من الشعر. وروي أن غيره كان يحفظ شيئًا وافرًا من الشعر، الشعر المروي عن أناس عاشوا قبل الإسلام وأناس أدركوا الإسلام، وأنهم كانوا يتداولونه ويتطارحونه ويحفظونه لصلته بكل فرد منهم. ففيه أخبار القبائل وأيام العرب وما قيل فيهم من مدح أو ذم، والحق أننا بفضل هذا الشعر حصلنا على كثير من هذا القصص المنسوب إلى أهل الجاهلية، وبفضله عرفنا الشعراء والقبائل والأيام والحروب، فهو كما قلت في الجزء الأول من هذا الكتاب مورد مهم رئيسي يرد منه المؤرخ في تدوينه تأريخ العرب قبل الإسلام.

ونحن لا نكاد نقرأ قصة من قصص "أيام العرب"، إلا ونجد فيها شعرًا، ينسب إلى بطل من الأبطال الذين ساهموا فيها، أو من شاعر يذكر قومه أو خصوم قومه أو خصومه بالأيام التي انتصروا فيها على خصومهم. وقد ساعد هذا الشعر على تثبيت تلك الأيام في ذاكرة رواتها، حتى وصلت إلى أيام التدوين فدونت، على نحو ما نقرأها في هذا اليوم.

ثم إن كتب الأدب بأنواعها مملوءة بأخبار المساجلات والمطارحات التي وقعت بين الشعراء قبيل الإسلام وفي أيام الرسول والخلفاء. وقد رويت فيها أشعار وقصائد لشعراء جاهليين، ولشعراء مخضرمين. وقد تحدث معظم المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام عن ذكرياتهم في الجاهلية، ورووا ما نظموه فيها من أشعار وما وعوه من المناسبات التي نظموا فيها. ثم إن هذه الكتب مملوءة أيضًا بأخبار مجالس سمر تناولت الحوادث والأيام والشعر والشعراء، وفيها نقد ومفاضلات لما ذكر في تلك المجالس من شعر، وقد روي: أن الرسول كان يجالس أصحابه ويتحدث معهم ويصغي إليهم، ويستمع إلى ما يرْوُونه وما يتذاكرونه من الشعر2. وروي أن الْحُطَيئةَ، وهو شاعر معروف، كان يتذاكر الشعراء ويحفظ أشعارهم3.

وقيل للحسن البصري: "أكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 المزهر "2/ 470"، الأخبار الطوال "332"، طبقات الشعراء، للجُمَحِي "ص10"، بلوغ الأرب "3/ 83". جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 36"، العمدة "30"، التبريزي، شرح الحماسة "1 وما بعدها".

2 الأغاني "15/ 55".

3 الأغاني "15/ 94".

ص: 66

يمزحون؟ قال: نعم ويتقارضون، أي يقولون القَرِيضَ وينشدونه. والقريض الشعر"1. وروي أن أصحاب رسول الله، كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليتهم، وأن رسول الله كان يجالسهم في المسجد، وهم يتناشدون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسَّم2. وعن أبي سلمة: "لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متحزقين ولا متماوتين، كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حمَاليق عينيه كأنه مجنون"3.

وقد ذكر أن من الأعاجم من تعلم الشعر العربي ورواه وعشقه، فزعم ابن الكلبي مثلا أن "خرحسرة"، وهو ابن المروزان، كان قد تعرب، أعجبته العربية فتعلمها وروى الشعر، وكان واليًا على اليمن في عهد كسرى، ثم بلغ كسرى تعربه، وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولَّى باذان4.

وللشعر أثر خطير في نفوس العرب كان يهز عواطفهم هزًّا، ويفعل فيهم فعل السحر، فلا عجب إذا ما قرن "رؤبة" الشعر بالسحر، وجعله مثله في التاثير لتلك العلة:

لقد خشيت أن تكون ساحرا

راوية مرا ومرا شاعرا 5

قال الجاحظ: "وكان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر6.

وقد بقي أثر هذا في نفوس الناس حتى بعد زوال الجاهلية ودخول الناس في الإسلام. فكان مدح الشاعر لقوم، من المآثر والمفاخر، وكان ذمه

1 اللسان "7/ 219"، الفائق "2/ 339".

2 ابن سعد، الطبقات "1/ 2 ص95 وما بعدها".

3 الفائق "1/ 257".

4 الطبري "2/ 215"، "دار المعارف".

5 العمدة "1/ 27".

6 البيان والتبيين "4/ 83".

ص: 67

مما يشين ويسيء إلى المهجو. لما هجا جرير "بني نمير" بقوله:

فغضَّ الطَّرْفَ إنك من نمير

فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابا

أخذ بنو نمير ينتسبون إلى عامر بن صَعْصَعَة، ويتجاوزون أباهم نميرًا إلى أبيه، هربًا من ذكر نمير وفرارًا مما وسم به من الفضيحة والوصمة. مع أنهم كانوا قبل ذلك إذا سئل أحدهم ممن الرجل فخم لفظه ومد صوته وقال: من بني نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب. وكان أحدهم إذا رأى نميريًّا وأراد نبزه والإساءة إليه قال له: غمِّض وإلا جاءك ما تكره، وهو إنشاد هذا البيت1. وصار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر2!

قال الجاحظ: "وفي نمير شرف كثير. وهل أهلك عنْزَة، وجرمًا، وعُكلا، وسلولَ، وباهلة وغنيًا، إلا الهجاء؟!

وهذه قبائل فيها فضل كثير وبعض النقص، فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء. وهل فضح الحبطات، مع شرف حسكة بن عتاب، وعبَّاد بن الحصين وولده، إلا قول الشاعر:

رأيت الحمر من شر المطايا

كما الحبطات شر بني تميم3

وقد هجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا. وكان حذف الفزاري قد أطعم جُردان الحمار، فقتل الذي أطعمه. وقال: طاح مرقمه، فذهبت مثلا. ففزارة تعير بذلك إلى اليوم. قال الشاعر:

إن بني فزارة بن ذبيان

قد سبقوا الناسَ بأكل الجردان

وقال آخر:

أصيحانية علت بزبد

أحب إليك أم أير الحمار4؟

1 الخزانة "1/ 35 وما بعدها"، "بولاق"، البيان والتبيين "4/ 35".

2 البيان والتبيين "4/ 35، 38".

3 البيان والتبيين "4/ 36 وما بعدها".

4 الاشتقاق "1/ 173 وما بعدها"، البيان والتبيين "4/ 38 وما بعدها"، الخزانة "1/ 395"، سمط اللآلي "860".

ص: 68

وبين الشعر والسحر صلة، حتى ذهب بعض الباحثين في الشعر إلى أن الشعر هو فن من الفنون التي كان يمارسها السَّحرة في التأثير في مشاعر الناس، إذ كانوا يتخذونه وسيلة من وسائل التأثير في النفوس، لما يستعملونه فيه من كلام مؤثر ساحر يترك أثرًا خطيرًا في نفس سامعه. ولهذا عدُّوا السحرة في جملة أوائل من كان ينظم الشعر من القدماء، كما ذهب بعض الباحثين إلى أن الشعراء كانوا "أهل المعرفة" والفهم، لما كان لهم من ذكاء وصفاء ذهن في فهم تجارب الحياة، وفي نظم خلاصة تلك التجارب على شكل علم أو حكم تفيد في التهذيب وفي التوجيه وفي وعظ الناس، ولهذا كان لهم رأي في السياسة في السلم وفي الحرب.

وفي كتب الأدب والأخبار أمثلة كثيرة عن أثر الشعر في القبائل وفي الأشخاص من مدح وذم، يرينا كيف كان العرب يتأثرون به، وكيف كان يلعب دورًا خطيرًا في حياتهم، والعرب قوم عاطفيون، تلعب العاطفة دورًا خطيرًا في حياتهم، وما الشعر إلا نتيجة لهذا الطبع المتوارث في العربي. وقد كان أثر الشعر في المغازي وفي الحروب أثر السيف في الخصوم، يحرض المقاتلين على الاستبسال في الحروب ولما وقعت الوقائع بين المسلمين والفرس، لعب الشعر والنثر دورًا خطيرًا ففي يوم "أرماث" مثلا، أرسل سعد إلى قادة الكلام، من رجال والشعر، يدعوهم إلى استخدام سلاحهم في هذه المعارك، فكان ممن حضر عنده طليحة، وقيس بن هبيرة الأسدي، وحذيفة، وغالب، وعمرو بن معديكرب، وابن الهذيل الأسدي، وعاصم بن عمرو، وربيع بن البلاد السعدي، وربعي بن عامر وهم من الخطباء، والشماخ، والحطيئة، وأوس بن مغراء، وعبدة بن الطيب وأمثالهم، وهم من الشعراء، فلما تجمعوا، قال لهم سعد:"قوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس، فذكروهم وحرضوهم على القتال"1. فالشعر سلاح ماضٍ عند العرب، مثل الأسلحة الأخرى وربما كان أمضى منها أثرًا في نفوسهم لما كان يفعله فيهم، وكذلك النثر من أثر في النفوس يحملهم

1 الطبري "3/ 533".

ص: 69

على الإقدام وعدم التهيب من الموت.

ونحن لا نعرف حربًا أو غزوًا وقع للعرب، ثم لم يقترن خبره بشعر أو بأبيات منه، فقد كان المحاربون، يحاربون خصومهم بألسنتهم وبسيوفهم وبسهامهم ورماحهم في الوقت نفسه، وقد رأينا أنه قد كان للشعر الفضل الأكبر في كثير من الأحايين في حفظ أخبار الحروب وبقاء ذكرها إلى هذا اليوم. ونستطيع القول بأن قسطًا كبيرًا من الشعر الجاهلي، هو من شعر القتال. ولذلك نستطيع جعله صنفًا قائمًا بذاته نسميه شعر القتال والحروب.

ومن هذا الأثر الذي كان يعرفه الشعراء حق المعرفة، كانوا يستعملون ويترفعون به عن غيرهم، كتب هوذة بن عليّ الحنفي، إلى النبي يجيبه على رسالته التي أرسلها إليه:"ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتَّبِعُك"1، فهو شاعر قومه وخطيبهم، وله مكانة في العرب، فهو يرى أن يميز عن غيره بميزات تمنح له، وكان الشعراء يمنون على قومهم بأنهم ألسنتهم المخرسة الناطقة المهاجمة المدافعة، فهم من الطبقة المثقفة الممتازة التي حظيت بالتقدير ونالت الاحترام، بسبب قدرة اللسان، وأثر الشعر في الناس.

ولا زال الشاعر ينال مكانة محترمة عند أهل الحضر وعند أهل الوبر، فهو لسان القبيلة حتى اليوم، يدافع عنها، ويهجوا أعداءها، ويرد على شعرائها، ويشيد بفعال قومه. وللهجاء عندهم مكانة، إلا أنها أخذت تتزلزل عن مكانها، بفعل التحضر الذي أخذ يغزو البوادي، وتغير العقلية، وعدم الاهتمام بالقيل والقال، مما أثر على مكانة الشعر والشاعر أيضًا، فلم يعد الناس يخشون لسان الشاعر، كما كانوا يخشونه أيام الجاهلية، يوم كانوا يسترضون الأعشى والحطيئة، خوفًا من لسانيهما السليطين.

ويطلق على الشعر الذي قيل قبل الإسلام: الشعر الجاهلي، لأنه قيل في الجاهلية التي شرحنا معناها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وأصحابه كلهم ممن عاشوا وماتوا قبل الإسلام. أما الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، فهم الشعراء المخضرمون

1 ابن سعد، طبقات "1/ 262"، "ذكر بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل بكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام".

ص: 70

لأنهم أدركوا عهدين، فعاشوا رِدْحًا من عمرهم في الجاهلية، وقضوا البقية الباقية من حياتهم في الإسلام.

وإذا قلنا الشعر الجاهلي، أو شعر الجاهليين، فلا نريد أو يريد أحد منا الغض من شأنه أو الحطُّ من قدره، فإننا على العكس، نجد علماء الشعر والأدب، يرفعون من قدره، ويرون أنه الأوج الذي بلغه العرب في الشعر، ولا سيما الشعر المختار منه مثل المعلقات، فقد بلغ القمة في نظرهم، وقد بلغ من تقدير بعضهم للشعر الجاهلي، أنهم كانوا أحيانًا يذهبون بعيدًا في تدقيقهم إلى حدِّ التهوين من قيمة شاعر لا يمكن إنكار تفوقه، لمجرد أن ولادته كانت بعد ظهور الإسلام"1.

وروي أن عمر قال: "الشعر علم قوم لم يكن لهم علمٌ أعلم منه" وأنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "مُرْ من قِبَلَكَ بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب"2. ولقد قال الجاحظ: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفَّى وكان ذلك هو ديوانها وعلى أن الشعر يفيد فضيلة البيان، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلة المأثرة، على السيد المرغوب إليه، والممدوح به"3. وقال العسكري: "لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"4، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت إليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحدث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم5.

والواقع أن هذا الشعر الجاهلي قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية فائدة

1 بروكلمن "1/ 36".

2 العمدة "38".

3 الحيوان "1/ 72. "عبد السلام محمد هارون"، المحاسن والأضداد "3".

4 كتاب الصناعتين "104".

5 كارلو نالينو "95 وما بعدها".

ص: 71

لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشعر من الوجهة التأريخية على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أمورًا مهمة من أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر1.

ولكن كثيرًا من هذا التراث الذي أريد تخليد عمل العرب به قد ضاع، قبل الإسلام، بسب عدم تدوينه وتخليده في كتاب واعتماد الناس في روايته على الحافظة وحدها، والحافظة لا تحفظ المحفوظ لأمد طويل، فضاع منه ما ضاع، ووصل بعض منه بصورة يرتاب منها، وآفة كل ذلك هو المرض الذي يصيب الذاكرة: مرض النسيان. قال ذو الرُّمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أحب إليَّ من الحفظ. لأن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلامًا بكلام"2.

والشعراء الجاهليون كثيرون، ونجد في كتب اللغة والمعاجم، أسماء شعراء، لم يرد لهم خبر في موارد أخرى، ذكروا لمناسبة الاستشهاد بشعرهم، ونجد في كتب السير والرجال أسماء رجال لهم شعر، لم يرد اسمهم في كتب الشعر. قال ابن قتيبة:"والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم؛ واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"3.

وأنت إذا قرأت بعض الكتب مثل كتاب: "الاشتقاق"، و"المحبر"، وكتب المجالس والأمالي والشواهد، تجد أمامك أسماء عدد كثير من الشعراء الجاهليين، لم يرد اسمهم في كتب الشعر الجاهلي، ولم يحفل بهم علماء الشعر مع أنهم كانوا في أيامهم من الشعر المعروفين، وقد نص على أنهم كانوا من الشعراء.

1 Charles James Lyall، Ancient Arablan Poetry، London، 1930، p. Introduction.

2 الحيوان "1/ 41"، "نعت الكتاب".

3 الشعر والشعراء "1/ 8".

ص: 72

ولا أَجِدُ في كلام قدماء العلماء القائل أن الذي وصل إلينا من أمر الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين، هو قليل جدًّا من كثير جدًّا، وأن الذي فات عن علم العلماء من أمر الشعراء الجاهليين أكثر بكثير مما بقي، أية مبالغة أو تهويل، لأننا نجد في الموارد التي تتحدث عن الصحابة أو عن الأخبار، أسماء رجال كانوا شعراء، لا نجد لها وجودا في كتب الشعر، ثم إن علماء الشعر أنفسهم يعترفون في كتبهم ودفاترهم، أنهم لم يدونوا من أسماء الشعراء إلا من اشتهر أمره وعرف بغزارة شعره، أما من كان دون هؤلاء، فإنهم لم يتحرشوا بهم، إذ لو تعرضوا بهم لاحتاجوا إلى تدوين كتب ضخمة في الشعر والشعراء، أضف إلى ذلك موت ذكر كثير من الشعراء، بسبب عدم وجود التدوين قبل أيام التدوين وعجز الذاكرة عن المحافظة على أسماء الشعراء وعلى شعرهم إلى أمد طويل. ثم أن الشعر سليقة عند العرب، وبديهة، وقلما نقرأ اسم رجل من أهل الجاهلية، إلا وقد نسب له أهل الأخبار البيت أو البيتين، أو أكثر من ذلك من الشعر.

ونحن لا نذكر هنا من الشعراء إلا من نبه منهم، وترك أثرًا في الأدب العربي إلى يومنا هذا.

وقد جرت العادة بأن يدرس الشعر الجاهلي على أسلوب الجادة القديمة، بالاعتماد على الروايات المدونة عنه في الموارد الإسلامية القديمة، وهي روايات لاقت رواجًا كبيرًا بين المعنيين في الشعر الجاهلي، حتى صارت في درجة القضايا البديهية المسلم بصحتها، مع أنها في الواقع أخبار آحاد، وردت في كتب إسلامية قديمة نقلها عنها المؤلفون المتأخرون عن المؤلفين القدماء مع أن الصحيح هو في وجوب درس الشعر الجاهلي، على ضوء شعر المخضرمين والشعراء الإسلاميين الذين عاشوا في صدر الإسلام، وعلى ضوء الدراسات المعروفة عن الشعر عند الساميين، مثل شعر السريان الذي يأخذ أيضًا بالوزن والقافية وله مصطلحات قديمة في الشعر تعود إلى ما قبل الإسلام، ثم الشعر العبراني والشعر البابلي وشعر بقية الساميين.

وفي دراسة شعر القبائل الحاضرة المنزوية في جزيرة العرب، فائدة كبيرة في تشخيص الشعر الجاهلي، لأنها -ولاسيما القبائل القابعة في العربية الجنوبية- لا زالت تنظم الشعر متأثرة بالقوالب القديمة وببحور جاهلية لم يحفل بها "الخليل" أو أنه لم يقف عليها، ففات أمرها على العلماء، وعدت من الشعر العامي المبتذل.

ص: 73