المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي ‌ ‌مدخل … الفَصْلُ الثَّانِي والْخَمْسونَ - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع عشر

- ‌الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:‌‌ الأعراب والعربيةواللحن

- ‌ الأعراب والعربية

- ‌اللَّحْنُ:

- ‌الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

- ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

- ‌مدخل

- ‌خبر شعراء الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌الشَّاعِرُ:

- ‌عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌إنشاد الشعر

- ‌مدخل

- ‌سُوقُ عُكَاظٍ:

- ‌يَثْرِبُ:

- ‌تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌المغلبون:

- ‌بَدْءُ الشَّاعِرِ:

- ‌أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:

- ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

- ‌الْخَمْرُ والشِّعْرُ:

- ‌شَيطَانُ الشَّاعِرِ:

- ‌الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

- ‌مدخل

- ‌الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:

- ‌الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

- ‌مدخل

- ‌التمليط:

- ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

- ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

- ‌الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

- ‌مدخل

- ‌نَقْدُ الشِّعْرِ:

- ‌أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:

- ‌الشِّعْرُ والإِسْلامُ:

- ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌رُوَاةُ الشِّعْرِ:

- ‌الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:

- ‌التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:

- ‌الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:

- ‌الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

- ‌مدخل

- ‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

- ‌الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

- ‌مدخل

- ‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

- ‌الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

- ‌الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:

- ‌فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:

الفصل: ‌ ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي ‌ ‌مدخل … الفَصْلُ الثَّانِي والْخَمْسونَ

‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

‌مدخل

الفَصْلُ الثَّانِي والْخَمْسونَ بَعْدَ المائةِ: تَدْوِينُ الشِّعْرِ الجَاهِلِيِّ

ليس في الشعر الجاهلي بيت واحد يستطاع أن يثبت أنه كان مدونًا في الجاهلية وأن رواة الشعر وحفظته وجدوه مكتوبًا بأبجدية جاهلية، فنقلوه عنها. ولم يتجاسر -على ما أعلم- أحد من رواة الشعر أو حافظ من حفاظه على الادعاء بأنه نقل ما عنده من شعر جاهلي من ديوان جاهلي، أو من قراطيس جاهلية، أو من مادة مكتوبة أخرى تعود أيامها إلى الجاهلية. فكل ما وصل إلينا من هذه البضاعة، إنما هو من عهد الكتابة والتدوين، وعهد التدوين لم يبدأ إلا في الإسلام، وأول تدوين للشعر، إنما كان في عهد الأمين.

وعدم وصول شعر جاهلي إلينا مدون في أيام الجاهلية، أو منقول عن مكتوبات جاهلية، ثم عدم ادعاء أحد من قدماء الرواة أنه قد نقل من دواوين أو قراطيس جاهلية، يحملنا على القول بعدم تدوين الجاهليين لشعرهم وبعدم اهتمامهم بتسجيله. فلِمَ وَقَع ذلك؟ ولِمَ أحجم الجاهليون عن تدوين شعرهم، وهو تراثهم الخالد وسجلهم وديوانهم الذي به حفظت الأنساب وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله، وآثار أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأن العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب

ص: 250

مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتال، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثير"1. "قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"2.

ومعنى هذا أن الشعر الجاهلي لم يكن مدونًا، وإنما كان محفوظًا في الصدور، وقد ورد رواية باللسان، فكانوا يتلونه حفظًا لا عن صحيفة أو كتاب، ويؤيد ذلك ما ورد في الأخبار من أن بني أمية، وقد كانوا شغوفين جدًّا بالشعر القديم، ربما اختلف الرجلان منهم في بيت شعر، فيرسلان راكبًا إلى قتادة يسأله، عن خبر، أو نسب، أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس، ولقد قدم عليه رجل من عند بعض أولاد الخلفاء من بني مروان، فقال لقتادة: من قتل عمرًا وعامرًا التغلبيين يوم قضة؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبعية بن قيس بن ثعلبة". قال فشخص بها ثم عاد إليه. فقال: أجل قتلهما جحدر، ولكن جميعًا؟ فقال: اعتوراه فطعن هذا بالسنان، وهذا بالزج فعادى بينهما3. وعلى ما في هذا الخبر من أثر الصنعة والتكلف، فإن فيه دلالة على شغف الأمويين بسماع أخبار الأيام الماضية، وبعدم وجود مدونات في ذلك الوقت، تضم الشعر والأخبار والنسب، لذلك، كانوا يرسلون إلى خاصتهم ومن يرون فيه العلم بهذا الأمور للاستفسار منهم عما يريدون الوقوف عليه.

ويؤيد ذلك أيضًا ما ورد من أن الرسول كان إذا أراد سماع شعر شاعر، سأل من كان في حضرته من يحفظ من شعر فلان؟ فينشده عليه من قد يكون حافظًا له، ثم ما يروى من أن الصحابة كانوا يحفظون الشعر، ومن أنهم كانوا إذا أرادوا الوقوف على شعر شاعر لم يحفظوا شعره، سألوا غيرهم ممن يحفظه عنه. ولم نسمع في الأخبار، أن أحدًا من الصحابة، كان يملك ديوانًا، أو كتابا فيه شعر، أو خبر، أو نسب، وأنهم كانوا يرجعون إلى المدونات، في مثل هذه الحالات.

ولكن ما ذهبنا إليه من عدم وجود تدوين للشعر الجاهلي ولأخبار الجاهلية،

1 المزهر "2/ 473 وما بعدها"، "ذهاب الشعر وسقوطه"

2 المزهر "2/ 474"، "ذهاب الشعر وسقوطه"

3 العسكري "التصحيف والتحريف""4"، مصادر الشعر الجاهلي "198".

ص: 251

تنفيه روايات تزعم أن الجاهليين كانوا يدونون أشعارهم، فقد روي أن النعمان بن المنذر، أمر "فنسخت له أشعار العرب في الطنوج وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن عبيد الثقفي، قيل له: إن تحت القصر كنزًَا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"1. وروايات تذكر أنه "قد كان عند آل النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه"2. وروايات تقول إن العرب كانت شديدة العناية بشعرها، مبالغة في المحافظة على الجيد منه، فأمرت بكتابتها بماء الذهب على القباطي وبتعليقها على الكعبة، إعجابًا بها وإشادة بذكرها. وقد عرفت تلك القصائد بالمذهبات وبالمعلقات وبالسموط3. وروايات تذكر أن الملك كان إذا استجديت قصيدة يقول:"علقوا لنا هذه لتكون في خزانته"4.

وتنفيه أيضًا روايات أخرى تفيد أن بعض الشعراء الجاهليين كانوا يقرءون ويكتبون، كالذي جاء عن عدي بن زيد العبادي، عن المرقش الأكبر، من أنه كان قد تعلم الكتابة من رجل من أهل الحيرة، فصار يكتب أشعاره، وكالذي يظهر من بيت لابن مقبل يفيد أن عرب أواسط جزيرة العرب كانوا يدونون أشعار الشعراء5. وقد ذكر أن سعد بن مالك والد المرقش، أرسله وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة فعلمهما الكتابة6. وروي أنه كان يكتب بالحميرية7، فلا يعقل إذن أن يدون أمثال هؤلاء الشعراء الكتاب القراء شعرهم، أو بعض شعرهم المستجاد على الأقل!

وتنفيه الرواية القائلة إن لقيط بن يعمر الإيادي، كتب قصيدة وأرسلها

1 المزهر "1/ 249"، "النوع الخامس عشر. معرفة المفاريد"، ابن جني، الخصائص "1/ 392 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 70"، "الطنوج"،

2 المزهر "2/ 474"، "ذهاب الشعر وسقوطه"، تاج العروس "2/ 70"، الجمحي طبقات "10".

3 المزهر "2/ 480"، "مشاهير الشعراء".

4 المزهر "2/ 480"، "مشاهير الشعراء"، العمدة، لابن رشيق "1/ 96".

5 جواد على، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 13"، مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد الرابع، الجزء الثاني"، "1956م"، "ص522".

6 الأغاني "6/ 130"، المفضليات "459 وما بعدها".

7 الشعر والشعراء "1/ 139".

ص: 252

إلى قومه إياد يحذرهم فيها من مجيء جيش كسرى إليهم للإيقاع بهم، وذلك في قصيدته التي استهلها بقوله:

سلام في الصحيفة من لقيط

إلى مَنْ بالجزيرة من إيادِ1

وتنفيه روايات أخرى تشير إلى أن العرب في صدر الإسلام، كانوا يدونون الشعر ويوزعونه بين الناس لينتشر بينهم، فلما هجا النجاشي الأنصار، اجتمع سادتهم وتذاكروا أمره، ثم ذهب قوم إلى حسان، فنظم شعرًا في هجائه، كتبه غلمان الكتاب2، وما كانت الغاية من تدوين الغلمان له، إلا إذاعته ونشره بين الناس. وروي أن عبد الله بن الزبعري، وضرار بن الخطاب الفهري، قدما المدينة فتلاحيا مع حسان، في أمر الشعر، وقالا شعرًا مما كانا قالاه في الأنصار، وكان عمر قد نهى عن رواية شعر الهجاء حذر الفتنة، فغضب حسان منهما، وذهب إلى عمر، فأخبره بما وقع، فارسل وراءهما، وطلب من حسان أن ينشدهما مما قاله لهما، فأنشدهما، فلما انتهى من إنشاده كتب ذلك، وحفظ مع شعر الأنصار، وكانوا يكتبونه حذر بلاه3. وروي أن طلحة أنشد قصيدة، فما زال شانقًا ناقته حتى كتبت له4.

غير أننا إذا ما تتبعنا تأريخ ورود هذا الذي ذكرته عن وجود التدوين في الحيرة وارتفعنا به حتى نصل به إلى أصله، نجد أنه جاء كله نقلا، وقد أخذه المتأخرون عن المتقدمين، والمتقدمون عن طبقة أقدم، حتى نصل إلى مرجع واحد هو آخر سلسلة السند، الذي ينتهي بحماد الرَّاوِية وابن الكلبي. فحماد هو صاحب الزعم المتقدم، القائل إن النعمان بن المنذر، أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج5، وابن الكلبي هو صاحب الخبر القائل إن العرب علقت القصائد السبع على الكعبة، وإن العرب اخترتها من بين القصائد الجاهلية الكثيرة فوضعتها على أركان الكعبة، إعجابًا بها وإشادة بذكرها!

1 الشعر والشعراء "1/ 129"، الأغاني "20/ 23".

2 مصادر الشعر الجاهلي "125".

3 الأغاني "4/ 140 وما بعدها".

4 الزمخشري، الفائق "677".

5 المزهر "1/ 249: "النوع الخامس عشر".

ص: 253

وهناك رواية أخرى مشابهة لرواية حماد عن تعليق المعلقات، يرجع سندها إلى ابن الكلبي، هذا نصها:"قال ابن الكلبي المتوفى سنة 204 وقيل سنة 206: أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس، علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحدر فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة"1. "وزاد بعضهم أنهم كانوا يسجدون لها كما يسجدون لأصنامهم"2. ولابن الكلبي زعم آخر له علاقة بهذا الموضوع، فقد ذكر أنه كان يقول:"كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى، وتأريخ نسبهم، من كتبهم بالحيرة"3.

فنحن إذن أمام رجلين يرجع إليهما خبر وجود تدوين للشعر الجاهلي، كان أحدهما من أمرس الناس بالشعر الجاهلي، وكان ثانيهما من أشهر رجال الأخبار. ولا نعرف أحدًا تقدم عليهما زعم هذا الزعم، أو ادَّعى هذه الدعوى! ثم إننا لا نجد في مؤلف من المؤلفات الإسلامية التي وصلت إلينا ما يفيد أن أحدًا قد نقل شيئًا من مدون جاهلي، أو قرأ فيه، خلا ما ورد عن ابن الكلبي من أنه كان يستخرج أنساب آل نصر وتأريخ من حكم منهم ومدد أعمارهم وما إلى ذلك من بيع الحيرة4.

ولا يعقل بالطبع تصور انفراد حماد وحده بمعرفة أمر ديوان النعمان بن المنذر، دون سائر الرواة وعشاق الشعر، وبينهم من كان لا يقل حرصًا ولا تتبعًا له عن حمَّاد. ولا يعقل أيضًا تصور بلوغ الحرص والأنانية بآل مروان درجة جعلتهم يضنون حتى بالتلويح أو بإراءة ذلك الديوان الجاهلي بعضهم بعضًا. ولو كان عند آل مروان ذلك الديوان حقًّا، لافتخروا بوجوده لديهم، ولعرضوه على الناس، ولأخذوا منه الشعر القديم، ولما استعانوا بالرواة من حماد وأمثاله ليروون لهم الشعر الجاهلي وليجمعوا لهم ذلك الشعر، وحماد نفسه شاهد على ذلك

1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 187 وما بعدها".

2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 186".

3 تأريخ الطبري "2/ 37".

4 تأريخ الطبري "2/ 37".

ص: 254

حيث كانوا يستدعونه من العراق ليسألوه أمر شعر، خفي عليهم، أو شعر لا يعرفون عنه شيئًا، ثم كيف يسكت رواة أهل الكوفة عن هذا الديوان، فلا يشيرون في أخبارهم ورواياتهم إليه، ولا يلحقون به سندهم في روايتهم للشعر؟ قال ابن النديم:"قال أبو العباس ثعلب: جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وردّ الديوان إلى حماد وجناد"1، فلو كان لدى آل مروان ديوان جاهلي قديم، فهل يعقل ترك الوليد ذلك الديوان وذهابه إلى حماد وجناد يستعين بما عندهما من دواوين شعر، أو من ديوان شعر ليجمع له ديوانًا بأشعار القدماء، فلما جمع له ديوانًا من ديواني حماد وجناد أعادهما عليهما! ولو فرضنا أنه كان قد استعان بهما، لأنهما كانا قد جمعا شعر شعراء لم يكن عنده شعرهم، فإن الرواة ما كانوا ليسكتوا هذا السكوت المطبق عن ذلك، ولقالوا على الأقل إنه قد كان عنده ديوان شعر جاهلي، لكنه لم يكن تامًّا، يضم كل أشعار الجاهليين، فاستعان بهما لسد هذا النقص. ولو كان ديوان حماد أو ديوان جناد من دواوين أهل الجاهلية، لما سكت العلماء عن ذلك، ولما سكت حماد نفسه، أو جناد من التنويه به، لما لهذا التنويه من أهمية بالنسبة لهما، ولإثبات أنهما كانا صادقين في رواية الشعر، وأنهما استقيا الشعر من منابع أصيلة لا يرتقي إليها الشك.

ثم إنه لو كان لحماد أو غيره من أهل الكوفة ديوان جاهلي، أو أن أهل الكوفة كانوا قد وقفوا على ديوان النعمان بن المنذر أو على كتب من كتب أهل الحيرة في الشعر أو في التواريخ والأخبار، لما سكتوا عن ذلك أبدًا، ولأسندوا روايتهم إلى تلك المدونات، ردًّا بذلك على أهل البصرة الذين اتهموهم بالافتعال وبنحل الشعر على ألسنة الشعراء الجاهليين، وبأخذهم من أفواه أعراب لا يطمئن إليهم، على الأقل.

إن سكوت الرواة وعلماء الشعر عن أمر هذا الديوان، واقتصار خبر وجوده على روايات حماد، يحملنا هذا السكوت الغريب، على الشك في هذا المروي عنه وعلى التريث ولو مؤقتا في تصديقه، حتى يقوم دليل جديد مقنع بوصول شيء من مكتوبات أهل الحيرة إلى الإسلاميين يمكننا من إبداء رأي علمي واضح في هذا الموضوع.

1 الفهرس "140".

ص: 255

وقد سكتت كل الأخبار التي تحدثت عن طنوج النعمان بن المنذر، عن الجهة التي دخل الديوان في ملكها. كما سكتت عن مصيره النهائي. فأين ذهب يا ترى ذلك الديوان؟ ولِمَ لَمْ ينقل منه أحد؟ ولِمَ لم يُشِرْ إلى وجوده شخص آخر غير حماد؟

ولم أعثر حتى الآن على خبر يفيد علم أحد من المتقدمين على حماد بوجود ديوان شعر جاهلي مدوَّن، ولا بنقل أحد من الرواة وبضمنهم حماد نفسه من هذا الديوان أو من ديوان آخر يعود تأريخه إلى أيام الجاهلية. مع أن بين عشاق الكتب من كان يقتني الكتب والقراطيس القديمة، ويتهالك ويستهتر في المحافظة عليها وفي العناية بها، وبينهم من كان يملك ما شاء الله منها. وقد قص ابن النديم الورَّاق المتهالك في البحث عن الكتب قصصًا عن القراطيس والكتب القديمة وعن استهتار الناس بجمع الخطوط العتيقة، ولم يشر إلى عثوره هو أو غيره على صفحة واحدة مكتوبة قبل الإسلام في الشعر أو في النثر. ولو كان قد سمع بهذه الأوراق، لما تركها تمر سبيلها، فلا يراها أو يسمع عنها ممن وقف عليها ورآها على الأقل1. نعم: ذكر أنه "كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم فيه ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان ابن فلان الحميري من أهل وزل صنعا، عليه ألف درهم فضة كيلا بالحديدة، ومتى دعاه بها أجابه شهد الله والملكان. وكان الخط شبه خط النساء"2. وهو خبر تظهر عليه آثار الصنعة، والوضع.

وقد يكو خبر الديوان، وخبر الطنوج من مفتعلات حماد وابن الكلبي، لإظهار سبب تفوق أهل الكوفة على أهل البصرة بالعلم بالشعر، كما يظهر ذلك جليًّا من نص الخبر، وهو "ومن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة3 ولإظهار سبب تفوق ابن الكلبي على غيره من أهل الأخبار في رواية أخبار ملوك الحيرة، غير أني لا أستبعد مع ذلك وجود دفاتر وكتب في خزائن ملوك الحيرة وفي قصورها وكنائسها، قد كان فيها شعر ونثر وأخبار

1 الفهرست "67"، "المقالة الثانية من كتاب الفهرست".

2 الفهرست "ص13 وما بعدها"، "الكلام على القلم العربي".

3 الخصائص "1/ 392.

ص: 256

ومراسلات وسجلات بالأموال وما شابه ذلك لوجود حكومي عندهم تولاه عدي بن زيد، ووجود علماء ورجال دين عندهم ألَّفوا الكتب في أمور الدين وفي العلوم التي كانت سائدة في ذلك الوقت، لكنها تلفت وهلكت بسبب الأحداث التي وقعت في الحيرة أيام الفتح الإسلامي لها، وارتحال الناس عنها وفي جملتها رجال الدين، وتهدم كنائسها وبيوتها بسبب نقل حجارتها إلى الكوفة لبناء بيوتها بها، مما سبب تلف تلك المدونات المكتوبة على أدم وقراطيس سهلة التلف، والتي لا يمكن لها مقاومة مثل هذه الأحداث. ولا يستغرب ذلك، فقد تلفت نسخ القرآن الأولى مثل نسخة حفصة بنت عمر، ونسخة عثمان وهلكت رسائل الرسول وكتبه على أهميتها، وذهبت الصحف القديمة التي دون بها الحديث أو سيرة الرسول، وغير ذلك، في أيام الراشدين وبني أمية، فهل يستغرب بعد ذلك ذهاب ما دوِّن في أيام ملوك الحيرة وانطماس أثره!

وقد تعرض بروكلمن لموضوع تدوين الشعر أو عدم تدوينه عند الجاهليين، فقال: "ومن ثم يعد خطأ من مركليوث وطه حسين أن أنكرا استعمال الكتابة في شمال الجزيرة العربية قبل الإسلام بالكلية، ورتبا على ذلك ما ذهبا إليه من أن جميع الأشعار المروية لشعراء جاهليين مصنوعة عليهم، ومنحولة لأسمائهم.

ولكن بديهيًّا أن الكتابة لم تقضَ قضاءً كليًّا على الرواية الشَّفوية. فقد كان لكل شاعر جاهلي كبير على وجه التقريب راوية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس، وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة إلا نادرًا.

وعن الرواة كانت تنتشر الدراية بالشعر في أوساط أوسع وأشمل، بعد أن يذيع في قبيلة الشاعر نفسه. ولهذا لم يمكن التحرز عن السقط والتحريف، وإن لاحظنا أن ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحد على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث"1.

وقد تعرض المستشرق "كرنكو" لموضوع الكتابة والتدوين عند العرب، وقد ذهب إلى أن نظم الشعر مرتبط بالكتابة، بدليل أن بعض القوافي تظهر حقيقتها

1 بروكلمن "1/ 65".

ص: 257

للعيان أكثر منه للسمع، بحيث أن الحروف وليست الأصوات، هي التي تلعب دورًا هامًّا في الشعر1. غير أن رأيه هذا لم ينل تأييدًا من غالبية المستشرقين. وذهب "كو لدزيهر"، إلى احتمال تدوين العرب لشعر الهجاء، لما لهذا النوع من الشعر من أهمية عندهم، فإن في شعر الشاعرة ليلى الأخيلية:

أتاني من الأنباء أن عشيرة

بشوران يزجون المطي المذللا

يروح ويغدو وفدهم بصحيفة

ليستجلدوا لي، ساء ذلك معملا2

وفي شعر ابن مقبل:

بني عامر، ما تأمرون بشاعر

تخير بابات الكتاب هجائيًا3

غير أن بعضهم يرى صعوبة تصور ذلك، لعدم وجود أدلة مقنعة تثبت هذا الرأي4.

وقد توقف "بلاشير" أيضًا في قضية تدوين الرواة لشعر الشاعر الذي تخصصوا به، أو برواية شعر أي شاعر كان. يرى احتمال تدوين بعض الرواة الحضر لبعض عُيُون الشعر، غير أنه يعود، فيرى أن ذلك مجرد احتمال، وأن من الصعب إثباته بأدلة مقنعة، ويذهب إلى أن رواية الرواة، كانت رواية شفوية كذلك5.

ولا استبعد احتمال تدوين الشعراء الجاهليين الذين كانوا يحسنون الكتابة والقراءة لأشعارهم، كما لا استبعد احتمال تدوين رواة الشعر، ولا سيما ما نبه وشرف منه، غير أننا لا يمكن أن نقول إن الشاعر كان إذ ذاك يدون كل شعره، أو أن الرواة، كانوا يدونون كل ما حفظوه من الشعر، لأن هذا النوع من التدوين لم يكن مألوفًا عندهم، كما كان يكلف ثمنًا باهظًا، لا قِبَلَ للشاعر أو للراوية بتحمله، ثم إن القرطاس كان نادرًا عندهم، والتدوين على

1 بلاشير، تأريخ الأدب العربي "94 وما بعدها".

2 المصدر نفسه "ص98".

3 العمدة "2/ 159 وما بعدها"، الحيوان "7/ 112"، ديوان ابن مقبل "410".

4 بلاشير "98 وما بَعْدَها".

5 بلاشير "101".

ص: 258

الأدم، غاليًا، ينوء بثمنه الشاعر أو الرَّاوِيَة، ويأخذ مكانًا، ولا سيما إذا كان الشاعر من الأعراب، وأنا لا أستبعد احتمال وجود مثل هذه المدونات عند الحضر، مثل أهل الحيرة، لانتشار الكتابة بينهم ولشيوع التدوين عندهم، ولكن الأحداث وعوامل الطبيعة أتلفت تلك المدونات، فلم تسقط لهذا السبب في أيدي رواة الشعر والأخبار.

ولا تزال الرِّوَاية الشفوية مستعملة حتى اليوم، مع وجود التدوين وكثرة الورق، فلأغلب شعراء العراق اليوم -مثلا- رواة يدونون شعر الشاعر ويحفظونه في الوقت نفسه حفظًا، فإذا حضروا مجلسًا، وجاء ذكر الشعر، أو شعر شاعر يروون شعره تلوه حفظا على السامعين، وفي النجف رواة شعر، دونوا شعر شعرائها المحدثين مثل الحبّوبي وغيره في دواوين، وحفظوه في الوقت نفسه حفظًا في قلوبهم، ومنهم من حفظ شعره من غير تدوين له، وقد يزيد ما يحفظونه على ما هو مدون بسبب أن الشاعر قد يحضر مناسبة تهزة فيقول فيها شيئًا فيحفظه رواته والمعجبون به، وقد يفوت تسجيله على رواته الذين يلازمون الشاعر، فلا يقفون عل خبره، ويدفع الإعجاب بالشاعر المعجبين به على التقاط شعره وحفظه في أدمغتهم حتى كأنهم أشرطة تسجيل حساسة، لا يفوتها من التسجيل أي شيء.

وبسبب عدم لجوء الجاهليين إلى تدوين شعرهم في الغالب، لأسباب عديدة، منها: ندرة الورق، وغلاؤه، واعتمادهم في حفظه على الذاكرة، هلك أكثره بموت حافظه، وأصيب قسم منه بتحريف وتغيير، وزيد بعض منه، ونقص منه بعض آخر، وصنع شعر على المتقدمين لأغراض مختلفة، ونسب الشعر إلى جملة شعراء، ورويت أبيات بروايات مختلفة، وما كان ذلك ليحدث، لو أنهم كانوا قد عمدوا إلى تدوينه وتثبيته. "قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير. ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة. وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة، ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، وغير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما

ص: 259

حمل عليهما حمل كثير"1. وقد ذكر ابن سلام أن عبيد بن الأبرص قديم عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب لا أعرف له إلا قوله:

أقفر من أهله ملحوب

فالقطبيات فالذنوب

ولا أدري ما بعد ذلك"2.

وذكر أنه قد سقط من شعر شعراء القبائل الشيء الكثير، وفات على علماء الشعر منه ما شاء الله، مما لم يحمله إلينا العلماء والنقلة. وقيل عن الأصمعي: "كان ثلاثة أخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار، فذهب رجزهم، يقال لهم: منذر ونذير ومنتذر، ويقال إن قصيدة رؤبة التي أولها:

وقائم الأعماق خاوي المخترق

لمنتذر"3.

ونسب إلى أبي عمرو بن العلاء قوله: "لما راجعت العرب في الإسلام رواية الشعر بعد أن اشتغلت عنه بالجهاد والغزو، واستقل، واستقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار؟ فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواية بعد فزادوا في الأشعار التي قيلت، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعر أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال"4.

وقال "ابن قتيبة": "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو انفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال.

1 ابن سلام، طبقات "10".

2 ابن سلام، طبقات "36".

3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "9".

4 الْمُزْهِرُ "1/ 174 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات "14".

ص: 260

261

ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولاقصيدة إلا رواها"1.

وورد عن أبي عبيدة قوله: إن ابن دؤاد بن مُتَمِّم بن نُوَيرَةَ قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة، فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته، فلما فقد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمِّم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا أنه يفتعله"2.

وقد ينسب قوم شعرًا لشاعر، بينما ينسبه قوم لشاعر آخر، وقد يختلف في ذلك أهل البادية عن أهل الحاضرة، فقد روي مثلا أن أهل البادية من بني سعد يروون البيت:

تعدو الذئاب على من لا كلاب له

وتتقي مريض المستنفر الحامي

للزبرقان بن بدر، بينما يرويه غيرهم للنابغة. وقد ذكر الرواة، أن من المحتمل أن يكون الزبرقان استزاده في شعره كالمثل حين جاء موضعه لا مجتلبًا له، وقد تفعل ذلك العرب، لا يريدون به السرقة3. وقد حدث مثل ذلك في بيت شعر هو لأبي الصلت بن أبي ربيعة، هو:

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

بينما ترويه بنو عامر لنابغة الجعدي4.

ونسب:

وبعد غد، يالهف نفسي من غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

إلى هدبة بن خشرم، وعزاه آخرون إلى أبي الطمحان من

1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "8".

2 الْمُزْهِرُ "1/ 175"، ابن سلام، طبقات "14".

3 ابن سلام، طبقات "17".

4 ابن سلام، طبقات "17".

ص: 261

المخضرمين، ثرب الزبير بن عبد المطلب1.

وروي أن البيت:

الحمد لله لا شريك له

من لم يقلها فنفسه ظلما

وهو بيت ينسب إلى أمية بن أبي الصلت، وكان معروفًا عند حفظة الشعر مثل الحسن بن علي بن أبي طالب أنه له، إلا أن الرواة يذكرون أن النابغة الجعدي، قال للحسن:"يابن رسول الله، والله إني لأول الناس قالها، وإن السروق من سرق أمية شعره"2. وروي أيضًا أن البيت:

من سبأ الحاضرين مأرب إذ

يبنون من دون سيله العرما

هو من قصيدة للنابغة الجعدي، غير أن قسمًا من علماء الشعر يرويها لأمية بن أبي الصلت، وقسمًا آخر، كان متردًا، فقد ذكر أن راوية سأل خلف الأحمر عن القصيدة، فقال للنابغة، وقد يقال لأمية3. ويظهر من هذين المثلين، أن الرواة كانوا يخلطون بين شعري الشاعرين.

ومن ذلك نسبة الشعر الذي فيه:

دانٍ مسفٍّ فويق الأرض هيدبه

يكاد يدفعه من قام بالراح

فمن بنجوته كمن بعقوته

والمشتكي كمن يمشي بقرواح

إلى عبيد بن الأبرص، أو أوس بن حجر4.

ونسبة الشعر:

والشعر صعب وطويل سلمه

إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

إلى رؤبة وإلى الحطيئة5.

1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 274 وما بعدها".

2 ابن سلام، طبقات "27".

3 ابن سلام، طبقات "27".

4 الحيوان "6/ 132".

5 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".

ص: 262

ويقع من ذلك شيء كثير مذكور في كتب الشعر والأدب، وهو يدل على أن الشعر لم يكن مدونًا في بادئ أمره، وإنما كان يروى حفظًا، ولو كان قد أخذ من كتاب لما جاز عقلا وقوع مثل هذا الخطأ والاشتباه.

ويحدث أن شاعرين يصنعان قصيدتين من بحر واحد وروي واحد، فيختلط أمرهما على الرواة، يدخلون أبياتًا من هذه في تلك، فتختلط نسبة الأبيات1.

وقد وضع على لسان عدي بن زيد العبادي شعر كثير. وقد علل ابن سلام سبب ذلك بقوله: "كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فَلَان لسانُه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله أربع قصائد غرر وروائع مبرزات، وله بعده شعر حسن"2. وقد تكون للعصبية يد في هذا الوضع. فعدي من أهل الحيرة، وقد تعصب أهل الكوفة للحيرة، إذ انتقل أكثر أهل الحيرة إلى الكوفة فأقاموا بها، وتعصبوا لتأريخهم القديم، فلعل هذه العصبية هي التي حملتهم على وضع الشعر على لسانه لرفع شأن نصارى الحيرة في الشعر.

ومع اشتهار الحيرة بالكتابة، واشتهار عدي بها خاصة، إذ كان من كتاب كسرى بالعربية، فإننا لم نعثر على خبر يفيد أن الرواة أخذوا شعر عدي عن ورقة جاهلية، أو ديوان جاهلي مدون. ولو كان لعدي ديوان مدون، لما وقع في شعره ما قاله ابن سلام.

وقد يسأل سائل: كيف يعقل أن يضع شاعر مثل حمّاد الراوية شعرًا فخمًا جزلا يستعز به ثم ينسبه إلى الجاهليين ولو نسبه إلى نفسه لكان اليوم فخرًا له ولعد من أكابر الشعراء فأقول: كان طلب آل مروان للشعر الجاهلي شديدًا. وهذا ما صيَّر رواية الشعر من الحرف النافعة التي كانت تدر أرباحا طيبة لأصحابها تزيد على الأرباح التي يحصل عليها الشاعر من شعره. وقد كسب حماد من حرفته هذه مالا حسنًا. غير أن الإلحاح في طلب هذا الشعر والإغراء الذي أبداه عشاقه للرواة، أفسد الرواة، وحملهم على وضع الشعر وحمله على القدماء للحصول على الأجر، ولنيل الحظوة، ولإظهار العلم وسعة الحفظ. وقد زاد في هذا الوضع

1 الحيوان "6/ 132"، "حاشية رقم3".

2 ابن سلام، طبقات "31".

ص: 263

المنافسة الشديدة التي كانت بين الرواة، فخلقت هذه الظروف وأمثالها شعرًا جديدًا منحولا حسب على ملاك شعر الجاهليين.

ونجد في ثنايا كتب الأدب وفي كتب الشعر أشعارًا كثيرة منحولة وضعت قديمًا على ألسنة الجاهليين، وضعت لأن الناس كانوا يومئذ في شوق عظيم وتعطش إلى سماع أشعار من قبلهم، كانوا يقبلون عليها أكثر من إقبالهم على شعر معاصريهم من الشعراء، ويجزلون له العطاء أكثر من إجزالهم لسماع شعر شاعر معاصر، إلا ما قد يكون منه في المدح والذم. وكان ربح الراوية القدر المتبحر بالشعر الجاهلي المتجر به العارف بنظم الشعر لا يقل عن ربح الشاعر العظيم إن لم يزد عليه في أكثر الأحيان. والعادة أن مكافأة الشاعر المعاصر على شعر، لا تكون إلا في أمور لها صلة بالمجتمع، مثل المدح والهجاء والهزل والاستخفاف والتضحيك، أما في غير ذلك فتقديره إلى العلماء وأصحاب الذوق، وهم لا يثيبون على هذه الأمور إلا قليلا، ولهذا يكون تقدير الشاعر الذي لا يمدح ولا يهجو ولا يتقرب لأحد بالأمور المذكورة، بعد موته في الغالب، فلا ينال مثل هذا الشاعر من العيش ما يكفيه. ثم إن الراوية مطلوب في كل وقت، مرغوب فيه، وسوقه رائجة. فإذا غنت مغنية بيتًا قديمًا، أراد السامعون معرفة صاحبه، وأكثر الناس خبرة بأصحاب الشعر القديم هم الرواة، وهم قلة، لما يجب أن يكون في الراوية من خصائص تجعله من نوادر الرجال. فالذكاء الخارق، والعلم بالشعر وبأساليبه، والتمكن من العربية بمفرداتها وبلهجاتها وبالقبائل وبأيام العرب وبأمثال ذلك، هي من اللوازم التي لا تتهيأ لكل إنسان، ولذلك لم يكن أمثال هؤلاء الرواة إلا أفرادًا نص العلماء على أسمائهم نصًّا. وقد نالوا في أيامهم شهرة لم تكن أقل منزلة من شهرة أفذاذ الشعراء، وقد تدرب عليهم فحول الشعراء، وتخرج من مدرستهم أعاظم شعراء العرب في الإسلام. فرواية الشعر إذن وحفظه وصنعه، لم تكن حرفة سهلة يسيرة، ولا منزلة صغيرة بالنسبة إلى منزلة الشاعر، إنها لا تقل في السمو عن أرفع منزلة وصل إليها الشعراء في ذلك العهد. ولم يقل دخل الراوية من عطايا الملوك وهداياهم بأقل من دخل الشاعر، إن لم يزد عليه في بعض الأحيان، ولهذا فليس بغريب إذا ما رأينا الشاعر ينسب شعره للجاهليين، ويرويه على أنه من شعر شاعر جاهلي قديم، ولا ينسبه لنفسه.

وآفة ما تقدم عدم التدوين والتقييد، ولو كان الشعر مدونًا في صحف وكتب،

ص: 264