الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد
مدخل
…
الفَصْلُ الثَّامِنُ وَالأَرْبَعونَ بَعْدَ المائة: الْقَرِيضُ والرَّجَزُ والقَصِيدُ
ويقال للشعر: القريض وهو الاسم كالقصيد، والقرض: قول الشعر خاصة، والتقريض صناعته. وقد فرَّق الأغلب العجلي بين الرَّجز والقَرِيض بقوله:
أرجزًا تريد أم قريضًا؟
…
كليهما أجدُ مستريضا1
وقد ورد أن أصحاب رسول الله كانوا يتقارضون، أي يقولون القريض وينشدونه. وورد أن المنذر ملك الحيرة حين أراد قتل عبيد بن الأبرص قال له: أنشدني من قولك، فقال عبيد: حال الجريض دون القريض، فذهب قوله مثلا2. و "قال النحاس: القريض عند أهل اللغة العربية الشعر الذي ليس برجز"3.
ويلاحظ أن العرب وإن قالوا: "نظمت الشعر ونظمته"، وقصدوا
1 اللسان "7/ 218 وما بعدها.
أرجزًا تريد أم قصيدًا
لقد طلبت هينًا موجودا
الأغاني "14/ 97"، تاج العروس "5/ 75"، "قرض".
2 اللسان "7/ 218 وما بعدها". "قرض"
3 العمدة "1/ 184".
بالنظم الشعر، وعرفوا الشعربأنه "منظوم الكلام"1، غير أنهم كانوا يقولون أيضًا:"قال شعرًا"، و"هو يقول الشعر"، وفي القرآن:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُون} 2، و {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 3. ويقولون: قول شاعر.
والشعر في تعريف علمائه: "منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية"، وهو "الكلام المقفى الموزون قصدًا"4، ومن صيروا الكلام نوعين: كلام منظوم، وكلام منثور. والفرق بينهما هو في وجود الوزن والقافية في الشعر، وفي عدم وجودهما في الكلام المنثور. وتوجد هذه النظرة عند أفلاطون، وفيتاغورس، وهي تختلف بعض الاختلاف عن رأي أرسطو في الشعر5.
"وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزًا أو قطعًا، وأنه إنما قُصِّد على عهد هاشم بن عبد مَنَاف، وكان أولَ من قصَّده مهلهلُ وامرؤُ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونَيِّف وخمسون سنة. ذكر ذلك الجمحي وغيره. وأول من طول الرجز وجعله كالقصيد الأغلب العجلي شيئًا يسيرًا، وكان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتى العَجَّاج فافتَنَّ فيه فالأغلب العجلي والعجاج في الرجز كامرئ القيس ومهلهل في القصيدة"6.
والقصيدة من الشعر ما تمَّ شطر أبياته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه. قال ابن جني: "سمي قصيدًا لأنه قصد واعتمد وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه نحو الرَّمَل والرَّجَز شعرًا مرادًا مقصودًا. وذلك أن ما تَمَّ من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدمًا في أنفسهم مما قصر واختلَّ، فسموا ما طال ووفر قصيدًا، أي مرادًا مقصودًا، وإن كان الرمل والرجز أيضًا مرادين مقصودين،
1 اللسان "0/ 578".
2 [الحاقة، الآية 41] .
3 [الشعراء، الآية 224 وما بعدها] .
4 اللسان "4/ 410"، "شعر". الصاحبي "273"، إرشاد السَّاري "9/ 88".
5 إنحليزي
6 بلوغ الأرب "3/ 83"، العمدة "1/ 89 وما بعدها"، طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
والجمع قصائد"1. وذكر علماء الشعر: "سمي الشعر التام قصيدًا، لأن قائله جعله من باله قصدًا ولم يحتسه حسيًا على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل روَّى فيه خاطره واجتهد في تجويده، ولم يقتضبه اقتضابًا، فهو فعل من القصد". "وقالوا شعر قصيد إذا نُقِّح وجوِّد وهذِّب"2. جاء في قول شاعر:
قد وردت مثل اليماني الهزهاز
…
تدفع عن أعناقها بالأعجاز
أعيت على مقصدنا والرُّجَّاز
يقال: أقصد الشاعر وأرمل وأهزج وأرجز، من القصد والرمل والهزج والرجز3.
والرجز عند العرب كل ما كان على ثلاثة أجزاء، وهو الذي يترنمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به. هذا هو تعريفه عند بعض العلماء. وعرفه بعضهم: أنه بحر من بحور الشعر معروف ونوع من أنواعه يكون كل مصراع منه مفردًا، وتسمى قصائده أراجيز، واحدتها أرجوزة، وهي كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، ويسمى قائله راجزًا كما يسمى قائل بحور الشعر شاعرًا. وعرَّفه آخرون أنه الشعر ابتداء أجزائه سَبَبَان ثم وَتِد، وهو وزن يسهل في السمع ويقع في النفس4. وذكر أن كل شعر تركب تركيب الرجز سمي رجزًا5. والرجز في الوقع سجع موزون. ونجد شبهًا في التوراة، حيث ورد على ألسنة الحكماء العبرانيين في سِفْر الأمثال6 وعلى لسان بلعام الحكيم7، الذي جعله بعض العلماء لقمان الحكيم المذكور في القرآن.
1 تاج العروس "2/ 467".
2 المصدر نفسه "2/ 468".
3 تاج العروس "2/ 466".
4 اللسان "5/ 350 وما بعدها"، "رجز"، البيان والتبيين "2/ 184"، "1313"، العمدة "1/ 121 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "186".
5 اللسان "5/ 351".
6 الأمثال، الإصحاح 21، الآية 27 وما بعدها.
7 العدد، الإصحاح 22، الآية 5 وما بعدها.
وذكر بعض العلماء أن الرجز إنما سمي رجزًا لأنه تتوالى فيه في أوله حركة وسكون ثم حركة وسكون إلى أن تنتهي أجزاؤه، يشبه بالرجز في رجل الناقة ورعدتها، وهو أن تتحرك وتسكن ثم تتحرك وتسكن1، وقيل سمي بذلك لتقارب أجزائه واضطرابها وقلة حروفه، وقيل لأنه صدور بلا أعجاز. وقيل الرجز ضرب من الشعر معروف وزنه:"مُسْتَفْعِلُنْ" ست مرات، فابتداء أجزائه سببان ثم وتد، ولذلك جاز أن يقع فيه المشطور وهو الذي ذهب شطره، والمنهوك، وهو الذي قد ذهب منه أربعة أجزاء وبقي جزءان2. وذهب بعض العلماء إلى أن الرجز ثلاثة أنواع غير المشطور، والمنهوك، والمقطع3.
وهو تام ومختصر. والمختصر أنواع: المجزوء والمشطور والمنهوك. وذكر أن الذي جرى على لسان الرسول من الرجز ضربان: المنهوك والمشطور4.
والأرجوزة القصيدة من الرجز، وهي كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، والجمع أراجيز. ويسمى قائله راجزًا ورجَّازًا، ورجازة، ومرتجز5.وقد فرق علماء الشعر بين الشاعر والراجز، فأطلقوا لفظة "الشاعر" على من ينظم الشعر، أي "القصيدة"، وأطلقوا كلمة "الراجز" على من يرتجز الرجز. فنجدهم يقولون: الأغلب الراجز، والعجاج الراجز، وأبو الزحف الراجز ودكين الراجز وغيرهم6.
وقد اختلف العلماء في طبيعة الرجز، فمنهم من جعله شعرًا صحيحًا، وضربًا من الشعر، معروف وزنه، ومنهم من جعله صنفًا من أصناف الكلام قائمًا بنفسه ليس بشعر، ولا بسجع، وإنما مجازه مجاز الشعر. ونسب إلى الخليل قوله: الرجز شعر صحيح في رواية، وقوله: إنه ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث في رواية أخرى7. ومردُّ اختلافهم فيه هو ما ورد على لسان الرسول من الرجز المنهوك والمشطور، وما ورد في القرآن الكريم من قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاه
1 اللسان "5/ 351"، "رجز".
2 تاج العروس "4/ 36"، "رجز".
3 العمدة "1/ 182".
4 اللسان "5/ 351".
5 تاج العروس "4/ 37"، "رجز".
6 الشعر والشعراء "2/ 493، 508، 511، 578".
7 تاج العروس "4/ 36"، "رجز"، اللسان "5/ 350"، "رجز".
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} 1، و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وما ورد في كتب الحديث والأخبار من أن الرسول لم يكن ينشد الشعر ولا يقوله وينظمه، لأنه لم يكن شاعرًا وما كان له أن يقوله، وأنه إذا استشهد بالشعر، لم يقمه على وزنه، وإنما كان ينشد الصدر أو العجز، ثم يجيء بالنصف الثاني على غير تأليف الشعر، لأن نصف البيت لا يقال له شعر ولا بيت، ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعر، لقيل لجزء منه شعر. وقد جرى على لسان النبي: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. فلو كان شعرًا لم يَجْرِ على لسانه3. وجاء على لسانه.
هل أنت إلا أصبعٌ دميت
…
وفي سبيل الله ما لقيت4
فالرجز إذن ليس بشعر.
وقد رد من يقول إن الرجز شعر على قول من يقول إنه ليس بشعر، بقوله:"معنى قول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاه الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، أي لم نعلمه الشعر فيقوله ويتدرب فيه حتى ينشئ منه كتبًا، وليس في إنشاده صلى الله عليه وسلم البيت والبيتين لغيره ما يبطل هذا لأن المعنى فيه أنا لم نجعله شاعرًا"5، مطبوعًا على نظم الشعر وقوله، ولهذا فلا صلة لموضوع أصل الرجز، هل هو نوع من الشعر، أو ليس بنوع منه مع ما جاء من نفي الشعر عن الرسول.
وورد في الحديث، أن الرسول كان يرتجز برجز عبد الله بن رواحة الأنصاري، الشاعر النقيب، وهو ينقل التراب يوم الخندق ويقول:
1 [سورة يس، الآية: 69] ، تفسير الطبري "23/ 18"، تفسير الآلوسي "23/ 43".
2 [الحاقة، الآية: 40 وما بعدها] ، تفسير الطبري "29/ 41"، تفسير الآلوسي "29/ 52".
3 تاج العروس "4/ 36"، "رجز"، إرشاد الساري "9/ 88"، اللسان "5/ 350"، "رجز".
4 العمدة "1/ 185".
5 تاج العروس "4/ 36 وما بعدها"، "رجز"، اللسان "5/ 350 وما بعدها"، تفسير القرطبي "15/ 52 وما بعدها".
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأعداءَ قد بغوا علينا
…
إذا أرادوا فتنة أبينا1
ورويت الأبيات بصورة أخرى. فقد رُوي أنه "لما خرج عامر بن الأكوع إلى خيبر جعل يرجز بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسوق به الركاب، وهو يقول:
تا الله لولا الله ما اهتدينا
…
وما تصدقنا ولا صلينا
الكافرون قد بغوا علينا
…
إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا
…
فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا2
وموضوع أصل الرجز إذن موضوع ظهر في الإسلام، لما ورد في الأخبار من ارتجاز الرسول بعض الرجز، ولما ورد في القرآن الكريم وفي الحديث من نفي قول الشعر ونظمه عنه. فرأي فريق من العلماء إخراج الرجز من الشعر، لما بينته من أسباب. ورأي فريق آخر، أن الرجز جزء من الشعر، وأن ارتجاز الرسول الرجز، لا يتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم، لأن الرسول لم يتدرب عليه ولم يتعلمه ولم ينشأ منه أراجيز، وإنما ارتجز منه قليلا من غير قصد ولا عمد، ولا علاقة لذلك بالانكباب على تعلم الشعر والتخصص به. والدليل على أن الرجز نوع من أنواع الشعر، هو ما يرويه أهل الأخبار أنفسهم من أن قريشًا اجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة وكان ذا سن فيهم، ليتدبروا أمر الناس إذا حضر الموسم، ولإيجاد جواب موحد لهم في أمر القرآن وفيما يجب قوله فيه. فلما قالوا هل: نقول إنه قول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه
1 إرشاد الساري "5/ 157"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 286 وما بعدها".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 287".
ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر"1. فالرجز -إن صح هذا الخبر- هو مثل الهزج والقريض والمقبوض والمبسوط صنف من أصناف الشعر، ولون من ألوانه، ومن هذه الأصناف المذكورة تكون الشعر في نظر الجاهليين.
فالرجز إذن صنف من أصناف الشعر، وبحر من بحوره، له وزن وإيقاع، هكذا كانت نظرة أهل الجاهلية إليه. وهو في الواقع شعر. و"الرجاز شعراء عند العرب وفي متعارف اللسان"2.
"وليس يمتنع الرجز على المقصد امتناع القصيد على الراجز، ألا ترى أن كل مقصد يستطيع أن يرجز وإن صعب عليه بعض الصعوبة، وليس كل راجز يستطيع أن يقصد، واسم الشاعر وإن عمَّ المقصد والراجز فهو بالمقصد أعلق، وعليه أوقع، فقيل لهذا شاعر، ولذلك راجز، كأنه ليس بشاعر، كما يقال خطيب أو مرسل أو نحو ذلك"3.
ولسهولة الرجز على اللسان لم ينظر إليه نظرة إكبار مثل نظرتهم إلى الشعر، هذا أبو العلاء المعري، يجعل جنة الشعراء جنة سامقة، لها بيوت عالية، أما جنة الرجز، فجنة أبياتها ليس لها سموق أبيات الجنة، جُعل فيها: أغلب بني عجل، والعجاج، ورؤبة، وأبو النجم، وحميد الأرقط، وعُذافر بن أوس، وأبو نخيلة، ثم يقول:"تبارك العزيز الوهاب! لقد صدق الحديث المروي: "إن الله يجب معالي الأمور ويكره سفاسفها". وإن الرجز لمن سفساف القريض، قصرتم أيها النفر فقصر بكم"4.
ويعد الرجز من أقدم أنوع الشعر، ومن أبسطه وأيسره على الإنسان، ثم هو خفيف على النفس، فيه طرب وتأثير، وهو مطاوع يؤدي أغراضًا مختلفة، ويصلح لأن يعبر عن أحاسيس متنوعة، حتى يكاد أن يكون مطية الشعراء، يركبها كل من له طبع وذوق وحس مرهف، ومن هنا صار شعر من كان لا يقول الشعر أو لا يحضره إلى في الملمات والأزمات.
1 الروض الأنف "1/ 173"، اللسان "5/ 350".
2 العمدة "1/ 185".
3 العمدة "1/ 186".
4 رسالة الغفران "373 وما بعدها".
وهو في نظري أقدم من القصيد، لأنه أبسط منه وأسهل على النظم، فهو يمثل المرحلة الأولى من مراحل الشعر المألوف. وقد تكون سهولته في النظم، هي التي جعلت كبار الشعراء يأنفون من النظم به، فهو باب يمكن أن يلجه الشعراء الصغار، وربما يتغلبون به على كبار أهل القصيد، ولعل سهولته هذه قصرت في عمره، إذ جعلت الذاكرة تنساه بسرعة، لسهولته هذه، كما يسرع نسيان السجع والكلام الاعتيادي من الذاكرة فضاع بسبب ذلك الرجز الجاهلي، ولم تبق منه غير بقية قليلة.
واستعمل الرجز في أحوال البديهة والارتجال، وقد ارتجز في القتال، وفي الحداء والمفاخرة، وما جرى هذا المجرى، واستعمل في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وإثارة همم، لما فيه من ملاءمة لذلك. فلما بنى المسلمون مسجد الرسول بالمدينة، وكان الرسول يحمل اللَّبن معهم، كان الصحابة يرتجزون الرجز لإثارة الهمم وللتخفيف من وطأة العمل. قال "أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد. فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء. وقال غيره: أول من طوَّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم، وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحًا، لأنه إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك"1.
وبعد "الأغلب بن جشم بن عمر بن عبيدة بن حارثة العجلي" أول من نحا بالرجز منحى القصيد، فأسبغه وأطاله. وهو من المخضرمين. وقد قتل بنهاوند سنة "21هـ". وهو الذي جاء إلى "المغيرة بن شعبة"، فقال له:
أرجزًا تريد أم قصيدًا
…
لقد طلبت هينًا موجودا
وكان الخليفة "عمر" -على ما يذكره أهل الأخبار- كتب إلى المغيرة وهو
1 العمدة "1/ 89 وما بعدها"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "18/ 164".
على الكوفة أن استنشد من قبلك من الشعراء عما قالوه في الإسلام مكان الشعر، فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه أن أنقص من عطاء الأغلب خمسمائة فزدها في عطاء لبيد1.
وروي أن العجاج، وهو عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف بن عمرو أبو الشعثاء التميمي، والد الشاعر رؤبة، هو أول من رفع الرجز وشبهه بالقصيد، وجعل له أوائل2. وهو من شعراء الإسلام، وكان يفد على ملوك بني أمية من أمثال الوليد بن عبد الملك3، وسليمان بن عبد الملك4.
وهو قليل الورود في شعر الشعراء الجاهليين، فقلما استعمل "نوابغ الشعراء في زمان الجاهلية" الرجز، كأنه ليس أهلا لمنزلتهم. ففي ديوان امرئ القيس لا نعثر إلا على أربع مقطعات صغيرة منه. أعني اثنتين من المشطور واثنتين من غير المشطور. وأكثر من امرئ القيس ارتجازًا لبيد بن ربيعة من الذين أدركوا الإسلام تنسب إليه خمس عشرة مقطعة في الرجز المشطور، تدور على المفاخرة والحكمة والمعاتبة والمديح والرثاء، وتشتمل إحداهما وهي أطولها على ستة عشر بيتًا.
أما دواوين النابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وعلقمة الفحل، فلا شيء فيها من الرجز. وعلى كل حال لم يكن الارتجاز في زمان الجاهلية إلا بصفة قطع صغيرة يقولها الناس غالبًا في الهجاء أو في الحرب وعند اللقاء. أما في القرن الأول للهجرة، فأخذ بعض الشعراء من الفحول ينظمون الشعر في ذلك البحر المحتقر فإلى هذا التغير أشار ابن رشيق القيرواني في كتاب العمدة حين قال: قال أبو عبيدة إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك إذا حارب أو شاتم أو فاخر حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده ونسب فيه وذكر الديار واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها
1 المؤتلف والمختلف "22"، طبقات الشعراء "148 وما بعدها"، الأغاني "18/ 164 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 225"، الشعر والشعراء "2/ 511"، الإصابة "1/ 71"، "رقم 225"، الخزانة "1/ 223"، أسد الغابة "1/ 105".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 49".
3 بروكلمن "1/ 226".
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاء "2/ 493".
وبَكَى على الشباب ووصف الراحلة كما فعلت الشعراء بالقصيد، فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء، وقال غيره أول من طوَّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم. وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحًا، لأنه إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك.
ولكن لا شك في وقوع سهو في آخر كلام ابن رشيق، لأنه من الواضح أن الجمحي إنما أراد بقوله استعمال بحر الرجز في نظم الشعر مثل القصائد، فليس من الممكن أن رجلا عالمًا بتأريخ الشعر ودقائقه مثل الجمحي جهل ما هو متداول عند كل العلماء أن الرجز من أقدم فنون الشعر عند عرب الجاهلية. وقول الجمحي صواب تؤيده عدة نصوص منها شهادة العجاج من أشهر شعراء الأراجيز الذي قال مفتخرًا:
وإن يكن أمسي شبابي قد حسر
…
وفترت مني البواني وفتر
إني أنا الأغلب أضحى قد نشر
يعني أنه أحيا طريقة شعر الأغلب. وهو الأغلب بن جشم العجلي عاش في الجاهلية مدة وأدرك الإسلام وأسلم وله شعر في سجاح لما تزوجت مسيلمة الكذاب"1.
والهزج نوع من أعاريض الشعر، من الأغاني وفيه ترنم2. وهو باب معروف من أبواب الشعر عند الجاهليين، كباب الرجز، بدليل جعل الوليد بن المغيرة إياه صنفًا من أصناف الشعر. وقد عرف من كان يقول الهزج بالهزاج. وأهزج إذا هزج الهزج، أي قال به. والهزاجون طبقة امتازت عن غيرها بقولها الهزج، وكانوا يرددونه ترديد الغناء، ولذلك عد من الأغاني، وقالوا: الهزج صوت مطرب. قيل سمي بذلك تشبيهًا بهزج الصوت، وقيل لطيبه لأن الهزج من الأغاني3. فهي إذن من الشعر الغنائي "Lyric"
1 كارلو ناليو، تأريخ آداب اللغة العربية "186 وما بعدها".
2 اللسان "2/ 390 وما بعدها"، "هزج".
3 تاج العروس "2/ 116"، "هزج".
وقد استعمل العرب الهزج في أناشيد التنشيط للقتال، وفي المناسبات العامة، مثل الأفراح، والتجمعات، حيث يترنم القوم جماعةً بأنغام الهزج، فالهزج شعر مقرون بغناء وترنيم.
والرَّمَل من الشعر كل شعر مهزول غير مؤتلف البناء. قال بعض العلماء عنه: "وأما الرمل فإن العرب وضعت فيه اللفظة نفسها، عبارة عندهم عن الشعر الذي وضعه أهل الصناعة، لم ينقلوه نقلا علميًّا ولا نقلا تشبيهيًّا. وبالجملة فإن الرمل كل ما كان غير القصيد من الشعر وغير الرجز"1. وقد أخذ علماء العروض اللفظة والمعنى كما سمعوها من العرب ولم يحدثوا عليهما أي تغيير. مما يدل على أنه كان من الأبواب المميزة المعروفة عند الجاهليين. وذلك مثل الرجز والقصيد2، والمقبوض والمبسوط، على نحو ما ذكرت قبل قليل.
وأما "القصيد" من الشعر، فما تم شطر أبياته أو شطر أبنيته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه. سمي قصيدًا لأنه قصد واعتمد، وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه نحو الرمل والرجز شعرًا مرادًا مقصودًا، وذلك أن ما تم من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدمًا في أنفسهم مما قصر واختل، فسموا ما طال ووفر قصيدًا، أي مرادًا مقصوداً، وإن كان الرمل والرجز أيضا مرادين مقصودين3. وقيل "القصيد من الشعر المنقح المجود المهذب الذي قد أعمل فيه الشاعر فكرته ولم يقتضبه اقتضابًا كالقصيدة"4.
والقصيد، جمع القصيدة، وقيل: الجمع قصائد وقصيد. سمي قصيدًا لأن قائله احتفل له فنقحه باللفظ الجيد والمعنى المختار، وقالوا: سمي الشعر التام قصيدًا لأن قائله جعله من باله فقصد له قصدًا ولم يحتسه حسيًا على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل روى فيه خاطره واجتهد في تجويده ولم يقتضبه اقتضابًا5. ويقال قصد الشاعر وأقصد، إذا أطال وواصل عمل القصائد. والذي في العادة أن يسمى ما كان على ثلاثة أبيات أو عشر أو خمس عشرة قطعة، فأما ما زاد
1 اللسان "11/ 296"، تاج العروس "7/ 351"، "رمل".
2 اللسان "11/ 296".
3 اللسان "3/ 354"، "قصد"، تاج العروس "2/ 467"، "قصد".
4 تاج العروس "2/ 468".
5 اللسان "3/ 354"، "قصد".
على ذلك فإنما تسميه العرب قصيدة1. "وقيل: إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة، ولهذا كان الإيطاء بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس. ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوزها ولو ببيت واحد. ويستحسنون أن تكون القصيدة وِترًا، وأن يتجاوز بها العقد، أو توقف دونه"2. فالقصيدة إذن كلمة طويلة بالنسبة إلى القطعة فيها وحدة أطول هي وحدة القصيدة، التي تعرف بفتافيتها3. ويعبر عنها بلفظة "كلمة" "الكلمة" مجازًا، كما عبر عنها في المؤلفات القديمة4.
وينسب إلى الأخفش قوله: "القصيد من الشعر هو الطويل، والبسيط التام، والكامل التام، والمديد التام، والوافر التام، والرجز التام، والخفيف التام، وهو كل ما تغنى به الركبان، ولم نسمعهم يتغنون بالخفيف"5. و"القصد" مواصلة الشاعر عمل القصائد وإطالته كالإقصاد. قال الشاعر:
قد وردت مثل اليماني الهزهاز
…
تدفع عن أعناقها بالأعجاز
أعيت على مقصدنا والرجاز6.
وكلمة "قصيدة" من الكلمات المستعملة في الشعر الجاهلي. جاء أن أحد شعراء "بكر بن وائل" سخر من تغلب لما كانت تتباهى به من ترديدها لقصيدة شاعرها عمر بن كلثوم في مدح نفسه وقومه، فقال:
ألهي بني تغلب عن كلمة مكرمة
…
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدًا مذ كان أولهم
…
يا للرجال لشعر غير مسئوم7
وورد في شعر للمسيب بن علس قوله:
فلأهدين مع الرياح قصيدة
…
مني مغلغلة إلى القعقاع8
1 اللسان "3/ 355"، تاج العروس "2/ 467"، "قصد".
2 العمدة "1/ 189".
3 بروكلمن "1/ 58".
4 الآمدي، المؤتلف "106"، ابن سلام، طبقات "27"، ابن سعد "3/ 176".
5 تاج العروس "2/ 467"، "قصد".
6 تاج العروس "2/ 466"، "قصد".
7 الأغاني "11/ 54".
8 الْمُفَضَّلِيَّات "62".
فاللَّفظة إذن من الألفاظ التي استعملها الجاهليون، بمعناها المفهوم. وقد بحث في أصلها علماء اللغة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب1. وللمستشرقين كلام في أصلها وفي معناها. ذهب بعض منهم إلى أنها من القصد والغرض، وأنها قيلت في شعر الطلب أولا، ثم أطلقت على كل شعر آخر، ولهذا اقترح بعضهم ترجمتها بشعر الطلب أو شعر التسول، وعارض هذا التفسير بعض آخر، لأن التسول في رأيهم لم يكن الغرض الأول من نظم الشعر، وإنما كان غرضًا من أغراضه، ثم إن أقدم الشعراء الذين قصدوا القصائد لم يكونوا من الشعراء المتسولين، وإنما كانوا من المترفعين المتعالين، ولهذا رفضوا تفسير القصيد بشعر التسول والطلب1، وقال "بروكلمن":"إن صح أن لفظ القصيد بعيد القدم، فمن الممكن أن يكون الغرض والقصد بحسب الأصل غرضًا من أغراض السحر، وكثيرًا ما صار غرضًا سياسيًّا في وقت متأخر، ثم صار يستعمل بأوسع معاني الكلمة في جميع أغراض الحياة الاجتماعية، وإن كان من الحق أنه استعمل أيضًا منذ عهد قديم في أغراض أنانية محضة"2.
وتعرف القصيدة بالقافية كذلك. واستشهد العلماء على ذلك بقول الخنساء:
فنحكم بالقوافي من هجانا
…
ونضرب حين تختلط الدماء
وبقول آخر:
نبئت قافية قيلت تناشدها
…
قوم سأترك في أغراضهم ندبا
وذكروا أن القافية في قول حسان بن ثابت:
فنحكم بالقوافي من هجانا
…
ونضرب حين تختلط الدماء
قد تعني القصيدة، وقد تعني البيت منها. "قال الأزهري: العرب
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 59".
Goldziher، Historyof Classical Arabic Literature، p. 10.
2 بروكلمن "1/ 59".
تسمي البيت من الشعر قافية، وربما سموا القصيدة قافية، ويقولون رويت لفلان كذا وكذا قافية1. والقافية هي "ميقف" في العبرانية.
وأطلقت على القصيدة لفظة "كلمة"، وقد استعملها ابن سلام في مواضع من كتابه "طبقات الشعراء"، فتجده يقول:"ومن شعر حسان الرائع الجيد ما مدح به بني جفنة من غسان ملوك الشأم في كلمة"، ثم ذكر القصيدة، ثم يقول:"وقوله في الكلمة الأخرى الطويلة"2، و"قال في يوم أحد كلمة قال فيها"3، ويقول "وكان أبو الصلت يمدح أهل فارس حين قتلوا الحبشة في كلمة قال فيها"4، و"السموأل بن عادياء يقول في كلمة له طويلة"5، ووردت في مواضع عديدة أخرى بهذا المعنى وفي بقية كتب الشعر والأدب.
وتتألف القصيدة من أبيات. والبيت هو بيت الشعر6. ويتكون البيت من شطرين. والشَّطْرُ نصف الشيء. فشطر البيت نصفه7. والبيت في القصيدة الجاهلية وحدة معنوية مستقلة قائمة بذاتها، إذا انتزعت بيتًا منها، أو تركت بيتًا، أو قدمت فيها بيتًا على بيت، أو أخرت في أبياتها، فإنك لا تكاد تفصم عرى القصيدة ولا تؤثر على ترابط معناها في الغالب، لأن كل بيت منها وحدة قائمة بذاتها لا تتصل بما قبلها أو بما بعدها إلا بسبب الوزن والقافية.
وقد عرفت بعض الأبيات بالأوابد. والأوابد من الشعر: الأبيات السائرة كالأمثال8. وذكر أن الأوابد الشوارد من القوافي9، ورد في كتب اللغة: "ومن المجاز أبد الشاعر يأبد أبودًا، إذا أتى العويص في شعره. وهي الأوابد والغرائب وما لا يعرف معناه على بادئ الرأي"10.
1 تاج العروس "10/ 300"، "قفو".
2 "ص53، 54".
3 طبقات "58".
4 طبقات "66".
5 طبقات "71".
6 تاج العروس "1/ 530"، "بيت".
7 تاج العروس "3/ 298"، "شطر".
8 العمدة "2/ 185".
9 اللسان "3/ 69"، "أبد".
10 تاج العروس "2/ 286 وما بعدها"، "أبد".
وتكون القصائد طويلة في الغالب، أما القطع، فهي أقصر من القصيدة، وفيه كان "ابن الزبعري"، لا ينظم القصائد الطوال، ويميل إلى القطع، وكان عذره "أن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل". وللشعراء الطوال والقصار، كل حسب المناسبة1. وقد اختتمت بعض القصائد الجاهلية بالحكم والأمثال وبالأقوال المأثورة. وللقصائد الطوال المحبوكة حبكًا حسنًا، والمنظومة نظمًا جيدًا، سابقة وقدم على مثيلاتها من القصائد الوسط أو القصيرة، ومن هنا اختار حماد الراوية "السبع الطوال""السبع الطول" من الشعر الجاهلي، وزعم في أصلها ما زعم. ونظم القصيدة الطويلة، يحتاج إلى نفس طويل، وإلى تمكن من الشعر، وإلا أصابها الوهن والعجز، ومن هنا عد أصحاب المطولات الجيدة من أحسن الشعراء.
وقد ذهب "غرونباوم" إلى أن القصيدة العاشرة من القصائد المنسوبة إلى "عمرو بن قميئة"، ربما تكون أقدم قصيدة تامة وصلت إلينا من الشعر الجاهلي، "على أنها لم تكن بعد تفي بجميع مقتضيات النقاد النظريين، لأنها لا تشمل، في الأبيات التسعة عشر التي تلي النسيب، إلا على وصف سحابة ممطرة، ومدح رجل يدعى امرأ القيس بن عمرة. ولو أن هذه القصيدة تأخرت عن العصر، بوقت قصير، لاعتبرت أثرًا غثًّا. وليس السبب في ذلك أن عدد أبيات القصيدة من بعد قد ازداد إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف، أو بلغ أو جاوز المائة، وإنما هو في كثرة المشاهد التي حشدت حتى تحققت هذه المنظومات الرائعة. ومن شواهد ذلك قصيدتان للأعشى "حوالي 565- 629م" هما الأول والسادسة من ديوانه، وأولى قصائد أبي ذؤيب الهذلي "ت حوالي 650م"، وفيها تصوير لسلطة القدر المحتوم في ثلاثة مشاهد مؤثرة تمثل مصرع حمار الوحش القوي وثور الوحش الهائج، والفارس الشاكي السلاح المستجن بدرعه. وإذ كان الحافز لقول القصيدة هو وفاة ابن الشاعر، فقد جمعت هذه القصيدة جمعًا موفقًا بين مزايا المرثية وخصائص القصيدة"2.
وقد بلغ الشعر الجاهلي ذروته عند ظهور الإسلام. كان الشعراء في هذا العهد ينظمون القصيد ببحوره التي ضبطت وثبتت في الإسلام، في مقاصد أشرت إليها
1 العمدة "1/ 186 وما بعدها".
2 غرونباوم "139".
في موضع آخر من هذا الجزء من الكتاب، كما كانوا قد طوروا الرجز وتفننوا فيه. وقد أدى ظهور الإسلام إلى إحداث تغير في نمط نظم القصائد، لأن الإسلام حدث تأريخي جاء برأي في شئون الحياة جديد، فكان لا بد للشعراء من مجاراة هذا التيار الفكري، لا سيما بعد خروج العرب من جزيرتهم وانتشارهم في أرضين جديدة غنية، وحكمهم لأقوام كانت لهم حضارة، فكان لا بد من تأثر النفس بالوضع الجديد، والشعر تعبير عن النفوس والأحاسيس.
والقافية من الشعر الذي يقفوا البيت، سميت قافية لأنها تقفوه، أو لأن بعضها يتبع أثر بعض. وقيل: هي آخر كلمة في البيت، أو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، وهو المسمى رويًّا. وعرف الخليل القافية بقوله:"القافية من آخر حرف ساكن فيه، أي في البيت، إلى أول ساكن يليه مع الحركة التي قبل الساكن"1. وأرى أن هذا التعريف قد أخذه الخليل من أهل الكتاب. فالقافية بهذا التعريف تقابل Maqqeph "مقف""مقيف" عند العبرانيين2، و"المقيفات" هي التي تحدد الشعر، وتجعل من الكلام المؤلف من "مقيفات" شعرًا، ولا يستبعد استعمال الجاهليين لهذا المصطلح استعمال العبرانيين والسريان له، لما دوَّن الخليل علم العروض أخذ هذا المصطلح منهم، ودليل ذلك ورود لفظة "قافية" و"القوافي" في الشعر قبل أيام الخليل3، ثم اختلاف العلماء وتباين آرائهم في معنى القافية4.
ويذكر أهل الأخبار أن مهلهل بن ربيعة، وهو خال امرئ القيس الشاعر، وجد عمرو بن كلثوم هو أول من قصد القصائد. وقد قال الفرزدق فيه:
ومهلهل الشعراء ذاك الأول5
فهو أول شعراء القصائد، وهو متقدم على امرئ القيس.
1 تاج العروس "10/ 300"، "قفو".
2 Hastings، p، 737.
3 تاج العروس "10/ 300"، "قفو".
4 نزهة الجليس "1/ 120".
5 العمدة "87"، الشعر والشعراء "164".
ويرى "فون غرونباوم" أن الشعراء حرصوا منذ حوالي السنة 500م على التصريع في المطلع، ثم التزام قافية واحدة في جميع أبيات القصيدة، من أولها إلى آخرها، بحيث يسوغ القول: إن القافية الواحدة أدل على وحدة القطعة الشعرية من المعاني الواردة فيها.
"ويتجلى في أقدم المحفوظ من الشعر العربي تنويع عظيم في الوزن، وصقل بارع في التعبير اللغوي. وهذا يعني أنه كان قد نشأ، قبل ذلك، مذهب شعري ينص على التنويع والصقل المشار إليهما. وأخذت الأقطار المختلفة تؤثر أوزانًا مختلفة، ويكاد يكون من المرجح أن الفرس قد تركوا، في شعر الأقدمين من شعراء العراق، تأثيرًا بالغًا في الطريقة الفنية. فهنالك وزنان على الأقل، امتاز بهما هؤلاء الشعراء هما الرمل والمتقارب، وربما زدنا إليهما الخفيف. ويبدو أنها جميعًا اقتبست من أصول فارسية بهلوية، وحورت بما يلائم الأوضاع العربية.
وربما كان للسريان فضلٌ ما في وضع المصطلحات الفنية الأولى مثل كلمة "البيت" أي "الخيمة" لتدل على الوحدة الجزئية من القصيدة. لكن كان لنظرية الفن العروضي، على العموم نشأة مستقلة، فالخليل بن أحمد "ت175هـ- 791م"، وضع قواعد العروض العربي بعد ذلك بزمن طويل، وقد بقيت قواعده معتمد الأدباء عبر القرون. فقد أقر الخليل ستة عشر وزنًا، واطرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها. ثم إنه جرى على طريقة، جرى عليها النحاة من بعد في الرمز إلى صيغة اللفظة، فأشار إلى وحدة الإيقاع الشعري بصيغة مشتقة من فعل"1.
وقد تكلف الناس كثيرًا، وحملوا أنفسهم حملا ثقيلا، باعتذارهم عن أمور متكلفة وردت في شعر زعم أنه كان للقدماء من الشعراء، فالتصريع مثلا، إذا كثر استعماله في القصيدة دل في نظر العلماء بالشعر على التكلف، إن كان من المحدثين، أما إذا كان من المتقدمين، لا يعد متكلفًا في نظرهم، واعتذروا عنه بأنه جرى على عادة الناس، لئلا يخرج عن المتعارف. ومن هذا القبيل التصريع المنسوب إلى امرئ القيس:
1 غرونباوم "134 وما بعدها".
تروح من الحي أم تبتكر
…
وماذا عليك بأن تنتظر
أمرخ خيامهم أم عشر
…
أم القلب في إثرهم منحدر
وشاقك بين الخليط الشطر
…
وفيمن أقام من الحي هر1
ونسبوا إلى امرئ القيس "المسمط" من الشعر. والشعر المسمط الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة، وتجمعها قافية مخالفة لازمة للقصيدة حتى تنقفى. وقيل: أبيات مشطورة تجمعها قافية واحدة، وهو الذي يقال له عند المولدين "المخمس". ومن أنواعه المسبع والمثمن، وقيل المسمط من الشعر أبيات تجمعها قافية واحدة مخالفة لقوافي الأبيات. وقيل المسمط من الشعر ما قفي أرباع بيوته وسمط قافية مخالفة. يقال: قصيدة مسمطة وسمطية. ومن الشاعر المسمط المنسوب إلى امرئ القيس قوله:
ومستلثم كشفت بالرمح ذيله
…
أقمت بعضب ذي سفاسق ميله
فجعت به في ملتقى الخيل خيله
…
تركت عتاق الطير تحجل حوله
كأن على أثوابه نضح جريال
ونسب له قوله:
توهمت من هند معالم أطلال
…
عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصايف
…
يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف
…
وكل مسف ثم آخر رادف
بأسحم من نوء السماكين هطال2
وتعرض المعري للتسميط في رسالة الغفران، حين التقى بامرئ القيس، فسأله: "أخبرني عن التسميط المنسوب إليك، أصحيح هو عنك؟ وينشده الذي يرويه بعض الناس:
1 العمدة:1/ 174".
2 تاج العروس "5/ 161"، "سمط"، "كأن على سرباله، نفح جريال"، اللسان "7/ 322 وما بعدها"، "سمط".
يا صحبنا عرِّجوا
…
نقف بكم أسج
مهرية دُلُج
…
في سيرها مُعج
طالت بها الرحل
فعرجوا كلهم
…
والْهَمّ يشغلهم
والعيس تحملهم
…
ليست تعللهم
وعاجت الرمل
يا قوم إن الهوى
…
إذا أصاب الفتى
في القلب ثم ارتقى
…
فهد بعض القوى
فقد هوى الرجل
فيجيب المعري على لسانه بقوله: "لا والله ما سمعت هذا قط، وإنه لقرى لم أسلكه، وإن الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليّ! أبعد كلمتي التي أولها:
ألا أنعم صباحًا أيها الطلل البالي
…
وهل ينعمن من كان في العصر الخالي
وقولي:
خليليّ مرّا بي على أم جندب
…
لأقضي حاجات الفؤاد المعذب
يقال لي مثل ذلك؟ والرجز من أضعف الشعر، وهذا الوزن من أضعف الرجز"1.
ونسبوا إليه كثرة التصريع في غير أول القصيدة، وكثرة استعمال الضرب المقبوض في الطويل، وكثرة الأقواء في القافية2. ويعد الأقواء من عيوب الشعر، غير أننا لا نستطيع مجاراة علماء العروض في هذا الرأي، إذ يجوز ألا يكون الاقواء عيبًا عند أهل الجاهلية، وإنما صار عيبًا في الإسلام، بعد تثبيت قواعد اللغة والبحور. ونجد هذا الرأي مثبتًا في رسالة الغفران.
1 رسالة الغفران "319 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 99".
ولا يمكن أن نتصور أن القصائد الجاهلية الطويلة قد نظمت على نحو ما يرويها أهل الأخبار، دون إجراء أي تغيير أو تحوير عليها. فقد كان الشاعر ينفصل فيتعلم قصيدته ويحفظها راويته ويذيعها بين الناس، ثم يحدث أن تخطر له خواطر أو يسمع نقدًا لبعض أبياتها، أو توجيهًا يبديه له بعض أصدقائه أو يسمع تنبيهًا موجهًا إليه بوجود شيء في قصيدته غفل عنه، فيجري بعض التغيير عليها من تعديل أو زيادة أو نقصان، قد يحفظ ويروى، وقد يهمل ويترك، ولهذا فنحن لا نستطيع الادعاء: أن نظم القصائد كان نظمًا تامًّا، لم يشمله أي تعديل أو تبديل وأن الشاعر لم يكن ينشد قصيدته إلا بعد أن يكون قد اطمأن منها وضبطها ضبطًا تامًّا.
"ومن الشعراء من يحكم القريض ولا يحسن من الرجز شيئًا، ففي الجاهلية منهم: زهير، والنابغة، والأعشى. وأما من يجمعهما فامرؤ القيس وله شيء من الرجز، وطرفة وله كمثل ذلك، ولبيد وقد أكثر"1.
وليس في مستطاع أحد إثبات أن البحور المدونة في علم العروض، هي كل بحور الشاعر الجاهلي وأوزانه، لم يهمل منها وزن، ولم ينس منها بحر، لأن على من يدعي هذه الدعوى، إثبات أن الإسلاميين الذين جاءوا بعد الجاهليين قد أحاطوا علمًا بكل الشعر الجاهلي، وأنهم أحصوه عددًا، فلم يتركوا منه بيتًا ولا قطعة ولا قصيدة. وعلماء الشعر ينفون ذلك ويقولون:"والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"2.
ويرى "غرونباوم" أن الشعر الجاهلي قد تطور: "وتتجلى فيه معالم التطور بصورة واضحة: فمن ذوبان اللهجات المتعددة في لغة واحدة، تجمَّع فيها تراث المدارس المختلفة واللهجات المتباينة بصورة متزايدة حتى تحقق حوالي سنة 600، إلى زيادة القيود في نظام العروض الفني، فإن ظفر بعض الفئات باستنباط تعابير
1 البيان والتبيين "4/ 84".
2 الشعر والشعراء "7 وما بعدها"، "دار الثقافة".