الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَوَاحٍ مُهِمَّةٌ منَ التَّأريخِ الجاهِلِي.
رحل "الأعشى" إلى الغساسنة ملوك عرب الشأم، وإلى المناذرة ملوك عرب العراق، وإلى "قيس بن معد يكرب"، وإلى "ذي فائش" في اليمن، وإلى "بني الحارث بن كعب" في نجران، فمدحهم ونال عطاءهم، وأقام عندهم يسقونه الخمر ويسمعونه الغناء الرومي1، مما يدل -إن صح هذا الخبر- على تأثر سادة نجران بالثقافة الرومية، التي ربما أخذوها عن طريق ارتباطهم بالروم بروابط النصرانية، وعلى وجود جالية من الروم في نجران أو رجال دين من الروم، عينتهم الكنيسة لتعليم الناس أمور الدين، فقد كان الروم يرسلون رجال دينهم إلى هذه المواضع وإلى غيرها للتبشير، ولأغراض سياسية في الوقت نفسه.
ونجد في شعر "الصعاليك" أسماء المواضع التي غزوها، والطرق التي سلكوها في طريقهم إلى الغارات، أو في طرق عودتهم منها إلى دارهم، ونظرًا إلى كثرة تنقلهم وخبرتهم بالمواضع، وبأبعادها وبأصحابها، لما في هذه الخبرة من العلاقة بنجاح سوقهم وتجارتهم، أفادتنا إشارتهم إلى المواضع والقبائل فائدة كبيرة إذا حصلنا بواسطتها على معارف عن أحوال أهل الجاهلية، ساعدتنا في سد بعض الثلم الكثيرة من ثلم بنيان التأريخ الجاهلي.
1 الأغاني "6/ 30".
طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:
والشعراء في الطبع مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من تتيسر له المرائي ويتعذر عليه الغزل، ومنهم من يحسن الوصف، فإذا صار إلى المديح والهجاء، أو إلى الحكم والموعظة، خانه الطبع، وتأخر عن غيره من الفحول2. ومن هنا لم يبرز فحول الجاهلية، ومن عد في الطبقة العليا من طبقات الشعراء في كل درب من دروب الشعر وطرقه وفنونه. بل ظهروا وبرزوا في أمور، وتأخروا أو لم يبرزوا في أمور أخرى، فذكروا مثلا أن "النابغة" الجعدي، كان أوصف الناس لفرس3. وورد عن "ابن الأعرابي" قوله:
1 الأغاني "6/ 30".
2 الشعر والشعراء "1/ 37"، "الثقافة".
3 ابن سلام، طبقات "27".
"لم يصف أحد قط الخيل إلى احتاج إلى أبي داود، ولا وصف الْحُمُر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، ولا وصف أحد النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة، ولا اعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني1.
وقد قال من قدَّم "امرأ القيس" على غيره من الشعراء، أنه "سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منه استيقاف صحبه والبكاء في الديار، ورقة النَّسيب، وقرب المأخذ، وشبَّه النساء بالظباء والبيض والخيل والعقبان والعصي، وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيها"2، فهذه هي المزايا التي ميزت شعره عن شعر غيره من الجاهليين.
وقال علماء الشعر الذي قدَّموا النابغة على غيره، أنه كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثره رونق كلام، وأجزلهم بيتًا، كأن شعره كلام ليس فيه تكلُّف3. وأما الذين قدَّموا "زهيرًا" على غيره، فقالوا: "كان زهير أحكمهم شعرًا وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح"4.
وقلما نجد الشاعر يعنى بوصف الطبيعة أو مظاهرها بشعر خاص، كأن يصف المطر وحده، أو الشمس والكواكب والأجرام السماوية، أو الجبال أو السهول أو الحيوانات أو النبات، وصفًا خاصًّا لا يهرب منه إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا الوصف، ثم إنه قلما يتعمق في الوصف، فيصف الأجزاء والفروع وكل ما في الموصوف من مميزات، وهو إذا وصف الطبيعة، أو تعرض لوصف مشهد بارز بحيث يكون شعره وصفيًّا خاصًّا بالطبيعة، وإنما يقحم الوصف في القصيدة جريًا على العرف الشعري الذي سار عليه الشعراء، وليس عن عمد وتقصد لوصف ما يراد وصفه بالذات. ثم هو لا يصف من الشيء الموصوف ككل، وإنما يصف منه ما يلفت نظره، وما يؤثر على حسه وبصره. فهو إذا وقف
الأغاني "15/ 93".
2 ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها".
3 ابن سلام، طبقات "17".
4 ابن سلام، طبقات "18".
أمام شجرة لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة تطير من زهرة إلى زهرة فيرتشف من كل رشفة.
هذه الخاصية في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما نرى في أدب العرب -حتى في العصور الإسلامية- من نقص، وما ترى فيه من جمال.
فأما النقص فما تشعر به حين تقرأ قطعة أدبية –نظمًا أو نثرًا- من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلا دقيقًا، وقلة ارتباطها بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، حتى لو عمدت إلى القصيدة -وخاصة في الشعر الجاهلي- فحذفت منها جملة أبيات أو قدمت متأخرًا أو أخرت متقدمًا، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك -وإن كان أديبًا- ما لم يكن قد قرأها من قبل1.
"وهذا النوع من النظر هو الذي قصَّر نفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، ولا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا.
أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالا خاصًّا، فذلك أن هذا النظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة ولا شمول، فامتلأ أدبهم بالحكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة، وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غَنِيَ به عقلهم، وانطلقت به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معانٍ كثيرة تركزت في حبة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة. ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيرًا من حكم الفرس والهند والروم"2.
وأكثر الوصف الوارد في الشعر الجاهلي، وصف لم يرد لأن، الشاعر قصده وأراده، وإنما هو وصف ورد عرضًا في القصيدة على النسق الذي زعموا أن "امرأ القيس" وضعه وحاكاه فيه غيره ممن عاصره أو جاء بعده من الشعراء.
1 فجر الإسلام "42 وما بعدها"، "الطبعة العاشرة 1965".
2 فجر الإسلام "43 وما بعدها".
فالشاعر يبدأ بتذكر الديار وبالبكاء على الأحبة وعلى من فارقهم، فيدفعه ذلك إلى الوصف، بأبيات يجعلها مقدمة لغرض آخر، فهي إذن مقدمة، وليست غاية، ثم هو إذا افتخر وأراد الإشادة بنفسه وبما قام به من عمل بطولي، لم يصف نفسه وصفًا شاملا عامًّا، وإنما يصف من نفسه بعض ما يعجبه وما يريد التبجح به، من مغامرات عجيبة قام بها، ومن صبر وتحمل للجوع وللمشقات وللأهوال ومن عدم تهيب من اقتحام الصحاري الموحشة المخوفة، وحده، لأنه لا يرهب أحدًا، ولا يخشى وحشًا، فإذا جابهه وحش، وصفه وصفًا، لا يتعدى النوحي الخاصة التي يراها تظهر شخصيته وتبرز شجاعته ثم يبالغ في وصف المخاطر والمهالك التي لم يبال بها، للوصول إلى هدفه1. وهو إذا اصطاد صيدًا، بالغ في الجهد الذي صرفه في صيده، ونوَّه بجودة حصانه، وبالطريقة التي صاد بها فريسته.
وهو إذا أراد مدح إنسان، قدم لمدحه مقدمة تزيد على شعر المدح في الغالب، يذكر فيها الأهوال والمخاطر وحر الشوق، والتلهف الشديد وما شاكل ذلك من أمور، لتكون شرح حال له يبين مبلغ حبه له وإخلاصه لمن سيمدحه، ذي الجود والكرم والسخاء، الذي يجود بماله وبما عنده، ولا يحسب لنفسه ولأهله حسابًا، يجود خاصة في السنة الجماد، وفي مواسم القحط والبرد الشديد حيث تموت الماشية والأنعام، ومع ذلك فإن الممدوح، لا يعبأ بكل ذلك، ويسخر من الخوف من العواقب السيئة التي ستحيق به إن بذل ماله. وقد يبالغ الشاعر نفسه، ويشيد بسخائه وجوده، ويتخذ من ذلك قصص شجار يقع بينه وبين زوجه في الغالب، يشاركها ولدها فيه، بسبب تبذير الرجل لما عنده من مال، وعدم اهتمام بما سيحيق بأهله من جوع وفقر.
وهو إذا تغزل، فوصف محبوبته، فإنما يصف منها ما يلفت نظره، من أجزاء في الجسد، أو لون أو ما شاكل ذلك مما يلفت نظره، وقد يقارن بينها وبين بعض الحيوانات التي تعجبه مثل المها والظباء، والخيل والعقبان، وقد زعم
1 غرونباوم "160 وما بعدها".
G. E. Von Grunebaum، Die Wirklichkelte der Fruh-arabisch Dichtung، Wien، 1937، s. 148. f.
أهل الأخبار أن "امرأ القيس" كان قد سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعه فيها الشعراء، منها أنه شبه النساء بالأمور المذكورة، فصار تشبيه هذا لهن سنة لمن جاء بعده من قالة الشعر1. وقد يصف الليل وشدة طوله وسهره فيه ومبلغ ما ألَمَّ به من أرق لفراق محبوبته، أو من شدة تذكره لها، وقد يذكر حزنه على فراقها وكيف أنه كان يقضي لياليه ساهرًا يناجي نجوم السماء، ويعدها، ينتظر ذهاب كابوس ليله عنه حتى يتراءى له نور الصباح، وفيه الأمل والرجاء. ووصفه كله، ليس وصفًا كليًّا عامًّا محيطًا، وإنما وصف جزئي، جاء تعبيرًا عن خاطر الشاعر ومحاكاة للطريقة التقليدية التي توارثها الشعراء بعضهم عن بعض. وقد برز بعض الشعراء في وصف بعض الحيوانات، كما أشرت إلى ذلك في مواضع سابقة، فقد اشتهر "أبو دؤاد" بوصف الخيل، حتى صيِّر بطل الشعراء في هذا الميدان، واشتهر النابغة الجعدي بوصف الفرس، واشتهر أوس ابن حجر بوصف الخمر، وعرف علقمة بن عبدة بوصف النعامة2. وقد وصف غيرهم من الشعراء هذه الحيوانات وغيرها، كما نجد ذلك في الأشعار المنسوبة إليهم.
ومن أبرز المواضيع التي تطرَّق إليها الشعراء في وصفهم لمظاهر الطبيعة: المطر، والنخيل، والسحب، ومشاهد من فصول الشتاء، والغدران ومواضع المياه وللسيول والنحل والعسل البري، وبعض الصخور الغريبة، والطيور، أما البحر والسفن، فيردان على لسان الشعراء الساكنين على السواحل، حيث يرون البحر وسفنه3. ولكننا لا نجد وصفًا خاصًّا بهما، يظهر فيه تأثر الشاعر وإحساسه بالبحر، أو بالسفن، من حيث هي سفينة، وإنما ذكر وهمًا عرضًا على سبيل الفخر، ولأمور عرضية أخرى. فالوصف الجاهلي لعناصر الطبيعة خاليًا من المشاعر الخاصة، ومن التصورات المعبرة عن إلهام الشاعر الذاتي4.
وذكر أن من الشعراء من كان يتأله في جاهليته ويتعفف في شعره، ولا يستبهر بالفواحش ولا يهتم في الهجاء، ومنهم من كان ينعي على نفسه ويتعهر،
1 ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "27"، الأغاني "15/ 93".
3 غرونباوم "162".
4 غرونباوم "61".
ومنهم امرؤ القيس والأعشى1، وأن منهم من كان يأتي بالحكم في شعره، مثل: زهير والأفوه الأودي، وعلقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن رعلاء الغساني وغيرهم. والحكمة عندهم، هي خلاصة تجارب الشاعر في هذه الحياة، وما حصل عليه من رأي استوحاه من الواقع أو من أفواه الناس وتجاربهم. وهي بديهة من البديهيات صيغت شعرًا. قد يبدع في صياغتها الشاعر فتسير بين الناس مثلا، كقول "عدي بن رعلاء" الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت
…
إنما الميت ميتُ الأحياءِ2
ويظهر من بيت ينسب إلى "زهير"، هو:
ما أرانا نقول إلا مُعارًا
…
أو معادًا من لفظنا مكرورا
إن شعراء الجاهلية كانوا قد وصلوا إلى حالة جعلتهم يقلدون من سبقهم في الشعر ويحاكون طرقهم في النظم، فهم يعيدون ويكررون ما قاله الشعراء قبلهم. وهو كلام يؤيده قول علماء الشعر في القصيدة، من أنها كانت تسير على هدي الشعراء السابقين في نظمها من بدء بذكر الديار والبكاء على الأحبة والأطلال إلى غير ذلك من وصف، حتى صارت هذه الجادة، جادة يسير عليها كل شاعر، مما أثر على البراعة والابتكار وجعل الشعر قوالب معروفة معينة، يختار الشاعر قالبًا منها ليعبر به عما يريد أن يقوله نظمًا. ومن هنا ثار "أبو نُوَاس" وأضرابه من الشعراء الإسلاميين على "التقليد" في النظم، لتبدل العقلية وتغير الزمن، وإن كنت أجد في هذه الثورة مبالغة وإفراطًا في الاتهام. فالقصيدة الجاهلية وإن غلب عليها التقليد والمحاكاة، مما ضيق عليها المعاني، إلا أنها لم تكن كلها على نمط واحد على نحو ما يقوله علماء الشعر والأدب، كان الشعراء يراعون الوزن والقافية والروي، وهي أمور ميزت الشعر العربي عن غيره، ولكنهم كانوا يتحللون فيما عدا ذلك، فيأتون بالمعاني التي تدركها عقولهم، وهي معانٍ استمدت من المحيط، وهو محيط واحد، ألهم الشعراء شعرهم، فمن ثم تقارب الإلهام وقربت المعاني، ولو تعددت طبيعته، لما غلب على شعر أولئك الشعراء ما نأخذه عليهم وقد كان تغير وتنوع معاني الشعر في الإسلام، نتيجة حتمية لتغير المحيط.
1 ابن سلام، طبقات "14".
2 الأصمعيات "171".