المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ: يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر، - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع عشر

- ‌الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:‌‌ الأعراب والعربيةواللحن

- ‌ الأعراب والعربية

- ‌اللَّحْنُ:

- ‌الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

- ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

- ‌مدخل

- ‌خبر شعراء الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌الشَّاعِرُ:

- ‌عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌إنشاد الشعر

- ‌مدخل

- ‌سُوقُ عُكَاظٍ:

- ‌يَثْرِبُ:

- ‌تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌المغلبون:

- ‌بَدْءُ الشَّاعِرِ:

- ‌أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:

- ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

- ‌الْخَمْرُ والشِّعْرُ:

- ‌شَيطَانُ الشَّاعِرِ:

- ‌الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

- ‌مدخل

- ‌الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:

- ‌الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

- ‌مدخل

- ‌التمليط:

- ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

- ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

- ‌الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

- ‌مدخل

- ‌نَقْدُ الشِّعْرِ:

- ‌أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:

- ‌الشِّعْرُ والإِسْلامُ:

- ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌رُوَاةُ الشِّعْرِ:

- ‌الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:

- ‌التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:

- ‌الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:

- ‌الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

- ‌مدخل

- ‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

- ‌الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

- ‌مدخل

- ‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

- ‌الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

- ‌الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:

- ‌فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:

الفصل: ‌ ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ: يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر،

‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر، أنفة وتعززًا، وإنما يصنع أحدهم ما يصنع مكافاة عن يد لا تستطيع على أداء حقها إلا بالشكر إعظامًا لها. بقوا على ذلك دهرًا، حتى نشأ النابغة الذُّبياني فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وقد كان أشرف بني ذُبْيَان، وكان قادرًا على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته، وله مال يكفيه، فسقطت منزلته، وكسب مالا جزيلا حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضَّة وأوانيهما من عطايا الملوك. وذكر عنه من التكسب بالشعر مع النعمان بن المنذر ما فيه قبح من مجاعلة الحاجب ومجاملته والتودد إليه تقربًا وتزلفًا ليوصله إلى النعمان، ومن دس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك1. هذا، وإنما امتدح ملكًا، فكيف بشاعر يمدح من هم دون الملوك والأشراف من السوقة وسواد الناس، طمعًا في صلة وعطاء2!

وتكسب زهير بن أبي سلمى يسيرًا مع "هَرِم بنِ سِنَان"، ونال أمية بن أبي الصَّلت عطايا عبد الله بن جدعان لمدحه إياه، فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجرًا يتجر به نحو البلاد، وقصد حتى مَلِكِ العجم فأثابه، لعلمه بقدر ما يقول عند العرب، واقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استخف به واستهجنه لكنه حذا حذو ملوك العرب3.

ثم إن الْحُطَيئة أَكْثَرَ من السؤال بالشعر وانحطاط الهمة فيه، حتى مقت وذل أهله، واستصغر شأنه، وعرف بتكسبه بشعره 4.

وقد عيب "من تكسب بشعره والتمس به صلات الأشراف والقادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين"5. وإنما المقبول ما جاء بما لا يزري بقدر ولا مروءة، مثل الفلتة النادرة، والمهمة العظيمة، وعن باب التودد والتلطف

1 بلوغ الأرب "3/ 91 وما بعدها"، العمدة "1/ 80"،

2 العمدة "1/ 40 وما بعدها".

3 بلوغ الأرب "3/ 91"، العمدة "1/ 81".

4 العمدة "1/ 81".

5 البيان والتبيين "2/ 13 وما بعدها".

ص: 107

والتذكر، فأما من وجود الكفاف والبلغة فلا وجه لسؤاله بالشعر1.

ومن هنا زعم أهل الأخبار أن أشراف أهل الجاهلية، كانوا يأنفون من قول الشعر، وكانوا ينهون أولادهم من قوله، فلما خالف امرؤ القيس وهو شريف وابن مَلِكٍ، أمر والده من وجوب ترك الشعر، واستمر على قوله، طرده بسببه من بيته، وأخرجه من داره، فصار من الضليلين، وهو زعم عارضه ابن رشيق ورد عليه بقوله:"وقد غفل أكثر الناس عن السبب، وذلك أنه كان خليعًا، متهتكًا، شبب بنساء أبيه، وبدأ بهذا الشر العظيم، واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان إليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، لكن من جهة الغي والبطالة، فهذه العلة، وقد جازت كثيرًا من الناس ومرت عليهم صفحًا"2. فلم يكن طرد امرئ القيس من بيت أبيه أذن بسبب قوله الشعر، وإصراره عليه، وإنما بسبب أعماله من خلاعة وتهتك واستهتار، وهي أعمال تنافي أخلاق الأشراف.

وقد قيل في الشعر إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وأنه أسنى مروءة الدني، وأدنى مروءة السري. وقيل إن الشريف كان يتحاشى قول الشعر، ويمنع أولاده من قوله. لأن قول الشعر مثلبة للرجل الشريف. وقد فسر هذا الزعم بعض العلماء بقوله:"إن الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسبًا، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم"3. مدحه ولم يكن في حاجة إليه، وكان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك. وبين الشعراء الجاهليين من كان من السادة الأشراف، ولم يجد مع ذلك غضاضة في قوله الشعر،

1 بلوغ الأرب "3/ 91 وما بعدها".

2 العمدة "1/ 43".

3 في قول "ابن رشيق""وصاحب البؤس والنعيم، هفوة، لأن صاحب البؤس والنعيم، هو "المنذر بن ماء السماء"، وصاحب النابغة هو "النعمان بن المنذر"، العمدة "1/ 41"، البيان والتَّبْيِينُ "1/ 241".

ص: 108

ومن غُضَّ من قَدْرِه، هو من اسْتَجْدَى بشعره، واتخذ شعره سببًا من أسباب التَّكَسُّب.

وما يقوله أهل الأخبار عن التكسب بالشعر يمثل وجهة نظرهم فحسب، وهو رأي لا أساسَ له، بسبب أن علمهم بالشعر لا يستند إلى دليل جاهلي مكتوب، وإنما هو من رواية ولدت في الإسلام لَاكَتْهَا الألسن، وتناولتها الكتب، حتى صارت في حكم الإجماع، يردده الْخَلَف عن السلف إلى هذا اليوم. والشعراء في نظرنا قبل النابغة وبعده بشر، فيهم المترفع وفيهم المستجدي الذليل، الذي لا يبالي أن تُمْتهن كرامته في سبيل الحصول على مال. وإذا كان في هذا اليوم شعراء يمدحون ويذمون لغاية الكسب والحصول على مَغْنَم، فلم نجعل شعراء ما قبل أيام النابغة الذُّبياني ملائكة، لا يمدحون إلا الشريف المستحق للمدح، ولا يذمون إلا الحقير الذي يستحق الذَّم، وما شعراء تلك الأيام، إلا كشعراء أيام النابغة، وما بعده، فيهم الشاعر المترفع، وفيهم الشاعر المترذل، وفيهم من لا يبالي بشعره، يمدح اليوم، ثم لا يبالي من ذمه بعد حين. وفي حقهم جميعًا جاء في القرآن:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 1، ونحن نظلم النابغة إن جعلناه أول المتكسبين بالشعر، ونخرج عن المنطق إن ذهبنا هذا المذهب.

وذكر أن ممن رفعه الشعر من القدماء الحارث بن حِلِّزة اليَشْكُرِيُّ، وكان أبرص، فلما أنشد الملك عمرو بن هند قصيدته:

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثواء

وبينه وبينه سبعة حجب، فما زال يرفعها حجابًا فحجابًا لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبقِ بينهما حجاب، ثم أدناه وقربة. وأمثاله ممن رفع من قدرهم الشعر كثير2.

ورووا أن المحلق كان ممن رفعه الشعر بعد الخمول، وذلك أن الأعشى قدم مكة

1 [سورة الشعراء، الرقم: 26، الآية: 224 وما بعدها".

2 العمدة "1/ 43 وما بعدها".

ص: 109

وتسامع الناس به، وكانت للمحلق امرأة عاقلة، وقيل بل أم، وكان المحلق فقيرًا خامل الذكر، ذا بنات، فأشارت عليه، أن يكون أسبق الناس إليه في دعوته إلى الضيافة، ليمدحهم، ففعل، فلما أكل الأعشى وشرب، وأخذت منه الكأس، عرف منه أنه فقير الحال، وأنه ذو عيال، فلما ذهب الأعشى إلى عكاظ أنشد قصيدته:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق

وما بي من سقم وما بي معشق

ثم مدح المحلق، فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جريًا يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى1.

هذا ما يرويه أهل الأخبار عن أثر الشعر في الناس. وروي أن الأعشى أنشد قصيدته المذكورة كسرى، فقال:"إن كان سهر من غير سقم ولا عشق فهو لص"2.

"قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يَقْدُمُ على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة البيان"3.

ويذكر الرواة أن القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به، وفرحت بنبوغه، وأتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، وتباشروا به لأنه حماية لهم، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم وأحسابهم وشرفهم بين الناس. وكانوا لا يُهَنِّئُون إلا بغلام يولد أو فرس تنتج

1 العمدة "1/ 49".

2 الشعر والشعراء "1/ 180".

3 البيان والتبيين "1/ 241، العمدة "1/ 82 وما بعدها".

ص: 110

أو شاعر ينبغ فيهم1. فالشاعر هو صحيفة القبيلة ومحطة إذاعتها، وصوته يحطُّ ويرفع ويخلد لا سيما إذا كان مؤثرًا، فيرويه الناس جيلا بعد جيل.

وكان أثره في الناس أثر السيف في الحروب، بل استخدمه المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز، ثم يعمد إلى السيف أو الرمح أو آلات القتال الأخرى، ولأثره هذا، ورد في الحديث عن الرسول قوله:"والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون لهم من الشعر"2 مخاطبًا بذلك شعراء المسلمين، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك، سلاح الشعر، وقد كان الوثنيون قد أشهروه أيضًا وحاربوا به المسلمين.

وطالما قام الشعراء بدور السفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك وبين القبائل، أو بين القبائل والقبائل، فلما أَسَرَ الحارثُ بن أبي شمر الغساني "شأس بن عبدة" في تسعين رجلا من بني تميم، وبلغ ذلك أخاه "علقمة بن عبدة"، قصد الحارث، فمدحه بقصيدته:

طحا بك قلب بالحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب

فلما بلغ طلبه بالعفو عن أخيه وعن بقية المأسورين، قال الحارث: نعم وأذنبة، وأطلق له شأسًا أخاه، وجماعة أسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم3.

ولم يقلّ أثر الشاعر في السلم وفي الحرب عن أثر الفارس، الشاعر يدافع عن قومه بلسانه، يهاجم خصومهم ويهجو سادتهم، ويحث المحاربين على الاستماتة في القتال، ويبعث فيهم الشهامة والنخوة للإقدام على الموت حتى النصر، والفارس يدافع عن قومه بسيفه، وكلاهما ذابٌّ عنهم محارب في النتيجة. بل قد يقدم الشاعر على الفارس، لما يتركه الشعر من أثر دائم في نفوس العرب، يبقى محفوظًا في الذاكرة وفي اللسان، يرويه الخلف عن السلف، بينما يذهب أثر السيف،

1 بلوغ الأرب "3/ 84"، العمدة، "1/ 49، 65"، المزهر "3/ 236"، العقد الفريد "3/ 93".

2 الأغاني "15/ 26".

3 العمدة "1/ 57"، "أسرة الحارث بن أبي شمر الغساني مع سبعين رجلا من بني تميم"، الشعر والشعراء "1/ 147 وما بعدها".

ص: 111

بذهاب فعله في المعركة، فلا يترك ما يتركه شعر المديح أو الهجاء من أثر في النفوس، يهيجها حين يذكر، وكان من أثره أن القبائل كانت إذا تحاربت جاءت بشعرائها، لتستعين بهم في القتال. فلما كان يوم أُحُد، قال صفوان بن أمية لأبي عمرو بن عبد الله الجمحي: "يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، فاخرج معنا. فقال: إن محمدًا قد من عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: فأعنَّا بنفسك فلك الله عليَّ أن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة شعرًا إلى السير مع قريش لمحاربة المسلمين1.

وكان الرسول شاعره حسان بن ثابت يدافع عن الإسلام والمسلمين، وكان للمشركين من أهل مكة شاعرهم "عبد الله بن الزبعري" يرد عليه ويهاجم المسلمين في السلم وفي المعارك، وقد دوَّنت كتب السير والأخبار والتواريخ أشعارهم وما قاله أحدهم في الآخر، وقد فات منه شيء كثير، نص رواة الشعر على أنهم تركوه لما كان فيه من سوء أدب وخروج على المروءة. وكان إلى جانب الشاعرين شعراء آخرون، منهم من ناصر المسلمين لأنه كان منهم، ومنهم من ناصر المشركين لأنه كان منهم، بل كان المحاربون إذا حاربوا، فلا بد وأن يبدءوا حربهم بتنشيطها وبتصعيد نارها برَجَزٍ أو بقَرِيْضٍ.

ومن خوفهم من لسان الشاعر، ما روي من فزع أبي سفيان، لما سمع من عزم الأعشى على الذهاب إلى يثرب ومن إِعْدَادِه شعرًا في مدح الرسول، ومن رغبته في الدخول في الإسلام. فجمع قومه عندئذ، وتكلم فيما سيتركه شعر هذا الشاعر من أثر في الإسلام وفي قريش خاصة إن هو أسلم، ولهذا نصحهم أن يتعاونوا معه في شراء لسانه وفي منعه من الدخول في الإسلام بإعطائه مائة ناقة فوافقوا على رأيه وجمعوا له ما طلبه، وتمكن أبو سفيان من التأثير عليه، فعاد إلى بلده "منفوحة" وما بها دون أن يسلم2.

قال الجاحظ: "ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، أنهم

1 الروض الأنف "2/ 126 وما بعدها"، "غزوة أحد".

2 الشعر والشعراء "136 وما بعدها"، زيدان، آداب "1/ 119".

ص: 112

إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدُّوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص الحارثي حين أسرته بنو تيم يوم الكلاب1. وعبد يغوث بن وقاص، شاعر قحطاني، كان شاعرًا من شعراء الجاهلية، فارسًا سيد قومه من بني الحارث بن كعب، وهو الذي قادهم يوم الكلاب الثاني فأسرته بنو تيم وقتلته، وهو من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والإسلام، منهم اللجلاج الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه مسهر فارسٌ شاعرٌ، ومنهم من أدرك الإسلام: جعفر بن علية بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث"، وكان شاعرًا صعلوكًا2.

ولما مدح الحطيئة "بغيض بن عامر بن لاي بن شماس بن لاي بن أنف الناقة"، واسمه جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وهجا "الزبرقان"، واسمه الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن عوف بن كعب، صاروا يفخرون ويتباهون بأن يقال لهم "أنف الناقة"، وكانوا يعيرون به ويغضبون منه، ويَفْرَقُون من هذا الاسم، حتى إن الرجل منهم كان يسأل مِمَّن هو فيقول من "بني قريع" فيتجاوز جعفرًا أنف الناقة، ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى أن قال الحطيئة هذا الشعر فصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة، إذ قال:

قوم هم الأنفُ والأذنابُ غيرهمُ

ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا3

وقد تعزز الأعشى على قومه، وبين مكان فضله عليهم، إذ كان لسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم، الهادي لأعدائهم بشعر هو كالمقراض يقرض أعداء قومه قرضًا.

وأدفع عن أعراضكم وأعيركم

لسانًا كمقراض الخافجي ملحبا4

1 البيان والتبيين "4/ 45".

2 الخزانة "1/ 317"، "بولاق".

3 قوم هم الأنف والأذناب غيرهم

ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا

البيان والتبيين "4/ 38"، "هارون"، الاشتقاق "156"، زهر الآداب "1/ 19". الخزانة "1/ 567"، العمدة "1/ 50".

4 ديوان الأعشى "117"، القصيدة "14" البيت "31".

ص: 113

وذكر أن بني تغلب كانوا يعظمون معلقة عمرو بن كلثوم ويروونها صغارًا وكبارًا، حتى هجاهم شاعر من شعراء خصومهم ومنافسيهم: بكر بن وائل، إذ قال:

ألهي بني تغلب عن كل مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يروونها أبدًا مذ كان أولهم

يا للرجال لشعر غير مسئوم1

ولسلاطة ألسنة بعض الشعراء، ولعدم تورع بعضهم من شتم الناس ومن هتك الأعراض، ومن التكلم عنهم بالباطل، تجنب الناس قدر إمكانهم الاحتكاك بهم، وملاحاتهم والتحرش في أمورهم، خوفًا من كلمة فاحشة قد تصدر منهم، تجرح الشخص الشريف فتدميه، وجرح اللسان كجرح اليد، كما عبر عن ذلك امرؤ القيس أحسن تعبير2. ولأمر ما قال طرفة:

رأيت القوافي تتلجن موالجا

تضايق عنها أن تولجها الإبر

وفي هذا المعنى دون الجاحظ هذه الأبيات:

وللشعراء ألسنة حداد

على العورات موفية دليله

ومن عقل الكريم إذا اتقاهم

وداراهم مدارة جميلة

إذا وضعوا مكاويهم عليه

وإن كذبوا- فليس لهن حيله3

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالمًا بالشعر، قليل التعرض لأهله: استعْدَاهُ رهط تميم بن أبي مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت، فرارًا من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان -على علمه بالشعر- أبصر من عمر رضي الله عنه بوجه الحكم، وأن اعتل فيه بما اعتل"4.

1 الأغاني "11/ 54"، الاشتقاق "204"، وقد روي هذا الشعر بأوجه مختلفة، البيان والتبيين "4/ 41".

2 العمدة "1/ 78".

3 العمدة "1/ 78".

4 العمدة "1/ 52، 76"، "باب تعرض الشعراء".

ص: 114

"وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان، ثم قضى على الحطيئة بالسجن"1، وقد كان عمر قد كره أن يتعرض للشعراء، فاستشهد حسان، فلما بين حسَّان رأيه في الشعر، أنفذ حكمه، فتخلص "عمر" بعرضه سليمًا2.

وتميم بن مقبل بن عوف بن حنيف العجلاني، من الشعراء الذين أدركوا الإسلام فأسلم، وكان يهاجي النجاشي، فهجاه النجاشي يومًا، فاستعدى تميم عمرَ عليه، فلما قرأ النجاشي على عمر ما قاله في تميم أمر بضربه وحبسه. وكان يبكي أهل الجاهلية3.

"وسئل أبو عبيدة أي الرجلين أشعر: أبو نواس، أم ابن أبي عيينة؟ فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا؟! "4 وذلك خوفًا ولا شك من لسان الشاعر الحي. "ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشراف ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحًا فتعود جدًّا"5.

وكانوا يهابون الشاعر الهجَّاء البذيء اللسان المتمكن من شعر الهجاء، أكثر من غيره من بقية الشعراء، لما كان يتركه هجاؤه من أثر فيهم، حتى الشعراء المبَرَّزين كانوا يتقون شر الشاعر الهجاء ويبتعدون عنه. فلما هجا عبدُ الله بن الزبعري بني قصي، خاف قومه من هجاء الزبير بن عبد المطلب، فرفعوه برمته إلى عتبة بن ربيعة، فلما وصل إليهم أطلقه حمزة بن عبد المطلب وكساه، وكان الزبير غائبًا بالطائف، فلما وصل مكة وبلغه الخبر هجا قوم ابن الزبعري هجاء مرًّا6، بقوله:

فلولا نحن لم يلبس رجال

ثياب أعزة حتى يموتوا

1 العمدة "1/ 76"، ابن سلام، طبقات "25".

2 "البيان والتبيين "1/ 240".

3 الإصابة "1/ 189"، "رقم 862"، البيان "1/ 239"، الخزانة "1/ 113".

4 العمدة "1/ 76".

5 العمدة "1/ 77".

6 العمدة "1/ 65 وما بعدها".

ص: 115

ثيابهم سمالٌ أو طمارٌ

بها دسم كما دسم الحميت

ولكننا خلقنا إذ خلقنا

لنا الحبرات والمسك الفتيت

وكان عبد الله بن الزبعري قد قال حين أطلقه حمزة:

لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي

وإن صالحت إخوانها لا ألومها

فود جناة الشرّ أن سيوفنا

بأيماننا مسلولة لا نشيمها

فإن قصيًّا أهل عزّ ونجدة

وأهل فعالٍ لا يُرامُ قديمها

هم منعوا يومي عُكاظ نساءنا

كما منع الشول الهجان قرومها1

ونظرًا لأثر شعر الهجاء في الناس، من أفراد وقبائل، صاروا يصطنعون الشعراء ويحسنون جهدهم إليهم خشية ألسنتهم، يفعلون ذلك بشعرائهم وبشعراء القبائل الأخرى ممن يخشون سلاطة ألسنتهم. يفعلون ذلك حتى إذا كان الشاعر قد أساء إليهم، على أمل التكفير عن ذنبه، بمدحهم بشعر ينفي أثر ما قاله فيهم من هجاء. حتى إنهم كانوا يعفون عن شاعر قد يقع أسيرًا في أيديهم، إذا أعطاهم العهود والمواثيق ألا يعود إلى هجوهم، وألا يقول شعرًا في ذمهم. وقد يغدقون عليه بالهدايا والألطاف تأليفًا للسانه، وأملا في مدحه لهم، والقاعدة عندهم أن أثر الهجاء يمحوه المدح.

وبين الشعر الجاهلي والشعر والإسلامي فروق واضحة في الأسلوب وفي الاتجاه وفي الجزالة واختيار الكلمات، اقتضتها طبيعة اختلاف الزمان وتغير الحال واتصال العرب بغيرهم، وخلود أكثرهم إلى الحضارة، إلى غير ذلك من أسباب.

ومما امتاز فيه الشعر الجاهلي عن الشعر الإسلامي، هو أن شعراءه كانوا من العرب، إلا بضعة شعراء، كانوا من أصل خليط، مثل الأغربة، الذين كانت أمهاتهم من أصل إفريقي ولا أعلم اسم شاعر جاهلي، يرجع أصله إلى فارس أو الروم، إلا ما ذكره ابن الكلبي من أمر "خرخسرة". أما في الإسلام فقد زاحم الفرس بصورة خاصة العرب على تراثهم التليد، وهو الشعر، برز منهم فيه فحول، طوروا الشعر ولونوه، وأضافوا إليه معاني جديدة، اقتضتها

1 بلوغ الأرب "3/ 84 وما بعدها".

ص: 116