المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع عشر

- ‌الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:‌‌ الأعراب والعربيةواللحن

- ‌ الأعراب والعربية

- ‌اللَّحْنُ:

- ‌الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

- ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

- ‌مدخل

- ‌خبر شعراء الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌الشَّاعِرُ:

- ‌عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌إنشاد الشعر

- ‌مدخل

- ‌سُوقُ عُكَاظٍ:

- ‌يَثْرِبُ:

- ‌تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌المغلبون:

- ‌بَدْءُ الشَّاعِرِ:

- ‌أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:

- ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

- ‌الْخَمْرُ والشِّعْرُ:

- ‌شَيطَانُ الشَّاعِرِ:

- ‌الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

- ‌مدخل

- ‌الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:

- ‌الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

- ‌مدخل

- ‌التمليط:

- ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

- ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

- ‌الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

- ‌مدخل

- ‌نَقْدُ الشِّعْرِ:

- ‌أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:

- ‌الشِّعْرُ والإِسْلامُ:

- ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌رُوَاةُ الشِّعْرِ:

- ‌الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:

- ‌التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:

- ‌الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:

- ‌الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

- ‌مدخل

- ‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

- ‌الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

- ‌مدخل

- ‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

- ‌الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

- ‌الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:

- ‌فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:

الفصل: ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

الفَصْلُ التَّاسِعُ والأربعون بعدَ المائةِ: الْعَرُوضُ

والعروض ميزان الشعر، سمي به لأنه به يظهر المتزن من المنكسر عند المعارضة بها. وذكر الأخباريون جملة تفسيرات لسبب تسميتهم العروض عروضًا، منها أنه علم الشعر، ألهم الخليل به بمكة، ومكة من العروض، فقيل لهذا العلم عروضًا1، ومنها: أنه إنما سمي عروضًا لأن الشعر يعرض عليه، ومنها: أنه إنما عرف بعروض الشعر، بقولهم: فواصل أنصاف الشعر، وهو آخر النصف الأول من البيت. فالنصف الأول عروض؛ لأن الثاني يبنى على الأول والنصف الأخير الشطر أو لأن العروض طرائق الشعر وعموده مثل الطويل، فيقال هو عروض واحد. واختلاف قوافيه يسمى ضروبًا2. أو لأنه إن عرف نصف البيت، وهو العروض سهل تقطيع البيت حينئذ، ولذلك قيل له العروض3. وذهب البعض إلى أنه إنما عرف بذلك من العرض، لأن الشعر يعرض على هذه الأوزان فما وافق كان صحيحًا وما خالف كان سقيمًا. وقيل من العروض، أي الطريق التي في الجبل، والمراد الطريق التي سلكتها العرب، وقيل لما شبهوا البيت من الشعر ببيت الشعر، شبهوا العروض الذي يقيم وزنه بالعروض، وهي الخشبة المعترضة

1 تاج العروس "5/ 41"، "عرض".

2 اللسان "7/ 184"، "عرض".

3 الخوارزمي، مفتاح العلوم "51".

ص: 192

في سقف البيت، كما شبهوا الأسباب بالأسباب والأوتاد بالأوتاد، والفواصل بالفواصل1. وعلم العروض، هو علم الشعر والقافية، ويرادفه علم الوزن: وزن الشعر، ويدل اختلافهم الشديد في تعريفه على عدم وجود رأي واضح عند العلماء عن منشئه وعن كيفية ظهوره2.

وعندي أن في اختلاف العلماء هذا الاختلاف الشديد في سبب تسمية العروض عروضًا، دلالة على أن اللفظة من الألفاظ التي كانت مستعملة قبل الإسلام، وأنها لم تكن من وضع "الخليل" وإنما كانت لفظة قديمة جاهلية قصد بها النظر في الشعر والبصر بدروبه وأبوابه وطرقه، فلو كانت الكلمة إسلامية ومن وضع "الخليل" لما وقع بينهم هذا الاختلاف، وما كان "الخليل" ليهمل السبب الذي حمله على اختيار هذه التسمية، ولسأله العلماء حتمًا عن السبب الذي جعله يسمي هذا العلم عروضًا، فقد عودنا العلماء، أنهم إذا وقفوا أمام أمر قديم جاهلي، وهم لا يعرفون من خبره شيئًا، جاءوا بآراء متباينة وبتعليلات مختلفة، لبيان العلل والأسباب. ولو كان العروض من العلوم أو المسميات التي وضعت في الإسلام، لما اختلفوا في تعريفه هذا الاختلاف، وفي اختلافهم هذا الاختلاف في تعريفه، دلالة على قدمه قياسًا على ما عرفناه عنهم، من اختلافهم في تفسير المصطلحات والمسميات القديمة.

وقد قال قوم في الإسلام لا حاجة إلى العروض، لأن من نظم بالعروض شق ذلك عليه وأتى به متكلفًا، ومن نظم بالطبع السليم والسليقة جاء شعره طبيعيًّا سليمًا3. ولا بد وأن تكون هذه المعارضة قد ظهرت بعد ظهور علم العروض وتدوينه وتثبيت قواعده، ومحاولة العروضيين فرض سلطان قواعدهم على الشعر والشعراء، ولما كان الشعراء ينظمون الشعر بسليقتهم وفق عرفهم الذي ألفوه وتعودوا عليه، وعن طبع وموهبة فيهم، لم يحفلوا بالعروض، وصار العروض علمًا يحفظه من لا يقرض الشعر الرفيع العالي المنبعث عن شاعرية وعاطفة وهيجان خاطر، وصار شعر العروضي شعرًا متكلفًا في الغالب، لا يداني شعر الشعراء

1 نزهة الجليس "1/ 115".

2 Ency، Vol. i. p، 463.

3 نزهة الجليس "1/ 116".

ص: 193

الذين يقولون الشعر، وهم أحرار طلقاء، لعدم وجود الموهبة الشعرية فيهم، والبصر بالعروض يجعل من حافظه شاعرًا.

والمعروف بين الناس أن العروض في الإسلام، وضعه "أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم" الفراهيدي الأزدي اليحمدي "100- 170، 175"1. استخرج الأوزان، ودون البحور، "وكان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس. وهو أول من استخرج العروض وحصن به أشعار العرب"2. وقد عرف بـ"صاحب العروض"3. وقيل عنه: كان "الغاية في تصحيح القياس، واستخراج مسائل النحو وتعليله"4، "وهو أول من استخرج علم العروض، وضبط اللغة. وكان أول من حصر أشعار العرب. روي عنه أنه كان يقطع العروض فدخل عليه ولده في تلك الحالة فخرج إلى الناس وقال: إن أبي قد جن. فدخل الناس عليه وهو يقطع العروض فأخبروه بما قال ابنه، فقال له:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني

أو كنت تعلم ما أقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني

وعلمت أنك جاهل فعذلتكا5

و"الخليل" نفسه من الشعراء، وقد أورد العلماء له شعرًا6. وقد أورد "ابن قتيبة" له أبياتًا، عقب عليها بقوله: "وهذا الشعر بَيِّن التكلف رديء الصنعة. وكذلك أشعار العلماء، ليس فيها شيء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الأصعمي، وشعر ابن المقفع، وشعر الخليل، خلا خلف الأحمر، فإن كان أجودهم طبعًا وأكثرهم شعرًا7.

وقد تعرض "أبو الحسين أحمد بن فارس" لموضوع نشأة النحو والعروض في الإسلام، فقال: "فإنا لم نزعم أن العرب كلها -مدرًا ووبرًا- قد عرفوا

1 الفهرست "69 وما بعدها"، "المقالة الثانية"، القِفْطِي، إنباه الرواة "1/ 342"،

2 الفهرست "70".

3 السيوطي، بغية "243"، ياقوت، إرشاد "4/ 181"، ابن الأنباري، نزهة "55".

4 نزهة الألباء، لابن الأنباري "29"، "بغداد 1959م".

5 نزهة الألباء "29 وما بعدها"، "بغداد 1959م".

6 المحاسن والأضداد "50"، الشعر والشعراء "1/ 16"، "2/ 630".

7 الشعر والشعراء "1/ 16".

ص: 194

الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم: فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة، وأبو حية كان أمس، وقد كان قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخط ويقرأ، وكان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتبون". "أفيكون جهل أبي حية بالكتابة حجة على هؤلاء الأئمة؟

والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض. والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها:

شاقتك أظعان للي

ى دون ناظرة بواكر

فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقًا من غير قصد لا يكاد يكون.

فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول إن هذين العلمين قد كانا قديمًا، وأتت عليهما الأيام، وقلَّا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان، وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب. وأما العروض فمن الدليل على أنه كان متعارفًا معلومًا اتفاق أهل العلم على أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا -أو من قال منهم- إنه شعر. فقال الوليد بن المغيرة منكرًا عليهم، لقد عرضت ما يقرأه محمد على أقراء الشعر: هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أره يشبه شيئًا من ذلك. أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحور الشعر؟ وقد زعم ناس أن علومًا كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها درست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصبحت منقولة من لغة إلى لغة. وليس ما قالوا ببعيد"1.

"ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر. فكتبوا ذوات

1 الصاحبي "ص36 وما بعدها".

ص: 195

الياء بالياء، وذوات الواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا في مثل "الخبء" و"الدفء" و"الملء" فصار ذلك كله حجة، وحتى كره العلماء ترك أتباع المصحف من كره"1.

فابن فارس إذن من الذين رأوا أن العرب الجاهليين كانوا على علم بالعربية وبعروض الشعر، قبل أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي. وأن فضل الرجلين على العلم، إنما هو في جمع علم الأوائل وتثبيته وتدوينه، وهو فضل لا ينتقصه عليهما منتقص. وهو استنتاج يتفق مع قواعد المنطق تمام الاتفاق. لأن من غير المعقول أن يضع إنسان قواعد لغة أو قواعد شعر، من غير أن يكون له علم سابق بأنواع الكلام وباختلاف الإقراء وبالأسس اللغوية والنحوية التي لا بد من تعلمها حتى يتمكن المرء من بناء قواعد أساسية عليها ومن حصر دائرة العلم والإحاطة بأغصان شجرة ذلك العلم، ويكاد يكون من المستحيل وضع قواعد العربية، أو علم العروض على النحو الذي يعرضه علينا علماء اللغة والشعر، من رجل لا علم مسبق له بقواعد اللغة وبأمور الشعر.

وفي خبر أن رسول الله دخل المسجد فرأى رجلا يحدث الناس بأنساب العرب وأيامها وبالأشعار، والعربية، فقال رسول الله:"ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه، وإنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة وما خلاها فهو فضل"2. والأمور المذكورة هي مما كان يتحدث به أهل العلم والثقافة من الجاهليين. والشعر في طليعة تلك الموضوعات، ولا يراد به إنشاده فقط، بل كانوا ينشدونه ويذكرون المناسبات المتعلقة به ومزاياه وعيوبه، ولا أعتقد أن المراد بالعربية مجرد تفسير المفردات، بل كل ما يخصها من أمور. وفي جملة ذلك أخطاء القول، وقواعد العرب في القول.

ويذكر أهل الأخبار أن الذي حمل الخليل على وضع العروض، هو أنه مر بسوق الصفارين أو بحارة القصارين، فسمع الدق بأصوات مختلفة، فأعجبه، وقال: والله لأضعن على هذا المعنى علمًا غامضًا، فصنع هذا العروض على حدود

1 الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها "38 وما بعدها".

2 الكليني "12".

ص: 196

الشعر وجعل بحورها ستة عشر بحرًا1. وهي قصة باردة من قصص أهل الأخبار، فقد كانوا يضعون مثل هذا القصص حين يسألون عن أمور، لا يكون لهم علم بها، وهل يعقل أخذ الخليل بحوره من دق مطارق الصفارين المزعجة، التي تخرش الأذن، وتبعد الإنسان عن التفكير، وتطير من الدماغ ما قد يكون فيه من علم. فالقصة من مخترعات أهل الأخبار وضعوها في إيجاد سبب لوضع هذا العلم، فربطوا بين دق مطارق الصفارين وبين تقطيع الشعر.

ولا يعقل في نظري أن يكون الخليل قد وضع العروض من غير علم مسبق بأصول نظم الشعر عند أهل الجاهلية. إذ لا يمكن للحس المرهف وحده أن يبتكر العلم ابتكارًا من غير علم مسبق وقواعد سابقة وأصول مقررة معروفة. ولا يعقل أن يكون الخليل قد وضع الأسماء والمصطلحات والتعاريف بنفسه من غير رجوع إلى علم سبق للشعراء الجاهليين أن وضعوه، ومن رجوع إلى قواعد ومصطلحات سبق أن كانت مقررة، ففي أخبار أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كان لهم علم بالشعر، كالذي ذكرته من مثل "حال الجريض دون القريض"، وما روي على لسان الوليد بن المغيرة من قوله في اتهام قريش للرسول من أنه شاعر:"لقد عرفت الشعر ورجزه وهزجه وقريضه فما هو به"2. وما روي عن إسلام أبي ذر الغفاري ومن قول أخيه أنيس له: "لقيت رجلا على دينك يزعم أن الله أرسله" فلما سأله أبو ذر "فما يقول الناس؟ قال: "يقولون ساحر كاهن شاعر. وكان أنيس أحد الشعراء، فقال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد، أي على طريق الشعر وبحوره"3. وقد ورد أن أهل يثرب كانوا يعرفون الإقواء والإكفاء في الشعر، وكانوا يعدونهما من عيوب الشعر4. وقد علمنا أن مصطلح الرجز والهزج والرمل والقصيد، وأمثال ذلك هي من مصطلحات أهل الجاهلية. ثم إن أكثر مصطلحات العروض هي مصطلحات كانت معروفة في الجاهلية، وقد أخذت

1 نزهة الجليس "1/ 124".

2 اللسان "5/ 350".

3 الطبقات "4/ 220"، "صادر، تاج العروس "1/ 371"، "الكويت"، الفائق "1/ 518"، تاج العروس "1/ 103"، "قرأ"، الإصابة "1/ 88"، "رقم 289".

4 الموشح "59".

ص: 197

من حياتهم، فهي ليست بمصطلحات مبتكرة، حتى نقول إن الخليل أوجدها من عنده، وإن علم العروض علم مستحدث نتيجة لذلك، أوجده الخليل بملاحظاته وذكائه من دون علم سابق بأصول الشعر.

وورد أيضًا، أن عتبة بن ربيعة لما مدح القرآن، لما تلاه رسول الله، قالت له قريش: هو شعر، قال: لا لأني عرضته على أقراء الشعر، فليس هو بشعر. أقراء الشعر: طرائقه وأنواعه1. وسئل الحطيئة عن زهير بن أبي سلمى، فقال: "ما رأيت مثله في تكفيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها حيث شاء"2. وكلام مثل هذا لا يمكن أن يصدر إلا من رجال لهم علم بالشعر وبدروبه وبحوره وأنواعه.

والذي أراه، أن شعراء الجاهلية كان لهم علم سابق بالشعر وضعوه قبل الإسلام، ولهم قواعد ورثوها من أسلافهم القدماء في كيفية نظم الشعر ببحور. كانوا يعرفون البحور، وربما كانوا قد وضعوا لها أسماء، على نحو ما يفعله شعراء الشعر العامي في هذا اليوم، وأكثرهم ممن لا يحسن الكتابة والقراءة، غير أنهم يعرفون طرق الشعر العامي ودروبه، سموها بأسماء، وعرفوها، ووضعوا لها أوزانًا وزنوا بها شعرهم، وحكموا بموجبها حكمهم على الشعر، فتراهم ينتقدون شاعرًا فيرفعون شعره، أو يذمونه، يزنون حكمهم بميزان علمهم المتوارث والمتعارف عليه عن الشعر. وقد وضع بعض المحدثين كتبًا في هذا الشعر، وفي ضبط دروبه وتسجيل قواعده. والذي فعله الخليل لا يخرج عن هذا العمل: حصر وسجل ما كان معروفًا بين الشعراء عن بحور الشعر وأبوابه وقواعده، ثم جمعه في كتاب فعد بعمله هذا مؤسس علم العروض. وإنما هو في الواقع جامع شتات هذا العلم ومسجل قواعد الشعر وبحوره. فهو بذلك أول من فعل هذا الفعل على ما أعلم. وهو عمل يشكر بالطبع عليه.

والذي أعانه وساعده على هذا الحصر والجمع، هو وجوده في العراق، وكان أهل العراق يتدارسون النحو والشعر واللغة قبل الإسلام. كانوا قد نقلوا إلى

1 اللسان "15/ 175"، "قرأ"، "أقراء الشعر: أنواعه وطرقه وبحوره"، تاج العروس "1/ 103"، "قرأ"، الفائق "1/ 518"، ابن سعد، طبقات "4/ 1 ص116 وما بعدها".

2 الشعر والشعراء "1/ 81".

ص: 198

السريانية -لغة الثقافة والعلم- علم اليونان باللغة والنحو والشعر، فساعدهم هذا النقل على تهذيب ما ورثوه من رجالهم من علم بهذه المعارف، وقاسوه بأقيسة ونظموه تنظيمًا علميًّا، وظلوا يتداولونه، فلما دخل منهم من دخل في الإسلام، أو احتك بالمسلمين، وكان عند العرب كلام في اللغة وفي الشعر، ولا سيما عند عرب العراق النصارى، فلا يستبعد عرض هؤلاء ما كان عندهم من علم اللغة والشعر إلى من كان له ميل لمثل هذه الدراسات، كأبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد، فصار هذا العرض سببًا لظهور الأسس في النحو وفي العروض. وقد أدرك ذلك العلماء، فقال الصفدي:"إن الشعر اليوناني له وزن مخصوص ولليونان عروض لبحور الشعر. والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل، قلت ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخيل بن أحمد شيء من ذلك أعانه على إبراز العروض إلى الوجود"1. فهو من ثم "أول من استخرج علم العروض وحصر أشعار العرب فيها"2، ولكنه لم يكن مخترع هذا العلم وموجده من العدم. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن عروض"Prosody أرسطو هو الذي علم الخليل طريقة وضع العروض واستنباط تفاعيل الشعر وبحوره3.

ولابن خلِّكان رأي طريف في المنبع الذي استمد منه الخليل علم العروض، تراه يتحدث عنه فيقول:"وله معرفة بالإيقاع والنغم، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض، فإنهما متقاربان في المأخذ"4. وكان الخليل صاحب علم بالموسيقى، ومن بين كتبه "كتاب النغم"، فرجل ذو علم بالموسيقى، وبتقاطيعها وأوزانها، يكون له ميل إلى الشعر وأوزانه، خاصة وأن بين الشعر والغناء والموسيقى روابط قديمة. فقد "كانت العرب تغني النصب، وتمدّ أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء. فقال حسان:

تغن بالشعر إما أنت قائله

إن الغناء لهذا الشعر مضمار5

1 نزهة الجليس "1/ 116".

2 نزهة الجليس "1/ 124".

3 Freytag، Darstellung d. Arabi، Verskunst، S. 18، William Lindsay Alexander، A Cyclopaedia of Biblical Literature، vol، I، p. 188.

4 ابن خلكان "1/ 216 وما بعدها".

5 المرزباني، الموشح "39".

ص: 199

وروي أن الخليفة عمر قال يومًا للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك. فأسمعه كلمة له، قال له: وإنك قائلها؟ قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جِمَال الخطاب"1. فإذا كان العرب قد وزنوا الشعر بالغناء، فلا يستبعد أن يكون الخليل قد ألهم من فعل العرب هذا قبله.

وقد ذكرت في الجزء الخامس من هذا الكتاب2، أنه قد كان للشعر علاقة كبيرة بالغناء، فالغناء هو التغني بالشعر، ولذلك قالوا: تغنى بالشعر، وفلان يتغنى بفلانة إذا صنع فيها شعرًا. وله علاقة بالحداء أيضًا. قال: حدا به، إذا عمل فيه شعرًا3. فالغناء نغم ووزن ويكون لذلك بكلام موزون. وهو الشعر الذي يناسب نغم الغناء. قال الجاحظ:"العرب تقطع الألحان الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في الوزن اللحن، فتضع موزونًا على غير موزون4. وقال ابن رشيق: "وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به مسقطة لمروءته. ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، تكسوه جلالة الحكمة"5.

ولا يستبعد تغني الشعراء الجاهليين بشعرهم، واستعمالهم آلات الموسيقى مثل الرباب لترافق غناهم بشعرهم، كما يفعل شعراء البادية في هذه الأيام. وقد ذكر أن الشاعر عروة بن أذينة، وهو من شعراء العصر الأموي "كان شاعرًا لبقًا في شعره، غزلا. وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين"6. وكان من شعراء المدينة7.

1 العقد الفريد "4/ 90".

2 "ص105 وما بعدها".

3 اللسان "15/ 135"، "غنى"، تاج العروس "10/ 272".

4 رسائل الجاحظ "2/ 158".

5 العمدة "1/ 26".

6 العقد الفريد "4/ 96".

7 الأغاني "31/ 105 وما بعدها"، الشعر والشعراء "2/ 483 وما بعدها"، المرتضى، أمالي "1/ 408 وما بعدها"، السمط "236"، درة الغواص "135"، المعارف "492".

ص: 200

ومن آيات علم الجاهليين بصناعة الشعر وبفنونه وحذقهم بأساليبه، استعمالهم بحور الشعر حسب المواقف والمناسبات واتخاذهم الإيقاع والنغم وجرس الألفاظ أساسًا في النظم ليكون الشعر مطابقًا للمناسبة التي سينظم لها. فللغناء بحور، وللقتال بحور تثير القلوب وتلهبها، وللسفر وزن، والمناسبات المؤلمة مثل الرثاء والتوجع وزن يناسبها، وكل ذلك ناتج عن طبع وتطبع وعلم بالمناسبة، وقد أشير على هذا الاستعمال في الأخبار. وهذه المناسبات هي التي خلقت تلك البحور.

ومن آيات علم الجاهليين بالشعر، ما نقرأه في الأخبار عن علم أهل الجاهلية بطرائق الشعر وأبوابه وبعيوبه وضعفه، ومن أخذهم على الشعراء في أيام الجاهلية وقوعهم في الأخطاء، أو مخالفتهم لأصوله ونغمه وخروجه على ما هو متعارف عليه. وأمثال ذلك مما يدل على أن الشاعر وإن كان ينظم الشعر عن طبع وسليقة، وعن موهبة كامنة فيه، لكنه كان يراعي في نظمه قواعد موروثة معلومة، وأصولا محفوظة، على نحو ما نراه اليوم عند الشعراء الشعبيين، الذين ينظمون الشعر العامي "الشعر النَّبطي"، المقال باللهجات العامية، وفق قواعد مقررة عندهم معروفة، وأبواب مسماة عندهم موسومة، يحفظونها حفظًا، لأنها هي غير مدونة، ثم إن أكثرهم ممن لا يقرأ ولا يكتب.

ومما يؤيد هذا الرأي ما جاء في "لسان العرب": "قال أبو الحسن الأخفش: النصب في القوافي، أن تسلم القافية من الفساد، وتكون تامة البناء، فإذا جاء ذلك في الشعر المجزوء، لم يسمَّ نصبًا، وإن كانت قافيته قد تمت، قال: سمعنا ذلك من العرب، قال: وليس هذا مما سمى الخليل، وإنما تؤخذ الأسماء عن العرب"1. فالأسماء والأصول أخذت من العرب، ومعنى هذا أنه قد كان للعرب علم سابق بأصول الشعر وبقواعده، وقد تمكن "الخليل" بذكائه وبتتبعه للعلوم من جمع تلك القواعد، في العروض ومن أخذ ما كان عند الشعراء والعارفين بفنونه من مصطلحات وعلم، فكوَّن من كل ذلك: العَرُوض.

هذا وإن المعلوم أن "أرسطو" كان قد ألَّف كتابًا في الشعر وفي العروض "Prosody" وقد تطرق فيه إلى الوزن "Metre" أي وزن الأبيات والقصيدة، كما تلكم عن "التفعيلات"، وعن أنواع النظم، وقد درس كتابه علماء ذلك الوقت.

1 اللسان "1/ 761"، "نصب".

ص: 201

ووقف عليه السريان قبل الإسلام، ونقل إلى العربية في الإسلام، قال "ابن النديم":"الكلام على أبوطيقا: ومعناه الشعر، نقله أبو بشر متى من السرياني إلى العربي، ونقله يحيى بن عدي"1. وتوجد ترجمة كتاب "الشعر" في العربية مطبوعة في هذا اليوم، وثبت أيضًا أن البابليين وغيرهم من أهل العراق، كانوا قد وضعوا قواعد في نظم الأشعار وفي تأليف أبياتها، وفي أصول نظمها، فلا استبعد وصولها إلى المتأخرين من العراقيين الذين عاشوا إلى أيام الإسلام، فوقف عليها الخليل، واستنبط منها فكرته في وضع العروض.

والذي أراه أن للبت في منشأ علم العروض، لا بد من البحث عن المصطلحات العربية الجاهلية التي كانت شائعة عند العرب في الجاهلية وعند ظهور الإسلام، عن تكوين الشعر وأصول نظمه، ثم تتبع مصطلحات الشعر عند الساميين، مثل الكلدانيين والعبرانيين ومقارنة مسمياتها بالمسميات العربية المنسوبة إلى الخليل، لمعرفة صلتها بعضها ببعض. ومن دراسة البحور، وتفاعليها، وأصول نظمها، فقد ثبت أن لتلك الشعوب قواعد في نظم الشعر، راعاها الشعراء في نظمهم شعرهم2.

ولفظة "بحر" و"البحور" المستعملة في العروض، هي من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين. ورد في كتب اللغة أن الشاعر إذا اتسع في القول، قالوا استبحر3. ولما جاء الحارث بن معاذ بن عفراء على حسان بن ثابت؛ ليستحثه في هجاء النجاشي الذي هجا الأنصار، ألقى عليه حسان ثمانية أبيات، ثم توقف ومكث طويلا على الباب يقول: والله ما أبحرت4. وذكر أن أبا بكر كان يقدم النابغة على غيره من الشعراء، فلما سئل عن ذلك قال:"هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا"5. ومن هذا المعنى أخذ مصطلح "بحر" و"بحور الشعر" و"بحور العروض".

وكان الجاهليون أصحاب علم إذن بطرق الشعر وببحوره وبمقاصده وإنحائه،

الفهرست "ص263 وما بعدها".

2 Otto Weber، Die Literatur der Babylonter und Assyrer، Leipzig، 1907، S. 35.

3 اللسان "4/ 44".

4 خزانة الأدب "4/ 55 وما بعدها"، ديوان حسان "131 وما بعدها".

5 العمدة "ص95، 136 وما بعدها".

ص: 202

وكانوا يطلقون على أنواع وعلى ما ذكرت "أقراء الشعر"1. وكانوا ينقحونه ويحكون به حتى يرضون عنه. ويقال للشعر الذي لم يُحْكم ولم يجود "شعر خشيب" و"شعر مخشوب"، عكس الشعر المنقح المجود. ورد على لسان "جندل بن المثنى" قوله:

قد علم الراسخ في الشعر الأرب

والشعراء أنني لا أختشب

حسرى رذاياهم ولكن اقتضب2

والإقراء في الشعر طرائقه وأنواعه، واحدها قرو وقرى3.

والإكْفاء أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والإصراف، والإكفاء، والسِّناد. وقد عرفه العرب الفصحاء، بأنه الفساد في آخر البيت والاختلاف. وكانوا يقولون لمن يخالف بين حركات الروي: أكفأ أو أكفأ الشاعر. وقد كان النابغة يكفئ في شعره. وقد نبَّه إلى ذلك، فتجنب بعضه وهذَّبه4.

والإقواء عيب آخر من عيوب الشعر. وللنابغة في هذا خبر. فلما دخل يثرب، وأنشد داليته المشهورة، عيب عليه فيها فلم يفهم موطن العيب فيه، وهو الإقواء، فلما غنته المغنية بالقصيدة مطلت واو الوصل، فأحس بالإقواء واعتذر منه وغيره فيما يقال إلى قوله:

وبذاك تنعاب الغراب الأسود

ثم قال: "دخلت يثرب وفي شعري صنعة، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب"5. وكان بشر بن أبي خازم يقوي في شعره كذلك6. وذكر أن

1 تاج العروس "1/ 371""الكويت".

2 تاج العروس "2/ 354".

3 تاج العروس "10/ 293"، "قرو".

4 تاج العروس "1/ 396""الكويت"، العمدة "1/ 164 وما بعدها"، الموشح "60".

5 اللسان "15/ 209 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 39، 190"، "دار الثقافة"، الموشح "59 وما بعدها".

6 الموشح "60".

ص: 203

أخاه قال له: إنك تقوي1.

وبينما نرى أهل الأخبار يرمون النابغة بالوقوع في الإكْفاء وفي الإقواء، وبعدم إدراكه للإقواء مع تلميح الناس له، حتى دبَّر أهل يثرب حيلة، أظهرت إقواءه له، فعلمه، وخرج، وهو يقول:"دخلت وفي شعري صنعة، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب"، يذكرون أن أبا ذكوان، وهو من العلماء بالشعر يقول:"ما رأيت أعلم بالشعر منه. ثم قال: لو أراد كاتب بليغ أن ينشر من هذه المعاني ما نظمه النابغة ما جاء به إلا في أضعاف كلامه. وكان يفضل هذا الشعر على جميع أشعار الناس"2.

والإقواء أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور، وقيل نقصان الحرف من الفاصلة يعني من عروض البيت. وأقوى في الشعر، خالف بين قوافيه. وقيل هو رفع بيت وجر آخر. وذكر أن الإقواء كثير في كلام العرب، لكن ذلك في اجتماع الرفع مع الجر وأما الإقواء وإن كان عيبًا لاختلاف الصوت، فإنه قد كثر في كلامهم"3، وكان أبو عمرو بن العلاء يذكر أن الإقواء: هو اختلاف الإعراب في القوافي، وذلك أن تكون قافية مرفوعة، وأخرى مخفوضة. كقول النابغة:

قالَت بَنو عامِرٍ خالوا بَني أَسَدٍ

يا بُؤسَ لِلجَهلِ ضَرّارًا لِأَقوامِ

وقال فيها:

تبدو كواكبه والشمسُ طالعةٌ

لا النور نور ولا الإظلام إظلامُ"4

"وبعض الناس يسمي هذا الإكْفاء: ويزعم أن الإقواء نقصان حرف من فاصلة البيت، كقول حجل بن نضلة، وكان أسر بنت عمرو بن كلثوم وركب بها المفاوز، واسمها النوار:

1 الشعر والشعراء "146".

2 إنباه الرواة "3/ 10"، ديوان المعاني "1/ 17"، المصون "156"، بغية الوعاة "375".

3 تاج العروس "10/ 307"، "قوو".

4 الشعر والشعراء "1/ 39"، "دار الثقافة".

ص: 204

حنَّت نوار ولات هنا حنت

وبدا الذي كانت نوار أجنَّت

لما رأت ماء السلا مشروبًا

والفرث يُعصرُ في الإناء أرنت

سمي إقواء لأنه نقص من عروضه قوة". "وكان يستوي البيت بأن تقول: متشربًا"1.

وقد تعرض المعري لموضوع الإقواء وأمثاله في رسالة الغفران، إذ يسأل امرأ القيس عنه، ثم يجيب على لسانه. يقول للشاعر: "كيف ينشد:

جالَت لِتَصرَعَني فَقُلتُ لَها اِقصِري

إِنّي امرُؤٌ صَرعي عَلَيكِ حَرام

أتقول: حرامُ فتقوي؟ أم تقول: حرامِ فتخرجه مخرج حذامِ وقطامِ؟ وقد كان بعض علماء الدولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك. فيقول امرؤ القيس: لا نكرة عندنا في الإقواء"2. فهو يرى أن الإقواء لم يكن منكرًا عند أهل الجاهلية: وإنما عيب عليه في الإسلام.

ومن مصطلحات علماء الشعر: "الإيطاء"، قال العلماء: أطأ كرر القافية لفظًا ومعنى مع الاتحاد في التعريف والتنكير، فإن اتفق اللفظ واختلف المعنى فليس بإيطاء، وكذا لو اختلفا تعريفًا وتنكيرًا. وقال بعضهم الإيطاء رد كلمة قد قفيت بها مرة نحو قافية على رجل وأخرى على رجل فهذا عيب عند العرب، لا يختلفون فيه، وقد يقولونه مع ذلك. ووجه استقباح العرب الإيطاء، أنه دال عندهم على قلة مادة الشاعر ونزارة ما عنده حتى اضطر إلى إعادة القافية الواحدة في القصيدة بلفظها ومعناها فيجري هذا عندهم مجرى العي والحصر، وأصله أن يطأ الإنسان في طريقه على أثر وطئ قبله فيعيد الوطء على ذلك الموضع، وكذلك إعادة القافية من هذا. وقال أبو عمرو بن العلاء:"الإيطاء ليس بعيب عند العرب، وهو إعادة القافية مرتين"، أما إذا كثر الإيطاء في قصيدة مرات فهو عيب عندهم3.

1 الشعر والشعراء "1/ 39 وما بعدها".

2 رسالة الغفران "320".

3 اللسان "1/ 200"، "وطئ"، تاج العروس "1/ 135"، "وطئ"، الشعر والشعراء "1/ 41".

ص: 205

والمضمن من الشعر ما لا يتم معناه إلا في البيت الذي بعده. وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من عدَّه عيبًا، ومنهم من لم يعده عيبًا، ويراه مذهبًا أجازه العرب لسببين: السماع، والآخر القياس. أما السماع فلكثرة ما يرد عنهم من التضمين، وأما القياس فلأن العرب قد وضعت الشعر وضعًا دلت به على جواز التضمين عندهم، وحجة من قال بتقبيح التضمين أن كل بيت من القصيدة شعر قائم بنفسه فمن هنا قبح التضمين. وقد أوردوا للنابغة ولغيره من الشعراء أمثلة من التضمين1. وهو بهذا المعنى معروف عند غير العرب من الساميين والآريين، إذ إن الأبيات عندهم ترتبط معانيها بعضها ببعض، فلا يفهم معنى بيت إلا بالبيت الذي يليه. ولهذا تكون أبيات القطعة أو القصيدة مرتبطة بعضها ببعض، ولا سيما في أشعار الملاحم والغناء.

والإصراف في الشعر، إذا أقوى فيه وخولف بين القافيتين2. وأما السِّناد، فاختلاف الأرداف. وقال "الأخفش" أما ما سمعت من العرب في السناد، فإنهم يجعلونه كل فساد في آخر الشعر ولا يحدون في ذلك شيئًا وهو عندهم عيب". وقد أشير إليه في قول الشاعر:

فيه سناد وإقواء وتحريد3

وتحريد الشيء تعويجه

وقيل: السناد: هو أن يختلف أرداف القوافي، كقولك علينا في قافية وفينا في أخرى4.

وقد تحدث الجاحظ عن الأوتاد، والأسباب، والخرم والزحاف، فقال: "وكما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابًا لم تكن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، وكما ذكر الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر، والكامل، وأشباه ذلك، وكما ذكر

1 اللسان "13/ 258 وما بعدها"، "ضمن"، تاج العروس "9/ 265"، "ضمن"، العمدة "2/ 84"، "باب التضمين والإجازة".

2 اللسان "9/ 193".

3 اللسان "3/ 223".

4 الشعر والشعراء "1/ 40".

ص: 206

الأوتاد، والأسباب، والخرم، والزحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارهم السناد، والإقواء، والإكفاء، ولم أسمع بالإيطاء. وقالوا في القصيد، والرجز، والسجع، والخطب، وذكروا حروف الروي والقوافي، وقالوا هذا بيت وهذا مصراع"1.

وقد أباح علماء الشعر للشاعر ما لم يبيحوه للناثر من ضرورة دعوها: "ضرورة الشعر". وقد جاءوا بأمثلة على ذلك، اعتذروا عن بعضها، وأوجدوا لها مخارج في الإعراب، وعدوا بعضًا منها من "العيب في الإعراب"2، وورد:"الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويومئون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون. فإما لحن في إعراب، أو إزالة كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذلك"3.

وقد تعرض بروكلمن لموضوع "العروض"، فقال: "وعلى الرغم من أنه لا تزال تعوزنا بحوث شاملة لفن العروض عند قدامى الشعراء، يمكن أن نقرر اليوم بحق أن هذا الفن كان يعتمد عندهم على قواعد ثابتة. نعم نجد في بعض قصائد الشعراء الأقدمين أبياتًا خارجة عن العروض الذي وضعه الخليل بن أحمد، وما وضعه سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط في كتابه العروض، كما في قصائد المرقش الأكبر، وعبيد، وعمرو بن قميئة، وامرئ القيس، وسلمى بن ربيعة. ويبدو أن هذه الظواهر آثار قليلة لمرحلة من النمو لم نقف على كنهها بعد.

وبذل الشعراء المتأخرون محاولات للتخلص من قوانين العروض العربي ولكنهم قلما خرجوا عليه4.

وقد تعرض الهمداني لموضوع الشعر العربي وقواعد العروض، وخروج الشعر على سلطة هذا العلم، فقال: "أنشدني سعيد بن أبحر الهمداني، وكان شاعرًا بدويًّا مطبوعًا:

1 البيان والتبيين "1/ 139".

2 الشعر والشعراء "1/ 42 وما بعدها".

3 المزهر "2/ 471".

4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 54".

ص: 207

يا سمع يا بصري لو جاءكم خبري

لكان في عذر ناع على كور

وفي بني عامر ناع على خاطرٍ

وفي قرى صافر حزن وتثبير

وكان للجاهلية الجهلاء مذهب في الشعر من الأزحاف وغيره ما يستنكره الناس اليوم كقول علقمة:

ومنا الذي نودي بسبعة آلاف

غلامًا صغيرًا ما يشد إزارا

وكقوله:

كأن به سيد حلاحل

تصر من دونه الطروق

وقول بعض حمير في أيام جديس، النصف الأول من رَوِي والنصف الآخر من روي، قصيدته:

لله عينا من رأى حسان

قتيلا في سالف الأحقاب

ومن ذلك شعر مالك بن الحصيب اللعوي، وهو قديم في حلف ربيعة، وأوله:

أنا مالك وأنا الذي جددت حلفا

لكندة قبلنا قد كان سلفا

الشعر، وفي وزنه زيادة حرفين"1.

وقد يحسن العلماء في المستقبل بدراستهم لما ورد في مؤلفات الهمداني وغيره من شعر قديم ينسب إلى قدماء شعراء اليمن وإلى الشعراء اليمانيين والعرب الجنوبيين عامة الذين نظموا بأسلوبهم الخاص، لما في هذه الدراسة من فائدة كبيرة في إعادة بناء نظريات العلماء الحالية عن الشعر الجاهلي.

وفي الدواوين وكتب الأدب أمثلة على أمور خرج فيها الشعر على قواعد العروض أو النحو. من ذلك قول امرئ القيس:

كأن أبانًا في أفانين وَدْقه

كبير أناس في بجاد مزمَّلُ

1 الإكليل "2/ 49 وما بعدها".

ص: 208

فقد ضم اللام في نهاية البيت، وهي مكسورة في المعلقة جميعها1. ورووا أمورًا أخرى وقعت في شعره أيضًا2، وفي قصيدة "عبيد بن الأبرص":

أقفر من أهله ملحوبُ

فالقطبيات فالذنوبُ

فهي من مخلع البسيط، قلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعيله أو زيادة3. وفي قصيدة المرقش الأكبر:

هل بالديار أن تجيب صمم

لو كان رسم ناطقًا كلمْ

فهي من السريع، وقد خرجت شطور أبياتها على هذا الوزن، كالشطر الثاني من هذا البيت:

ما ذنبنا في أن غزا ملك

من آل جفنة حازم مرغم

فإنه من الكامل4. ورووا اضطرابًا وقع في شعر عدي بن زيد العبادي، على النحو المذكور، خرج فيه من السريع إلى وزن المديد5، وفي شعر غيره كذلك مثل نونية سلمى بن ربيعة:

إن شواء ونشوة

وخبب البازل الأمون

فهي خارجة عن عروض الخليل6.

ورووا وقوع مثل ذلك في قصيدة عدي بن زيد العبادي:

تعرف أمس من لميس الطلل

من الكتاب الدارس الأحول

1 دكتور شوقي ضيف: العصر الجاهلي "185".

2 راجع قصيدته:

عيناك دمعهما سجال

كأن شأنيهما أوشال

ديوان 189، العصر الجاهلي "184".

3 العصر الجاهلي "184".

4 المصدر نفسه.

5 كذلك.

6 كذلك "ص185".

ص: 209

فهي من وزن السريع، وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت:

أنعم صباحًا علقم بن عدي

أثويت اليوم أم ترحلْ

فإنه من وزن المديد1.

وتستحق هذه الأمور وأمثالها أن تكون موضع دراسة خاصة، لما لها من أهمية في تكوين رأي علمي دقيق عن تطور العرض في الجاهلية. ولا يعقل في نظري أن يكون الشعر الجاهلي قد كان بغفلة عن تلك الأمور التي عدها الإسلاميون من مواطن الاضطراب والخروج عن القواعد وإذا قسنا هذا الخروج في الوزن على مقاييس وزن الشعر عند الساميين، نرى أنه لم يكن خروجًا، لعدم تقيد ذلك الشعر بالوزن في كل القطعة أو القصيدة، وإنما كانوا يتقيدون بوزن البيت فالقطعة أو القصيدة عندهم منسجمة ذات نغم ووزن وإن تكونت من بحر أو من جملة بحور، وربما كان هذا شأن القصيدة عند الجاهليين كذلك. ثم إنه في هذه الاضطرابات دلالة على أن في العروض الجاهلي ما فات أمره عن علم الخليل، وأن العروض الإسلامي لا يمثل كل عروض الشعر الجاهلي.

وللخليل كتاب في العروض، اسمه "كتاب العروض" لا أعرف من أمره شيئًا، وهو أول كتاب ألف في هذا الباب، وحمل هذا الاسم، على ما أعلم، وله كتاب اسمه:"كتاب النغم"، وكتاب آخر اسمه "كتاب الإيقاع"، وكتاب اسمه:"كتاب الشواهد"، وكتاب اسمه "كتاب النقط والشكل"، وكتاب باسم "كتاب فائت العين"2.

ولأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش "215هـ"، "221هـ"، وهو أحد أصحاب سيبويه، كتاب في العروض، اسمه:"كتاب العروض"3.

1 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "185".

2 الفهرست "71".

3 الفهرست "84".

ص: 210

وعرف الخليل بسعة علمه باللغة، وإليه ينسب وضع أول معجم في اللغة العربية، هو كتاب "العين". وقد نظمت حروفه على ما يخرج من الحلق واللهوات1. وهو ترتيب يرى بعض المستشرقين احتمال أخذ الخليل له من ترتيب الأبجدية السنسكريتية وذلك عن طريق "خراسان" التي لها صلة وثيقة بثقافة الهند2. وقد نسب بعض العلماء كتاب العين إلى غيره، نسب إلى الليث بن نصر بن سيار الخراساني، ومنهم من زعم أن الخليل عمل قطعة من كتاب العين من أوله إلى حرف الغين وكمله الليث ولهذا لا يشبه أوله آخره3.

وقد كان للهنود حب شديد للشعر، وقد نظمت كتبهم الدينية شعرًا، وقد أدرك البيروني الواسع الاطلاع بأحوال الهند هذا الحب الشديد له، فقال:"أكثر الهنود يهترون لمنظومهم ويحرصون على قراءته، وإن لم يعرفوا معناه، ويفرقعون أصابعهم فرحًا به، واستجادة له، ولا يرغبون في المنثور وإن سهلت معرفته". وقد كانوا يزنون شعرهم بميزان، فـ"عملوا من التفعيلات قوالب لأبنية الشعر، وأرقامًا للمتحرك منها والساكن، يعبرون بها عن الموزون، فكذلك سمى الهند لما تركب من الخفيف والثقيل" أسماء يشيرون بها إلى الوزن المفروض4. فإذا كانت للهنود تفعيلات وزنوا بها شعرهم، وهي أقدم عهدًا من تفعيلات الخليل، أفلا يجوز أن يكون الخليل قد اقتبس تفعيلاته من تلك التفعيلات، وبين الهندي و "الإبلة" التي حلت البصرة محلها في الإسلام اتصال جد قديم، وقد كان بين سكانها عدد كبير جاءوا قبل الإسلام من الهند.

وحيث إن العلماء ينصُّون على أن الخليل، هو موجد البحور المعروفة في العروض، وهو وازنها، وحيث إن أساس المعايير التي قيست بها الأبيات، للوقوف على البحور هي "فعل" فيجب أن تكون هذه التسمية من ابتكاراته إذن. ولم أجد أحدًا وضح كيف اهتدى الخليل إلى إيجاد هذا المعيار، ولِمَ

1 الفهرست "70 وما بعدها".

2 John A. Haywood، Arabic Lexicography، p. 8..

3 القِفْطِي، إنباه الرواة "1/ 343"، المزهر "1/ 76".

4 البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة "66".

ص: 211

سماه بهذه التسمية، إن من المستحسن في نظري الاهتمام بهذا الموضوع، ودراسة موازين الشعر عند الهنود، لمعرفة أسماء معايير الشعر عندهم، للوقوف عليها، فقد تكون لهذه التفعيلات صلة بتفعيلات شعر الهنود. ويلاحظ أن ابن جني، كنى بالتفعيل عن تقطيع البيت الشعري، لأنه إنما نزنه بأجزاء مادتها كلها "فعل"1.

1 تاج العروس "8/ 65"، "فعل".

ص: 212