الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروي عن الأصمعي قوله إن بيت أبي ذؤيب الهذلي:
والنفس راغبة إذا رغبتها
…
وإذا ترد إلى قليل تقنع
هو أبرع بيت قالته العرب1.
وقد كان بشار بن برد حذرًا حين سئل: أخبرنا عن أجود بيت قالته العرب؟ فقال: إن تفضيل بيت واحد على الشعر كله لشديد، ولكن قد أحسن كل الإحسان لبيد في قوله:
وأكذب النفس إذا حدثتها
…
إن صدق النفس يزري بالأمل
وإذا رمت رحيلا فارتحل
…
وأعصى من يأمر توصيم الكسل2
وقد ذهب علماء الشعر إلى أن أشعر أهل المدر، أهل يثرب، ثم عبد القيس ثم ثقيف، وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصَّلْت. أما أشعر أهل يثرب، فهو حسان بن ثابت في نظر كثير من رواة الشعر. وورد في بعض الأخبار أنه أشعر أهل المدر3.
1 بلوغ الأرب "3/ 140".
2 بلوغ الأرب "3/ 131".
3 الأغاني "3/ 180"، "4/ 3"، العمدة "1/ 89"، "باب تنقل الشعر في القبائل".
نَقْدُ الشِّعْرِ:
وذكر أن الشعراء الجاهليين، كانوا يراجعون شعر بعضهم بعضًا، وينقدونه لما كان بينهم من تسابق على نيل الشهرة والاسم، أو لما كانوا يجدونه في شعر الشاعر من هنة أو غفلة أو هفوة، كالذي ذكروه من أمر الشاعر المتلمس، ذكر أن طرفة بن العبد سمع قوله:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره
…
بناج عليه الصيعرية مكدم
وكان إذ ذاك صبيًّا، فقال: استنوق الجمل فصار مثلا1.
1 الشعر والشعراء "1/ 115"، ونسب هذا البيت خطأ إلى المسيب بن علس، الموشح "76"، الأغاني "23/ 559".
أو أنهم كانوا ينقدونه عند التحكيم. ليقتنع الشعراء بصحة حكم الحكم، كالذي كان من أمر النابغة في سوق عكاظ، وكالذي روي من تنازع امرئ القيس مع علقمة الفحل على الشعر، وقول كل واحد منهما لصاحبه:"أنا أشعر منك"، ومن قبولهما بتحكيم أم جندب، زوج امرئ القيس بينهما. وقبول أم جندب الحكم بينهما. فذكر أنها قالت لهما: "قُوْلا شعرًا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة، فأنشداها، ثم حكمت بترجيح شعر علقمة على شعر زوجها، وأظهرت لهما العوامل التي حملتها على هذا الترجيح، فغضب امرؤ القيس عليها وطلقها، فخلف عليها علقمة1. وهي قصة من هذا القصص الموضوع على امرئ القيس.
ويقتضي ذلك أن الشعراء كانوا يحفظون شعر غيرهم، فقد كان منهم من إذا قابل شاعرًا، وجادله في شعره، أنشده شعره، وبين له ما يراه فيه من عيوب. وقد رأيت كيف زعموا أن النابغة لما جاء يثرب، أراد أهلها أن يظهروا له ما في شعره من إقواء، وهو من عيوب الشعر، فأمروا قينة فغنت به، وأبانت له مواطن الإقواء، فأحس به، ويقال له إنه تركه من يومئذ.
أما استحسان العلماء لشعر شاعر، أو تخبيثه أو تسخيفة ونقده، فقد خضع عندهم لعوامل عديدة، قامت في بادئ أمرها على الذوق والمزاج، فهذا يستحسن شعرًا لورود بيت فيه أستحسنه واستعذبه على حين يري آخر أنه لا يساوي شيئًا، وليس فيه ما يدعو إلى المدح والثناء عليه، ثم على العروض، فنرى العسكري يعترض على اختيار الأصمعي لميمية المرقش، وقد سبق لابن قتيبة أن اعترض على اختيار الأصمعي القصيدة أيضًا، وقال الآمدي: إنه ليس بحاجة إلى ذكر العيوب العروضية فيها لكثرتها2، ثم على النحو والبيان والبديع وغير ذلك من علوم الصناعة التي وضعت في الإسلام، وقد كان عليهم ملاحظة أن هذه العلوم إنما وضعت أو ثبتت في الإسلام، وأن الذوق الجاهلي يختلف عن الذوق الإسلامي، وإن
1 الشعر والشعراء "1/ 146 وما بعدها"، "علقمة بن عبدة"، الأغاني "21/ 225 وما بعدها"، الموازنة "1/ 37".
2 الصناعتين "4" غرونباوم "112".
الخليل لم يجمع كل بحور الشعر الجاهلي، بل طرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها1، ولعله لم يتمكن من الوقوف على أوزان أخرى؛ لأنها لم تكن مألوفة بين عرب العراق، أو لأنها صيغت بلهجات قبائل لم يرتح من شعرها، لأنه من الشعر القبلي الخاص.
وفضل العلماء الشعر الذي يكون فيه البيت تامًّا مستغنيًا بمعناه عن غيره، وقالوا لذلك: البيت المقلد. لأنه قائم بذاته غني عن غيره، يضرب به المثل2. ولهذا رأوا في القصيدة الجيدة، أن تكون أبياتها مقلدة، إذا قدمت بيتًا منها على بيت أو أبيات، أو إذا أوت بيتًا منها، أو حذفت بيتًا منها أو أكثر، فإنها لا تتأثر بهذا التغيير والتبديل، ولعل لهذا الرأي صلة بقولهم: "ومقلدات الشعر وقلائده البواقي على الدهر"3.
وقد أورد الجاحظ رأيًا في القصيدة لخلف الأحمر، فقال: "أما قول خلف الأحمر:
وبعض قريض القوم أولاد علة
فإنه يقول: إذا كان الشعر مستكرهًا، وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض، كان بينها من التنافر ما بين أولاد العَلَّات. وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيًا موافقًا، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة.
قال: وأجود الشِّعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغًا واحدًا، وسبك سبكًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"4.
وقد رأينا أمثلة كثيرة في استحسان شعر شاعر، أو في المفاضلة بين شعر الشعراء، والموازنة بينهم، ،قد بنيت على أبيات، أعجبت الناقد المفاضل،
1 غرونباوم "135".
2 ابن سلام، طبقات "127 وما بعدها"، "دار المعارف"، الجرجاني، الوساطة "33".
3 تاج العروس "2/ 475"، "قلد".
4 البيان والتبيين "66 وما بعدها".
ففضل شاعره الذي جعله أشعر على غيره، ثم رأيناه نفسه، لكن في موقف آخر يفضل غيره عليه، بسبب بيت أو أبيات أعجبه أو أعجبته. وقد تبدلت هذه النظرة في أيام العباسيين، فنجد لابن سلام مقاييس جديدة في النقد، وفي وضع الشعراء وتصنيفهم إلى طبقات. ونجد لابن قتيبة رأيًا في النقد يستند على آراء من تقدم عليه وعلى ملاحظاته الشخصية في النقد والموازنة بين الشعراء، وقد يخالف غيره على رأيه، خذ ما قله من نقد مرير في الأصمعي حيث يقول: "ومن هذا الضرب أيضًا قول المرقش:
هل بالديار أن تجيب صمم
…
لو أن حيًّا ناطقًا كلم
يأبى الشباب الأقورين ولا
…
تغبط أخاك أن يقال حكم
والعجب عندي من الأصمعي إذ أدخله في متخيره، وهو شعر ليس بصحيح الوزن، ولا حسن الروي، ولا متخير اللفظ، ولا لطيف المعنى، ولا أعلم فيه شيئًا يستحسن إلا قوله:
النشر مسك والوجوه دنا
…
نير وأطراف الأكف عنم1
ويذكر أهل الأخبار أن من الشعراء من كان يستحسن بيت شاعر، فيسطو عليه. ونجد ابن قتيبة يذكر في كتابه "الشعر والشعراء" ما أخذه الشعراء بعضهم من بعض، فذكر مثلا أن طرفة، والنابغة الجعدي، والشماخ، وأوس بن حجر، والنجاشي، وزهير، والمسيب، وزيد الخيل أخذوا من شعر امرئ القيس، فنظموه في شعرهم2. وإذا صح ذلك، كان معناه أن أولئك الشعراء كانوا قد حفظوا شعر امرئ القيس، وأنهم كانوا يحفظون أشعار غيرهم من الشعراء المتقدمين عليهم أو المعاصرين لهم وبذلك سطوا على ذلك الشعر أو على معناه.
غير أننا لو درسنا الأمثلة التي ذكرها ابن قتيبة وغيره على أنها من سرقات الشعر، نرى أن أكثرها لا يمكن أن يعد سرقة، لأن للسرقة الشعرية علامات،
1 الشعر والشعراء "1/ 18 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 68 وما بعدها".