المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع عشر

- ‌الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:‌‌ الأعراب والعربيةواللحن

- ‌ الأعراب والعربية

- ‌اللَّحْنُ:

- ‌الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

- ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

- ‌مدخل

- ‌خبر شعراء الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌الشَّاعِرُ:

- ‌عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌إنشاد الشعر

- ‌مدخل

- ‌سُوقُ عُكَاظٍ:

- ‌يَثْرِبُ:

- ‌تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌المغلبون:

- ‌بَدْءُ الشَّاعِرِ:

- ‌أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:

- ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

- ‌الْخَمْرُ والشِّعْرُ:

- ‌شَيطَانُ الشَّاعِرِ:

- ‌الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

- ‌مدخل

- ‌الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:

- ‌الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

- ‌مدخل

- ‌التمليط:

- ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

- ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

- ‌الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

- ‌مدخل

- ‌نَقْدُ الشِّعْرِ:

- ‌أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:

- ‌الشِّعْرُ والإِسْلامُ:

- ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌رُوَاةُ الشِّعْرِ:

- ‌الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:

- ‌التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:

- ‌الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:

- ‌الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

- ‌مدخل

- ‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

- ‌الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

- ‌مدخل

- ‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

- ‌الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

- ‌الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:

- ‌فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:

الفصل: ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

الفَصْلُ الخمْسونَ بَعْدَ المائةِ: البَصْرَةُ والكُوفَةُ

لا بد لنا من التعرض لأثر البصرة والكوفة في عمل القواعد وفي وراية الشعر الجاهلي، إن أردنا فهم هذا الشعر وكيف جمع ودوِّن، وكيف نحل المنحول منه، فقد كان للمدينتين الأثر الأكبر في جمع هذا الشعر وفي تدوينه ونحله.

ولا بد من التحدث أولا عن أثر العصبية القبلية في هاتين المدينتين. فقد بنيتا على أساس هذه العصبية. فلما بنيت الكوفة، جعلت قسمين: قسم لليمن، وقسم لنزار، وكانت الأغلبية لليمن. ووزعت المحلات والسكك حسب القبائل1، وكذلك كان الأمر بالبصرة حين شرع ببنائها، فقد روعي في بنائها، توزيع أحيائها على حسب النسب والقبائل2، فكانت عصبية الحي للعشيرة أولا، وللقبيلة ثانيًا، ثم للمدينة ثالثًا. وهكذا غرست بذور العصبية في أرض المدينتين، منذ شرع بوضع أساس التأسيس.

وتجمعت العصبية القبلية في العصبية للمدينة، فتعصب عرب الكوفة ومواليها للكوفة، وتعصب عرب البصرة ومواليها للبصرة، "يفخر كل منهما بطبيعة الأرض وموقعها الجغرافي، ويفخر كل بما كان على يده من فتوح البلدان، ويفخر كل ممن نزل عندهم من صحابة رسول الله، ويعير كل الآخر بما نبت عنده من

1 البلاذري، فتوح البلدان "274"، "تمصير الكوفة"، "طبعة رضوان محمد رضوان".

2 البلاذري "341"، "تمصير البصرة".

ص: 213

دعاة للضلالة، وأخيرًا كانوا يتفاخرون بالعلم. وظهرت هذه المفاخرات العلمية والمناظرات وتعصب كل مدينة لعلمائها، ظهورًا بينًا في كثير من فروع العلم، فالبصريون والكوفيون في المذاهب الدينية وعلم الكلام، والبصريون والكوفيون في الأدب؛ يقول أعشى همدان:

اكسع البصري إن لاقيته

إنما يكسع من قلّ وذلّ

واجعل الكوفي في الخيلِ ولا

تجعل البصريَّ إلا في النفل

وإذا فاخرتمونا فاذكروا

ما فعلنا بكم يوم الجمل

بين شيخ خاضبٍ عثنونه

وفتى أبيص وضاح رفل

جاءنا يخطر في سابغة

فذبحناه ضحى ذبح الحمل

وعفونا فنسيتم عفونا

وكفرتم نعمة الله الأَجَل"1

والكوفة بظاهر الحيرة. المدينة التي كان يقصدها الشعراء والتجار، وفيهم تجار مكة وأشرافها، مثل عبد الله بن جدعان، وأبو سفيان. ومنه انتقل الخط إلى مكة، على حد قول أهل الأخبار، ومنها انتقلت النسطورية إلى العرب النساطرة، وقد اشتهرت برجال برزوا فيها في العلوم الدينية النصرانية وبالعلوم اللسانية في لغة بني إرم، وبكنائسها وبأديرتها التي كانت تعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، وتهيئ الطلاب للتبحر في علوم الدين وفي العلوم الدنيوية المعروفة في ذلك الوقت، ولما أُنشئت الكوفة انتقلت إليها بأبنيتها وأناسها، فقد هدمت منازلها ونقلت حجارتها إلى الكوفة، لتبني بيوتها بها، وانتقل أهلها إلى الكوفة، لأنها أخذت مكانها في الحكم، وصارت مقر الولاة، فشايع أهلها أهل الكوفة في السكن وفي الالتفاف حول قصر الوالي، وانتقل ما كان قد تبقى من بقية علم من الحيرة إلى الكوفة كذلك، وتجسم في هذا الذي نسميه بعلم أهل، أو بمدرسة الكوفة.

وقد كان في أهل الحيرة قوم من النبط، أي من بني إرم أهل العراق، وقوم من الفرس، فتأثر لسان أهلها العرب بلسان النبط ولسان العجم، كما تأثروا بحياة الحضارة والاستقرار، فَلَانَ لسانهم وسهل منطقهم2؛ وثقل نطقهم بالعربية،

1 فجر الإسلام "181"، البلدان، لابن الفقيه "163 وما بعدها".

2 ابن سلام، طبقات "31".

ص: 214

فلم يعد ينطق لسانهم نطق الأعراب من حيث الوضوح والإفصاح1. والذي عند علماء العربية أن في لسان الأعراب جفاء وشدة وغلظة، دخلت عليه من خشونة البادية ومن طباعها، فإذا خالط أهل البادية البلديين والأعاجم، لان جفاؤهم وسهل لسانهم، فيبتعد بذلك عن اللسان العربي القُحّ، ولهذا طلب علماء اللغة جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، وأخذوا عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة، وبقيت في سرة البادية أو فاضت حواليها، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف2.

أما البصرة، فأخذت مكانة "الأبلة" المدينة الشهيرة المعروفة باسم "أبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية، وبـ Apologus "أبولوكس" في النصوص الكلاسيكية3، وهي أقرب إلى جزيرة العرب من الكوفة، ولها اتصال ببلاد الخليج وبالهند، فكانت سفن الهند وسيلان تأوي إليها، وسكن قوم من الهند بها، كما سكن بها قوم من الفرس، خالطوا العرب، ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن شأن الموالي بالبصرة كان أقوى منه بالكوفة، لاتصال البصرة بالهند وببلاد فارس، وبعد الكوفة عنهما، وقد أثر هذا الاتصال في لسان عرب البصرة، مما أدى إلى ظهور اللحن في الكلام، وظهور أثر اللغات أهل الهند في لسان أهل "الأبلة" ثم البصرة، بسبب نزوح جاليات كبيرة من الهند إلى "الأبلة"، وذلك قبل الإسلام.

وأما "بغداد" التي ظهرت بعد المدينتين بأمد، فقد أسسها أبو جعفر المنصور العباسي، فإنها كانت مدينة ملك، ولم تكن مدينة علم، وما فيها من العلم، فمجلوب للخلفاء وأتباعهم، "قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، لم يكن بها من يوثق به في كلام العرب، ولا من ترتضى روايته، فإن أدعى أحد منهم شيئًا رأيته مخلطًا صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة"4. وللأصمعي كلام يستهزئ به على علم أهل بغداد. قال "خرجت إلى بغداد وما فيها أحد

1 الشعر والشعراء "1/ 150"، "وكان عدي بن زيد يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه".

2 الرافعي "1/ 343".

3 كتابي هذا، الجزء الثاني "ص20".

4 المزهر "2/ 414".

ص: 215

يحسن شيئًا من العلم، لقد جاءني قوم يسألوني عن الجعطرى، فأخبرتهم أنه المكتل. قالوا: وما المكتل؟ قلت: هو المعضل! قالوا: وما المعضل؟ وكان بقربي بقال ضخم، فقلت: هو مثل ذلك البقال! فرووا عني"1.

ونجد المعري يتهم رواة بغداد بعدم الفهم في الشعر، ترى رأيه هذا فيهم في رسالة الغفران، حيث يسأل امرأ القيس: "يا أبا هند، إن رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك، هذه الأبيات بزيادة الواو في أولها، أعني قولك:

وكأن ذرى رأس المجيمر غدوة

وكأن مكاكي الجواء

وكأن السباع فيه غرقى

فيقول: أبعد الله أولئك! لقد أساءوا الرواية. وإذا فعلوا ذلك فأي فرق يقع بين النظم والنثر؟ وإنما ذلك شيء فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون أصلا في المنظوم، وهيهات هيهات"2.

وأما المدن الأخرى، فلم تبلغ في العلم شأو البصرة والكوفة ثم بغداد. فلم يعترف أحد من علماء العربية بوجود إمام في العربية بدمشق أو يثرب أو مكة. وقد زعم الأصمعي، أنه أقام بالمدينة زمانًا ما رأى بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان بها عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب المعروف بابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكان شاعرًا وعلمه بالأخبار أكثر. وكان بها علي الملقب بالجمل، وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا.

"وأما مكة فكان بها رجل من الموالي، يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئًا من النحو، ووضع كتابًا لا يساوي شيئًا"3.

وقد دفعت العصبية إلى المدن، أهل المدينتين على التحاسد والتفاخر والتنافر، فادعى أهل كل مدينة أنهم أرسخ علمًا من أهل المدينة الثانية، وأنهم أكثر إحاطة

1 الرافعي "1/ 404".

2 رسالة الغفران "313 وما بعدها".

3 المزهر "2/ 413 وما بعدها".

ص: 216

به من خصومهم، ومن ثم صار أهل الكوفة يتمرءون بخصومهم، فينتقصونهم ويلصقون بعلمهم وبعلمائهم التهم، ويغمزون فيهم، وصار أهل البصرة يكيدون لأهل الكوفة وينتقصونهم، وكانوا "يرون أن أصحابهم لو ركبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة، وقد رموهم في باب الكذب بقمص الحناجر، والأخذ عن كل بر في الرواية وفاجر، وجعلهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق"1. ووجدت هذه المنافسة أرضًا صالحة في قصور الخلفاء والوزراء والأكابر ببغداد، حتى تحولت إلى مؤامرات ومهاترات، ابتعدت عن أدب العلم والعلماء، حتى نزلت أحيانًا إلى درك مهاترات العامة. وإلى التزوير، والاستعانة بالشهود الزور لتأييد عالم على عالم، كالذي وقع في المسألة الزنبورية في الخلاف الذي كان بين سيبويه والكسائي.

وقد وقعت العصبية بين المدينتين حتى في قراءة القرآن ففضل أهل كل مدينة قارئ مدينتهم، واعتبروا قراءة صاحبهم أحسن القراءات، فأهل الكوفة يتعصبون لقراءة عبد الله بن مسعود ويرون أن مصحفه أصح المصاحف، وأهل البصرة يتعصبون لأبي موسى الأشعري، ويأخذون بقراءته وبلحنه، "وكأنما يسمون مصحفه لباب القلوب"2. والكوفيون يكتبون "والضحى" بالياء، وأهل البصرة يكتبونها بالألف3.

وكانت أولية العربية بالبصرة، "لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل بها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كل أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين، ثم انتقل النحو إلى الكوفة". ثم استفاض نحو الكوفيين، فنبغ فيه من سكنة الكوفة أبو جعفر الرؤاسي، ومعاذ الهراء، واضع التصريف، والكسائي، والفراء4. وذكر أنه لم يعلم أن أحدًا من علماء البصريين أخذ شيئًا من النحو واللغة عن أحد من أهل الكوفة، بينما أخذ الكوفيون عن أهل البصرة، وما من أساتذتهم أحد إلا وقد تلمذ لبصري5. وقد قدم ابن سلام أهل البصرة على غيرهم في

1 الرافعي "1/ 429".

2 الرافعي "2/ 17".

3 المقتنع "35"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "35".

4 الرافعي "1/ 430 وما بعدها".

5 الرافعي "1/ 432 وما بعدها".

ص: 217

العربية، قال:"وكان لأهل البصرة في العربية قدمة بالنحو وبلغات العرب والغريب عناية"1. وابن سلام نفسه من علماء البصرة، ومن المتعصبين لها على أهل الكوفة.

وروي أن أبا الخطاب المعروف بالأخفش، وهو من علماء البصرة، كان أول من فسر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله، وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسروها2، فلأهل البصرة قدمة على أهل الكوفة في هذا المضمار.

ومن أهم ميزات أهل البصرة، هو استعمالهم القياس في النحو، فقد سبقوا به أهل الكوفة. أما أهل الكوفة، فقد أخذوا بالقياس في الفقه. فالقياس من أهم وسائل استنباط الأحكام الشرعية في فقه أبي حنيفة، وهو من علماء الكوفة. كان علماء البصرة يطبقون القياس على النحو واللغة، فما يسمعونه يقيسونه على ما جمعوه من قواعد استنبطوها من القرآن ومن الشعر ومن لغة العرب، ثم يحكمون حكمهم عليه. أما أهل الكوفة، فقد تحرروا منه، وكانوا على ما قيل عنهم، يأخذون بالشاذ والغريب، ولو خالف القياس. ومن هنا اتهموا بالضعف، وبعدم التروي في البحث والاستقصاء، وبالأخذ بالخبر من غير نقد ولا تمحيص. وهو اتهام، قد يكون للعاطفة يد فيه. وقد صار هذا القياس سببًا في إخضاع اللغة إلى حكم قواعد ثابتة اتفق عليها، استنبطت من الاستقراء، ومن تطبيق حكم القياس عليها، إلا أنه صار في الوقت نفسه سببًا في إهمال اللهجات المخالفة التي سماها العلماء لغات شاذة أو غريبة، وتركها لعدم استحقاقها في نظرهم شرف التسجيل والتثبيت، ولم يقدروا آنذاك أهميتها بالنسبة لمن يريد تتبع تأريخ لغات العرب وتطورها منذ الجاهلية إلى الإسلام.

وكان لأهل البصرة ميزة قربهم من أعراب نجد والبوادي، فكانوا يأخذون منهم القواعد واللغة، أما أهل الكوفة، فقد اعتمدوا على أشباه الأعراب من المقيمين في أطراف البادية، وهم ممن رفض أهل البصرة الأخذ عنهم، لأنهم

1 طبقات "5".

2 الْمُزْهِرُ "2/ 400".

ص: 218

مِمَّنْ خالط أهل الريف، وأقاموا على أطراف الحواضر1. كما أن قياس أهل البصرة في النحو، بني على قواعد بنوها هم وأقاموها، وفق دراساتهم، وأخذهم عن الأعراب من نثر وشعر، ولهذا سخروا من علم أهل الكوفة ومن علم علمائهم في النحو، وتتجلى سخريتهم في أشعار نظموها في أهل الكوفة وفي شيخهم "الكسائي". ترى استهزاء أهل البصرة بعلم وبقياس وبعلماء أهل الكوفة في مثل هذا الشعر:

كنا نقيس النحو فيما مضى

على لسان العرب الأول

فجاء أقوام يقيسونه

على لغي أشياخ قطربل

فكلهم يعمل في نقض ما

به يصاب الحق لا يأتلي

إن الكسائي وأشياعه

يرقون في النحو إلى أسفل2

وتراه في شعر آخر، هو:

وقل لمن يطلب علمًا ألا

ناد بأعلى شرف ناد

يا ضيعة النحو، به مغرب

عنقاء أودت ذات إصعاد

أفسده قوم وأزروا به

من بين أغتام وأوغاد

ذوي مراء وذوي لكنة

لئام آباء وأجداد

لهم قياس أحدثوه هم

قياس سوء غير منقاد

فهم من النحو، وإن عمروا

أعمار عاد، في أبي جاد

والكسائي، الذي طعن البصريون في علمه، وقدموا صاحبهم سيبويه عليه، ناظر خصمه بحضرة الرشيد أو في مجلس البرامكة على رواية، وغلبه بمؤامرة يقال إنها حكيت، للإيقاع به. وذلك في المسألة التي عرفت بـ"المسالة الزنبورية" في كتب العلماء3. وكان الكسائي قد أخذ النحو عن أبي جعفر الرؤاسي، وهو أول من وضع من الكوفييين كتابًا في النحو، وقيل إن كل ما في كتاب سيبويه: "وقال الكوفي كذا.." إنما عنى به الرؤاسي هذا، وكتابه يقال

1 نزهة الألباء "108". بغية، للسيوطي "336"، إرشاد "7/ 290"، يوهان فك "62".

2 السيرافي، أخبار النحويين "23"، يوهان فك "62".

3 مجالس العلماء "8 وما بعدها"، السيوطي، الأشباء والنظائر "3/ 15".

ص: 219

له الفيصل، وكان له عم يقال له معاذ بن مسلم الهراء، وهو نحوي مشهور، وهو أول من وضع التصريف. وقد طعن رواة البصرة في علم الرؤاسي. قال أبو حاتم:"كان بالكوفة نحوي يقال له: أبو جعفر الرؤاسي، وهو مطروح العلم ليس بشيء، وأهل الكوفة يعظمون من شأنه، ويزعمون أن كثيرًا من علومهم وقراءتهم مأخوذ عنه"1.

وسبقت الكوفة البصرة في رواية الشعر، وقد خاطب علي بن أبي طالب أهل الكوفة بقوله:"إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقًا عِزِينَ، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار"2، فالأمثال والشعر من أهم الموضوعات التي كان يتدرسها أهل الكوفة في أيام نشأتها الأولى، فهم على سنن الجاهليين في ضرب الأمثال ورواية الشعر. روي أن المفضل كان يروي للأسود بن يعفر ثلاثين ومائة قصيدة، وكان أهل الكوفة يروون له أكثر من غيرهم، ويتجوزون فيه أكثر من غيرهم3، وقد انفردوا برواية شعر امرئ القيس، خلا نتف أخذت من أبي عمرو بن العلاء وبعض الرواة الأعراب4. وروي أن "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بيِّنٌ في دواوينهم"5. وقد زعم أهل الكوفة، أن علمهم بالشعر القديم، إنما ورد إليهم من "الطنوج"، وهي الكراريس التي أمر النعمان بن المنذر بتدوين أشعار العرب عليها، وما مدح به هو وأهل بيته، ثم أمر بدفنها في القصر الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، احتفرها، "فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"6.

وكان حماد الراوية رأس أهل الكوفة في رواية الشعر وتدوينه، فقد بلغ الغاية في العلم بشعر الجاهليين، يقابله فيه خلف الأحمر عند أهل البصرة، وكان خلف أول من أحدث السماع في البصرة، "وذلك أنه جاء إلى حماد الرواية فسمع

1 المزهر "2/ 400".

2 الرافعي "1/ 382".

3 ابن سلام، طبقات "34".

4 الرافعي "1/ 432".

5 المزهر "2/ 407".

6 الخصائص، لابن جني "1/ 392".

ص: 220

منه الشعر، ثم تابعه البصريون فأخذوا عن حماد بعد ذلك، لانفراده بروايات من الشعر، فإنه هو الذي أخذ عنه كل شعر امرئ القيس، إلا شيئًا أخذوه عن أبي عمرو بن العلاء"1. وذكر أن الخثعمي، و"أبا البلاد" كانا من رواة أهل الكوفة في الشعر قبل "حماد، وكانا في خلافة عبد الملك بن مروان2.

ونسب إلى بعض العلماء إضافتهم البيت أو الأبيات على ألسنة الشعراء، لتوجيه الحجة وتزيين الخبر، والاستشهاد على قاعدة نحوية أو صرفية. وذكر أن بعضًا منهم قد اعترف بذلك، وأقر الوضع3. وفي هذه الاعترافات المنسوبة إليهم، ما هو باطل مصنوع. صنعه عليهم حاسدهم ومنافسوهم في الصنعة، ورموه بين الناس على أنه إقرار من أولئك العلماء بالوضع، ولا يعقل صدور مثل هذه الاعترافات منهم، لشهرتهم ولمكانتهم بين الناس، ولخوفهم من السمعة السيئة، واشتهارهم بالكذب والانتحال. وليس معنى هذا أنهم لم يضعوا ولم يصنعوا شيئًا على الشعر الجاهلي، إنما أشك في صحة ما قيل على ألسنتهم من اعترافهم بالدس والوضع.

وذكر أن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيرًا والنابغة4. وقد كان من اللازم أن يتعصب أهل الكوفة لامرئ القيس، فقد روى أكثر شعره حماد ورواة آخرون من أهل الكوفة. وقد كان يونس بن حبيب، وهو من البصريين ومن المتعصبين لمدينته يقول:"يا عجبًا للناس، كيف يكتبون عن حماد وهو يصحف ويكذب ويلحن ويكسر"5.

وقد اتهم الكوفيون بأنهم كانوا أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها، "لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولا يقاس عليها". "وأول من سنَّ لهم هذه الطريقة شيخهم الكسائي، قال ابن درستويه: كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك". و"قال الأندلسي في شرح المفصل: والكوفيون لو سمعوا

1 الرافعي "1/ 423".

2 المصدر نفسه.

3 الرافعي "1/ 383 وما بعدها".

4 طبقات، ابن سلام "16".

5 رسائل الجاحظ "1/ 226"، "كتاب البغال".

ص: 221

بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه، بخلاف البصريين"1.

واتهموا أنهم كانوا يصنعون الشاهد من الشعر فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم، ولذلك تجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر2، وربما أخذوا من العرب المتحضرة، "ومن أجل هذا وأمثاله كان البصريون يغتمزون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكوامخ3. ومن الأعراب الذين أخذ الفراء -عالم الكوفة بعد الكسائي- عنهم اللغة، أبو الجراح، وأبو مروان، وأهل البصرة يمتنعون من الأخذ عن أمثال هؤلاء الأعراب، ولا يرون في قولهم حجة. وقال أبو حاتم: إذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها، وحكيت عن العرب شيئًا، فإنما أحكيه عن الثقات منهم، مثل أبي زيد. والأصمعي، وأبي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم، ولا التفت إلى رواية الكسائي، والأحمر والأموي، والفراء، ونحوهم"4.

واتهموا بأنهم كانوا يكثرون من الشعر، يقولونه على ألسنة الشعراء، قال ابن سلام في أثناء حديثه عن الأسود بن يعفر الشاعر الجاهلي:"وذكر بعض أصحابنا أنه سمع المفضل يقول: له ثلاثون ومائة قصيدة، ونحن لا نعرف له ذلك ولا قريبًا منه. وقد علمت أن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي، ويتجوزون في ذلك أكثر من تجوزنا"5. وكان الأسود، يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد. وله في ذلك أشعار. له قصيدة جيدة، طويلة رائعة تعد من أول الشعر، وهي:

نام الخلي فما أحس رقادي

والهم محتضر لدي وسادي6

1 الرافعي "1/ 370".

2 الرافعي "1/ 370 وما بعدها".

3 الرافعي "1/ 371".

4 المزهر "2/ 410"،

5 ابن سلام، طبقات "33 وما بعدها".

6 ابن سلام، طبقات "33".

ص: 222

ونسمع قصصًا عن تغليط علماء البصرة والكوفة بعضهم البعض، فنجد خلفًا الأحمر، وهو شيخ البصرة في الشعر، يذكر أنه أخذ على المفضل الضَّبِّي في يوم واحد تصحيف ثلاثة أبيات1. ونجد الأصمعي وهو من علماء البصرة كذلك، يحمل على علم الضبي في الشعر، ويرميه بعدم الفهم2. وتجد قصصًا روي عن علماء مشاهير مثل ثعلب وغيره، يحمل فيه أولئك العلماء بعضهم على بعض، وينتقص بعضهم على البعض الآخر3.

ونحن إذا أردنا الوقوف موقفًا علميًّا، فلا نستطيع إلا أن نقول: إننا لا نستطيع تبرئة أهل الكوفة من الصنعة والوضع، كما لا نستطيع تبرئة أهل البصرة منهما، لأن في كل مدينة من المدينتين منافسات بين العلماء، وتزاحم على الرئاسة، وحسد يدفع الإنسان على الوضع والصنعة والأخذ بالخبر مهما كان شأنه لإقحام الخصوم، والتغلب عليهم. فإذا كان حماد عالم الكوفة في الشعر من الوضاعين، وكان يصحف ويكذب ويلحن ويكسر4، فقد كان خلف الأحمر وهو عالم البصرة، مثله في الصنعة والوضع والكذب. وكان "شوكر" وهو من أهل البصرة، ومن رجال المائة الثانية، ممن يضع الأخبار والأشعار، وفيه يقول خلف الأحمر:

أحاديث ألفها شوكر

وأخرى مؤلفة لابن دأب5

وقد نقح علماء الشعر من المدرستين والمدارس الأخرى ما أخذوه من الشعر الجاهلي، وأجروا على ما لا يتفق منه والقواعد التي ثبتوها للنحو وللعروض تهذيبًا وتشذيبًا، وعابوا منه أمورًا مثل الإقواء والزحاف، واختلال الوزن، وما شاكل ذلك. وقد تحدث عن ذلك المعري في رسالة الغفران، وهو شاعر ومن نقدة

1 المصون "191 وما بعدها".

2 المصون "192 وما بعدها".

3 المزهر "1/ 202 وما بعدها".

4 رسائل الجاحظ "1/ 226"، "كتاب البغال".

5 لسان الميزان "3/ 158"، "4/ 409"، رسائل الجاحظ "1/ 225"، "كتاب البغال".

ص: 223

الشعر، في أحاديثه التي وضعها على ألسنة الشعراء في الجنة أو في النار، وفي أسئلته التي وجهها إليهم، أو وجهها غيره إليهم. كما في استفساره من امرئ القيس عن رواة أهل بغداد في إنشادهم أبياتًا من قصيدته:"قفا نبك" بزيادة الواو في أولها، فوضع الجواب على لسانه، بقوله:"باعد الله أولئك! لقد أساءوا الرواية. وإذا فعلوا ذلك فأي فرق يقع بين النظم والنثر؟ وإنما ذلك شيء فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون أصلا في المنظوم، وهيهات هيهات! "1. ثم يقول: "لو شرحت لك ما قال النحويون في ذلك لعجبت"2.

ونرى المعري يوجه أسئلة إلى امرئ القيس، فيقول له:"أخبرني عن كلمتك "الصادية"، و"الضادية"، و"النونية" التي أولها:

لمن طلل أبصرته فشجاني

كخط زبور في عسيب يمان

لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السمع، كقولك:

فإن أمس مكروبًا فيا ربَّ غارةٍ

شهدت على أقب رخو اللبانِ

وكذلك قولك في الكلمة الصادية:

على نقنق هيقٍ له ولعرسه

بمنقطع الوعساء بيض رصيص

وقولك:

فأسقى به أختي ضعيفة إذ نأت

وإذ بَعُدَ المزدارُ غير القريضِ

في أشباه لذلك، هل كانت غرائزكم لا تحس بهذه الزيادة؟ أم كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وأنتم عالمون عما يقع فيه؟ كما أنه لا ريب أن زهيرًا كان يعرف مكان الزحاف في قوله:

1 رسالة الغفران "313 وما بعدها".

2 رسالة الغفران "314".

ص: 224

يطلب شأو َامرأين قدّما حسبًا

نالا الملوك، وبذَّا هذه السوقا

فإن الغرائز تحس بهذه المواضع"1.

ثم يجيب المعري على لسان امرئ القيس بقوله: "أدركنا الأولين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك، ولا أدري ما شجن عنه "فأما أنا وطبقتي فكنا نمر في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فنى وقارب، تبين أمره للسامع"2.

ثم نراه يسأل امرئ القيس عن قوله:

ألا رب يوم لك منهن صالحٍ

ولا سيما يوم بدارة جلجل

أتنشده: لك منهن صالح؟ أم تنشده على الرواية الأخرى. فيجيب على لسانه بقوله: "أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف:

لك منهن صالح

وأما المعلمون في الإسلام، فغيروه على حسب ما يريدون"3.

وقد سأله المعري عن الشعر المسمط المنسوب إليه، فأنكر على لسانه أن يكون قد سمع به قط، قائلا "وإنه لقرى لم أسلكه، وإن الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إلي"4. ولما سأله عن الإقواء في شعره، قائلا له: "وقد كان بعض علماء الدولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك"، أجاب على لسانه: "لا نكرة عندنا في الإقواء"5.

وقد كان من أصعب الأشياء على بعض رجال المدرستين ألا يجيبوا على أسئلة توجه إليهم إجابة تفيد بوجود علم لهم عنها، ولهذا كانوا يعمدون إلى الصنعة والافتعال. نجد ذلك عند أهل الأخبار، وعلى رأسهم ابن الكلبي، كما نجد ذلك عند رواة الشعر مثل حماد الراوية، وخلف الأحمر، كما نجد عند علماء

1 رسالة الغفران "315 وما بعدها".

2 رسالة الغفران "317".

3 رسالة الغفران "317 وما بعدها".

4 رسالة الغفران "319".

5 رسالة الغفران "320".

ص: 225

اللغة. وقد أشرت في صفحات هذا الكتاب إلى أمثلة عديدة من هذا القبيل، اضطر فيها المجيب على افتعال جواب وصنعه، ليظهر نفسه بمظهر العارف بكل شيء.

ويجب الانتباه إلى أن علماء البصرة أو الكوفة أو غيرهم، مهما سموا في العلم وارتفعوا، فإنهم بشر، لم يرزقوا العصمة، وهم في التأثر والانفعال مثل أي كائن حي، فقد يتأثر عالم من عالم متقدم عليه، فيحاول الغمز في علمه أو الطعن به. قال علي بن العباس:"رآني البحتري ومعي دفتر، فقال: ما هذا؟ فقلت شعر الشنفرى. قال: وإلى أين تمضي؟ قلت أقرأه على أبي العباس أحمد بن يحيى. قال: رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام، فلم أرَ له علمًا بالشعر مرضيًا، ولا نقدًا له، ورأيته ينشد أبياتًا صالحة ويعيدها، إلا أنها لا تستوجب الترديد والإعجاب فيها"1. وروى أحمد بن يحيى ثعلب، خبر مناظرات وقعت بين أبي عمرو الشيباني، والأصمعي، ترينا مبلغ التنافس الذي كان بين العالمين، واستهتار الأصمعي بخصمه، استهتارًا تجاوز الحد2.

وقد حاول السيوطي إيجاد عذر لغمز العلماء بعضهم في بعض، بأن قال:"فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به من المصرين كثيرًا ما يهجن بعضهم بعضًا، فلا يترك له في ذلك سماء ولا أرضًا؟ قيل: هذا أدل دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم، ألا ترى أنه إذا سبق إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة سبَّ بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها، ولعل أكثر ما يرمى بسقطة في رواية، أو غمزة في حكاية، محمي جانب الصدق فيها، برئ عند الله من تَبِعَتها؛ لكن أخذت عنه إما لاعتناق شبهة عرضت له، أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاة، مغموض الطرف دون مداه، وقد عرض الشبهة للفريقين، ويعترض على كلا الطريقين" ثم أخذ يعتذر عن ذلك، بأنه وقع في سبيل العلم والحق، ثم قال: "وإذا كانت هذه المناقضات والمنافسات موجودة بين السلف القدي

جاز مثل ذلك أيضًا في علم العرب"3.

1 المصون "4".

2 المصون "193 وما بعد".

3 المزهر "2/ 416 وما بعدها".

ص: 226

ومن هنا يجب الاحتراس كثيرًا حين قراءتنا الطعون التي ترد على ألسنة العلماء يطعن فيها بعضهم ببعض، فأكثر هذا المروي عنهم، صادر عن طبيعة بشرية، تظهر بين الزعماء نتيجة التنافس الذي يقع بينهم على الزعامة والصدارة، ولو في زعامة العلم. ولا تقتصر هذه الطعون والمغامز على طعن علماء البصرة بعلماء أهل الكوفة، أو العكس، بل نجدها بين علماء المدينة الواحدة أيضًا، لأن الموضوع موضوع زعامة ورئاسة، والتحاسد بين المتحاسدين لا ينحصر بقوم دون قوم، وقد يقع بين الإخوة الأشقاء.

ص: 227