الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي
مدخل
…
الفَصْلُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمَائَةِ: أولية الشعر الجاهلي
لا نملك نصوصًا جاهلية مدونة عن مبدأ الشعر عند العرب، وعن كيفية ظهوره وتطوره إلى بلوغه المرحلة التي وصلها عند ظهور الإسلام. ولم يعثر العلماء على شعر مدون بقلم جاهلي، ليكون لنا نبراسًا يعيننا في تكوين صورة عن ذلك الشعر وعن هيكله ومادته التي تكون منها. وكل ما نعرفه عن هذا الشعر مستمد من موارد إسلامية، أخذت علمها به من أفوه الرواة، فلما جاء التدوين دوّن ما وعته الذاكرة مما أخذته عن المتقدمين بالرواية، فثبت واستقر، بعد أن كان المروي عرضة للتغيير والتحريف كلما تنقل من لسان إلى لسان، ومن وقت إلى وقت.
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع قدم الشعر العربي وتأريخه، فقال: "وأما امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة
…
فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام"1. وذهب "عمر بن شبة" إلى أن "للشعر والشعراء أول لا يوقف عليه، وقد اختلف في ذلك العلماء، وادعت القبائل كل قبيلة لشاعرها أنه الأول. فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد
…
وزعم بعضهم أن
1 الحيوان "1/ 74".
الأفوه الأودي أقدم من هؤلاء، وأنه أول من قصد القصيد، قال: وهؤلاء النفر المدعى لهم التقدم في الشعر متقاربون، لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها"1. وذهب "الأصمعي" إلى أن بين أول شاعر معروف، قال كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر، وهو "مهلهل"، وبين الإسلام أربعمائة سنة. "وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير"2.
وقال "الأصمعي" في رواية تنسب إليه، "إن أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة، رجل من بني كنانة، والأضبط بن قريع. قال: وكان بين هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة، وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير"3. "زعم أبو عمرو بن العلاء: أن الشعر فتح بامرئ القيس وختم بذي الرمة"4.
وذكر أنه "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات التي يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد، وطول الشعر على عهد عبد المطلب، أو هاشم بن عبد مناف"5.
وذكر "المرزباني"، أن "بكر بن وائل"، تزعم أن "عمرو الضائع""أول من قال الشعر وقصد القصيد، كان امرؤ القيس بن حجر استصحبه لما شخص إلى قيصر يستمده على بني أسد، فمات في سفره ذلك فسمته بكر عمرًا الضائع"6. فعمرو الضائع، هو أول من قال الشعر وقصد القصيد على رأي بكر بن وائل على رواية "المرزباني".
وقد أورد: "ابن إسحاق" شعرا نسبه إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض" الجرهمي، زعم أنه قاله لما خرج بقومه من مكة إلى اليمن، أوله9:
وقائلة والدمع سكب مبادر
…
وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لها والقلب مني كأنما
…
يلجلجه بين الجناحين طائر
1 المزهر "2/ 477"، ابن سلام، طبقات "3"، المرزباني، الموشح "74".
2 المزهر "2/ 477".
3 المزهر "2/ 477".
4 البيان والتبيين "115"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".
5 المزهر "2/ 477".
6 معجم "4".
إلى آخر القصيدة التي يتوجع فيها لمفارقته مع قومه مكة، ونسب له أبياتًا أخرى هي:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم
…
أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها
…
قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا
…
دهر فأنتم كما كنا تكونونا
وقد ذكر "ابن هشام" أن "هذا ما صح له منها" وأن بعض أهل العلم بالشعر يقول إن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب1.
ودوّن "السهيلي" صاحب "الروض الأنف" شعرا أخذه من كتاب "أبي بحر سفيان بن العاصي" زعم أنه وجد في بئر باليمامة، وهي بئر طسم وجديس، في قرية يقال لها "معنق" بينها وبين الحجر ميل2، وكان مكتوبًا على ثلاثة أحجار، كتبها قوم من بقايا عاد، غزاهم تبع، كتب على الحجر الأول:
يا أيها الملك الذي
…
بالملك ساعده زمانه
ما أنت أول من علا
…
وعلا شئون الناس شانه
أقصر عليك مراقًبًا
…
فالدهر مخذول أمانه
كم من أشمم معصب
…
بالتاج مرهوب مكانه
قد كان ساعده الزما
…
ن وكان ذا خفض جنانه
تجري الجداول حوله
…
للجند مترعة جفانه
وقد فاجأته منية
…
لم ينجه منها أكتنانه
وتفرقت أجناده
…
عنه وناح به قيانه
والدهر من يعلق به
…
يطحنه مفترشا جرانه
والناس شتى في الهوى
…
كالمرء مختلف بنانه
والصدق أفضل شيمة
…
والمرء يقتله لسانه
والصمت أسعد للفتى
…
ولقد يشرفه بيانه
1 ابن هشام، سيرة "1/ 82 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف".
2 الروض الأنف "1/ 82 وما بعدها".
وكتب على الحجر الثاني:
كل عيش تعله
…
ليس للدهر خله
يوم بؤس ونعمى
…
واجتماع وقله
حبنا العيش والتكا
…
ثر جهل وضلة
بينما المرء ناعم
…
في قصور مظله
في ظلال ونعمة
…
ساحبًا ذيل حله
لا يروى الشمس ملغضا
…
رة إذ زال زله
لم يقلها وبدلت
…
عزة المرء ذله
آفة العيش والنعـ
…
ـيم كرور الأهله
وصل يوم بليلة
…
واعتراض بعله
والمنايا جواثم
…
كالقصور المدله
بالذي تكره النفـ
…
ـوس عليها مطله
ووجد في الحجر الثالث مكتوبًا:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم
…
أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطي وأرخوا من أزمتها
…
قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا
…
دهرا فأنتم كما كنا تكونونا1
وقد أضاف "الأزرقي" زيادات على هذه الأبيات الأخيرة.
والأبيات التي زعم أنها وجدت مدونة على الحجر الثالث، هي نفس الأبيات التي نسبها "ابن إسحاق" إلى "عمر بن الحارث بن مضاض" الجرهمي كما رأيت. ويظهر أن واضع هذه الأبيات قد استعان بالأبيات التي وجدت في سيرة "ابن هشام"، أو أنه أخذها من سيرة "ابن إسحاق". ويلاحظ أنها في الحث على الزهد والترغيب في الآخرة، ولو لم يكن هذا الشعر من النوع المصنوع، لكان من أقدم ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي ولا شك.
و"العلماء من العرب الذين قالوا بمدة مائة وخمسين سنة تقريبًا للشعر الجاهلي،
1 الروض الأنف "1/ 82 وما بعدها".
لم يبعدوا عن الصواب إذا فرضنا أنهم إنما أرادوا بذلك ما وصل إلينا من الأشعار القديمة"1، بمعنى أن أقدم ما وصل إلى علمنا من ذلك الشعر بصورة لا يرتاب بصحتها، لا يمكن أن يرتقي عهده أكثر من قرن أو قرن ونصف عن الهجرة على أكثر تقدير، وأن أقدم اسم شاعر جاهلي وصل إلى سمعنا لا يرتقي عهده عن هذا التقدير. أما إذا كان قصدهم أن نظم القصيد كان قد بدأ في هذا الوقت، وأن الشعر بالمعنى الاصطلاحي المفهوم منه لم يظهر عند العرب، إلا قبل قرن أو قرنين عن الإسلام، فذلك خطل في الرأي، وفساد في الحكم. فالشعر أقدم من هذا العهد بكثير، وقد أشار المؤرخ "سوزيموس" "ZOSIMUS" إلى وجود الشعر عند العرب، وهو من رجال القرن الخامس للميلاد، وإلى تغني العرب بأشعارهم، وترنيمهم في غزواتهم بها2، وفي إشارته إلى الشعر عند العرب دلالة على قدم وجوده عندهم، واشتهاره شهرة بلغت مسامع الأعاجم، فذكره في تأريخه. وفي سيرة القديس "نيلوس" "nilus" المتوفى حوالي السنة "430" بعد الميلاد، أن أعراب طور سيناء كانوا يغنون أغاني وهم يستقون من البئر. "حينئذ ترنم إسرائيلي بهذا النشيد: اصعدي أيتها البئر أجيبوا لها، بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيهم"3، والأشعار المروية في كتب التواريخ والأدب عن حفر آبار مكة وغيرها من هذا القبيل، فقد روي أن "عبد المطلب" لما حفر بئر "زمزم"، قالت "خالدة بنت هاشم":
نحن وهبنا لعدي سجله
…
في تربة ذات عذاة سهله
تروي الحجيج زعلة فزعله
وأن "عبد شمس" قال:
حفرت خما وحفرت رما
…
حتى أرى المجد لنا قد تما
1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "ص68 وما بعدها"، "الطبعة الثانية، القاهرة 1970م، دار المعارف بمصر".
2 إنحليزي
3 العدد، الإصحاح 21، الآية 17.
وأن "سبيعة" بنت "عبد شمس" قالت في الطوى:
إن الطوى إذا شربتم ماءها
…
صوب الغمام عذوبة وصفاء
وأن "الحويرث بن أسد"، قال في "شفية":
ماء شفية كماء المزن
…
وليس ماؤها بطرق أجن
وأن "أميمة بنت عميلة بن السباق بن عبد الدار" قالت في حفر بئر "أم أحراد":
نحن حفرنا البحر أم أحارد
…
ليست كبذر النذر والجماد
فأجابتها "صفية بنت عبد المطلب":
نحن حفرنا بذر
…
تروي الحجيج الأكبر
من قبل ومدبر
…
وأم أحراد بشر
فيها الجراد والذر
…
وقذر لا يذكر
ولما حفر بنو جمع "السنبلة"، وهي بئر "خلف بن وهب" الجمحي، قال قائلهم:
نحن حفرنا للحجيج سنبله
…
صوب سحاب ذو الجلال أنزله
وحفر بنو سهم الغمر، وهي بئر العاصي بن وائل، قال ابن الربعي أو غيره:
نحن حفرنا الغمر للحجيج
…
تثج ماء أيما ثجيج
وحفرت بنو عدي "الحفير" فقال شاعرهم:
نحن حفرنا بئرنا الحفيرا
…
بحرا يجيش ماؤه غزيرا1
وورد أن "قصيًّا" لما احتفر "العجول"، قال شاعرهم:
نروي على العجول ثم ننطلق
…
إن قصيًّا قد وفى وقد صدق
1 البلاذري، فتوح البلدان "60 وما بعدها"، "ذكر حفائر مكة"، الروض الأنف "1/ 101 وما بعدها"، ويرد الشعر بروايات مختلفة بعض الاختلاف.
وأن قصيًّا لما احتفر "سجلة"، قال:
أنا قصي وحفرت سجلة
…
تروي الحجيج زغلة فزغلة
وقيل بل حفرها "هاشم"، ووهبها "أسد بن هاشم" لعدي بن نوفل، فقالت: خلدة بنت هاشم:
نحن وهبنا لعدي سجلة
…
نروي الحجيج زغلة فزغلة
ونجد في كتب السير شعرًا قيل في حفر بئر زمزم1، وفي آبار أخرى، مما يدل على أن العرب كانوا قبل هذا العهد، إذا حفروا بئرًا، قالو شعرًا فيها، وهو شعر يمكن أن نسميه شعر الآبار، وهو يعود ولا شك إلى عرف قديم، قد يتقدم على الميلاد بكثير، وهو يجب أن يكون من أقدم ما قيل من الشعر، لما للبئر من أهمية في حياة العرب.
ولم يقتصر التغني بالشعر على حفر الآبار وحدها، وإنما تغني به عند بنائهم بناء أو حفرهم خندقًا، أو إقامتهم سورًا، أو قيامهم بزرع أو حصاد، وفي أعمال أخرى يناط القيام بها إلى جماعة في الغالب، وكذلك في الغارات وفي الحروب. ولما شرع المسلمون يبنون مسجد الرسول بالمدينة، قال قائل منهم:
لئن قعدنا والنبي يعمل
…
لذاك منا العمل المضلل
فارتجز المسلمون وهم يبنون، يقولون:
لا عيش إلا عيش الآخرة
…
اللهم فارحم الأنصار والمهاجرة
وقال "ابن هشام": هذا كلام وليس برجز2، وسبب ذلك كون قائله هو الرسول.
وقيل إنه قال:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة
1 ابن هشام، سيرة "1/ 97"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 97".
2 ابن هشام، سيرة "2/ 12"، "حاشية على الروض".
وجعل يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر
…
هذا أبر ربنا وأطهر1
ويروي أهل الأخبار أن "المهلهل"، كان يتغنى في شعره حين قال:
طفلة ما ابنه المحلل بيضا
…
ء لعوب لذيذة في العناق2
ورووا أن من الشعراء الجاهليين من كان يتغنى بشعره، وأن حسان بن ثابت أشار إلى التغني بالشعر بقوله:
تغن بالشعر إما كنت قائله
…
إن الغناء لهذا الشعر مضمار3
وقد قصد بذلك، ترنيم الشعر وإنشاده على نغم مؤثر، وهو الغناء. وما زال الشعراء، يترنمون بشعرهم، وينشدونه بأسلوب خاص يميزه عن أسلوب إلقاء النثر.
ونجد في أخبار غزوة أحد، أن هندًا بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، ونسوة من قريش كن يضربن على الدفوف ويتغنين بالشعر، حيث يقولون:
نحن بنات طارق
…
إن تقبلوا نعانق
ونبسط السمارق
…
أو تدبورا نفارق
فراق غير وامق
وتقول:
ويهًا بني عبد الدار
…
ويهًا حماة الأدبار
ضربا بكل بتار4
ولا بد وأن تكون في الأهازيج وفي أشعار الحج، أنغام يرنم على وقعها الشعر،
1 ابن سعد طبقات "1/ 240"، "صادر".
2 الأغاني "5/ 51".
3 العمدة "2/ 241".
4 الطبري "2/ 5110، 512".
الذي هو شعر الغناء. فإننا نجد في النتف الباقية من الجمل التي كان يقولها الحجاج أثناء حجهم، آثار شعر قد كان مقرونا بالغناء.
ونظرًا لوجود تماس مباشر بين هذا الشعر وبين الحياة العامة، فإن في استطاعتنا القول، إنه قد يكون من أقدم أنواع الشعر عند العرب، وهو شعر لم ينبع من ألسنة الشعراء والمحترفين، وإنما خرج على كل لسان، وساهم فيه كل شخص: رجل أو امرأة، مثقف أو جاهل، حكيم أو سوقي. وهو بعد نابع من صميم الحياة، ومن باطن القلب، للترفيه عن النفس، ولتخفيف التعب، ولا زال الناس يتغنون عند وقوع مثل هذه الأمور لهم، وهو غناء لم يحظ ويا للأسف بالرعاية والعناية، لذلك لا نجد له ذكرًا في الكتب إلا بالمناسبات.
ويرى العلماء المشتغلون بموضوع الشعر من الغربيين، أن بين الشعر والسحر صلة كبيرة، بل رأى بعض منهم أن الغرض الذي قصد إليه من الشعر في الأصل هو السحر، ودليل ذلك أن الغناء عند الشعوب البدائية، ليس متسقا مع نغم العمل وإيقاع اليد العاملة، فنجد الغناء عند البناء أو الجر أو الحفر، أو الزرع لا يتسق مع نوع حركة العمل، وإنما كان يسلي العمال ويسعفهم بقوى سحرية، وهو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، أي تشجيع العمل بطريق سحري1.
وقد ذهب "بروكلمن" و "كولدتزيهر" إلى أن هذا الأثر السحري لا يظهر في الشعر العربي القديم إلا في شعر الهجاء، "فمن قبل أن ينحدر الهجاء إلى شعر السخرية والاستهزاء، كان في يد الشاعر سحرًا يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير سحري. ومن ثم كان الشاعر، إذا تهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، لبس زيًّا خاصًّا شبيهًا بزي الكاهن. ومن هنا أيضا تسميته بالشاعر، أي العلم، لا بمعنى أنه كان علاما بخصائص فن أو صناعة معينة، بل بمعنى أنه كان شاعرًا بقوة شعره السحرية، كما أن قصيدته كانت هي القالب المادي لذلك الشعر"2.
وكانت غاية الأغاني القصيرة، التي يرددها البدائي في المواقف الكبرى للحياة
1 بروكلمن "1/ 45".
K. Th. Preuss، Die Geistige Kultur der Naturvolker، Leipzeg – Berlin 1914،S. 85.
2 بروكلمن "1/ 46". I. Goldziher، Abhand. Zur Arab. Philologie، I، I.
الإنسانية، أن تحدث آثارًا سحرية، وكذلك كانت غاية الرثاء الأصلية أيضًا هي السحر، "فقد كان الغرض من المرثية أن تطفئ غضب المقتول وتنهاه أن يرجع إلى الحياة، فيلحق الأضرار بالأحياء الباقين، ولكن هذا المعنى تلاشى تقريبًا في الجزيرة العربية أمام الشعور الإنساني بالحزن الممض. على أن إظهار الحزن لم يكن يناسب رجال القبيلة كما كان لائقًا بنسائها، خاصة بالأخوات، ومن ثم بقي تعهد الرثاء الفني من مقاصدهن حتى عصر التسجيل التأريخي"1.
وقد لعبت الأغاني دورًا كبيرًا في الصيد والحرب، فقد رافقتهما منذ أوائل انشغال الإنسان بهما، ولم يكن الصيد متعة وتسلية ورياضة عند العرب حسب، بل كان لسد حاجة وللتغلب على شظف العيش أيضًا، ونجد في الشعر الجاهلي شعرًا جعل الصيد، نوعًا من الرياضة والتسلية، وإظهار الرجولة في التغلب على الوحش الكاسر، والحيوان المتوحش، وأكثر أصحابه من المترفين والمتمكنين، من أصحاب الخيل السريعة، مثل الملوك وسادات القبائل، والشعراء الذي يرافقونهم في رحلات صيدهم، أو يقومون هم أنفسهم برياضة الصيد.
ويلعب الغزو دورًا خطيرًا في حياة الجاهليين، فقد كان الغزو في الواقع نوعًا من أنواع الكفاح في سبيل الحياة، عليه معاشهم، وبواسطته يحافظون على حياتهم وأموالهم، وقد أنتج ضربًا من ضروب الشجاعة والمغامرة، يتجلى في الشعر الحماسي، الذي يقال قبل القتال وفي أثناء احتدامه. ونكاد لا نقرأ خبر يوم من أيام العرب أو غزو، أو قتال إلا ونجد للشعر فيه دورا ومكانا في هذه الأحدث. يستوي في ذلك شعر الجاهلية والشعر الذي قيل في الأحداث التي وقعت في صدر الإسلام.
ونجد للنسيب، والغزل مكانة في الشعر الجاهلي، وقد نجد فيه وصفا للجمال الحسي لأعضاء الجسد. وقد آخذ العلماء امرأ القيس والأعشى على مجاهرتهما بالفحش وبالزنا في شعرهما. والمجاهرة بالاتصال الجنسي بصورة عارية مكشوفة من الأمور التي لا ترد بكثرة في الشعر الجاهلي2.
ولا بد وأن يكون الشعر قد مر في مراحل، لعل أقدمها مرحلة السجع،
1 بروكلمن "1/ 47 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 49 وما بعدها".
أي النثر المقفى المجرد من الوزن، الذي تخصص فيه الكهان عند ظهور الإسلام وهو والد "الرجز"، أبسط الشعر، ومن الرجز نشأ بناء بحور العروض، التي يظهر أثر الموسيقى على صياغتها على رأي بعض المستشرقين1، وهو أثر يدل على ما كان للغناء من صلة بالشعر. ولعل هذه الصلة هي التي حملت العلماء على القول بأن بحور الشعر نشأت في الأصل من سير الإبل، من ترنيم الشاعر شعره على إيقاع سير الإبل. غير أن البحث عن هذا الموضوع وعن موضوع كيفية نشوء بحور العروض وصلتها بعضها ببعض لا تزال من الدراسات العويصة المشكلة الشائكة التي لا يمكن الاتفاق عليها، لعدم وجود أسس ثابتة يرتكز عليها الجدل القائم بين الباحثين في كيفية تطور الشعر الجاهلي2. أما أن هذه البحور، قد نشأت من سير الإبل3، فكلام لا يقوم على علم، وهو من باب حدس الحداس، فلدى الشعوب الأخرى شعر، له ترانيم وبحور، ومع ذلك فإنها لم تكن تركب الإبل، ولا تعرف إيقاع أرجلها عند المشي.
وقد قام المستشرقون بدراسة البحور التي نظم الشعراء الجاهليون بها شعرهم، فوجود أن بحر الطويل يأتي في المرتبة الأولى من البحور، يليه الكامل، فالوافر، فالبسيط. أما المتقارب فيوجد عند امرئ القيس، كما يوجد عنده المنسرح قليلًا. واستعمل "طرفة" الرمل في قصيدة يبلغ طولها "74" بيتًا، ترتيبها الخامس في ديوانه4، كما استعمل السريع في قصيدتين5، واستعمل كل من امرئ القيس وطرفة المديد في قصيدة واحدة6، وأما الخفيف، فقد وجد في شعر المرقشين، وعبيد بن الأبرص، وعامر بن الطفيل، والأعشى، ولا يوجد الهزج إلا في قطعتين منحولتين، واحدة لطرفة، وأخرى لامرئ القيس7.
وقد ذهب "غرونباوم" إلى أننا نجد تفننًا في شعر شعراء العراق وفي شعر من احتك بالحيرة من شعراء أكثر مما نجد في شعر أي مكان آخر. وذكر أن شعر
1 بروكلمن "1/ 51 وما بعدها".
2 بروكلمن "1/ 51 وما بعدها".
3 G. Jacob، Studien in Arabische Dichtem، II، S. 106.
4 بروكلمن "1/ 53".
5 رقم 2 و 3 من الديوان.
6 بروكلمن "1/ 53".
7 بروكلمن "1/ 53".
"أبي دؤاد" الإيادي قد جاء على اثني عشر بحرًا، ثم يرى أن المدرسة العراقية قد أكثرت من بحر الرمل، ولا يستعمل هذا البحر في الشعر القديم إلا أبو دؤاد في ثلاث قصائد، وطرفة في ثلاث قصائد، وعدي في سبع قصائد، والمثقب في قصيدة واحدة، والأعشى في قصيدتين. واستعمله امرؤ القيس في قصيدة واحدة، ورأى في ذلك دلالة على تأثر امرئ القيس بأبي دؤاد، وتأييدًا للرواية التي ترى أنه كان راوية لأبي دؤاد1.
ويجيء امرؤ القيس وعدي والأعشى بعد أبي دؤاد في تنويع البحور التي نظموا بها، فقد نظم كل واحد منهم في عشر أوزان. وتدل الدراسات التي قام بها "فرايتاك" على قلة ورود النظم في بحري الرمل والخفيف بالنسبة إلى البحور الأخرى2. ويظن أن الشعر الوارد في كتاب:"البخلاء" للجاحظ، وهو:
واعلمن علما يقينا أنه
…
ليس يرجى لك من ليس معك
المنسوب لعبيد بن الأبرص3، هو من الموضوعات.
ويرى "غرونباوم" أن من خصائص المدرسة العراقية نزوعها إلى بحر الخفيف، وعند أبي دؤاد الأيادي خمس عشرة قصيدة بهذا الوزن، وعند عدي سبع، وعند الأعشى خمس، "ولم يستعمل هذا البحر عند سائر الشعراء المعاصرين إلا على نحو عارض"4. فورد عند عمرو بن قميئة، وعند المرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وعامر بن الطفيل، والحارث بن حلزة اليشكري5.
ويظهر مما أورده المفسرون وأهل السير من قول "الوليد بن المغيرة" في الرسول وفي القرآن: "ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله: رجزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر"6، "فجعل الرجز والهزج من أوزان
1 غرونباوم "265 وما بعدها".
2 E. Braunlich، in Der Islam، XXIV، 1937، S. 248. F، Freitag، Darstallung der Arabischen Verskunst، S. 15، J. Jacob، Altarabisches Beduinenleben، S. 190. f، 1897.
3 الجاحظ، البخلاء "190""طه الحاجري"، غرونباوم "86".
4 غرونباوم "266".
5 غرونباوم "279"، بروكلمن "1/ 53".
6 ابن هشام، سيرة "1/ 173"، "حاشية على الروض الأنف".
الشعر، وقرن بهما أسماء غير محددة، ويبدو أن تحديد هذه المعاني كلها عند العرب كان مختلفًا عن اصطلاحات العروضيين، وإلا فإن القبض في العروض من عيوب الزحاف، وهو حذف الحرف الخامس الساكن"1. وورد في رواية عن "أبي ذر":"لقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلا يلتئم على لسان"، وقد اختلفوا في المراد من الأقراء2، وفي هذين الخبرين وأمثالهما دلالة على أنه قد كان لأهل الجاهلية قواعد ثابتة بالنسبة للشعر، وأن الشعر كان يعتمد عندهم عليها. وأن علماء العروض:"الخليل بن أحمد" و "الأخفش" لم يتمكنا من ضبط كل بحور الشعر التي كانت عند الجاهليين، بدليل أننا نجد أبياتًا خارجة عن العروض الذي وضعاه، ويظهر أن هذا الخروج يمثل مرحلة من مراحل الشعر، لم نقف على كنهها بعد3. وقد وجد "العيني" أن في الأصمعية المرقمة ب "72" تشعيثًا، قال عنه "غرونباوم": "ومثل هذا لا يعد خطأ، بل هو مظهر من مظاهر التطور الفني في هذا الوزن، مظهر استنكر أو نسي مع الزمن، حين وضع علم العروض، بعد حوالي قرنين من وفاة أبي دؤاد"4، وقد ذهب "غرونباوم إلى أن "الخليل"، أقر "ستة عشر وزنًا، واطرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها"5، والواقع أننا لا نستطيع الزعم، بأن الخليل قد أحاط علما بكل أنوع العروض العربي الجاهلي.
ومن يفحص الشعر الجاهلي، يجد أن في بعضه اضطرابًا وخروجًا وشذوذًا على قواعد "العروض"، وقد وجد هذا الشذوذ في شعر شعراء يعدون من الفحول، مثل "امرئ القيس"، في القصيدة التي مطلعها:
عيناك دمعهما سجال
…
كأن شأنهما أوشال
ومثل عبيد بن الأبرص في قوله:
أقفر من أهله ملحوب
…
فالقطبيات فالذنوب
1 اللسان "9/ 80"، بروكلمن "1/ 53".
2 النهاية، لابن الأثير "3/ 238"، بروكلمن "1/ 53".
3 بروكلمن "1/ 54".
4 غرونباوم "368".
5 غرونباوم "235".
فقلما يخلو بيت من هذه القصيدة من حذف في بعض التفاعيل، أو زيادة، كما في الشطر الأول من هذا المطلع.
ومثل ما نسب إلى المرقش الأكبر، وعدي بن زيد العبادي، وغيرهم، من خروج على الوزن في بعض الشطور، وإخلال في الوزن حتى زعم بعض العلماء، أن في نونية "سلمى بن ربيعة" خروجًا عن العروض: عروض الخليل1. وقد أشرت في مكان آخر إلى وقوع الإقواء والإكفاء والزحاف في شعر بعض الشعراء، مثل امرئ القيس، والنابغة، وبشر بن أبي خازم، وهي أمور تلفت النظر، لا ندري أكانت قد وقعت من الشعراء حقًّا، أم من الرواية والرواة، أم أنها لم تكن عيبًا بالنسبة لعروض الجاهليين، وإنما عدت من العيوب بالنسبة إلى العروض الذي ضبط في الإسلام، أو أنه وقع بسب تعديل أو تبديل أدخله العلماء على الأصل، ليلائم قواعد العربية، فوقع من ثم ما قيل له عيبًا. وإنني لا أستبعد وقوع السهو في نظم الشعر من شاعر مهما كان فحلًا، فقد روي أن بعض الفحول من شعراء العصر الأموي كالكميت والفرزدق والأخطل، قد وقعوا في أخطاء، وأن رواتهم كانوا يجرون تنقيحًا وتغييرًا على أشعارهم، ليقوّموا بذلك ما انحرف في شعرهم وما فيه من الفساد2، ولكن وقوع ما نشير إليه يدل على أن ما نعده اليوم عيبًا أو خروجًا على القواعد والعروض، لم يكن ينظر إليه هذه النظرة عند الجاهليين وفي صدر الإسلام، وإلا دل ذلك على جهل أولئك الشعراء بقواعد اللغة وعلم الشعر، وحاشا وقوع ذلك منهم، وشعرهم نفسه كان في جملة المواد الأساسية التي استعان بها علماء القواعد والعروض في بناء النحو والعروض.
وقد قصر علماء الشعر فحولة الشعر في الجاهلية على الشعر المعروفين بالنظم بالبحور المشهورة، فيما عدا الرجز، أما قالة الرجز، فهم طبقة خاصة، عرفت عندهم بالرجاز. ويظهر من القول المنسوب إلى "الوليد بن المغيرة":"لقد عرفنا الشعر كله: رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه"3، أن الشعر في نظر أهل مكة: رجز، أو هزج، أو قريض، أو مقبوض، أو مبسوط، وأن من يقول الرجز، فهو راجز ورجاز، ولم يكن الرجز كما
1 العصر الجاهلي، شوقي ضيف "184 وما بعدها".
2 الأغاني "4/ 256".
3 ابن هشام "1/ 173"، "حاشية على الروض".
يقول علماء الشعر طويل النفس، وإنما كان أبياتًا، وقد بقي هذا حاله حتى أيام الأمويين، فطول ولقي عناية خاصة عند كثير من الشعراء، فأخذوا يذهبون به مذهب القصيد، فقصدوه، بأن جعلوه قصائد، وعمدوا إلى تخفيف ما تتركه بساطة العروض وسهولته في النفس من ملل، بأن لجئوا إلى استعمال العبارات البعيدة المأخذ، والألفاظ الغريبة، والاختراعات اللطيفة، حتى تمكنوا من إدخاله إلى قصور الخلفاء الأمويين، ومن نيل الجوائز والألطاف منهم1.
ويعود الفضل في رفع مستوى الرجز في الإسلام، إلى رجلين من "بني عجل"، هما:"الأغلب بن عمرو" العجلي، "21هـ"، و "أبو النجم الفضل بن قدامة" العجلي، وإلى رجال من "تميم"، على رأسهم:"العجاج""97هـ" وابنه "رؤبة": المتوفى سنة 145هـ" وقيل "147هـ"، و "عقبة" ابن "رؤبة" هذا، و "أبو المرقال الزفيان"، و "دكين بن رجاء" الفقيمي، و "محمد بن ذؤيب" الفقيمي العماني2.
ولا نمك شعرًا يمكن أن يقال عنه إنه أقدم ما وصل إلينا من مراحل الشعر الجاهلي. حتى هذا الرجز، الذي ينظر إليه المستشرقون على أنه أول مرحلة من مراحل الشعر الجاهلي، لبساطته ولسهولته، ولكونه وسطا بين السجع والشعر، لا نملك نماذج منه، يمكن أن نطمئن إلى أنها كانت من الشعر القديم، الذي يصلح للاستشهاد به على أنه من قديم الشعر، إذ لم يحفل علماء الشعر بالرجز لاعتبارهم إياه دون الشعر، فلم يدونوا منه شيئا يذكر، ولذلك نجد نسبته بالنسبة إلى كمية الشعر الآخر "التقليدي" نسبة ضئيلة جدًّا، وهذا ما جعل علمنا بالرجز الجاهلي قليلًا جدًّا.
ولسهولة الرجز، ولقابليته على الخروج على كل لسان، أرى أنه كان أكثر نظمًا من الشعر المألوف، ودليل ذلك أننا لو درسنا أخبار الأيام وأخبار الغزو والمعارك نجد للرجز فيها مكانة كبيرة، فالمحارب الذي يقرع خصمه ويتجالد معه يرتجز رجزًا في الغالب لسهولته على اللسان ولمناسبته لمقرعة السيوف، وللوقت القصير الذي يكون عنده ليقضي فيه المحارب على من يحاربه، ثم إن في استطاعة
1 بروكلمن "1/ 225".
2 بروكلمن "1/ 228 وما بعدها".
غير الشعراء الارتجاز، وليس في استطاعتهم نظم الشعر، لذلك كان الرجز أكثر كمية من الشعر، ولكن كثرته هذه وسهولته، قصرتا في عمره، وربما صارتا من العوامل التي جعلت الناس لا تقدم على حفظه.
ولما كان الشعر تعبيرًا عن عواطف جياشة وعن حس مرهف، وعن نفس حساسة تريد التعبير عن نفسها بأي أسلوب كان، فإن في استطاعتنا القول إنه لازم البشرية منذ عرفت نفسها، وأخذت تعبر عن إحساسها بأية طريقة كانت: بطريقة بدائية أو بطريقة متطورة. فبدأ الشعر كما بدأ الإنسان نفسه، بداية بسيطة ساذجة بدائية، ثم تطور بتطور مدارك الإنسان، وتعددت طرقه وبحوره، بتطور العقل والمدارك، وبارتفاع مستوى الحياة، فكان لذة يلتذذ بها المسافر، وهو يقطع الطرق الصعبة، والصحارى الموحشة، يعبر عنها بغناء ذي نغم، وبألفاظ تناسب ذلك الغناء، كما كان يعبر عنها ففي التشوق والتحبب إلى الآلهة والقوى الطبيعية التي كان يرى أنها تؤثر في حياته، وفي مناسبات التقرب إلى الملوك والحكام، لينال منهم لقمة عيش، وشيئًا من مال، كما عبر عنها في الأفراح وفي الأتراح، وفي الفخر والمدح والذم، وهو الهجاء، وفي الظروف التي تؤثر عليه، فتجعله يفرح من رؤيتها ويرتاح، مثل المناظر الطبيعية الجميلة، والأصوات الجميلة وجمال الإنسان.
والشعر الجاهلي الصحيح، هو حاصل تطور طويل مستمر، لا يمكن تحديد أوله، إذ بدأ الشعر مذ بدأ الإنسان يشعر بالفرح وبالسرور بالتعبير عن عواطفه. وقد فقد القديم منه بسب عدم تدوينه في حينه، وبسب صعوبة بقائه في الذاكرة إلى أمد طويل، ولم يصل منه إلينا إلا هذا القليل الذي قيل في عهد لا يرتقي كثيرًا عن الإسلام، وهذا القليل الباقي، هو الصفحات القليلة الأخيرة من كتاب لا نستطيع أبدًا تقدير حجمه، هو كتاب الشعر الجاهلي، الذي ختم بتغلب الإسلام على الشرك، وبموت الجاهلية وظهور دين الله.
أما قول القائلين إنه لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا أبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد في عهد مهلهل، أو هاشم، أو عبد المطلب، فرأي لا يقوم على دليل، وليس له سناد تأريخي، وإنما هو مجرد رواية رواها رواة الشعر في الإسلام. إذ لا يعقل أن تكون قريحة الجاهليين الذين عاشوا قبل
الإسلام بقرنين أو بقرن ونصف قرن، قريحة محبوسة محصورة، حددت بحدود لم تتعدها ولم تتخطها، فإذا هاجت وماجت بالأحاسيس وبالشعور المرهف، صاغت حسها هذا ببيت أو ببيتين أو ثلاثة، ثم توقفت عند هذا الحد لا تتجاوزه أبدًا. وإذا كان الشعر طبع في الإنسان كما يقولون ونقول، وهو نوع من أنواع التعبير عن الخاطر، وجب تصور أن صياغته في قوالب من أبيات شعر، إنما تكون صياغة منسجمة مع طول وعرض الخاطر صغيرًا، ضئيلًا، صيغ ببيت أو بأبيات، وإذا كان طويلًا مبعوثًا عن حس ملتهب جياش، صيغ بأبيات تزيد عن تلك يتناسب عددها مع حجم ذلك الخاطر. فمن هنا لا نستطيع أن نقول إن شعر قدماء الجاهليين كان أبياتًا لا تزيد على ثلاثة، وإنهم لم يكونوا يملكون القدرة على نظم ما يزيد على ذلك، إلى أن جاء "عدي بن ربيعة" التغلبي، الملقب بالمهلهل، فوسع الشعر وزاد الأبيات وقصد القصائد. نقول مثل هذا وإن قال به علماء هم أعلم منا بفنون الشعر وبدروبه، قول لا يمكن الأخذ به لما ذكرته. أفلم يكن للذين سبقوا المهلهل من العرب لسان مثل لسانه وحس مثل حسه؟ إذا كان لهم مثل ما كان له، فيفترض أن يكون تعبيرهم عن عواطفهم، مثل تعبيره عنها سواء بسواء، قد يكون قليلًا وقد يكون كثيرًا من غير تغيير أو تحديد ولا تفنين، لأن التحديد يتوقف على طول وقصر الحس الذي يستولي على الشاعر فيصوغه شعرًا.
أما إذا قصدوا من قولهم المذكور معنى أن المهلل كان أول شاعر وصل شعره إلينا أبياتًا زاد عددها على عدد ما وصل إلينا من شعر أي شاعر تقدم عليه، وأنه أول من رويت له كلمة بلغت ثلاثين بيتًا1، فذلك أمر آخر لا صلة له بدعواهم أن الشعر كان قبل المهلهل رجزًا وقطعًا، فقصده مهلهل، ثم امرؤ القيس من بعده. وظل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء حتى كان الأغلب العجلي، وهم على عهد النبي، فطوله شيئًا يسيرًا وجعله كالقصيد2.
وهذا معناه عندي أن شعر "المهلهل"، هو أول شعر طويل وصل إلى علماء الأخبار من شعر قدماء الشعراء الجاهليين، وأما شعر من سبقه، فقد فقد وضاع معظمه،
1 الرافعي "3/ 14"، المزهر "2/ 477".
2 الرافعي "3/ 15".