الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر
مدخل
…
الفَصْلُ السَّابِعُ والأرْبَعونَ بَعَدَ المائَةِ: حَدُّ الشِّعْرِ
عرف علماء العربية الشعر بقولهم: "والشعر: منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرًا من حيث غلب الفقه على علم الشعر". وعرَّف الأزهري الشعر بقوله: "الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم"1. وعرفه ابن خلدون بقوله: "الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والرَّوي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العربية المخصوصة به". فهو يجعل التقفية والوزن من شروط الشعر، ويشترط أيضًا استقلال كل بيت منها بغرضه2.
وعرف بأنه الكلام المقفى الموزون قصدًا، والتقييد بالقصد مُخْرِج ما وقع موزونًا إتفاقًا، فلا يسمى شعرًا3. وقد قصد بهذا التعريف الإسلامي، إخراج من قال الشعر اتفاقًا لا عن قصد واحتراف. بل عفوًا وسجية. ولما جاء في القرآن الكريم، من رمي المشركين للرسول بأنه شاعر بقول الشعر، فنزل الوحي
1 اللسان "4/ 410"، "صادر"، "شعر"، الصاحبي، "273".
2 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 59".
3 إرشاد الساري "9/ 88".
بنفي ذلك عنه. وحدد العلماء صفة الشاعر بأنه الذي يحترف الشعر ويقوله قصدًا، حتى لا تنطبق هذه الصفة على من يقول سطرًا بوزن اتفاقًا من غير قصد1.
وقد عرفه بعضهم بقوله: "الشعر كلام موزون مقفى، دالٌّ على معنى، ويكون أكثر من بيت"2. وهو تعريف وضعه علماء الشعر في الإسلام، وهو لا ينطبق بالطبع على وصف الشعر عند الأعاجم من الآريين والساميين، لأن للشعر عند هذه الأمم مفاهيم آخرى، تختلف باختلاف وجهة نظرها إلى الشعر. فقد يكون الشعر سجعًا عند الأمم الأخرى، وتعد الأمثال عند بعض الشعوب في جملة أبواب الشعر3، كما أنه لا يمكن أن ينطبق على الشعر الجاهلي القديم، إذ ليس في استطاعة أحد حق التحدث عن الشعر الجاهلي المتقدم على شعر أقدم من وصل اسمه إلينا من الشعراء الجاهليين، لعدم وجود نصوص مدونة أو مروية عن ذلك الشعر، وما دمنا لا نملك نصوصًا منه، فلا حق لنا إذن في التحدث عنه.
وعندي أن الشعر الجاهلي المروي والمدون في المؤلفات الإسلامية ببحوره المعروفة إنما يمثل المرحلة الأخيرة من مراحل تطور هذا الشعر، أي مرحلة الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، ولكننا لا نستطيع كما قلت سابقًا الزعم بأن الشعر الجاهلي الأقدم كان على نفس هذه البحور، أي أنه كان متمسكًا بالوزن والقافية إذ من الجائز أن يكون قد كان على شاكلة الشعر القديم الذي نظمه الشعراء الساميون، من عدم تقيد بالقافية وبوزن الأبيات، كما نجد ذلك في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى وإنما كانوا يراعون فيه النغم، بحيث يتغنى به، أو التأثير في العواطف، بمراعاة نسق الكلام المبني على البلاغة. ولهذا عد السجع نوعًا من أنواع الشعر، لأن في السجع من الوصف والعاطفة والحس ومعالجة الموضوع، ما يجعله شعرًا، وفي بعضه نغم يجعله صالحًا لأن يتغنى به، وبين الغناء والشعر صلة ونسب. وقد جعل بعض العلماء الشعر وليدًا من أولاد الغناء، لأن الشعوب القديمة كالبابليين، والمصريين، واليونيين والعبرانيين، كانت تقرن شعرها بالموسيقى، وعرف هذا الشعر بالإنشاد، وقد كان الإنشاد في المعابد، نوعًا من
1 الصاحبي "273".
2 المزهر "2/ 469"، "النوع التاسع والأربعون، معرفة الشعر والشعراء".
3 The Bible Dictionary، II، p. 305.
التراتيل الموجهة الآلهة، كما كان يستخدم في الحروب. ولهذا رأى العلماء أن الموسيقى، أولدت الإنشاد، والإنشاد هو والد الشعر.
والشعر معروف عند كل شعوب العالم، معروف موجود حتى عند الشعوب البدائية، لأنه نوع من أنواع التعبير عن الحس. والإنسان مهما كانت ثقافته ومنزلته لابد له من التعبير عن إحساساته بمختلف الصور، وبشتى الوسائل، من كلام أو تدوين أو نقش أو صراخ أو غناء أو رمز، إلى غير ذلك من الأنواع وفي جملتها الشعر. فهو لا يخص إذن شعبًا معينًا، ولا جنسًا خاصًّا، وإنما هو تعبير إنساني، يؤديه كل إنسان، متى كانت عنده المواهب ووجد عنده الحس المرهف الذي يدفعه إلى تأليف الشعر دفعًا، يؤديه على نحو ما يتأثر به إحساسه وذوقه، في أسلوب يختلف عن الكلام المعتاد المألوف، ولكنه ليس على نمط واحد عند جميع البشر، فقد يكون الشعر شعرًا عند أمة، وهو ليس شعرًا عند أمم أخرى، والمصطلح العربي الذي ذكرته للشعر، يختلف عن المصطلح المفهوم للشعر عند اليونان مثلا أو عند الرمان أو عند البابليين، كما أن أبوابه وأنواعه قد تختلف بين أمة وأخرى.
فقد كان العبرانيون يحبون الشعر، حب العرب له، ويقولون له:"هـ - ش"، أي الشعر وكانوا ينظمون أشعارًا رتلوها في مختلف المناسبات، في الأفراح وفي الأتراح في المدح وفي الهجاء، وفي الغزل وفي الوصف، وفي تمجيد الرب، وكانوا يستعينون بالشعر في القتال، ينشدونه في قتالهم ويجعلونه عونًا لهم في شحذ الهمم وفي تقوية العزائم للنصر، كما نرى ذلك في أسفار التوراة1. ونجد ثلث التوراة شعرًا، لا سيما في أسفار أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد. وفي مواضع من "التكوين" وكتب الأنبياء. ولكن شعرهم ليس وزنًا وقافية، على نمط الشعر العربي، بل هو شعر من طراز آخر. هو شعر بالنسبة للعبرانيين، وهو ليس بشعر بالنسبة لمصطلحنا المحدد للشعر.
وقد بدأ الشعر بداية متحررة، فلم يكن الإنسان في بادئ أمره بالشعر يتقيد بالوزن والقافية، وإنما كان يميز بينه وبين النثر بالنغم الذي يجعله فيه، وبالنبرات
1 الخروج، الإصحاح 15، والقضاة، الإصحاح الخامس وفي المزامير.
التي يخرجها مخارج الغناء، ولهذا نجد المقطوعات الشعرية القديمة التي وصلت إلينا مدونة في كتابات مختلف الشعوب لا تشبه الشعر المعروف، إذ فيه تحرر، وفيه اعتماد على الترنم والإنشاد وعلى فن الإلقاء، أما الاعتبارات الفنية المعروفة، فهي من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلُّوا الوزن محل الإلقاء، ووضعوا قواعد فنية في نظم الشعر. فلم تكن الأبيات الشعرية في الشعر القديم متساوية، ولم تكن هناك قوافي بالضرورة، حتى إنك لا تستطيع تمييز القطعة الشعرية عن غيرها، إلا بالإنشاد 1.
والشعر من أقدم الأحاسيس التي عبر بها الإنسان عن نفسه، فهو يعبر عن عواطفه وعن أحاسيسه، من سرور أو حزن، أو ألم، عن اهتمامه بالأمور وعن تصوراته، وعن كل ما يدور في رأسه من أمور تسترعي حسه، فيشعر عندئذ بالترفيه عنه بإخراجها كلامًا فيه نغم "Rhythm"، أي إيقاع ووزن، وفيه توازن ونظام بين أجزائه، على غرار ما يفعله الراقص في رقصه، من إقران رقصه بحركات موزونة. وهو من العواطف المولودة في الإنسان. ولهذا تعد العواطف التي يعبر بها الإنسان عن نفسه شعرًا، وإن خرجت بغير بحور، وبدون وزن ولا قافية ففي كلام سارة:"وقالت سارة قد أنشأ الله لي فرحًا فكل من سمع يفرح لي، وقالت من كان يقول لإبراهيم إن سارة سترضع ابنًا، فقد ولدت ابنًا في شيخوخته"2، وفي الآيات:"ثم أخذت مريم النبية أخت هارون الدف في يدها وخرجت النساء كلهن وراءها بدفوف ورقص. فجاوبتهم مريم: سبحوا الرب، لأنه قد تعظم بالمجد. الفرس وراكبه طرحهما في البحر"3، وفي مباركة يعقوب أبناءه عند شعوره بدنو أجله، وفي كلام موسى حين قهر فرعون، معانٍ شعرية، وتعد من أقدم أنواع الشعر السامي التصويري.
وذلك لأن الشعر السامي القديم، لم يكن يتقيد بالقافية "phyme"، ولا بالتفعيلات "feets" أو بالمقاطع القصيرة "short syllables"، وإن حاول ولا سيما
1 Hastings، dictionaryof the Bible، Vol، IV، p. 7.
2 التكوين، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية "6 وما بعدها".
3 الخروج، الإصحاح الخامس عشر، الآية "20 وما بعدها".
فيما بعد، أن يضع في كل شطر أو بيت عددًا من الكلمات أو المقاطع، يعادل ما يضعه في الشطر أو البيت الثاني منها، ليتولد من ذلك الوزن1.
ويقسم الغربيون الشعر عادة إلى "Epic"، وهو شعر الملاحم، حيث يمتاز بطول قصائده وفخامة أسلوبه، وبقصصه الذي يدور حول أبطال الملحمة والأحداث التي تعرض لها هذا النوع من الشعر. وشعر يقال له "Dramatic"، وهو شعر مسرحي، أي تمثيلي. وشعر يقال له "Lyric"، وهو شعر غنائي. وشعر يقال له "Didactic"، وهو شعر تعليمي، أريد به التعليم ووعظ الإنسان. ونجد النوع الأول منه عند اليونان والرومان والهنود والفرس والألمان وهم من الشعوب الهندو أوروبية، أي الشعوب الآرية.
ولا نجد من شعر الملاحم، ومن شعر "الدراما" في التوراة، ولكننا نجد ما يشبه "الدراما""Semi Dramatic" في سفر أيوب، ويكثر الشعر الغنائي المعد للترتيل Lyric فيه. ففي كلمات موسى على البحر الأحمر، التي تمثل غناء النصر "Triumphal Odes"، وفي غناء "دبوره""Deborah"، وفي المزامير، أشعار غنائية معدة للتراتيل2.
وقد أشير إلى إنشاد الشعر جماعة في التوراة، فلما وصل العبرانيون إلى البئر التي قال الرب فيها لموسى اجمع الشعب حتى أعطيهم ماء، وحينئذ ترنم اسرائيل بهذا النشيد: اصعدي يا بئر تجاوبوا لها. بئر احتفرها الرؤساء، احتفرها أشراف الشعب بمخصرة عصيهم"3. وقد لازم الترنم الشعر منذ أوائل أيامه، ففي الترنم به تقوية له. وما النغم سوى إيقاع يجعله نوعًا من أنواع الغناء "نوطته" التفعيلات التي تكوِّن بحوره في الأدب العربي. ولهذا نجد الشعر قد رافق الغناء بل هو نوع منه منذ نشأته.
ونجد القديس نيلوس "Nilus""المتوفى حوالي سنة 430م"، يصف غارة بدوية على دير سيناء وقعت سنة 410م، وتحدث في أثناء حديثه عنها عن إنشاد الأعراب أناشيد بترانيم عندما كانوا يأخذون الماء، وهي ترانيم لم يشر
1 John D. Davis A Dictionaryof the Bible، London، 1958، p. 616.
2 John D. Davis، A Dictionary of the Bible، p. 616.
3 العدد، الإصحاح 21، الآية 16 وما بعدها.
القديس إلى نوعها، ولكني لا أستبعد أن تكون من الرجز، الذي يقال في المناسبات، في استنباط الماء، وفي حفر الآبار. أو رفع الأثقال، أو في بناء، وأمثال ذلك مما لا يزال مألوفًا، ويشاهد حتى بين أهل القرى. وإن كان بعضها ترانيم غير فنية ولا مصقولة، ولكنها ذات إيقاع على كل حال1.
ومن هذا القبيل الأشعار التي أنشدها العرب في انتصارهم على الرومان سنة 372م، والتي أشار إليها المؤرخ "سوزومن" في كتابه "تأريخ الكنيسة"، فقد ذكر أن العرب كانوا ينشدون الشعر في قتالهم هذا مع الرومان2. والواقع أننا لا نكاد نقرأ خبر معركة إلا ونجد الشعر فيها في مقدمة الأسلحة التي تستخدم فيها، وقد يسبق السيف في الضرب، حيث يخرج الفارس وهو يرتجز رجزًا يشيد بنفسه، وبقومه، مهونًا من أمر من سينازله ثم يقابله من يتبارى معه برجز آخر، يشيد فيه بنفسه، ردًّا على خصمه.
والشعر العبراني القديم نوعان: النوع المعد للترتيل، والنوع التعليمي. ومن النوع الأول المزامير، ومن النوع الثاني الأقسام الشعرية من كتب الأنبياء. والمزامير "Psalms" هي من أفصح الأشعار الدينية في التوراة، وهي تعبر عن الحس الديني عند الإنسان، وعن شعور البشر تجاه خالقهم، وهي تمجيد وحمد له، واعتراف بضعف الإنسان تجاه خالقه، فهو يرتل فيها حمد الله والثناء عليه. أما الأمثال والجامعة، وبعض أقسام كتب الأنبياء، فهي وإن كانت دينية في الأصل، إلا أنها وضعت لغايات تعليمية، لإرشاد الناس وتقديم النصح لهم.
ولا توجد القوافي والبحور في هذا الشعر، ومع أن بعض الأشعار العبرانية قد نظمت أحيانًا على الحروف الأبجدية، لكن أشطرها لم تتضمن عددًا مماثلا من المقاطع، ليتولد منها الوزن، أي النغم. وإنما نظمت على مقابلة الأفكار في الشطر الأول والثاني، أو في الشطرين الأولين والثالث، وقد يشرح فكر الشاعر على نوع مقابلة فكرين، إما لوجه المشابهة بينهما، وإما لوجه المخالفة بينهما. ومن أمثلة أوجه المشابهة:
1 غرونباوم"133وما بعدها".
2 غرونباوم "134".
فمن هو الإنسان حتى تذكره
…
أو ابن آدم حتى تفتقده1
وما جاء في المزمور التاسع عشر من قوله:
السموات تحدث بمجدِ اللهِ
…
والفلك يخبر بعمل يديه
يوم إلى يوم يذيع كلاما
…
وليل إلى ليل يبدي علما2
ومن أوجه المخالفة بينهما:
لأن عاملي الشر يقطعون
…
والذين ينتظرون الرَّب هم يرثون الأرض3
وما جاء في الأمثال:
الجواب اللين يصرف الغضبَ
…
والكلام الموجعُ يهيج السخط
لسان الحكماء يحسن المعرفة
…
وفم الجهال ينبع حماقة4
وقد ذهب بعض العلماء إلى وجود "التفاعيل، feet" و"الوزن، metre" في الشعر العبراني، وذهب بعض آخر إلى عدم وجود التفاعيل فيه وذهب بعض إلى وجود القافية "Rhyme" والوزن "Rhythm" في الشعر العبراني. وهو شعر يختلف عن شعرنا المألوف، وهو وإن أمكن تقسيمه إلى أشطر وأبيات، إلا أن له خصائص يختلف بها عن الشعر العربي. فنرى مثلا أن الأبيات في
1 المزامير، المزمور الثامن، الآية4.
2 الآية: 1 وما بعدها.
3 المزمور 37، الآية:9.
4 الأمثال. الإصحاح الخامس عشر، الآية: 1 وما بعدها".
القصيدة العبرانية غير متساوية، فقد يطول فيها بيت، وقد يقصر فيها بيت آخر. وقد ترتب الأبيات على ترتيب حروف الهجاء، كما في الأمثال وفي المزامير1.
ومن أهم أبواب الشعر العِبْرَاني، باب يقال له:"parallelism" في الإنكليزية، أي التطابق، وهو أنواع. وقد بحث فيه العلماء2.
وقد يكون الشعر على صورة أفكار متسلسلة متتابعة، فتتقدم الفكرة تدريجيًّا، وتوضح الأبيات التالية السابقة مثل:
قاموس الرب كامل يرد النفس
…
شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيمًا
وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب
…
أمر الرب طاهر ينير العينين
خوف الرَّب نقي ثابت إلى الأبد
…
أحكام الرب حق عادلة كلها
أشهى من الذهب والإبريز الكثير
…
وأحلى من العسل وقطر الشهاد3
ومن أنواع الشعر في التوراة، ما نقول له "ترادف المتطابقات"Synonymous parallelism"، وذلك أن تكون فكرة الشطرين مترادفة، وكذلك المصطلحات الورادة فيهما، فترتبط فكرة الشطر الأول بالشطر الثاني من البيت، مثل: "وقال لآمك لامرأته عادة وصلة: اسمعا قولي يا امرأتي لآمك واصغيا لكلامي، إنني قتلت رجلا لجرحي وفتى لشدخي"4، فالشطر الأول هو: "وقال لآمك
…
إلخ"، والشطر الثاني المتمِّم هو: "أنني قتلت رجلا لجرحي"، ومثل: "أنقذ من السيف نفسي. من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب لي"5. ومثل:
1 The Bible Dictionary، vol، II، p. 305. ff.
2 John D. Davis، A Dictionary of the Bible، p. 616.
3 المزمور 19، الآية 7- 10، قاموس الكتاب المقدس "1/ 621".
4 التكوين، الإصحاح الرابع، الآية: 23".
5 المزامير، المزمور 22، الآية: 20 وما بعدها".
كيف ألعن من لم يلعنه الله
…
وكيف أشتم من لم يشتمه الرَّب1
وما نقول له بـ"تناقض المتطابقات"، أو "تضاد المتطابقات،Antithetic parallelism". وذلك أن يكون الشطر الثاني مثل الشطر الأول في احتوائه على الحقيقة، أي الفكرة، ولكنه جاء بها بصورة أخرى، أي متضادة Contrast. فالشكل مُتَطابق تمامًا، وأحد جزئي الشطر مترادف، أما الجزءان الآخران، فمتعارضان، وأكثر ما يقع ذلك في المثل:
الابن الحكيم يسر أباه
…
والابن الجاهل حزن أمه2
ونوع آخر يقال له "الإيقاع المتصاعد"، أو "الوزن الصاعد"، "Ascending Rhythm""Stair-like"، وهو شعر يرد في الشطر الثاني، منه جزء مما ورد في الشطر الأول، أو مختصر الشطر الأول، ليضاف عليه شيء جديد. مثل:
حتى يعبر شعبك يا يهوه
…
حتى يعبر الشَّعب الذي اقتنيته3
ونوع يقال له "المتطابقات المركبة""Synthetic Parallelism" أو "Constructive" وذلك بأن يكون ما يرد في الشطر الثاني مخالفًا، أو على الأكثر لما وَرَدَ في الشطر الأول: على أن المتطابقات في الشطرين تكون موجودة. مثل:
لا تجاوب الجاهل حسب حماقته
…
لئلا تعدله أنت
جاوب الجاهل حسب حماقته
…
لئلا يكون حكيمًا في عيني نفسه4
1 العدد، الإصحاح 23، الآية:8.
2 الأمثال، الإصحاح العاشر، الآية:1.
3 الخروج، الإصحاح الخامس عشر، الآية:16.
4 الأمثال، الأصحاح 26، الآية:4.
ومثل: ارفعن أيتها الأرتاج رءوسكن وارفعنها أيتها الأبواب الدَّهريات فيدخل ملك المجد.
من هو هذا ملك المجد، رب الجنود هو ملك المجد. سلاه 1.
ومن النوع المعروف بـ"Progressive parallelism"، ما ورد في "أيوب" من قوله:"هناك يَكُفُّ المنافقون عن الشغب وهناك يستريح المتعبون. الأسرى يطمئنون جميعًا، لا يسمعون صوت المسخر. الصغير كما الكبير، والعبد حر من سيده"2. وقد جاء الشطر الثاني بمعانٍ إيضاحية جديدة، لها صلة بما ورد في الشطر الأول من معنى3.
ومن النوع الذي يقال له: "Climatic parallelism"، ما ورد في "المزامير":"صوت الرَّب يولد الأيل، ويكشف الوعور وفي هيكله الكل قائل المجد، الرب بالطوفان جلس ويجلس الرب ملكًا إلى الأبد. الرب يعطي عزًّا لشعبه، الرب يبارك شعبه بالسلام"4، وقوله: صوت الرب بالقوة. صوت الرب بالجلال. صوت الرب مكسر الأرز ويكسر الرب أرز لبنان، ويمرحها مثل عجل. لبنان وسِرْيون مثل غرير البقر الوحشي"5. حيث تعاد الألفاظ فيه حسب سلم ارتفاع المعاني.
ويتكون الـ"Parallelism" في العادة من بيتين، أو شطرين، فهو من نوع "Distich"، غير أنه يتكون أحيانًا من ثلاثة أبيات "Tristichs"، ومن أربعة أبيات "tetrastichs"، ومن خمسة أبيات "Pentastichs".
ولا يرد الشعر العبراني على صورة مقطوعات أو قصائد بالضرورة، ومع ذلك فقد ورد في بعض المزامير على شكل قصيدة مكونة من ثلاثة أقسام متساوية يربط بين أجزائها رابط، هو بيت مكرر "Recurring verse". ونرى أن أحد المزامير قد تألف من ثلاث مقطوعات، كل قطعة منها بثلاثة أبيات، وفي
1 المزامير، المزمور 24، الآية: 9 وما بعدها".
2 أيوب، الإصحاح الثالث، الآية: 17 وما بعدها".
3 Jond D. Davis، A Dictionary of the Bible، p. 616
4 المزامير، المزمور 29، الآية: 9 وما بعدها".
5 المزامير، المزمور 29، الآية: 5 وما بعدها".
نهاية كل مجموعة علامة "سلاه""Selah". وقد تنتهي المجموعتان بعبارة تتكرر على نحو موصول في قصيدة أو أغنية "Refrain"
ونجد في المزامير شعرًا ورد منظومًا على ترتيب الأبجدية، فقد ورد مكونًا من اثنتين وعشرين قطعة، أي بعدد حروف الهجاء، تكونت كل قطعة منها من ثمانية أبيات "Verses"، وتبدأ كل قطعة بالحرف العددي. ونجد أن الـ"Lamentations"، قد رتب على الحروف2، وهي مقاطع شعرية حزينة ومراثي "Elihies" تمثل شعر المراثي الأصيل "Threnody" في العبرانية. ويتوفق وزنها على بناء كل بيت ولكن البيت فيها لا يشبه بيت الشعر في اللغة اللاتينية من نوع الأبيات المكونة من ستة تفاعيل "Hexameter"، أو من الخماسي التفاعيل "Pentameter"، وإنما يتكون من خمسة ألفاظ أو ستة أو سبعة، مكونة ما يعادل أحد عشر مقطعًا "SyllabLes". يتكون كل بيت منها من شطرين غير متساويين أحدهما من ستة، والآخر من خمسة، أو من أربعة والآخر من ثلاثة، يفصل بينهما الإحساس والقواعد النحْوية3.
ونجد Sirach من أسفار "الأبوكريفا""apocrypha"، وقد نظم على هيئة "دوبيت" Stichoi من حيث الوزن وعدد المقاطع. وهو من الشعر التعليمي:"Diadactic".
وقد قسَّم بعض العلماء الشعر العِبْراني الوارد في التوراة إلى أقسام: شعر يتمثل بما ورد منه في أسفار "أيوب""Job" وفي نشيد "سليمان"، ونوع يتمثل بما جاء في "المزامير" وهو شعر غنائي، أي يتغنى به، وقد ينشد على إيقاع "المزمار"، وهو يقال له "Lyric" في الإنكليزية، وشعر ثالث يتمثل في "الأمثال" وفي أسفار الحكمة "Ecclesiaticus" التي هي في التهذيب وفي تعليم الإنسان "Didactic"، وفي الحكم الموجزة المفيدة "Sententious". والنوع الأول هو شعر فني، وأما النوع الثاني فمختصر موجز، نظم لينشد، ولكل قسم طرق وبحور5.
1 المزامير، المزمور الرابع والعشرون، المزمور السادس والثلاثون.
2 Jond D. Davis، A Dictionary of the Bible، p. 616
3 Hastings، p. 527.
4 Hastings، vol، 4، p. 7.
5 The Bible Dictionary، Vol، II، p. 305.
ولأجل إحلال الإيقاع أو النغم في الشعر، فقد يضطر أحيانًا إلى مزج كلمتين قصيرتين، ليتلفظ بهما ككلمة واحدة. كما يفعل ذلك لأسباب أخرى منها مراعاة "القافية" التي يقال لها "ميفق، مقف، Maqqeph" في العبرانية. أما إذا كان العكس، وذلك بأن تكون الكلمة ثقيلة وطويلة، فقد تقرأ وكأنها ذات مقطعين، أو جزءين.
وإذا كان الشعر مؤلفًا من أبيات عديدة، تكون وِحْدة واحدة، فيطلق عليها "مقطوعة شعرية""strophe". ولكن المراد بها في الغالب القطعة الكبيرة من الشعر، أي "القصيدة". وأما الشعر القصير، المؤلف من بيتين، أي من "دوبيت" وهو يقال له:"Couplet" أو "Distich" في الإنكليزية، فإنه يكون الطابع الغالب على الشعر في هذه اللغة. يتكون من "Parallelism"، أي "موازنات" أو "متطابقات". وقد نظمت الأشطر والأبيات، بحيث تتناسب فيما بينها في الألفاظ والجمل والمعاني. فيرد في الشطر الثاني جزء مما ورد في الشطر الأول بنصه أو باختيار لفظة منه، لتذكير القارئ بالشطر المتقدم، فيتخرط مراد ذلك الشطر1.
ونجد في التوراة قطعاً عدَّها العلماء مقطعات شعرية، بينما هي خالية من النغم، أي الوزن، ونجد قطعًا ذات نغمة موسيقية، أي ذات وزن، فهي من الشعر الصحيح، المقرون بنغم. والنوع الأول هو نثر "Prose" خالص، لكنه يمتاز عن النثر المألوف باستعماله المجاز والاستعارة والكتابة والتعابير الفنية والألفاظ المؤثرة في التعبير عن الرأي. فهو يعبر عن شعور عميق كامن في النفس بأسلوب أدبي رفيع لذلك عدَّ من الشعر، مع أنه نثر في الواقع.
ويتكون البيت من شطرين. ومن مقاطع "Stanza" ومن "Strophe"، أي مقطوعة. ويتكون الشطر والبيت من مقاطع، أي من ألفاظ نظمت بعضها إلى بعض بحيث إذا ما قرئت بصوت مرتفع، فإنها تقرأ بنغمة، وبموسيقى مؤثرة. ويتقضى ذلك تنظيم الألفاظ والمقاطع بشكل منسق ذي نغم، لتتولد منه موسيقية الشعر. فللشعر ارتباط وثيق بالموسيقى والغناء. ونجد موسيقى الأشطر والأبيات متناسبة ومن إيقاع واحد، أي من بحر واحد، وتحافظ القطعة الشعرية،
1 Hastings، p. 737، "Poertry"
على هذه الموسيقى، حتى لا يقع تنافر فيها، فتبدو متنافرة نابية على السمع، فلا تعدُّ شعرًا من صميم الشعر.
ويدخل "الترنيم" في باب الشعر الذي يقرأ مع الموسيقى، وتعد الأمثال في جملة أنوع الشعر. ونظرًا لعدمِ وجود نصوص شعرية في العبرانية، وفي اللغات السامية، مدوَّنة بصورة واضحة تبين مقاطعها كيفية التغني أو النطق بها، ونظرًا لجهلنا أصول الإيقاع عند القدماء وطرق الغناء التي تغنى بها، ليس من السهل علينا في الوقت الحاضر إبداء رأي واضح عن الشعر عن قدماء الساميين، وفي جملتهم العرب بالطبع.
فنحن لا نعرف اليوم عن الشعر العربي القديم، الذي سبق الإسلام بعصور كثيرة، أي شيء. وليس في النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا، نص فيه شعر أو فيه تلميح عنه. وكل ما يقال عنه، هو حدس وتخمين وظن وقياس قيس على ما نعرفه عن الشعر عند بقية الساميين، وما نعرفه عن ذلك الشعر هو بحد ذاته شيء قليل. وما لم يعثر على نصوص شعرية جاهلية، فإن من غير الممكن التحدث عنه بشيء ذي بال.
والشعر هو شعور وتعبير عن أحاسيس وخواطر قائله، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يتناسب مستواه من الرقي أو السَّذَاجة مع مستوى الشاعر العقلي. ومعنى هذا أنه بدأ ساذَجًا بسيطًا، ثم نما وتطور بنمو وتطور عقل قائله. وعلى هذا فشعر كل أمة بدأ كما يبدأ كل مولود ساذجًا بسيطًا، ثم نما وتطور، وهو لا يزال يتطور ما دام العقل الإنساني خاضعًا لسنة التطور، وما دام الإنسان حيًّا. ولد من هذا الكلام الاعتيادي المرسل المنثور، بأن ميز عنه بعض التمييز، ثم زادت هذه الميزات أو العلامات الفارقة، حتى صار صنوًا للنثر، بحيث صار الكلام نثرًا ونظمًا.
وقد أشير إلى الشعراء في العهد الجديد، أي في الإنجيل. ورد في "أعمال الرسل""لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد. كما قال بعض شعرائكم أيضًا"1 مما يدل على أهمية الشعراء في ذلك العهد.
1 أعمال الرسل، الإصحاح السابع عشر، الآية: 28".
والشعر أوقع أثرًا على النفس من النثر، لما فيه من سحر النغم ومن جاذبية في الموسيقى، ومن توازن وتطابق في بنائه، ومن انسجام في تكوين أجزائه، بحيث إذا أسقط جزء من شطر بيت أو وضع جزء غريب في موضع الساقط، وهو ليس في وزنه اختلَّ التوازن فيه أي النغم: ولهذا اقترن الشعر بالغناء، لوجود النغم فيه، والنغم من أساس الغناء. فكان الشاعر يترنم بشعره ويتغنى به، ويقرأه بنغمة خاصة ليؤثر بذلك على سامعيه، وقد يقرن ترنيمه هذا بتحريك رأسه أو يديه أو جسمه من شدة انفعاله وتأثره بشعوره، ليؤثر بذلك في السامعين فيشبه موقفه هذا موقف السَّحرة في الأيام القديمة. ونظرًا لتغني اليونان والرومان عند تلاوتهم أشعارهم، قالوا: غنَّى شعرًا، بمعنى نظم شعرًا1، أو قال شعرًا أو صنع شعرًا. ونحن نقول في عربيتنا "أنْشَدَ شعرًا، نريد: قال شعرًا، وقرأ شعرًا، وأنشد الشعر، قرأه، وأنشد بهم، أي هجاهم. "وفي الخبر أن السليطيين قالوا لغسان هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا. وتناشدوا أنشد بعضهم بعضا"2. و"النشيد رفع الصوت. قال أبو منصور: وإنما قيل للطالب ناشد لرفع صوته بالطلب، وكذلك المعرّف يرفع صوته بالتعريف يسمى منشدًا. ومن هذا إنشاد الشعر، وإنما هو رفع الصوت"3. وفي هذا التفسير دلالة على أن الشعراء كانوا يرفعون صوتهم عند قولهم الشعر ويترنمون به، والترنيم والترتيل والإنشاد من ألوان الغناء. ولا استبعد كون قدماء الشعراء الجاهليين كانوا يترنمون في أشعارهم، أي أنهم كانوا ينشدونها إنشادًا، بطريقة غنائية، قد تصاحب بآلة موسيقية، وربما كانوا يتغنون بالشعر أمام الأصنام، تمجيدًا لها وتقربًا إليها، ومن هنا جاء مصطلح: "أنشد شعرًا" ولا استبعد أن يكون هذا شأن العرب الجنونبيين في معابدهم، نظرًا لما كان لهم من معابد ضخمة وطقوس دينية وتقرب إلى الأصنام.
ولا يستبعد احتمال ترنيم بعض الشعراء الجاهليين شعرهم على نغم آلة من آلات الطرب، على نحو ما يفعله اليوم بعض الشعراء الذين ينشدون أشعارهم بالعامية على "الرباب""الربابة"، ينشدونه عند أبواب البيوت في الأعياد وفي المناسبات،
1 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 64".
2 تاج العروس "2/ 514"، "نشد".
3 تاج العروس "2/ 514"، "نشد".
يستجدون به أصحاب البيت والناس الذين قد يجتمعون حولهم لسماع الغناء. وقد يكون هؤلاء من ترسبات أولئك الشعراء الجاهليين.
وقد بدأ الشعر بداية أي شعر آخر، بدأ بداية بسيطة، بدأ جملا مُقَفَّاة، الكلام فيه يوالي بعضه بعضًا على روي واحد. أي سجعًا1. أو كلامًا يشبهه، فيه نغم وإيقاع وتعبير عن إحساس. ثم تَفَنَّن فيه، وزيدت أنغامه، أي بحوره وأغلبها من الأنغام البسيطة السهلة، المتناسبة مع الحياة الأولية، ثم تقدم بتقدم الحياة، واتخذ صورًا متعددة تتناسب مع حياة الأمم وظروفها وعقلياتها، وماتت أوزان، وتولدت أوزان، وظهرت فيه أساليب عند أمة، لم تعرف عند أمم أخرى، لاختلاف الحياة والأذواق والأجواء التي يولد فيها الإنسان.
والشعر الجاهلي الواصل إلينا، إما أبيات، نسبت إلى شعراء، وقد لا تنسب، وإما جملة أبيت يقال لها: قطعة، Fragment"، وإما "قصيدة" "Ode" وهي ما زاد عدد أبياتها على حدود القطعة التي رسمها لها علماء الشعر.
وقد لعب السجع دورًا هاًًّا في حياة الجاهليين، تكلم به الكهان بصورة خاصة. ولهذا اشتهر وعرف باسمهم فقيل: سجع الكُهَّان، ونطق به الخطباء، وقد تعمقوا فيه فاستعملوا أقصى ما ملكته بلاغتهم من أساليب التأثير على النفوس، لسحر عقول المستمعين لهم. فصار نوع من أنواع الكلام المقفى، ظاهره القافية والروي، وباطنه سحر معاني الشعر. فهو في الواقع شعر مقفى ينقصه الوزن ليكون شعرًا تامًّا. والروي حرف القافية، الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، ويلزم في كل بيت منها في موضع واحد2. فلما أضيف إليه النغم، أي الوزن صار شعرًا، له أوزان وبحور، عل نغمها ينظم الشاعر شعره.
والسجع، وإن ظهر في عربيتنا كلام مقفى خالٍ من الوزن، إلا أنه في الواقع كلام موزون، روعي فيه، أن يكون الشطر الثاني من الجملة موازٍ أي مساوٍ للشطر الأول منها، بحيث يكون بوزنه وبقافيته. ومن هنا عدَّ شعرًا عند الأمم الأخرى لأنك إذا قرأت السجع الأصيل المعتنى به، أو السجع الذي استرسلت به السليقة، والخارج من قلب إنسان ذي حس مرهف، تجد فيه الميزان الصحيح
1 تاج العروس "5/ 375"، "سجع".
2 تاج العروس "10/ 159"، "روي".
والمقابلة التامة والمطابقة الصحيحة بين الأجزاء. كل كلمة فيه تقابل كلمة مثلها، وكل عيار فيه يقابله عيار في وزنه وثقله. وفي معانيه معانٍ شعرية وسحر بيان، ثم إنك إذا قرأته بصوت مرتفع، وبحركات صوتية ذات ترنم، بنغم فيه حركات وسكنات، صار شعرًا. ومن هنا رمت قريش الرسول بقول الشعر، وبأنه شاعر لما سمعت القرآن. فرد عليهم بقول تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} 1. و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2.
وما كانت قريش لترمي الرسول بقول الشعر، وتزعم أن القرآن شعر أو أن فيه شعرًا، لو أنها كانت تعتبر الشعر الكلام الموزون المقفى حسب ولا غير ولا تدخل التخيل فيه، أي المعنى الشعري. ومن هنا قال المفسرون:"لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس. أما من حيث اللفظ فظاهر، لأن الشعر كلام موزون مقفى، وألفاظ القرآن ليست كذلك، إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد. وأما من جهة التخيل، فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها"3. وهذا المذهب الذي ذهبت قريش فيه في تفسير الشعر، هو الذي حمل علماء التفسير على الاحتراس كثيرًا في تفسير معنى الشعر وفي تحديده، وتحديد مفهوم الشاعر. فقالوا: "الشعر وهو الكلام المقفى الموزون قصدًا. والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزونًا اتفاقًا، فلا يسمى شعرًا، وما يجوز من الرجز، وهو نوع من الشعر عند الأكثر"4.
على أن علماء العربية لم يغفلوا أو لم يشاءوا أن يخفوا حقيقة واقعة، هي أن
1 سورة يس، الآية: 69، تفسير الطبري "23/ 18"، ابن كثير، تفسير "3/ 578 وما بعدها".
2 الحاقة، الآية: 40 وما بعدها"، تفسير الطبري "29/ 41".
3 تفسير النيسابوري، "29/ 37"، "حاشية على تفسير الطبري"، "بولاق". "وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا مفتعل ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال"، تفسير ابن كثير "3/ 578"، "في تفسر سورة يس".
4 إرشاد الساري "9/ 88".
في القرآن آيات، إذا تأملت فيها وجدتها وكأنها شعر منظوم، أو من قبيل الشعر المنثور. مثل سورة الانفطار:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} 1
والجواب على ذلك، أن ما نجده في القرآن من آيات تبدو وكأنها شعر موزون، هو من قبيل ما يقع في كلام الناس عفوًا ومن غير تعمد من كلام، أو تأملت فيه وجدته كلامًا موزونًا، ولكن لم يقصد به أن يكون شعرًا، والشعر لا يعدُّ شعرًا إلا إذا كان قد صدر عن تفكر وعمل خاطر، وإعمال رأي، ومن رجل اتخذ الشعر صنعة له.
وليس لدى أحد علم بكيفية تطور الشعر العربي من حالته البدائية إلى بلوغه درجة البحور. ولا يستطيع أحد إثبات أن هذه البحور التي ثبتها الخليل والأخفش، وحدَّداها، هي كل بحور الشعر الجاهلي، فربما وجدت بحور أخرى لم يصل خبرها إلى علم هذين العالمين أو غيرهما، ولا سيما في الشعر القبلي الذي لم يشتهر أمره، ولم يعرف إلا بين السواد، ومنه الشعر العامي، أي الشعبي، أو المحلي، المنظوم باللهجات الخاصة، إذ لا يعقل عدم وجود شعر شعبي في ذلك العهد، نظمه سواد الناس، على غرار الشعر العامي الذي يقال له الشعر النبطي في جزيرة العرب، فالشعر هو شعور، ولا يقصر الشعور على طبقة من الناس دون أخرى.
ونحن لا نملك في الوقت الحاضر تعريفًا علميًّا للشعر، نستطيع أن نقول بجزم وبتأكيد أنه من تحديد الجاهليين له. والتعريف المألوف له، هو كما ذكرت تعريف إسلامي محض. وقد رأينا كيف احترس علماء التفسير في تعريفه، فقيدوه بكونه "الكلام المقفى الموزون قصدًا" لإخراج ما وقع موزونًا من الكلام اتفاقًا
1 [سورة الانفطار، 82، الآية: 1- 5] .
من الشعر، وهو ما وقع في القرآن وفي كلام الرسول، مما يدل على أن العرب في أيام الرسول كانوا أوسع إدراكًا لمفهوم الشعر من الإسلاميين، وأنهم كانوا يدخلون فيه ما أخرجه من جاء بعدهم في الإسلام منه، بسبب فرية قريش على القرآن والرسول. وبسبب هذه الفرية، وقع جدل فيما بين الإسلاميين في موضوع الرجز، هل هو شعر، أو هو باب خاص من أبواب الكلام لا يدخل في باب الشعر، لثبوت ورود الرجز على لسان الرسول!
وقد أدرك العلماء أن هنالك فروقًا بين العرب وبين العجم في نظرتهم إلى الشعر. قال الجاحظ في معرض كلامه على ميزات اللسان العربي وتفوقه على ألسنة الأعاجم: "والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسبر. والدليل أن البديهة مقصورة عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاص فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسمية الروم والفرس شعرًا، وكيف صار النسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يصاب في العرب إلا القليل اليسير، وكيف صارت العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونًا على موزون، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على موزون على غير موزون"1. فهذا رأي الجاحظ في الشعر العربي وفي الشعر عند الأعاجم.
وللشعر أوزان، هي بحوره. ضبطها: الخليل بن أحمد الفراهيدي في الإسلام ثم من جاء بعده. استنبطت من الشعر المألوف الذي كان سائدًا في أيامه، وضبطت بأوزان هي التفعيلات. بيد أننا لا نستطيع أن نقول: إن الأوزان التي ضبطها الإسلاميون، تمثل جميع بحور الشعر الجاهلي، وأن علماء الشعر كانوا قد استعرضوا كل ذلك الشعر، وحصروه حصرًا، ودرسوه درسًا، فوجدوه لا يخرج خارج هذا الحصر، فلم يفتهم منه ولا بحر واحد. فقول مثل هذا لا يمكن أن يقال وهل هنالك من دليل يؤيده ويسنده؟ وأنا لا استبعد احتمال عدم وقوف علماء الشعر على بحور أخرى، لم يصل علمها إليهم بسبب موتها قبل الإسلام، أو لقلة من كان ينظم بها، إلا لأنها كانت من الأشعار التي لم يصل علمها إلى علماء الشعر؛ لكونها من أشعار العرب الجنوبيين الذين كانوا يتكلمون
1 البيان والتبيين "33"، "بيروت المطبعة الكاثوليكية 1959م"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".
باللهجات العربية الجنوبية، أو لكونها أشعار مناطق بعيدة لم يألف علماء اللغة والشعر الذهاب إليها، أو لأنها من الشعر "العامي"، البعيد عن العربية المصطفاة، ولأسباب أخرى.
ونجد في خبر لهيب بن مالك اللهبي، المعروف بلهب، سجعًا ورجزًا، نستطيع أن نقول إنه -إن صح- يمثل مرحلة من مراحل الشعر عند الجاهليين، تفيدنا دراستها فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الشعر الجاهلي. فقد ذكر أنه سمع الكاهن خطر بن مالك، وكان من أعلم كهان بني لهب، يقول:
عودوا إلى السحر
…
ائتوني بسحر
أخبركم الخبر
…
ألخير أم ضرر
أم لأمن أو حذر
وذكر أنه سمع الكاهن يقول:
أصابه أصابه
…
خامره عقابه
عاجله عذابه
…
أحرقه شهابه
زايله جوابه
…
يا ويله ما حاله
بلبله بلباله
…
عاوده خباله
فقطعت حباله
…
وغيرت أحواله
ثم أمسك طويلا، وهو يقول:
يا معشر بني قحطان
…
أخبركم بالحق والبيان
أقسمت بالكعبة والأركان
…
والبلد المؤمن والسدان
قد منع السمع عتاة الجان
…
بثاقب بكف ذي سلطان
من أجل مبعوث عظيم الشان
…
يبعث بالتنزيل والقرآن
وبالهدى وفاصل الفرقان
…
تبطل به عبادة الأوثان
ثم قال خطر:
أرى لقومي ما أرى لنفسي
…
أن يتبعوا خير نبي الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس1
1 الإصابة "3/ 312"، "رقم 7564"، الاستيعاب "3/ 312 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
وهو كلام مصنوع، لكنه يفيدنا مع ذلك في الوقوف على نماذج من الشعر، روعي في صنعه محاكاة طريقة الكهان في نظم الكلام. فهو يفيدنا من هنا في الوقوف على أسلوب من أساليب نظم الكهان في أيام الجاهلية، كما أنه يفيدنا في دراسة موضوع صلة الكهانة والسحر بالشعر.
والشعر بعد، تعبير عن الخواطر والأحاسيس وخوالج النفوس، فلا يمكن أن تنحصر أغراضه في غرض واحد، لأن التعبير عن الحياة العامة للإنسان يحتاج إلى ألوان كثرة من ألوان التعبير الشعري، والشعر الجاهلي على كونه ضيقًا، لضيق أفق الحياة الجاهلية وبساطتها، فقد تنوعت فنونه، تنوعًا انبثق من صميم حياة الجاهليين، وأدى بذلك المعاني التي كانت تتطلبها حياتهم أداء يتناسب مع درجة عقليتهم ومستواهم المعاشي وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. وقد استعرض الإسلاميون تلك الأغراض التي قيل الشعر فيها فحصرها أبو تمام وهو نفسه من مشاهير الشعراء في الإسلام في عشرة أبواب: هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب "النسيب"، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء. وجعلها غيره: الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، والملح، وباب مفرد للسؤال والجواب1. وحصرها ابن رشيق في النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء، والاستنجاز، والعتاب، والوعيد، والإنذار، والهجاء، والاعتذار2. وورد في ديوان المعاني أن "أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح، والهجاء، والوصف، والتشبيه، والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسمًا سادسًا وهو الاعتذار، فأحسن فيه"3.
وقد تعرض أبو العباس ثعلب، لهذه الأغراض فجعلها الأمر والنهي، والإخبار، والاستفهام. وهذه الأغراض الأساسية للشعر تتفرع إلى المديح، والهجاء، والرثاء، والاعتذار، والغزل، والتشبيه، والوصف4. وجعل
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب"3/ 71".
2 العمدة "2/ 113 وما بعدها"، "باب في أغراض الشعر وصنوفه".
3 ديوان المعاني "1/ 91".
4 جوستاف فون جرونباوم، حضارةُ الإسْلامِ "333".
أبو هلال العَسْكَرِيّ أغراض الشعر: المديح، والهجاء، والفخر، والغزل، وجعلها: المديح، والهجاء، والرثاء، والغزل، والوصف، في موضع آخر1.
ونلاحظ أن بعض هذه الأبواب مثل الفخر والمدح، والهجاء، عامرة، وبعضًا منها فقيرة، حتى لا نكاد نجد فيها مما يخص الشعر القصصي Epique غير نزر يسير، وفي هذا القليل ما هو مشكوك في صحته، وأما الشعر الديني الخاص بالأصنام والأوثان، فلا نجد منه في الشعر الواصل إلينا لا قطعة ولا قصيدة. ولا يعقل بالطبع ألا يكون للجاهليين شعر في هذا الباب، إذ كانوا يتوسلون ويلوذون بها ويتقربون إليها بالنذر، فلا يعقل ألا يكون لهم شعر في آلهتهم. ولا يعقل أيضًا قول من قال: إن الجاهلي رجل مادي، لم يحفل بالدين ولا بالمعاني الروحية ولا بالآلهة، وهو من أبعد الناس عن الدين والتدين، لذا لم يحفل بها في شعره. فلو كان الجاهلي على هذا النحو المذكور من الابتعاد عن الدين والتدين، لما تقرب إليها بالنذور وبالقرابين أحد، لورود ذكرها في النصوص الجاهلية، وفي القرآن الكريم، والذي أراه أن سبب عدم وصول شيء من الشعر الديني الوثني الجاهلي إلينا، لا يعود إلى تقصير الجاهليين في هذا الباب، بل إلى انصراف الرواة عنه، وامتناعهم من تدوينه بسبب الإسلام، لأنه من صميم ديانة أهل الجاهلية التي اجتثها الإسلام، إلا أن يكون ذلك الشعر من النوع الذي يتفق مع مبادئ الإسلام، أو لا يتعارض معها، فلم يجدوا غضاضة من روايته، ولذلك رووه.
وقد ذكر علماء الشعر "أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدِّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرِّبع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك النسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه". وذكر أن امرأ القيس أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف
1 ديوان المعاني "1/ 31، 91"، حضارة الإسلام "333".
2 الشعر والشعراء "1/ 20".
ما فيها، ثم قال: دع ذا -رغبة عن المنسبة- فتبعوا أثره، وهو أول من شبه الخيل بالعصا، واللقوة والسباع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف". وكان أول من بكى الديار1.
والشاعر المجيد عندهم من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمِلّّّّّّ السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد"2، "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج على مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيَّد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يَرِد على المياه العِذَاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشبح والحنوة والعرارة"3.
وقد جعل علماء الشعر النسيب بابًا من أبواب الشعر، ودعاه بعضهم التشبيب، وجعل بعضهم الغزل بابًا من أبواب الشعر، بأن أدخل النسيب فيه4. وطالما نجد الناس يخلطون بين الغزل والنسيب والتشبيب. والغزل في رأي بعض علماء اللغة اللهو مع الناس، وقيل محادثة النساء، وقيل: الغزل والنسيب هو مدح الأعضاء الظاهرة من المحبوب أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك، وذكر بعضهم أن الغزل والنسيب والتشبب كلها بمعنى واحد، وقيل: إن النسيب والتشبيب، والغزل ثلاثتها متقاربة، ولهذا يعسر الفرق بينها حتى يظن أنها واحدٌ 5. وذكر أن النسيب التغزل، وأن قول الرجل نسب الشاعر بالمرأة، بمعنى شبب بها في الشعر وتغزل وذلك في أول القصيدة، ثم يخرج إلى المديح، والنسب هو الغزل في الشعر والنسيب في الشعر، هو التشبيب فيه6، والتشبيب: ذكر أيام الشباب واللهو والغزل، ويكون في ابتداء القصائد، وسمي ابتداؤها
1 الشعر والشعراء "1/ 68"، دار الثقافة".
2 الشعر والشعراء "1/ 21".
3 الشعر والشعراء "1/ 22".
4 العمدة "1/ 120 وما بعدها".
5 تاج العروس "8/ 43"، "غزل".
6 تاج العروس "1/ 483"، "نسب".
مطلقًا وإن لم يكن فيه ذكر الشباب. وقيل تشبيب الشعر ترقيق أوله بذكر النساء1.
ولو دققنا النظر في معاني هذه المصطلحات، نجد أن هناك فرقًا بين الغزل وبين النسيب، والتشبيب في الأصل، غير أن الناس خلطوا بين معانيها، فلم يفرقوا بينها. فالنسيب مصطلح استعمل في الشعر للتعبير عن ذكر الدِّيار والأحبة في ابتداء القصيدة، فكأنه أخذ من النسب، حيث يقص الشعر نسب أحبته ومكانهم، ومرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم وغير ذلك مما فصلوه وسموه التشبيب2، فهو ليس بغزل إذن، فقول امرئ القيس:
قفا نبكِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ
…
بسقط اللِّوى بين الدَّخُول فَحَوْمَل
لا يعد غزلا بالمعنى المفهوم من الغزل، وإنما هو تذكر وتوجع على الأحبة والأصدقاء، لمفارقته الدِّيار، وتركه الأحباب. أما الغزل، فهو شيء آخر، يمثل عاطفة الحب نحو المرأة، وما يتعلق بها، وهو ما يقال له: love poem في الإنكليزية. وأما التشبيب، فهو تذكر أيام الصبا والشباب، والغزل فيه لما فيه من المغازلة والمنادمة3، ونظرًا لما بين هذه الأمور من تداخل، تداخلت المعاني في الإسلام، وأخذت تعني معاني متقاربة، أو شيئًا واحدًا.
وشعر الهجاء "lampoon"، هو من أهم أبواب الشعر المهمة عند الجاهليين. ويتناول هجاء الأشخاص وهجاء القبائل. ونظرًا لما كان يتركه الهجاء من أثر في النفوس؛ كان قوم الشاعر يَرْوُونه ويحفظونه للحطِّ من شأن المهجو. ولهذا الأثر الخطير الذي كان يتركه الهجاء في المهجو من كسر في الاسم وتحطيم في المنزلة، فسَّر "كولدزيهير" لفظة قافية بمعنى تحطيم القفى، أي تحطيم الجمجمة. وذهب إلى أن القافية، كانت بهذا المعنى في الأصل، ثم فسرها العلماء بعد ذلك تفسيرها المألوف، وهو تفسير مخالف للأصل4.
قال أهل الأخبار: "وليس في العرب قبيلة إلى وقد نيل منها، وهجيت،
1 تاج العروس "1/ 308"، "شبب".
2 تاج العروس "1/ 16"، "نسب".
3 تاج العروس "1/ 483"، "نسب".
4 Goldziher، Historyof Classical Arabic Literature، p. 9.
وعيرت، فحطَّ الشعر بعضًا منهم بموافقة الحقيقة، ومضى صفحًا عن الآخرين لما لم يوافق الحقيقة، ولا صادف موضع الرمية.
فمن الذين لم يُحْكَ فيهم هجاء إلا قليلا على كثرة ما قيل فيهم: تميم بن مُرَّة، وبكر بن وائل، وأسد بن خزيمة، ونظراؤهم من قبائل اليمن.
ومن الذين شقوا بالهجاء، ومزقوا كل مُمَزَّق -على تقدمهم في الشجاعة والفضل- أحياء من قيس: نحو غنى وباهلة، ونحو محارب بن خصفة بن قيس عيلان، وجسر بن محارب، "ومن ولد طابخة بن إلياس بن مضر: تيم وعُكَل ابنا عبد مناة، بن أد، "وعدي بن عبد مناة"، كانوا قطينًا لحاجب بن زرارة، وأراد أن يستملكهم ملك رق بسجل من قبل المنذر، والحبطات". ولم تمدح قبيلة قط في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم1.
وقد تعرض الجاحظ لهجاء الشعراء للأشراف، فقال:"وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال، حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه. ومن طلب عيبًا وجده. فإن لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكره، وجد من يغلظ فيه ويحمله عنه. ولذلك هُجي حِصن بن حذيفة، وهجي زُرَارة بن عدس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة"2.
فالحسد في نظر الجاحظ من جملة عوامل الهجاء. فالنباهة والشرف والظهور في المجتمع من العوامل التي تكون سببًا دافعًا إلى الهجاء، بسب داء الحسد، ولهذا أمن الخامل من هجاء الهجائين، وسلم من أن يضرب به المثل في قلة ونذالة وبخل، إذ ليس فيه ما يحمل الشاعر على النيل منه وعلى ما يغيظه، ولا يحسده حاسد، حتى يدفع الشاعر على التحرش به وهجائه. وقد هجيت قبائل بأقذع أنواع الهجاء مع ما لها من شرف وفضل ومكانة وخير عميم، بسبب حسد الحساد، وغيظ القبائل الضعيفة، أو التي لا خير فيها منها، فتحرَّش شعراؤها بها، ودفع الحسد الهجائين إلى هجائها، على كونهم من غمار الناس ومن الخاملين في الحسب والنسب3.
1 العمدة "2/ 182 وما بعدها".
2 الحيوان "2/ 93".
3 الحيوان "1/ 357 وما بعدها".
وقد هجيت الملوك، فتناولتهم ألسنة الهجائين، ولا سيما أولئك الملوك الذين رزقوا طبعًا حادًّا، وعصبًا حساسًا متوترًا، مثل عمرو بن هند، والنعمان بن المنذر الذي نال أكبر نصيب من الهجاء. ومما قيل فيه:
ملك يلاعب أمه وقطينَهُ
…
رخو المفاصل أيره كالمرود
وقد نسب قوله إلى النابغة الذبياني، ويمكن أن يكون قد صنعه غيره ودسه عليه حسدًا له، للإيقاع به عند الملك. ونسب إليه قوله:
قبح الله ثم ثنَّى بلعن
…
وارث الصائغ الجبان الجهولا
من يضر الأدنى ويعجز عن ضر
…
الأقاصي ومن يخون الخليلا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو
…
ثم لا يرزأ العدو فتيلا1
وقيل إن قائل تلك الأبيات هو عبد قيس بن خفاف التميمي، قاله على لسانه للإيقاع بينه وبين النعمان2.
وللهجاء عند الجاهليين وقع شديد. ولقد بكى قوم من الأشراف من شدة هول الهجاء عليهم3. ولما أمعنت قريش في هجاء الرسول والمسلمين، وجندت الشعراء للنيل من الإسلام، أعدَّ الرسول حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة للرد عليهم، وقد قال الرسول لحسان: "اهجهم -أو هاجمهم- وجبريل معك"4، وقال: "إن قوله فيهم أشد عليهم من وقع النَّبْل"5. "وكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر ويذكران مثالبهم. وكان عبد الله بن رَوَاحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع، فكان قوله يومئذٍ أهون القول عليهم. وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم. قلما أسلما وفقهوا، كان أشد القول عليهم،
1 الشعر والشعراء "1/ 99"، "لعن الله ثم ثنى بلعن"، الحيوان "4/ 379". الأغاني "9/ 158".
3 الشعر والشعراء "1/ 99"، الحيوان "4/ 379".
3 الحيوان "1/ 357 وما بعدها".
4 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704".
5 الاستيعاب "1/ 337"، "حاشية على الإصابة".
قول عبد الله بن رواحة"1. وورد أن الرسول قال لحسان: "هيج الغطاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام"2: وفي هذا المعنى ورد في شعر عبد قيس بن خفاف البرجمي:
فأصبحت أعددت للنائبا
…
ت عرضًا بريئًا وغضبًا صقيلا
ووقع لسان كحد السنان
…
ورمحًا طويلا القناة عسولا3
وفي هذا المعنى ورد أيضًا قول طَرَفَة:
بحسام سيفك أو لسانك والكلـ
…
ـم الأصيل كأرغب الكلم4
وقول امرئ القيس الكندي:
ولو عن نثًا غيره جاءني
…
وجرح اللسان كجرح اليد5
وقول طرفة:
رَأَيتُ القَوافي يَتَّلِجنَ مَوالِجًا
…
تَضَايقُ عَنها أَن تَوَلَّجَها الإِبَر6
وعكس الهجاء هو شعر الفخر والمدح، وله أهمية عند العرب لا تقل عن أهمية الهجاء، لما له من مكانة في المجتمع. وقد لعب دورًا خطيرًا في السياسة كذلك، ولا زال يلعب دوره هذا فيها إلى هذا اليوم. ولا يعني هذا المدح أن الشاعر كان صادق اللهجة في مدحه، مخلصًا في مدحه لمن مدحه، إنما المدح هو في مقابل إحسان أو طلب إحسان في الغالب، فإذا قطع المحسن إحسانه عن الشاعر أو إذا حرض إنسان الشاعر على من مدحه وأعطاه ليهجوه، هجاه، وقد يهجوه بأقذع هجاء، ومن هنا كان الأشراف وأصحاب التستر، يبتعدون عن الشعراء، لا يريدون مدحهم ولا حمدهم، لأنهم لا يعلمون متى ينقلب الشاعر عليهم،
1 الاستيعاب "1/ 337"، "حاشية على الإصابة".
2 البيان والتبيين "1/ 273".
3 المفضليات "386".
4 الحيوان "1/ 156"، ديوان طرفة "61".
5 الحيوان "1/ 156".
6 الحيوان "1/ 158".
149
فيهجوهم بأشد هجاء، أو ينهش أعراضهم، لتقصيرهم في إعطائه المال. ومن هنا نعتوا بالتلون وبالكذب:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 1.
وسبب هذا التلون عامل اقتصادي، فقد كان الشاعر مثل غيره من الناس يتعيش بشعره، يبذله لمن يعطيه، ويحجبه عمن لا يعطيه، وإذا مدح أمل الإثابة، ليعيش عليها، وإن حرم منها، أو وجد أن شاعرًا آخر نال من ممدوحه أكثر مما أعطاه غضب، وقلب مدحه ذمًّا، فيشتمه ويتنقص من شأنه وأن كان قد أغرق بالأمس في مدحه له. وقد يثيره حساد الممدوح، بأن يعطوه أكثر مما أعطاه ممدوحه، فيغريه المال، ولا يجد عندئذ رادعًا أخلاقيًّا يمنعه من التهجم عليه ومن هجائه بأقبح هجاء، فالموضوع موضوع مال، ولو كان للشعراء ثراء وغنى أو سوق رائجة تباع فيها دواوينهم، لما ركب الشاعر ولا شك هذا المركب، ولما تزلف وتقرب، ولكان حاله حال الشعراء الغربيين. يعتمدون على الرأي والفكرة والإبداع والفن، فيشتري الناس شعرهم للاستمتاع به، فما يهمهم لذلك مدح هذا أو ذاك.
ويرى "بروكلمن" أن "كثيرًا ما كان الشاعر يتجه بفنه أيضا إلى مدح بطل أو أمير من قبيلته، ولكنه لم يكن يفكر قديمًا في الجائزة الرنانة، التي نزلت بمكانة شعراء المديح المحترفين في بعض الأحيان -منذ عهد النبي- إلى دَرَك المتسولين بالغناء"2. وهو يجاري بذلك أهل الأخبار القائلين بأن الشعراء المتقدمين لم يكونوا يمدحون طمعًا في مغنم ومال، وإنما كانوا يمدحون عن رأي، وأن أول من تسول بشعره الأعشى، فحط بعمله هذا من قدر الشعراء، ثم أفرط الحطيئة في ذلك، حتى أهان نفسه، فصيروا المتقدمين من الشعراء ملائكة، ورموا الأعشى بخطيئة التسول، بأن جعلوه رأس المتسولين، وما الأعشى إلا بشر، وما المتقدمين عليه إلا بشر مثله، فإن تسول الأعشى، فمن يثبت أنه كان أول من تسول، وأن خطيئة التسول لم تكن معروفة بين المتقدمين عليه.
والرثاء Elegy من سنن الجاهليين القديمة، يقال رثيت الميت رثيًا ورثاء
1 سورة الشعراء، رقم 26، الآية 224 وما بعدها.
2 بروكلمن "1/ 57".
ورثاية، ومرثاة، ومرثية، بمعنى بكيته وعدَّدت محاسنه، أو نظمت فيه شعرًا، والمراد به المدح1. وهو من أبواب الشعر المهمة كذلك، لما كان لرثاء الميت من أهمية كبيرة عند أهل الجاهلية. وقد كانوا يوصون أهلهم بأن يقيموا النياحة عليهم، ليقال فيما يقال من الشعر في حقهم2. ونجد في الشعر الجاهلي قصائد وأشعارًا في الرثاء. وقد نبغت النساء الراثيات في هذا الباب، واستنبطن فيه أساليب بديعة لم يتنبه لها الفحول لما طبعن عليه من رقة الطباع وشدة الجزع في المصائب، وصدق الحس، ورقة العاطفة3. وقد جمع الأب لويس شيخو مراثي الشاعرات الجاهليات، في كتاب، جمع فيه مراثي إحدى وستين شاعرة عدا شعر الخنساء. والخنساء، هي من أشهر شاعرات الرثاء، اشتهرت برثاء أخويها: صخر ومعاوية4.
وشعر الرثاء وإن كان من واجب النساء النائحات في الغالب، وقد بلغ الغاية في شعر "الخنساء"، إلا نه كان من واجب الشعراء كذلك. فلكثير من الشعراء رثاء لآبائهم ولإخوانهم ولأقاربهم ولأصدقائهم ولذوي الفضل عليهم، وقد ترك أوس بن حجر جملة مراثي رائعة، وترك غيره قصائد في رثاء الملوك وسادات القبائل والآباء والأخوة، ويلاحظ أن رثاء الشعراء إنما كان في رثاء الأموات الرجال في الغالب، وذلك نابع عن طبيعة المجتمع، التي تمجد الرجل، ولا ترى ذكر النساء الحرائر إلا في المدح والفخر.
أما شعر التوجع والتألم "elegies" و"threnody" الذي نجده في كتاب "المراثي""Lamentations Book"، المنظوم في الكارثة التي أنزلها "بختنصر" في اليهود عام "586" قبل الميلاد، فلا نجد مثله في الشعر الجاهلي، إنما نجد أبيات في النكبات التي كانت تحل بالقبائل بسب الغارات والغزوات، وأروعه ما جاء في رثاء قتلى بدر. وهو ذو طابع شخصي في أكثر الأحيان، إذ يدور حول انفعال الشاعر وتأثره لمصرع شخص كان يحبه أو يقدره. ويدخل ما وضع
1 تاج العروس "10/ 144"، "رثي".
2 Goldziher، Historyof Classical Arabic Literature، p. 9.
3 لويس شيخو، رياض الأدب في مرائي شواعر العرب "ص1"، "بيروت 1897م"،
4 كارلو نالينو "81".
من شعر حول تخرب سد مأرب، وأمثال ذلك في هذا الباب بالطبع.
وقد رثي بعض الشعراء أنفسهم حين شعروا بدنو أجلهم، ونجد في كتب الشعر والأدب شعرًا من هذا النوع، فكأن الشاعر أراد أن يفتتح به رثاء الراثيات والنائحات، ليكون لهن مقدمة ينسجن عليها شعرهن في رثائه.
وتعد المراثي من عيون الشعر والتراث الخالد عند الشعوب القديمة، ولازال الناس يقيمون للرثاء وزنًا كبيرًا، لأنه تخليد وتقدير لشأن الميت. ونجد في الأدب القديم مكانة كبيرة له فيه. وفي التوراة وصف لرثاء الناس لموتاهم. وهو سجع أو رجز يناسب ظروف الميت وحاله ومكانته، يرنم بأنغام حزينة مؤثرة، ومنه جاء شعر المراثي. ويلاحظ أن شعر الرثاء في العربية لا يختلف من حيث الوزن عن بقية الشعر، فهو يقال في كل البحور، والفرق بينه وبين غيره هو في المعنى، وفي غلبة التوجع والألم فيه على المعاني الأخرى.
ولم يصل إلينا شعر جاهلي طويل، مؤلف من مئات أو آلاف من الأبيات، مثل الشعر القصصي الذي نجده عند الشعوب الآرية في سرد حكايات الآلهة والأبطال والحروب ونحو ذلك، ومثل الشعر الغنائي "Lyrique"، ومثل الشعر التمثيلي "Dramatique"، الذي يستند على التمثيل والحوار والغناء، وشعر الجاهليين شعر قصير في الغالب، لا تتجاوز القصيدة فيه، وهي أطول قطعة من الشعر مائة بيت.
أما القصة الشعرية القصيرة، فنجدها في قصيدة الأعشى التي وصف فيها وفاء السموأل. ونجد في شعر عدي بن زيد قصصًا قصيرة عن أحداث تأريخية، أوردها في شعره على سبيل العظة والاعتبار، كما نجد في شعر أمية بن أبي الصَّلت قصصًا، أخذ بعضه من قصص أهل الكتاب، وأخذ بعضًا آخر منه من أساطير العرب القديمة. وكل هؤلاء هم ممن نستطيع أن نقول عنهم: إنهم من الحضر، أو من المتأثرين بعقلية أهل القرى والحضارة. ويمكن عد قصة الأعشى عن السموأل من هذا النوع المسمى "Ballad" في الإنكليزية. ويرى بروكلمن أن محاولة الأعشى إنشاء شعر القصة La ballade واختراع أسلوب الملحمة، في إشادته بوفاء السموأل، فقد بقيت عملا فذًّا لم ينسج أحد على منواله"1.
1 بروكلمن "1/ 62".
ونجد في شعر للنابغة قصة زرقاء اليمامة، وقصة الحية، إذ يقول:
تذكر أني يجعل الله فرصة
…
فيصبح مال ويقتل واترهْ
فلما وقاها الله ضربة فأسه
…
وللبر عين لا تغمض ناظرهْ
فقالت: معاذ الله أعطيك إنني
…
رأيتك غدَّارًا يمينك فاجره
أبى لي قبر لا يزال مقابلي
…
وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقرهْ
والقصة: أن بلدة امتنعت على أهلها بسبب حية غلبت عليها، فخرج أخوان يريدانها، فوثبت على أحدهما فقتلته، فتمكن لها أخوه في السلاح، فقالت: هل لك أن تؤمنني فأعطيك كل يوم دينارًا؟
فأجابها إلى ذلك حتى أُثري، ثم ذكر أخاه، فقال: كيف يهنؤني العيش بعد أخي؟ فأخذ فأسًا وصار إلى جحرها، فتمكن لها، فلما خرجت ضربها على رأسها، فأثر فيه ولم يمعن، ثم طلب الدينار حين فاته قتلها! فقالت: إنه ما دام هذا القبر بفنائي وهذه الضربة برأسي فلست آمنك على نفسي! وكان العرب تضرب أمثالا على ألسنة الهوام1.
وللحية قصص عند الشعوب القديمة، وقد صوروها بصور مختلفة، وأشير إليها في التوراة. وقد جعلت رمزًا للحيل والإغراء والشر والغدر2، والأرجح أن واضع القصة التي نظمها شعرًا على لسان النابغة، إنما أخذها من أهل الكتاب.
ونجد لعمرو بن آلة بن الخنساء شعرًا حكى فيه قصة سابور، والحضر، منه:
ألم ينبئك والأنباء تنمي
…
بما لاقت سراة بني العبيد
ومصرع ضيزن وبني أبيه
…
وأحلاس الكتائب من شريد
أتاهم بالفيول مجللات
…
وبالأبطال سابور الجنود
فهدم من أواسي الحضر صخرًا
…
كأن ثقاله زبر الحديد3
1 الشعر والشعراء "1/ 96".
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 400".
3 الروض الأنف "1/ 59".
وقد لعبت قصة فتح "سابور""شابور" للحضر، دورًا خطيرًا في قصص الجاهليين. فقد وردت في شعر أبي دؤاد، الذي يقول:
وأرى الموت قد تدلى من الحضر
…
على رب أهله الساطرون
صرعته الأيام من بعد ملك
…
ونعيم وجوهر مكنون1
ونجد عدي بن زيد العبادي، يذكر قصة الحضر في شعره كذلك، ذكرها في القصيدة التي تنسب إليه ومطلعها:
أرواح مودع أم بكور
…
فانظر لأي ذاك تصير
ثم يذكر القصة، ويصف قصر الحضر، ثم يذكر قصصًا آخر أورده على سبيل العظة والاعتبار، قالها وهو في سجنه، للتأثير على النُّعمان لحمله على العفو عنه2.
وذكر عدي بن زيد الحضر في شعر ينسب إليه، منه:
والحضر صابت عليه داهية
…
من فوقه أيد مناكبها
ربية لم توق والدها
…
لحينها إذ أضاع راقبها
إذ غبقته صهباء صافية
…
والخمر وهل يهيم شاربها
فكان حظ العروس إذ جشر الصـ
…
بح دماء تجري سبائبها
وخرب الحضر واستبيح وقد
…
أحرق في خدرها مشاجبها3
وقد ورد في هذه القصيدة:
ما بعد صنعاء كان يعمرها
…
ولاة ملك جزل مواهبها
رفعها من بني لدى قزع الـ
…
مزن وتندى مسكًا محاربها
محفوفة بالجبال دون عرى
…
الكائد ما ترتقي غواربها
يأنس فيها صوت التهام إذا
…
جاوبها بالعشي قاصبها
ساقت إليه الأسباب جند بني
…
الأحرار فرسانها مواكبها
1 الروض الأنف "1/ 56".
2 الروض الأنف "1/ 58".
3 ابن هشام، سيرة "1/ 59"، "حاشية على الروض".
وفوزت بالبغال توسق بالـ
…
حتف وتسعى بها توالبها
حتى رآها الأقوال من
…
طرف المنقل مخضرة كتائبها
يومًا ينادون آل بربر
…
واليكسوم لا يفلحن هاربها
وكان يومًا باقي الحديث
…
وزالت أمة ثابت مرتبها
وبدل الفيح بالزرافة
…
والأيام جون جمّ عجائبها
بعد بني تبع نخاورة
…
قد اطمأنت بها مرازبها1
والأعشى، ممن أدخل قصة الحضر في شعره أيضًا، تطرق في شعره إلى محاصرة المدينة، وكيفية عشق نضيرة بنت الضيزن لسابور لما أبصرته، فقال:
أقفر الحضر من نضيرة فالـ
…
مرباع منها فجانب الثرثار2.
ثم تطرق إلى إقامة "شاهبور""شابور""سابور" حولين في الحضر، ثم إلى ما لاقته نضيرة من جزاء، بسبب خيانتها لوالدها، وذلك بقوله:
ألم ترَ للحضر إذا أهلُهُ
…
بنعمى وهل خالد من نعم
أقام به شاهبور الجنو
…
د حولين تضرب فيه القدم
فلما دعا ربه دعوة
…
أناب إليه فلم ينتقم3
ونجد قصة الغار مسجلة في شعر ومجمل القصة أن رجلا من"بني ضبة" كان له في الجاهلية سبعة بنون، فخرجوا بأكلب لهم يقتنصون، فأووا إلى غار فَهَوتْ عليهم صخرة فأتت عليهم جميعًا، فلما استراث أبوهم أخبارهم اقتفى آثارهم حتى أتى إلى الغار فانقطع الأثر، فأيقن بالشر، فرجع وأنشأ يقول:
أسبعة أطواد وسبعة أبحرٍ
…
أسبعة آسادٍ أسبعة أنجم
رزئنهم في ساعة جرّعتهم
…
كئوس المنايا تحت صخر مرضم
وتأتي أبيات بعدهم في وصف حزنه، ثم لم يلبث أن مات كمدًا4.
1 ابن هشام، سيرة "1/ 53 وما بعدها".
2 الروض الأنف "1/ 56".
3 سيرة ابن هشام "1/ 59".
4 الأمالي، للقالي "1/ 61".
ويجب ألا ننسى شعر المعارك والحروب، وهو شعر نستطيع أن نسميه شعر "الحماسة"، فالعادة عند العرب أنهم ينشدون الشعر عند الغزو وفي أثنائه، وفي المعارك والحروب. فالمقاتل حين يندفع بين المحاربين ليقاتل خصمه، ينشد شعرًا يفتخر فيه بنفسه وبعشيرته وبقبيلته، ويكون في الغالب من الرجز، لأنه شعر سهل مطاوع، يصلح لمثل هذه المواقف، ونجد في أخبار الأيام وفي الفتوح الإسلامية شعرًا وافرًا من شعر المعارك من الرجز ومن بحور الشعر الأخرى.
ومن أبواب الشعر عندهم شعر الوصايا والحكم. فنجد بين الشعر المنسوب إلى الجاهليين شعرًا فيه وصايا يوصي الشاعر بها ولده وأقاربه أو عشيرته بخلاصة ما حصل عليه ذلك الشاعر في حياته من تجارب. كما نجد بينه حكمًا عرف بها بعض الشعراء مثل زهير بن أبي سُلْمَى، والأفوه الأودي وآخرون.
وقد تغنى الجاهليون بشعرهم، فكانوا ينشدونه بنغم خاص، قد يصحب بآلة موسيقية، وقد يشربون ويغنون، أو يسمعون مغنيًا يغنيهم بشعر فلما انتهى "خالد بن الوليد" إلى "سوى" وأهله من بهراء، وجد ناسًا منهم يشربون خمرًا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر
…
لعل منايانا قريب وما ندري1
ونجد في الأخبار أن ملوك الحيرة والغساسنة والأثرياء كانوا يستمعون إلى الغناء وهو شعر ينشد على نغم، توقعه قينة على آلة من آلات الموسيقى، مثل الصنج والبربط، والدُّف، والْمِزْهَر، وآلات أخرى أخذت من الروم والفرس، وقد سبق أن تحدثت عن وجود قينتين بمكة كانتا لعبد الله بن جدعان، تغنيان له، واتخذ غيره من الموسرين والشعراء قِيانًا، يغنين لهم الأغاني، وأكثرهن من الموالي من روم وفرس.
والغناء كلام يجب أن يتماشى من النغم، ولهذا ينظم نظمًا يتناسب مع الإيقاع.
ونجد عند اليونانيين شعرًا ينظم للغناء خاصة، يقال له: الشعر الغنائي "Lyric"،
1 الطبري "3/ 417"، فتوح البلدان "118"، "ذكر شخوص خالد بن الوليد إلى الشام وما فتح في طريقه".
وهو يختلف عن الشعر المألوف الذي لا يمكن أن يتغنى به دائمًا لثقله، وعدم اتساقه مع الإيقاع. ونجد في التوراة شعرًا نظم خصيصًا للإنشاد والتغني به، وهو يختلف في نظمه عن الشعر المألوف.
ولم يُشِر أهل الأخبار إلى وجود شعر من هذا النوع عند الجاهليين، وإن ذكروا أن الجاهليين كانوا يتغنون بالشعر، وكانت قيانهم يتغنين بشعر الشعراء. ومعنى هذا أنهم كانوا يغنون ببحور الشعر المألوفة، لا بشعر غنائي خاص. ونجد في خبر "أحد" أن "هندًا" قامت في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضرب خلف الرجال ويحرضونهم، فقالت "هند" فيما تقول:
إن تقبلوا نُعانق
…
ونفرش النمارق
أو تدبروا نُفَارق
…
فراق غيرِ وامق
وتقول:
ويهًا بني عبد الدار
…
ويهًا حماة الأدبار
ضربًا بكل بَتَّار1
فهذا شعر، ينسجم التغني به مع الإيقاع على الدُّفوف، ووزنه يناسب ذلك النغم، لكنه ليس من شعر الغناء الخالص، الذي يتناسب مع الألحان المبنية على ارتفاع وانخفاض الصوت، وعلى التغيير في النَّبرات، وعلى الجرِّ والمطِّ، والقصر والجزم، وما شاكل ذلك من حركات يقتضيها إيقاع اشتراك جملة آلات دفعة مع الشعر الذي يتغنى به في وقت واحد، وربما اشترك في الغناء جملة مغنين.
ويذكر أهل الأخبار أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه "الركبانية"، "وأول من نقل الغناء العجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجح، ومن أهل المدينة سائب خاثر، وأول من صنع الهزج طويس"2، وهو كلام قصد به أن الغناء العربي
1 الطبري "2/ 512".
2 نهاية الأرب "4/ 239".
قبل الإسلام لم يكن كثير التنويع، وإنما كان مقصورًا على طرق معينة، ثم تطور في الإسلام بدخول الأعاجم فيه، وباحتكاك العرب بهم. فالشعر الجاهلي إنما كان يتغنى به بتلك الطرق المحدودة، ونحن لا نستطيع البت في هذا الموضوع، لأنه من أخبار أهل الأخبار، ولكن لا يعقل في نظري أن يقتصر غناء الحضر على هذه الأنغام البدوية، وبينهم مغنون أعاجم وقيان استوردن من فارس والروم، وكن يحسن الغناء، ويتغنين بالشعر، فكان لعبد الله بن جدعان قينتان أعجميتان، تغنيان له ولضيوفه، وكان لغيره قيان، وقد ورد أن بعضهن كنَّ يغنين بهجاء الرسول. ثم إن ملوك الحيرة كانوا على اتصال بغناء الفرس وغناء بني إرم والنبط، فلا يعقل ألا يتأثروا بدروب غناء الأعاجم، فيدخلوها في غنائهم، وينوعوا في التغني بالشعر، وألا يبرز بينهم من يضع أشعارًا تنسجم مع ألحان الغناء
وكان من غناء العرب "النصب"، وقد عرف به الأعراب، وهو غناء يشبه الحداء، إلا أنه أرق منه. وهو العقيرة، يقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب1.فهو غناء يتغنى به بشعر على طريقة معلومة، اشتهرت بها العرب، أهل البوادي.
وقد لعب الجمل دورًا خطيرًا في الشعر الجاهلي، وكيف لا يستأثر بمكانة مهمة في الشعر الجاهلي وهو مرافق الأعرابي، والحيوان الوحيد الذي رضي مصاحبته ومرافقته في الصحاري الموحشة المتعبة، ولهذا نال حقه من المدح والثناء عليه، كما ألهب مشاعر الأعراب فجعله يصفه في شعره، وصفًا كاد يحيط بجميع أجزاء جسمه2، وحظيت الخيل بمكان مرموق أيضًا في مملكة الحيوان المذكورة في الشعر، فالفارس لا يكون فارسًا إلا بفرسه، وكان يقدم فرسه على نفسه وأهله في الطعام، لأهمية الفرس في حياته، فلا عجب إذا ما أبدع الشاعر الجاهلي في وصف الفرس، وأشاد بذكر الخيل في شعره. وحظيت الحيوانات الوحشية مثل المها والظباء، والحمار الوحشي، والأسود، على مكانة في الشعر الجاهلي كذلك، لما لها من صلة بحياة العربي.
يقول بروكلمن: "والقصيدة، المؤلفة على نظام دقيق، ينبغي استهلالها
1 اللسان "1/ 761 وما بعدها"، "نصب".
2 بروكلمن "1/ 56".
بالنسيب، والحنين إلى الحبيبة النائية، ذلك الحنين الذي يعتري الشاعر عند رؤية أطلالها الدائرة وهو راكب في القفار. ثم يتحول الشاعر في تخلص نموذجي من موطن لوعته وذكرياته إلى وصف مسيره في المفاوز دون انقطاع، وهو وصف قد يخرج أحيانًا إلى مجرد تعداد لأسماء ما يجتازه من أماكن. ثم يخلص من ذلك إلى وصف راحلته، فإذا هو عمد في هذا الوصف إلى تشبيه راحلته ببعض حيوان الوحش استطرد أحيانًا إلى وصف هذا الحيوان وصفًا شاملا. ثم لا يتجه الشاعر إلى التعبير عن حقيقة قصده إلا في آخر القصيدة.
هذا المنهج لا بد أن يكون قد رسخ منذ زمن طويل. وقد ذكر امرؤ القيس سلفًا له في الشكوى والبكاء على الإطلال، يدعى ابن خذام، وإن لم يستطع أدباء العصر العباسي تعيين هذا الشاعر، وتبع المتأخرون هذا المنهج ولم يكادوا يجسرون على تغييره"1.
وقد أكثر الشعراء من استعمال بعض الجمل في افتتاح شعرهم، مثل "بانت سعاد". ذكر أن "بندر الأصبهاني" كان يحفظ تسعمائة قصيدة أول كل منها "بانت سعاد"2.
والشعر الجاهلي، شعر صلد متين، يميل إلى الرَّصَانة وإلى استعمال اللفظ الرَّصين، الذي يغلب عليه طابع البداوة، وشعر هذا طابعه، لا يمكن أن يتحرر، وأن يعبر عن المعاني بحرية، إذ يكون الشاعر مقيدًا بقيود الخضوع للعرف وللشكليات التي اصطلح عليها الشعراء والناس، ولهذا لم يتمكن الشعراء من التطرق إلى مختلف المعاني والتصورات الإنسانية، وصار الطابع الغالب عليه هو الطابع اللغوي، فخشونة الشعر، وجزالته وغرابته، من مميزات هذا الشعر ومن محبباته إلى النفوس، وكلما كان الشعر غريبًا وبألفاظ غريبة، نال التقدير والاستحسان، ولقد عمل الأصمعي قطعة كبيرة من أشعار العرب، لكنها لم تنل الاستحسان ولم يَرْضَ عنها العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"3. والشعر الذي ينال التقدير، هو الشعر الخشن، الذي روي بألفاظ نجدية، ولذلك لم يحفل العلماء بشعر عدي بن زيد،
1 بروكلمن "1/ 60".
2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 529".
3 الفهرست "89".
لأن فيه ليونة1، والعلماء يبحثون عن الشعر الخشن، الذي على العالم أن يفكر فيه ويعمل رأيه فيه طويلا، ويفكر ويغوص فيه حتى يجد معناه.
واشتهر بعض الشعر بشهرة عرف ونعت بها، مثل قصيدة سويد بن أبي كاهل، واسمه عطيف بن حارثة اليَشْكُري ويقال الوائلي، ويقال الغطفاني، التي عرفت باليتيمة، وهي قصيدة عينية. قيل عرفت بذلك لما اشتملت عليه من الأمثال. وهو من الشعراء المخضرمين2. وعرفت القصيدة التي نظمها خداش بن زهير، في هشام والوليد ابني المغيرة المخزوميين، وفي عبد الله بن جدعان بالمنصفة3. وذلك لإنصافه خصومه في شعره. ومن المنصفات قول المفضل النُّكْري:
كأن هزيزنا يوم التقينا
…
هزيز أباءة فيها حريق
وكم من سيد منَّا ومنهم
…
بذي الطرفاء منطقة شهيق4
لقد مر الشعر بمراحل، سنة كل شيء في هذه الدُّنيا. بدأ بدائيًّا لبداءة أصحابه، ثم تطور بتطور الناس، تطور من حيث معانيه وأفكاره، وتطور من حيث قوالبه وأشكاله، أي بحوره. واقتضى هذا التطور ومرور الزمن وتغير الإنسان، ظهور أوزان جديدة، أوجدها الشعراء هروبًا من التقليد، وخروجًا على التقاليد، وابتداعًا من الشاعرية، لتقدم لعشاق الشعر لونًا جديدًا من ألوان النظم، يمتاز على المعروف المألوف المتوارث، بنفس جديد، وموسيقية حديثة تناسب الزمان والمكان، كما هو شأن الشعر عند كل أمة، فتعددت ألوانه وبحوره، حتى إذا كان الإسلام ضبطت ألوانه في بحور جمعها علم العروض المعروف.
أما أسماء أولئك المجددين في الشعر الجاهلي، فقضية لا يمكن البتُّ بها، ولا إصدار حكم فيها. فنحن لا نعرف من أمر الشعر الجاهلي إلا هذا الذي يرويه أهل الأخبار عنه، وهو لا يستند -كما قلنا- إلى سند جاهلي مدون، ولا إلى كتاب من كتب أهل الجاهلية ولا إلى ديوان من دواوينهم، بل روي رواية وحكى
1 الشِّعر والشُّعراء "1/ 150"، "دار الثقافة".
2 الأغاني "11/ 165"، الإصابة "2/ 117"، "رقم 3721".
3 ابن سلام، طبقات "33".
4 الأصمعيات "233".
حكاية، وأقام الإسلاميون على هذا المروي قواعد نظرياتهم في الشعر الجاهلي، ولم يرد في هذا المروي أي شيء عن كيفية ظهور بحور الشعر الجاهلي، ولا عمن جدد وأوجد هذه البحور. وليس لنا أي أمل في إمكان الحصول في المستقبل على علم جديد عن تطور ذلك الشعر وعن ابتكار رجاله الجاهليين فيه، ما دام سند علمنا هذا المورد القائم على الرواية القديمة. أما إذا عثر على نصوص مدفونة عربية جاهلية أو أعجمية فيها بحوث عن الكلام المنظوم عند العرب، فذلك شيء آخر بالطبع. ومثل هذه النصوص هي التي يكون في وسعها وحدها تقديم صورة علمية واضحة عن الشعر الجاهلي.
ومن رأي بعض أهل الأدب، أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدِّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرِّبع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل، فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد"1.
وزعموا أن هذا كان نهج شعراء الجاهلية في نظم شعرهم، ونهج شعراء صدر الإسلام، حتى اختلط العرب بالعجم، وانتقل العرب من حياة إلى حياة، وظهر الشعراء الأعاجم الذي لم يتمكنوا من غسل أدمغتهم من المعاني الأعجمية، ومن التفكير الأعجمي، فنظموا الشعر بالعربية، ولكن بمعانٍ أعجمية جديدة، وجاءوا
1 الشعر والشعراء "1/ 20 وما بعدها"، "دار الثقافة".
ومن تأثر بالحضارة العربية الجديدة التي ظهرت في البلاد المفتوحة بآراء مستجدة، وظهرالتجديد في الشعر العربي وابتعد بذلك عن أسلوب الشعر الجاهلي.
ويتوقف طول الشعر وقصره على نَفْسِ الشاعر، أي على الظروف النفسية التي تحيط بالشاعر حين ينظم شعره، وبالمؤثرات التي أثرت عليه. وقد سئل أبو عمرو بن العلاء "هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم ليسمع منها. قيل: هل كانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ عنها. ويستحب عندهم الإطالة عند الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب والإصلاح بين القبائل كما فعل زهير والحارث بن حِلِّزة ومن شابههما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع والطوال للمواقف المشهورة"1.
وقد ذهب "غرونباوم" إلى إمكانية تقسيم الشعر الجاهلي إلى مدارس أدبية متميزة، جعلها ستة مدارس أو اتجاهات أو مذاهب بتعبير أصح. تضم الشعراء الذين ولدوا ما بين سنة 440 و530م على وجه التقريب. "وليس معنى هذا أنه ليس هنالك شعراء تتجافى طبيعتهم نفسها عن مثل هذا التقسيم وتشذ عنه. فإن الشاعرين الصعلوكين الشهيرين تَأَبَّطَ شرًّا والشَّنْفَرَى، هما الْمِثْلان البارزان على مثل هذا المواهب الفردية. ولعل من أمتع الأمور، ما يتجلى في آثار تلك الفئة من الشعراء، الذين عاشوا في بلاط الحيرة، من مظاهر الحضارة الساسانية. فأبو دؤاد الإيادي حوالي "480- 550م" والشاعر النصراني عدي بن زيد حوالي "545- 585م" يتجلى في شعرهما خليط من العقلية البدوية والتفكير الحضري. وطرفة "حوالي 535- 538م" وكذلك الأعشى، ينقلان إلى العراق سياقًا فنيًّا آخر لمدرسة أخرى ينتمي أعلامها إلى قبيلة قيس بن ثعلبة، من بني بكر بن وائل؛ هذا وليس من شك في أن الأعشى هو أكبر مالك لأزمة اللغة بين شعراء الجاهلية، وأن المشاهد البهجة في قصائده تنم عن تأثير الشعراء الساسانيين. ثم إن امرأ القيس بن حجر الأمير الكندي "حوالي 500- 540م" أشهر شعراء العرب الجاهليين وأبعدهم أثرًا، قد كان نظير طَرَفَة، صاحب إحدى القصائد النموذجية المعروفة بالمعلقات. ومعاصره عبيد بن الأبرص يمثل قمة مدرسة أخرى من هذه المدارس.
1 العمدة "1/ 124"، بلوغ الأرب "3/ 83".
وقبل أن يتجرم القرن السادس، كانت وحدة اللغة واتساق الأسلوب، قد قطعا مرحلة واسعة نحو التبلور. وقد تداخلت هذه المدارس عن طريق تجمع المفردات وتوارد الصور الشعرية، لكن هذا التطور لم يتسع فيشمل جماعات الشعراء التي عاشت إلى جانب التيار الرئيسي الذي جرى فيه الشعر العربي. وأهم مدارس هذا العصر المتأخر هي مدرسة الشعراء الهذليين التي برزت آثارها ما بين سنة 550- 700م. وكان من الموضوعات التي اختصت بها هذه الجماعة وصف النحل والعسل. ومثل هذه الأوصاف قد استتبعت ضربًا من الخصوبة في مشاهد الطبيعة لاسيما حيث ألحت بالشاعر الرغبة في جمع العسل البري.
ويشتمل ديوان الهذليين على قصائد كثيرة لأفراد ما نظموا الشعر إلا لمامًا. ولا بد ههنا من التأكيد أنه كان إلى جانب الشعراء المحترفين، عدد عظيم من الشعراء الهواة والذين عمدوا، بين الفَيْنَةِ والفينة، إلى التعبير بالشعر عن عواطفهم ورغباتهم. وهذا يعلل لنا ما نجده دائمًا من أبيات هي من حيث التأريخ وليدة عصر واحد، لكنها ليست كذلك من حيث درجة الإتقان. فشعر غير المحترفين يغلب أن يكون دون شعر المحترفين بنحو من جيل على أقل تقدير. ولما لم تكن هذه الظواهر قد أخذت حتى الآن بالاعتبار الكافي، فقد ساعد ذلك على استمرار الاعتقاد بجمود الشعر القديم في سياقه الموحد. وقد بقي في مؤخرة الركب -لكن ثقافيًّا لا فنيًّا- الرجز الذي هو أقرب إلى الأدب الشعبي. على أن الفاصل ما بين الرجز والقَرِيض -وهو الشعر بالمعنى المعروف- قد ظل حادًّا إلى عهد متأخر جدًّا"1.
وبعد، فهناك مسائل تتصل بتطور الشعر الجاهلي أرى أن من المستحيل حلها في الوقت الحاضر، لعدم وجود أدلة علمية مقبولة يمكن أن يركن إليها لحل ما عندنا من عقد مستعصية، مثل نشأة وتطور الشعر العربي، وكيف نشأت القصيدة، وعدد الأوزان والبحور العروضية التي سار عليها الجاهليون في وزن الشعر، والتزام القافية أو عدم التقيد بها في الشعر، ومتى نشأت القصيدة، ثم هل كانت لغة الشعر لغة واحدة، خاصة كما نراها في الشعر الجاهلي المدون، أم لم تكن، وإنما كان الشعراء ينظمون بلهجاتهم من الوجهة اللفظية والنحوية والصرفية، ولكن علماء
1 غرونباوم "140 وما بعدها".