الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شاعرًا، فأجز أنصاف ما أقول فأخذا يتسابقان في ذلك1. وذكر أن عبيد بن الأبرص الأسدي، لقي "امرأ القيس" يومًا، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال له: إلق ما شئت، وأخذا يتسابقان. وكان آخر ما أجاب به "امرؤ القيس" هذا البيت:
تلك الموازين والرحمن أنزلها
…
رب البرية بين الناس مقياسًا2
وهو بيت مفضوح، يحدثك عن أصله وفصله، وعن هذه القصة، وقد فات وضَّاع القصة أن هذا الشعر لا يمكن أن يقع من شاعر جاهلي، لاسيما إذا كان على شاكلة امرئ القيس.
والأبيات الجيدة من الشعر، في نظر نقدة الشعر هي الأبيات التي إذا سمعت صدر البيت فيها، عرفت قافيته3.
1 الشنقيطي، شرح المعلقات العشر "16 وما بعدها".
2 المصدر نفسه "17 وما بعدها".
3 البيان والتبيين "1/ 116".
بَدْءُ الشَّاعِرِ:
يبدأ الشاعر بالشعر بعد إحساسه بوجود ميول له إلى الشعر، تدفعه دفعًا على الإقبال عليه، فيبدأ بحفظ الشعر المقال، وبنظمه، ويكون هذا النظم نظمًا تجريبيًّا غير متقن في بادئ أمره، ويقال لهذه المرحلة "الغرزمة". و"الغرزمة" أن يقول الشاعر الشعر قبل أن يستحكم طبعه وتقوى قريحته1. فإذا قوي به وتمكن منه صار من الشعراء المجيدين.
وقد كان الشاعر الجاهلي مثل الشاعر الإسلامي، يبدأ لكي يكون شاعرًا بحفظ شعر غيره، ولاسيما شعر المشهورين من الشعراء المتقدمين عليه، حتى يرويه رواية، وقد يتصل بشاعر يعجبه من شعراء قبيلته أو من غيرهم فيلازمه ويأخذ عنه شعره حتى يصير راوية له، ومتى شعر هذا الراوية الحافظ لشعر غيره، أن عوده قد استوى، وأن له قابلية في النظم، أظهر شعره للناس، وربما بعد
1 الخزانة "1/ 220".
أن يكون قد وجد التشجيع ممن اتصل بهم من الشعراء ومن المتذوقة للشعر، العارفين به، ولما كانت الشاعرية موهبة يصقلها المران ومرور الزمن، فإن كثيرًا من الشعراء نظموا الشعر وهم صغار، ولاسيما أولئك الذي نشئوا في بيت برز به شاعر، أو في بيوت عرفت بنبوغ جماعة من أفرادها بنظم الشعر، فهناك بيوت معرقة توارثت الشعر أبًا عن جد. وقد سبق أن ذكرت قول "رؤبة":"الفحولة هم الرواة"1، أي أن فحول الشعراء هم الذين كانوا في بادئ أمرهم رواة شعر.
فحفظ الشعر وروايته هو مران كان لا بد منه لتهيئة شاعر فحل: وقد وجدت هذه النظرة عند الفرس كذلك، قال صاحب "جهار مقالة":"ولا يبلغ الشاعر هذه المنزلة إلا أن يحفظ في عنفوان الشباب وريق العمر عشرين ألف بيت من أشعار المتقدمين ويجعل نصب عينه عشرة آلاف كلمة من آثار المتأخرين ويديم القراءة في دواوين الأئمة ويلتقط منها ليعلم كيف تصرفوا في مضايق القول ودقائق الكلام حتى يرتسم في طبعه صور الشعر وطرائقه، ويتجلى له مزايا الشعر ونقائصه، فيرتقي قوله ويعلو طبعه. فإذا رسخ طبعه في نظم الشعر، وانقاد له الكلام عمد إلى علم الشعر وقرأ العروض. وقرأ نقد المعاني والألفاظ والسرقات والتراجم وأنواع هذه العلوم على أستاذ يحذقها ليكون جديرًا بالأستاذية"2. وهذا الرأي الفارسي الإسلامي، يمثل ولا شك رأي قدماء الفرس كذلك.
ولم يكن الشاعر الجاهلي يعرف بالطبع هذه العلوم والقيود التي عرفت وشاعت في الإسلام، بل لم يكن الشاعر العربي الإسلامي ليحفل بالعروض وبعلوم البيان والبديع، لأن الشعر طبع وموهبة، وإذا لم تكن الموهبة موجودة في إنسان فلن يكون هذا الشخص شاعرًا موهوبًا مرموقًا مهما حفظ من الشعر، وبلغ من علم العروض ومن علوم الصناعة الأخرى التي لها مساس بالشعر. فقد برز شعراء جاهليون قالوا شعرًا وهم بعد أحداث، واشتهروا به بين قومهم وهم بعد شباب. وطَرَفَةُ الشاعر المشهور، كان ولازال شابًّا حين قتل، ومع ذلك، نجد ترتيبه بعد امرئ القيس في ترتيب المعلقات، وفي ترتيبه هذا دلالة على تقدير قصيدته، واشتهار أمره بالشعر. وقد نظم "الخليل بن أحمد" شعرًا، وهو صاحب
1 البيان والتبيين "2/ 9 وما بعدها".
2 غرونباوم "48".