المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض رواة الشعر: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع عشر

- ‌الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:‌‌ الأعراب والعربيةواللحن

- ‌ الأعراب والعربية

- ‌اللَّحْنُ:

- ‌الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

- ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

- ‌مدخل

- ‌خبر شعراء الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌الشَّاعِرُ:

- ‌عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌إنشاد الشعر

- ‌مدخل

- ‌سُوقُ عُكَاظٍ:

- ‌يَثْرِبُ:

- ‌تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌المغلبون:

- ‌بَدْءُ الشَّاعِرِ:

- ‌أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:

- ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

- ‌الْخَمْرُ والشِّعْرُ:

- ‌شَيطَانُ الشَّاعِرِ:

- ‌الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

- ‌مدخل

- ‌الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:

- ‌الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

- ‌مدخل

- ‌التمليط:

- ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

- ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

- ‌الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

- ‌مدخل

- ‌نَقْدُ الشِّعْرِ:

- ‌أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:

- ‌الشِّعْرُ والإِسْلامُ:

- ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌رُوَاةُ الشِّعْرِ:

- ‌الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:

- ‌التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:

- ‌الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:

- ‌الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

- ‌مدخل

- ‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

- ‌الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

- ‌مدخل

- ‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

- ‌الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

- ‌الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:

- ‌فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:

الفصل: ‌بعض رواة الشعر:

‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

هناك رجال غلبت عليهم رواية الشعر، فاشتهروا بها، مثل حماد الراوية وخلف الأحمر. غير أن هناك رجالا، اشتغلوا بالعربية والنحو، لا يقل جهدهم في جمع الشعر الجاهلي عن جهد رواة الشعر، منهم من جمعه لتفسير كلام الله، ومنهم من حفظه للاستشهاد به في ضبط اللغة وقواعد النحو، حتى إنا لنجد في كتب اللغة والمعاجم وشواهد النحو، أبيات شعر وقطعًا لشعراء جاهليين فات خبرها عن رواة الشعر، ولهذا فنحن لا نستطيع فصل عمل هؤلاء عن عمل رواة الشعر، وعدم الإشارة إليهم في أثناء حديثنا عن العلماء الذين كان لهم فضل جمع الشعر الجاهلي.

ومن أعرف رواة الشعر الجاهلي، عامر بن شراحيل الشعبي، المولود سنة "5" للهجرة والمتوفى سنة "104"، أو "105" للهجرة، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى ما بين السنة "151" والسنة "159" للهجرة، وحماد الراوية، والمفضل الضبي، وخلف الأحمر، وأبو عمرو الشيباني، والمتوفى سنة "205"، أو "206"، أو "213" للهجرة، وأبو عبيدة، ومحمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة "146" للهجرة، وابنه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وابن الأعرابي، وابن السِّكِّيت، المتوفى سنة "244" أو "246" للهجرة، والطوسي، المتوفى في حوالي السنة "250" للهجرة، والسكري، المتوفى سنة "270" أو "275" للهجرة والمبرد، المتوفى سنة "282"، أو "285"، أو "286" للهجرة1، وغيرهم ممن تجد اسماءهم في الفِهْرِسْت لابن النَّدِيم وفي الموارد الأخرى. ويعد أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان من خزاعي ابن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم" المتوفى سنة "154هـ"2. من أعلم زمانه في الشعر واللغة، وقد ذكر أن

1 Ch. J. Lyall، Ancient Arabien Poetry، pp. XXXIX.

2 المعارف "540"، أخبار النحويين، للسيرافي "28 وما بعدها"، البداية والنهاية، لابن كثير "10/ 112"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 262".

ص: 296

اسمه زبّان بن العلاء بن عمار المازني1. وكان عالما بكلام العرب ولغاتها وغريبها، وكان مشهورًا في علم القراءة والحديث واللغة والعربية2. وقد أخذ الشعر عن أعراب أدركوا الجاهلية، وأثنى عليه الجاحظ، وأطرى على علمه، فقال:"كان أعلم الناس بأمور العرب، مع صحة سماع وصدق لسان حدثني الأصمعي، قال: جلست إلى أبي عمرو عشر حِجَج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. قال: وقال مرة: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته. يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما. وحدثني أبو عبيدة قال: كان أبو عمرو أعلم الناس بالغريب والعربية، وبالقرآن والشعر، وبأيام العرب وأيام الناس"، "وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ3 فأحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه. وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية"4.

وقد فسر بعض المستشرقين إحراق أبي عمرو بن العلاء لكتبه، على أنه كانت تحت تأثير أزمة دينية تدل "على أوساط التدين في العراق لا تنظر بعين الارتياح إلى التنقيب عن بقايا الوثنية"5. وأشار بعض منهم إلى أن الحرق تناول ما جمعه من الشعر الجاهلي، وأنه كان في أزمة زهدية لينصرف إلى دراسة القرآن6. وهو تفسير غريب، استنتجوه من لفظة "تقرأ"، أي "تنسك" على ما يظهر، وليس بهذه اللفظة صلة بالوثنية وبالشعر الجاهلي، ولو كان الشعر الجاهلي ممقوتا، وجمعه وحفظه مذمومين، لما حفظه الصحابة وترنموا واستشهدوا به، ثم إن غيرهم من الزهاد مثل أبي الأسود الدؤلي، كان يحفظ هذا الشعر ويستشهد به، وقد رأينا أن الرسول، كن يسمعه ويستشهد به، ثم إن خبر

1 الْمُزْهِرُ "2/ 304"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 321"، الفِهْرِسْت "48"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 270".

2 نزهة الألباء "24"،المقتبس، للمرزباني "25 وما بعدها"، ابن خِلِّكَان "1/ 386 وما بعدها"، الذهبي، العبر "1/ 223".

3 تقرأ: تنسك.

4 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 320 وما بعدها"، ابن خِلِّكَان "1/ 376".

5 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "110".

6 المصدر نفسه "الحاشية رقم4".

ص: 297

إحراق الكتب، لا يشير لا تصريحا ولا تلميحًا إلى علاقته بالشعر، ولعله خير موضع، وضعه أبو عبيدة لغرض ما، كأنه كان يريد من وضعه المبالغة في علمه وفي زهده، أو أن حريقًا غير متعمد أصاب بعض كتبه، فضخمه ووسعه، وجعله إحراقًا متعمدًا، إذا لا يعقل أن يقوم هو بإحراق كتبه كلها، ثم إن قوله:"وكان كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت له بيتًا على قريب من السقف، ثم إنه تقرأ فأحرقها كلها" لا يخلو من مبالغة فليس من السهل على رجل كتابة هذا القدر من الكتب بالنسبة لذلك الوقت، حيث كان الورق غاليًا، بحيث تملأ بيتًا إلى قريب من السقف، ثم قيامه بإحراقها كلها بمثل هذه البساطة والسذاجة، فهي في نظري قصة مصطنعة، لا حقيقة فيها. ومما يؤيد سذاجة هذه القصة، هو أن صاحبها عاد فقال إنه رجع بعد إلى علمه الأول، فلم يكن أمامه عنده إلا ما حفظه بقلبه1، مما يثبت أنه أراد من وضعها المبالغة في علمه، بزعمه أنه كان قد حفظ ما شاء الله من العلم، ومنه الشعر الجاهلي الذي كان يمجده، ويرى أنه وحده هو الشعر، ولهذا لم يستشهد أو يحتج ببيت إسلامي، مهما بلغ الشعر الإسلامي من الجودة والحسن لأنه شعر محدث، والمحدث لا يقاس بالشعر الجاهلي الأصيل، مهما بلغ من الإتقان.

وقد زعم أنه قال: "ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يروى للأعشى من قوله:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا2

ولا ندري بالطبع إذا كان هذا الكلام المنسوب إلى أبي عمرو هو من كلامه حقًّا، أو كان من الكلام المصنوع المنحول عليه. وإذا كان صحيحًا، فإن فيه تلميحًا إلى أن هناك من قد اتهمه بالوضع، جريًا على العادة التي كانت إذ ذاك من اتهام العلماء بعضهم بعضًا بالوضع، فروي هذا الخبر في تبرير ذمته من الوضع، وإنه لم يضع في حياته إلا البيت المذكور.

وعوانة بن الحكم بن عياض الكلبي، ويُكَنَّى أبا الحكم، من هذا

1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 321".

2 الْمُزْهِرُ "2/ 415"، الأغاني "3/ 143".

ص: 298

الرعيل الذي كان له فضل في جمع الشعر. كان من علماء الكوفة، راوية للأخبار عالما بالشعر والنسب، وكان فصيحًا ضريرًا. وله كتب منها: كتاب التأريخ وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وقد ذكر بعضهم أنه لمنجاب بن الحارث، غير أن ابن النديم، نص على أنه لعوانة، وليس لمنجاب. وذكر ابن النَّدِيم أنه قرأ بخط أبي عبد الله بن مقلة، قال أبو العباس ثعلب: جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها والوليد بن يزيد بن عبد الملك، وردَّ الديوان إلى حماد وجناد"1. مما يدل على أن الوليد كان قد استعار منهما ديوانًا كان عندهما في أشعار العرب. ولعل كل واحد منهما كان قد جمع ديوانًا خاصًّا به، فاستعان الوليد بهما في إخراج ديوان واحد يضم ما جاء في الديوانين من شعر. وكان وفاة عوانة سنة "147هـ".

والمفضل بن محمد بن يعلى الضبي الكوفي، المتوفى سنة "164هـ"، "168هـ"، "170هـ"، هو من أصحاب العلم بالشعر، وكان قد انضم إلى جماعة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلوي، فظفر به المنصور، وعفا عنه، وألزمه ابنه المهدي، وجعله مؤدبًا له. وللمهدي عمل الأشعار المختارة المسماة المفضليات، "وهي مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه. والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي. قال: وأول النسخة لتأبط شرًّا:

يا عبد ما لك من شوق وإبراق

ومر طيف على الأهواء طراق2

وذكر ابن النَّدِيم أن له من الكتب: "كتاب الاختبارات -وقد ذكرناه- كتاب الأمثال، كتاب العروض، كتاب معاني الشعر، كتاب الألفاظ"3.

وكتاب الاختيارات هو المفضليات، ويظهر أنه عرف بالمفضليات نسبة إلى الجامع، فطغت هذه التسمية على الاسم الأصل4.

1 الفِهْرِسْت "140".

2 الفِهْرِسْت "ص108"، الأغاني "5/ 125"، ياقوت، إرشاد "7/ 171"، بغية الوعاة "2/ 297 وما بعدها"، إنباه الرواة "3/ 298 وما بعدها"، ابن الأنباري نزهة "56"، المعارف "545".

3 الفِهْرِسْت "108".

4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 72 وما بعدها".

ص: 299

وكان المفضل عالما بالشعر، وكان أوثق من روى الشعر من الكوفيين. ولم يكن أعلمهم باللغة والنحو، إنما كان يختص بالشعر. وقد روى عنه أبو زيد شعرًا كثيرًا1.

وليست هذه القصائد التي يضمها كتاب المفضليات كلها من جمع المفضل وترتيبه على ما جاء في بعض الموارد، وليست في هذه القصائد المطبوعة في المفضليات إلا سبعون قصيدة هي من اختيار المفضل. أما بقيتها، فهي زيادات وإضافات وضعت على تلك القصائد2. وليس للمفضل منها على ما جاء في مرود آخر إلا ثمانون قصيدة هي التي أخرجها للمهدي. وأما ما تبقى منها، فهي من اختيارات الأصمعي، وهي أربعون قصيدة من مجموع عشرين ومائة3. فيكون ثلثاها على وفق هذه الرواية من اختيار المفضل. وأما الثلث الباقي، فمن اختيار الأصمعي4. ولم يذكروا شيئًا عن القصائد الثماني الباقية، وقد نص "ذيل الأماني" على أنها مائة وعشرون5.

ويدل هذا الاختلاف على أن رواة المفضليات لم يعتمدوا في روايتهم للكتاب على النسخة الأم، وهي النسخة التي اختارها المفضل للمهدي. وإلا لما حدث اختلاف بين الرويات في ترتيب القصائد وفي عددها، أو أن المفضل نفسه لم يدون اختياراته تلك في كتاب، وإنما اختار ما اختاره دون تدوين، فكان يمليه على المهدي مجلسًا مجلسًا، حتى أكمل تلك الاختيارات، وأنه ألقى اختياراته هذه على من كان يحضر مجلسه طلبًا للشعر في مجالس أيضًا، فمن هنا وقع هذا الاختلاف. وقد كان يكتفي بإلقاء المختار على طلابه دون شرح. أما الشرح المطبوع، فليس من شرح الضبي وتفسيره، وإنما هو من عمل رواة آخرين ورد ذكرهم في مقدمة الكتاب، وليس للمفضل إلا الاختيارات6.

1 الْمُزْهِرُ "2/ 405 وما بعدها".

2 مقاتل الطالبيين "119"، "طبعة طهران"، المفضليات "الترجمة الإنكليزية ". VOL،،II،p، xiv.

3 ذيل الأمالي "130"، "دار الكتب المصرية".

4 المفضليات "الترجمة الإنكليزية" VOL،II،p، xiv.

5 ذيل الأمالي "130".

6 راجع النص العربي للمفضليات "طبعة لايل"، "1".

ص: 300

والشرح المطبوع هو من صنع أبي محمد القاسم محمد القاسم بن بشار الأنباري وجمعه، وقد أخذه من موارد متعددة أشار إليها في الكتاب. وقد رواه عنه ابنه أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وعنه أبو بكر أحمد بن محمد الجراح الخزاز. وفي جملة من اعتمد عليه أبو محمد صاحب هذا الشرح من شيوخه، عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي، وقد أملى عليه القصائد المختارة المنسوبة إلى المفضل "إملاء، مجلسًا مجلسًا، من أولها إلى آخرها عن المفضل الضبي"1. كما كان في جملتهم أبو عمرو بندار الكرخي، وأبو بكر العبدي، وأبو عبد الله محمد بن رستم، والطوسي، وأبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح. من هؤلاء ومن أمثالهم جمع الأنباري هذا الشرح، وفيهم من هو من الكوفة وفيهم من هو من أهل البصرة وهم من أتباع الأصمعي، ولهذا نجدد رواياته تتداخل فيه من أبيات شعر أو قصائد لم يخترها المفضل، ومن شرح أو تفسير لكلم غريب.

فالمفضليات وإن نسبت إلى المفضل، غير أنها في الواقع من جمع الأنباري المذكور، وقد جمعها من أفواه جملة رجال، كل واحد منهم له فيها عمل ويد. وفق الأنباري بين تلك القصائد والأشعار وبين هذه الروايات والمعارف الواردة عن الشعر، وأخرج منها هذا الكتاب الثمين الكبير2.

وللمفضل أقوال حفظت في كتب أخرى غير هذا الكتاب، فنجد أبا زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي صاحب كتاب جمهرة أشعار العرب يذكره في مواضع من كتابه، ويذكر نتفًا من روايات مستندة إليه3، كما نجد الأصبهاني يورد له أخبارًا في الشعر في مواضع عديدة من كتابه الأغاني، ونجد غيرهما من رجال الأدب يشيرون إليه. وفي الموارد التي أشاروا إليها ما يدل على علم واسع له في الشعر وعلى إدراك في النقد.

وإذا كان ما ذكره ابن النَّدِيم عن المفضليات من قوله: "هي مائة

1 المفضليات "1""طبعة لايل"، "النص العربي".

2 جواد علي، تدوين الشعر الجاهلي، مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد السابع""الجزء الثاني ص520 وما بعدها "، "1956".

3 جمهرة أشعار العرب "القاهرة 1926م".

ص: 301

وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص وتتقدم وتتأخر، بحسب الرواية، والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي، قال: وأول النسخة لتأبط شرًّا:

يا عيد ما لك من شوق وإبراق

ومر طيف على الأهوال طراق1.

تكون هذه النسخة أصح الروايات إذن، وكان ابن الأعرابي المتوفى سنة "231هـ" قد سمع المفضل، وكان يذكر أنه ربيب المفضل، كانت أمه تحته2، فلا يستبعد أن تكون نسخته، هي النسخة الصحيحة، لاتصاله به.

وقد ذكر أبو جعفر بن الليث الأصفهاني قال: أملى علينا أبو عكرمة الضبي المفضليات من أولها إلى آخرها، وذكر أن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، وقرئت بعد على الأصمعي فصارت مائة وعشرين، قال أبو الحسن3: أخبرنا أبو العباس ثعلب أن أبا العالية الأنطاكي والسدري، وعافية بن شبيب، وهؤلاء كلهم بصريون من أصحاب الأصمعي، أخبروه أنهم قرءوا عليه المفضليات ثم استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره، وضموه على المفضليات وسألوه عما فيه مما أشكل عليهم من معاني الشعر وغريبه فكثرت جدًّا"4. وروي عن أبي عكرمة قوله:"مرَّ أبو جعفر المنصور بالمهدي، وهو ينشد المفضل قصيدة المسيب التي أولها: أرحلت...... فلم يزل واقفًا من حيث لا يشعر به حتى استوفى سماعها، ثم صار إلى مجلس له وأمر بإحضارهما، فحدث المفضل بوقوفه واستماعه لقصيدة المسيب واستحسانه إياها، وقال له: لو عمدت إلى أشعار الشعراء المقلين واخترت لفتاك لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا! ففعل المفضل"5.

ويلاحظ أن الرواة مختلفون فيما بينهم في عدد قصائد وقطع المفضليات، فمنهم من جعلها مائة وثمانٍ وعشرين قصيدة وقطعة، كما هي رواية ابن النَّديم.

1 الفِهْرِسْت "108".

2 الفِهْرِسْت "108 وما بعدها".

3 الأخفش.

4 ذيل الأمالي "130".

5 ذيل الأمالي "130 وما بعدها".

ص: 302

ومنهم من صيرها مائة وعشرين1.

وأما جناد أبو محمد بن واصل الكوفي مولى بني أسد، فقد كان على حد وصف ابن النديم:"أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها"، غير أنه "لم يكن له علم بالنحو"، و"كان يلحن كثيرًا"2. وهو يعد من الكوفيين، وقد ذكروا أنه كثير الحفظ في قياس حماد الراوية، وأن أهل الكوفة كانوا يلجئون إليه حين يشُكُّون في شعر وحين يعزب عنهم اسم شاعر فيجدونه حافظًا وبما أرادوه عارفًا. غير أنهم مجمعون على أنه كان لحانًا، كثير اللحن جدًّا، فوق لحن حماد. وقد ذكروا أمثلة على لحنه، وعلى عدم وقوفه على العروض، فكان يخطئ فيه ويخلط في الأشعار3. وممن كان ينتقض علمه ويرى قلة بضاعته في العربية وفي الشعر أيضًا يونس بن حبيب "183هـ" وهو كما رأينا من المتحاملين أيضًا على حماد، ومن المتعصبين للبصرة على الكوفة. ولهذا يكون لتحامله على جناد أثر من التعصب للبصريين.

وقد أخذ الثوري على أهل الكوفة روايتهم عن حماد، وجنَّاد واتِّكالهم عليهما، وهما رجلان "كانا يرويان ولا يدريان، كثرت رواياتهما، وقل علمهما"، ومن ثم فسدت روايتهم عن الرجلين. غير أن علينا أن نكون حذرين في تقبل هذه المؤاخذة على الكوفيين في رواية الشعر، فقد كان الثوري من جماعة الأصمعي حتى كان ينسب إليه. وكان الأصمعي يحمل على حماد، وعلى أهل الكوفة، لأنه كان بصريًّا، فلا يستبعد تحمل التلميذ لأستاذه، وتأثره به، فقال ما قال جناد وحماد بِدَاعي العاطفة والتعصب للبصريين على الكوفيين.

وقد أشرت إلى ورود رواية تنسب إلى ثعلب ذكرت أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها ولغاتها

ورد الديوان إلى حماد وجناد"4 مما يدل وجود ديوان للشعر عند جناد لعله كان من جمعه.

1 الفِهْرِسْت "108"، ذيل الأمالي "130".

2 "من رواة الأخبار والأشعار، لا علم له بالعربية، وكان يصحف ويكسر الشعر، ولا يميز بين الأعاريض المختلفة، فيخلط بعضها ببعض، ياقوت، إرشاد "2/ 425".

3 الإرشاد "2/ 425"، الفِهْرِسْت "141".

4 الفِهْرِسْت "140"، "أَخْبَارُ عوانة".

ص: 303

ويُونُس بن حبيب، وكني أبا عبد الرحمن، المتوفى سنة "182هـ""183هـ" من رواة الشعر كذلك، وأن غلب النحو عليه1.

ذكر أنه كان مولى لبني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وذكر أنه من موالي ضبة. وقيل عنه:"كان أعلم الناس بتصاريف النحو". وهو من أصحاب أبي عمرو بن العلاء، وكانت حلقته بالبصرة، ينتابها طلاب العلم وأهل الأدب وفصحاء الأعراب ووفود البادية2. وكان له مذاهب وأقيسة بها3.

وذكر أن أبا عمر، وهو إسحاق بن مراد المعروف بالشيباني مولى بني شيبان، كان عالِمًا بشعر القبائل، "أخذ عنه دواوين أشعار القبائل كلها". ولما جمع أشعار العرب كانت نيفًا وثمانين قبيلة. وقد توفي سنة "206هـ"، وقيل سنة "213هـ"4. وكان قد خرج إلى البادية ليأخذ عن الأعراب، فكان يدون ما يأخذ منهم5.

وأبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، هو من رواة الشعر وعلمائه، كما كان من علماء اللغة وأخبار العرب وأنسابها، وقد عرف بالطعن في أنساب الناس وبالبحث عن المثالب، لذلك كرهه الناس، فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره. وقد توفي سنة ثمانٍ وقيل تسع، وقيل عشر وقيل إحدى عشرة ومائتين وقيل ثلاث عشرة ومائتين "وكان ديوان العرب في بيته"6. وله كتب في الأخبار والحوادث والبيوت والنسب والشعر. وفي جملة مؤلفاته شرح ديوان المتلمس7. ونجد له أخبارًا عن أيام العرب، مشتتة في بعض كتب الأدب8، وآراء في الشعر مدونة في تلك الكتب أيضًا.

1 المعارف "541"، بغية الوعاة "2/ 365"، مراتب النحويين "21 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 399، 423"، ابن خِلِّكان "2/ 416 وما بعدها".

2 الفِهْرِسْتُ "69".

3 ابن الأنباري، نزهة "49 وما بعدها".

4 الفِهْرِسْتُ "107 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 82".

5 ابن الأنباري، نزهة "93 وما بعدها"، إنباه الرواة "1/ 221 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 439 وما بعدها". المُزْهِر "2/ 411 وما بعدها"، شذرات الذهب "2/ 23 وما بعدها".

6 الفِهْرِسْتُ "85"، المُزْهِر "2/ 402 وما بعدها"، المعارف "543"، إنباه الرواة "3/ 276 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 294 وما بعدها".

7 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 94".

8 بروكلمن "1/ 128"، ابن الأنباري، نزهة "104 وما بعدها".

ص: 304

والأصمعي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك، المتوفى سنة "213هـ""216هـ"، "217هـ"، من العلماء الحفاظ للشعر، وقد بالغ مترجموه في الثناء عليه، فزعموا أنه كان يروي على روي كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة، وذكر ابن النَّديم أنه عمل "قطعة كبيرة من أشعار العرب، ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"1. ولا تشتمل الأصمعيات إلا على "72" قصيدة وقطعة، ومجموع أبياتها "1163" بيتًا، لكثرة ما فيها من المقطوعات. وعدد شعرائها واحد وستون شاعرًا، لم يسمِّ ثلاثة منهم. وبقي خمسة مجهولين لا تعرف أسماؤهم في الموارد الأخرى. وأكثر الباقين من الجاهليين وليس فيها إلا أربعة عشر شاعرًا من المخضرمين والإسلاميين. وفيها قصيدة لكل من امرئ القيس وطَرَفَة2. وقد نسب ابن النَّديم له كتابًا دعاه:"مصادر كتاب القصائد الست"3. وربما كان هو الكتاب الذي نشره "آلورد" برواية الأعلم الشمنتري بعنوان: دواوين الشعر الستة4.

وذكر أن الأصمعي جمع أشعار بني جعدة، وأشعار الأنصار5 وأنه جمع "ديوان المتلمس"6 وديوان امرئ القيس، وأنه روى شرح هذا الديوان لأبي عمرو الشيباني7. وجمع ديوان الفرزدق وجرير8.

وروي أن الأصمعي كان "أتقن القوم باللغة، وأعلمهم بالشعر، وأحضرهم

1 الفِهْرِسْتُ "88 وما بعدها"، ابن الأنباري، نزهة "112 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 112 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 404 وما بعدها".

2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 74 وما بعدها"، المعارف "543"، "وقد بلغ عدد قصائدها ومقطوعاتها اثنتين وتسعين، وهي موزعة على "71" شاعرًا، منهم نحو "40" جاهليًّا"، العصر الجاهلي، لشوقي ضيف "178".

3 الفِهْرِسْتُ "88".

4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 88".

W Ahiward، The Diwan of the six ancient Arabic Poets، London، 1870.

5 الأغاني "5/ 171"، "19/ 82 وما بعدها"، بروكلمن "1/ 84".

6 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 94".

7 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 100".

8 المصدر نفسه "1/ 212، 213، 222".

ص: 305

حفظًا، وكان قد تعلم نقد الشعر من خلف الأحمر"1. وروي أنه كان يقول أحفظ عشرة آلاف أرجوزة، وأن الرشيد يسميه شيطان الشعر، وروي أنه كان يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة2.

وابن الأعرابي، أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، ممن سمع من المفضل الضبي، وكان يذكر أنه ربيب المفضل. كانت أمه تحته. ومات سنة "231هـ". فروايته للاختيارات، يجب أن تعد من أصدق الروايات، لاتصاله بالمفضل، ولصلته به. وكان له مجلس، يحضره طلاب العلم، يسألونه فيه ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب. وكان ممن لازمه بضع عشرة سنة "أبو العباس" ثعلب. ويذكر ثعلب أن شيخه هذا "قد أملى على الناس ما يحمل على أجمال. لم ير أحد في الشعر أغزر منه"3. وقد أورد ابن النَّديم له جملة كتب، روى بعضها عنه جماعة من مشاهير العلماء، مثل الطوسي وثعلب4. وذكر أن روايته للمفضليات تعد من أصح الروايات5. وقد سمع من المفضل الدواوين وصححها، واعتبر رأسًا في كلام العرب، وكان من أكابر علماء اللغة المشار إليهم في معرفتها6.

وقد رمي بعض من جمع الشعر بالوضع وبانتحال الشعر وإدخاله في شعر القدماء، واتهموا بدس القصائد عليهم، أو بزيادتها أو بتنقيص أبيات منها، أو بإجراء تغيير عليها. وقد تمكن بعض علماء الشعر من الإشارة إلى بعض الشعر المصنوع، أو المدخول، ولم يتمكنوا من الإشارة إلى البعض الآخر منه. ومن هؤلاء الذين عرفوا واشتهروا برواية الشعر وبعلمهم به، وبصنعهم له، ودسه بين الناس على أنه شعر قديم حماد الرواية وخلف الأحمر.

فأما حماد الراوية فعلى راس مشاهير رواة الشعر الجاهلي وحفاظه. وقد كان هو نفسه شاعرًا مجيدًا يضع الشعر على ألسنة المتقدمين، لكنه اشتهر بالرواية

1 المُزْهِر "2/ 403".

2 الرافعي "3/ 15".

3 الفِهْرِسْتُ "108 وما بعدها".

4 الفِهْرِسْتُ "109".

5 ابن الأنباري، نزهة "56".

6 ابن الأنباري، نزهة "150 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 105 وما بعدها"، المعارف "546"، المُزْهِر "2/ 411"، مراتب النحويين "149 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "5/ 275".

ص: 306

أكثر من اشتهار بكونه شاعرًا. ولد سنة "75" للهجرة "694م" بالكوفة، وهو من "الديلم" في الأصل، وعرف بأبي القاسم. وعرف والده بسابور بن المبارك بن عبيد. سباه ابن عروة بن زيد الخيل، ووهبه لابنته ليلى فخدمها خمسين سنة، ثم ماتت فبيع بمائتي درهم، فاشتراه عامر بن مطر الشيباني وأعتقه. وقيل إن اسم أبي ليلى "ميسرة". وكان حماد ربما لحن في الشيء. وقيل إنه كان لصًّا في شبابه، يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فوجد في بعض سرقاته جزءًا من شعر الأنصار، فقرأه واستعذبه وحفظه، ثم اندفع في طلب الشعروأيام الناس ولغات العرب1. وأخذ ينظم الشعر يشبه به مذهب شاعر من الشعراء ويدخله في شعره، وكان هو بالشعر القديم بصيرًا، وحمل ذلك عنه في الآفاق، فاختلط شعره بشعر الشعراء الجاهليين، وذاع بين الناس على أنه لهم، حتى صار من الصعب حتى على نقاد ذلك الشعر والعالمين به، تمييز الفاسد منه من الصحيح2.

وذكر أن حمادًا، هو حماد بن هرمز، وكان هرمز من سبي مكنف بن زيد الخيل وكان ديلميًّا، يكنى أبا ليلى3. وإذا أخذنا برواية ابن النَّديم من أن مولد حماد كان سنة "خمس وسبعين"، ومن أن وفاته كانت سنة ست وخمسين ومائة4، فيكون حينئذ قد عمَّر "81" سنة.

ويذكر ابن النَّديم أن حمادًا كان في أيام الوليد بن عبد الملك، وعاش إلى سنة "156هـ"، وأنه كان يقول" "كنت أنشد الوليد الشعر الجيد، فيطلب مني السفساف فأنشده فيطرب، فأعلم أن الأمر مدبر، ثم أنشد المهدي السفساف، فيطلب مني الجيد الفحل، فأعلم أن أمرهم مقبل"5. وذكر عنه أنه كان يجالس المهدي. وذكر أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك

1 الأغاني "6/ 87"، الخزانة "4/ 131 وما بعدها"، "بولاق".

2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 245 وما بعدها"، الفهرست، لابن النَّديم "140"، الأغاني "5/ 163"، ابن خِلِّكان "1/ 205"، "في ترجمة حماد"، مجلة المجمع العلمي العراقي، تدوين الشعر الجاهلي، المجلد الرابع "جـ2/ 527 وما بعدها"، "1956م".

3 المعارف "541"، ابن الأنباري، نزهة "35 وما بعدها"، الأغاني "6/ 70 وما بعدها"، خزانة الأدب "4/ 129 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 406".

4 الفِهْرِسْتُ "ص140".

5 الفِهْرِسْتُ "ص140 وما بعدها".

ص: 307

جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ورد الديوان إلى حماد وجناد"1. ولم يشر ابن النَّديم الذي روى هذا الخبر نقلا عن رواية تنسب إلى ثعلب إلى ديوان حماد المذكور في أثناء تحدثه عنه. فلعله قصد "الاختيارات"، أي القصائد السبع، وقد يكون قصد ديوانًا آخر. ولم نسمع أي خبر عن مصير الديوان الذي جمعه الوليد بن يزيد.

ويذكر ابن النَّديم أنه "لم يُرَ لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس وصنفت الكتب بعده"2. وهو خبر يظهر أن حمادًا لم يؤلف كتبًا، وإنما كان يروي الشعر رواية، ويمليه إملاء على طلاب الشعر، فيدونونه. أما أن تصنيف الكتب لم يكن معروفًا آنذاك، وإنما الناس صنفت الكتب بعده، فيناقضه ما قاله ابن النَّديم نفسه، من أن زياد بن أبيه، ألف كتابًا في المثالب، ودفعه إلى ولده، وقال: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم3، ومن أن عبيد بن شرية الجرهمي، ألف كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين4، وقد طبع له كتابًا في حيدر آباد بالهند، بعنوان: أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها، وهو يشتمل على أسئلة لمعاوية وأجوبة عبيد عليها، وما قاله من أن "صحارًا" العبدي له كتاب اسمه كتاب الأمثال5، وما قاله من أن لعوانة بن الحكم بن عياض الكلبي، المتوفى سنة "147هـ" أي قبل حماد، من الكتب: كتاب التأريخ، كتاب سيرة معاوية وبني أمية6، أضف إلى ذلك ما ألفه وهب بن منبه المتوفى سنة "114هـ"7، وأبو مخنف، وابن شهاب الزُّهري، وابن سيرين وغيرهم8.

وقد روى أهل الأخبار قصصًا عن مدى علم حماد بالشعر الجاهلي، وزعموا

1 الفِهْرِسْتُ "ص140".

2 الفِهْرِسْتُ "ص140".

3 الفِهْرِسْتُ "137"، "المقالة الثالثة"، المعارف "176"، النووي، تهذيب الأسماء واللُّغات "1/ 259".

4 الفِهْرِسْتُ "ص138".

5 الفِهْرِسْتُ "ص138".

6 الفِهْرِسْتُ "140".

7 بروكلمن "1/ 251 وما بعدها".

8 راجع أخبارهم في بروكلمن "1/ 253 وما بعدها".

ص: 308

أن خلفاء بني أمية كانوا إذا أشكل عليهم مشكل في الشعر سألوه، وأنهم كانوا يكتبون إلى عمالهم بإرساله إليهم لاستفتائه في أمر شعر جاهلي أشكل خبره عليهم وعلى من عندهم من أهل العلم بالشعر. من ذلك ما رووه عن حماد قوله: "كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان في خلافته. وكان أخوه هشام يجفوني لذلك، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من أخواني سرًّا، فلما لم أسمع أحدًا ذكرني في السنة أمنت وخرجت وصليت الجمعة في الرُّصافة، فإذا شرطيَّان قد وقفا علي وقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر الثقفي، وكان واليًا على العراق. فقلت في نفسي من هذا كنت أخاف. ثم قلت لهما تدعاني حتى آتي أهلي وأودعهم ثم أسير معكما! فقالا: ما إلى ذلك من سبيل. فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر، وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه، فرد على السلام ورمى إيى بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الرواية من يأتيك به من غير ترويع، وادفع له خمسمائة دينار وجَمَلا مهريًّا يسير عليه ثنتي عشرة ليلة إلى دمشق. فأخذت الدنانير ونظرت، فإذا جمل مرحول فركبت وسرت حتى وافيت دمشق في ثنتي عشرة ليلة، فنزلت على باب هشام، واستأذنت فإذن لي فدخلت عليه وهو جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب من حرير أحمر وقد ضمخ المسك، فسلمت عليه، فردَّ علي السلام، واستدناني فدنوت منه حتى قبَّلت رجله، فإذا جاريتان لم أرَ أحسن منهما قط. فقال: كيف أنت وكيف حالك؟ فقلت بخير يا أمير المؤمنين. فقال: أتدري فيما بعثت إليك؟ فقلت: لا. قال: بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال:

ودعوا بالصبوح يوما فجاءت

قينة في يمينها إبريق

فقلت يقوله عدي بن زيد "؟ " العبادي في قصيدة. قال: أنشدنيها، فأنشدته:

بكر العاذلون في وضح الصبـ

ـح يقولون لي أما تستفيق

ويلومون فيك يابنة عبد الله

والقلب عنكم موثوق

لست أدري إذا كثر العذل فيها

أعذول يلومني أم صديق

ص: 309

قال حماد: فانتهيت فيها إلى قوله:

ودعوا بالصبوح يومًا فجاءت

قينة في يمينها إبريق

قدمته على عقار كعين الـ

ـديك صفى سلافها الرووق

مرة قبل مزجها، فإذا ما

مزجت لذَّ طعمها من يذوق

قال: فطرب هشام، ثم قال: أحسنت يا حماد، سل حاجتك؟ قلت: إحدى الجاريتين. قال: هما جميعًا لك بما عليهما وما لهما، فأقام عنده مدة، ثم وصله بمائة ألف درهم"1.

وكل من تحدث عن حماد من مبغض ومحب، مجمع على سعة حفظه للشعر وإحاطته به. وحفظه هذا الشعر هو الذي وسمه بسمة عرف بها طوال حياته وبعد وفاته، حتى صار لا يعرف إلا بها، هي الرواية، فقيل له حماد الرَّاوية. ولو جرد حماد من هذا النعت، لما صار في الإمكان التعرف عليه. قيل إن الخليفة الوليد بن يزيد قال لحماد الراوية: بم استحققت هذا اللقب، فقيل لك: الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعرًا قديما ولا محدثًا إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال: إن هذا العلم وأبيك كثير! فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيرًا، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد. فأنشد الوليد حتى ضجر، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسع مائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم2.

وفي الأغاني خبر آخر من هذا النوع يطري علم حماد ويثني عليه، روي

1 ثمرات الأوراق، لابن حجة الحموي "1/ 81"، "حاشية على المستطرف"، ابن الأنباري، نزهة "35 وما بعدها". الأغاني "6/ 70 وما بعدها".

2 الأغاني "6/ 71"، ابن خِلِّكان "5/ 120 وما بعدها"، الخزانة "4/ 129 وما بعدها"، "بولاق"، ياقوت، إرشاد "10/ 259".

ص: 310

عن الشاعر مروان بن أبي حفصة. زعم أنه رآه عند الوليد بن يزيد. وكان قد دخل عليه في جماعة من الشعراء، "وهو في فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده، كلما أنشد شاعر شعرًا، وقف الوليد بن يزيد على بيت من شعره، وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، هذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعر، فقلت: من هذا؟ فقالوا: حماد الراوية، فلما وقفت بين يدي الوليد أنشده، قلت: ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين، وهو لحنة لحانة؟ فأقبل الشيخ علي وقال: يابن أخي، إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامهم، فهل تروي من أشعار العرب شيئًا؟ فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل، فقلت له: نعم، شعر ابن مقبل قال: أنشد، فأنشدته قوله:

سل الدار من جنبي حبر فواهب

إذا ما رأى هضب القليب المفجع

ثم جزت، فقال لي: قف فوقفت، فقال لي: ماذا يقول؟ فلم أدرِ ما يقول! فقال لي حماد: يابن أخي، أنا أعلم الناس بكلام العرب. يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا"1.

وقد كان الخليفة الوليد بن يزيد يعطف على حماد كثيرًا، ويشمله برعايته، ويجالسه، ويتباحث معه في الشعر. وقد كانت إحاطة حماد بالشعر هي السبب في تقديمه إلى الخليفة، إذ كان الوليد من العاشقين للشعر ومن الواقفين عليه المعروفين بسعة العلم، وكان هو نفسه شاعرًا مجيدًا2. وقد ذكر عنه أنه كان يمتلك ديوانًا فيه أشعار الفحول، أو جملة دواوين جمعت أشعار العرب، كما سبق أن أشرت إلى ذلك.

ويروى عن حماد أنه كان ذا ذاكرة عجيبة، وحافظة قوية غريبة في سرعة الحفظ. روي أن الطِّرِمَّاحَ بنَ حَكِيمٍ قص على ابنه هذه القصة، قال:

1 الأغاني "6/ 72"، الزجاجي، مجالس العلماء "27 وما بعدها".

2 جمع شعر الوليد بن يزيد ورتبه المستشرق الإيطالي "ف. جبريالي، ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1937م، بعنوان: ديوان الوليد بن يزيد، وقدم له المرحوم خليل مردم بك.

ص: 311

أنشدت حمادًا الراوية في مسجد الكوفة -وكان أذكى الناس وأحفظهم- قولي:

بان الخليط بسحرة فتبددوا

وهي ستون بيتًا: فسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم أقبل علي فقال: أهذه لك. قلت: نعم، قال: ليس الأمر كما تقول، ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتًا زادها فيها في وقته، فقلت له: ويحك! إن هذا الشعر قلته منذ أيام، ما اطلع عليه أحد، قال: قد والله قلت أنا هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي، فقلت: لله علي حجة حافيا راجلا إن جالستك بعد هذا أبدًا. فأخذ قبضة من حصى المسجد وقال: لله علي بكل حصاة من هذا الحصى مائة حجة إن كنت أبالي، فقلت، أنت رجل ماجن، والكلام معك ضائع، ثم انصرفت"1.

وقد أخذ عن حماد أهل المصرين: الكوفة والبصرة، ومنهم: خلف الأحمر، وروى عنه الأصمعي شيئًا من شعره. ونسب إلى الأصمعي قوله:"كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس، فهو عن حماد الراوية إلا شيئًا بمعناه من أبي عمرو بن العلاء"2.

وللهيثم بن عدي خبر يشيد فيه بعلم حماد وبسعة حفظه له. وهناك أخبار أخرى في سعة حفظ حماد للشعر، مدونة في كتب الأدب، قد يخرجنا سردها من صلب هذا الموضوع3.

وقد عرف حماد كذلك بسعة علمه بالعربية، فقالوا إنه "كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها". وورد عن الهيثم بن عدي قوله فيه:"ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد"4، والهيثم راويته وصاحبه. وروي أن عمرو بن العلاء كان يقدم حمادًا على نفسه، وكان حماد يقدم عمرًا على نفسه5، وعمرو بن العلاء نفسه من شيوخ علماء العربية في ذلك العهد.

1 الأغاني "6/ 94 وما بعدها".

2 المُزْهِر "2/ 406"، ابن الأنباري، نزهة "59".

3 الأغاني "2/ 209 وما بعدها"، "6/ 72"، "7/ 45، 56 وما بعدها".

4 الأغاني "6/ 70 وما بعدها" ياقوت، إرشاد "10/ 265".

5 الأغاني "6/ 73".

ص: 312

غير أن هنالك أخبارًا تزعم أنه كان قليل البضاعة من العربية، وأنه كان لَحَّانًا، وأنه "حفظ القرآن الكريم من المصحف في نيِّف وثلاثين حرفًا"1، وأنه قرأ "الغاديات ضبحًا""بالغين المعجمة"، فسعى به إلى عقبة بن مسلم بن قتيبة الباهلي، فامتحنه بالقراءة في المصحف، فصحَّف في عدة آيات2. ولا استبعد وقوع اللحن منه، إذ كان من الموالي، بعد أن وقع اللحن من عرب خلص ومن أنبل الأسر العربية ومن بعض كبار رجال الدولة في ذلك العهد. غير أن في هذا الوارد عن قلة بضاعته في العربية وفي كثرة لحنه وتصحيفه في القرآن الكريم، مبالغات وزيادات، وضعها عليه حسَّاده ومنافسوه لا شك؛ إذ لا يعقل وقوع مثل هذه الأغلاط الشنيعة من رجل وصل إلى الخلفاء برواية الشعر وتفسيره وتفسير غريبه، وعرف بين العلماء بسعة علمه بلغات العرب، حتى كانوا يلجئون إليه في حل مُشْكِلها وغريبها. ولو كان على مثل ما ذكر من اللحن في الكلام والتصحيف فيه ومن قلة بضاعته في العربية، لما وصل إلى الوليد بن زيد وإلى هشام وإلى خلفاء آخرين، وقد كانوا لا يختارون في الشعر واللغة إلا الفطاحل القديرين، قال المدائني:"وكانت ملوك بني أمية تقدمه، وتؤثره، وتستزيده، فيفد عليهم، ويسأله عن أيام العرب وعلومها، ويجزلون صلته".

ولم يكن حماد عند أهل البصرة ثقة ولا مأمونًا، وكانوا يضعفونه. ذكروا أنه كان يصنع الشعر ويقتني المصنوع منه وينسبه إلى غير أهله. ورووا أن أعرابيًّا جاء مجلس حماد فأنشده قصيدة لم تعرف، ولم يدر لمن هي، فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها، وقام الأعرابي، قال: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالا، فقال حماد: اجعلوها لطَرَفَة3. وروي أنه قدم البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال ما أطرفتني شيئًا، فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الْحُطيئة مديح أبي موسى. فقال: ويحك يمدح الْحُطيئة أبا موسى لا أعلم به وأنا أروي للحطيئة ولكن دعها تذهب في الناس4.

1 ابن خِلِّكان "1/ 207".

2 ابن خِلِّكان "5/ 129"، "حاشية رقم1"، "طبعة الدكتور أحمد فريد رفاعي"، الموشح للمرزباني "195"، "القاهرة 1343".

3 المُزْهِر "2/ 406".

4 طبقات، لابن سلام "15".

ص: 313

وقد اتهم حماد بالوضع، قال محمد بن سلام الجمحي:"وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حماد الراوية، وكا غير موثوق به. وكان ينحل الشعر غيره، ويزيد في الأشعار"1 وقال: يونس بن حبيب: "إني لأعجب كيف أخذ الناس عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسر الشعر، ويصحف ويكذب"2. وروي عن الأصمعي قوله: "جالست حمادًا الراوية، فلم آخذ عنه ثلاثمائة حرف، ولم أرضَ روايته وكان قارئًا"3. وروي عنه أيضًا قوله: "كان حماد أعلم الناس إذا نصح"، يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهمًا بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب. وهؤلاء كلهم من رؤساء البصرة في العلم، وقد كان علماء هذه المدينة، يطعنون كما سبق أن قلت في علمه وفي أمانته، ولكنهم يعترفون مع ذلك بقابليته وبمواهبه في الشعر، حتى زعموا أنه كان إذا صنع الشعر على لسان شاعر جاهلي، صعب حتى على العلماء، استخراجه من الصحيح.

وقد أدخله الشريف المرتضى في عداد الزنادقة الملحدين المتهمين في دينهم، ومنهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وحماد الرواية، وحماد بن الزبرقان، وحماد عجرد، وعبد الله بن المقفَّع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الأزدي، وعلي بن خليل الشيباني، وقال عن حماد:"وأما حماد الراوية، فكان منسلخًا من الدين، زاريًا على أهله، مدمنًا لشرب الخمور وارتكاب الفجور"4. ونقل عن

الجاحظ أنه كان يجتمع مع أمثاله "على الشرب وقول الشعر، ويهجو بعضهم بعضًا، وكل منهم متهم في دينه". وقال عنه "وكان حماد مشهورًا بالكذب في الرواية وعمل الشعر، وإضافته إلى الشعراء المتقدمين ودسه في أشعارهم، حتى إن كثيًرا من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر، لأنه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس في شعر كل رجل منهم ما يشاكل طريقته، فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم"5

1 طبقات الشعراء "14".

2 طبقات ابن سلام "15"، المُزْهِر "2/ 406".

3 المعارف "541"، المُزْهِر "2/ 407".

4 آمالي المرتضى "1/ 128، 131 وما بعدها".

5 آمالي المرتضى "1/ 131 وما بعدها".

ص: 314

و"روي أن هارون الرشيد قال للمفضل بن محمد: كيف بدأ زهير بقوله:

دع ذا وعد القول في هرم

ولم يتقدم قبل ذلك شيء ينْصَرِفُ عنه. فقال المفضَّل: قد جرت عادة الشعراء بأن يقدموا قبل المديح نسيبًا، ووصف إبل وركوب فَلَوات، ونحو ذلك. فكأن زهيرًا همَّ بذلك، ثم قال لنفسه: دع هذا الذي هممت به مما جرت به العادة، واصرف قولك على مدح هَرِم. فهو أولى مِنْ صُرِف إليه القول ونُظِم، وأحق من بدئ بذكره الكلام وختم. فاستحسن الرشيد قوله. وكان حماد الراوية حاضرًا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا أول الشعر، ولكن قبله:

لمن الديار بقنة الحجر

وذكر الأبيات الثلاثة. فالتفت الرشيد إلى المفضل وقال: ألم تقل إن "دع ذا

" أول الشعر، فقال: ما سمعت بهذه الزيادة إلا يومي، ويوشك أن تكون مصنوعة. فقال الرشيد لحماد: أصدقني، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا زدت هذه الأبيات. فقال الرشيد: من أراد الثقة والرواية الصحيحة فعليه بالمفضل، ومن أراد الاستكثار والتوسع فعليه بحماد"1.

والقصة بهذا الشكل مصنوعة، فالمعروف أن وفاة حماد كانت سنة "156هـ". فلا يعقل التقاء حماد بالرشيد أيام خلافته. ومخاطبته له بيا أمير المؤمنين. ثم إن من الصعب تصور اعتراف حماد بإضافة أشعار من عنده على شعر الجاهليين بمثل هذه الصورة والبساطة، وهو في حضرة خليفة. والأغلب أنها وضعت على حماد من خصومه، للطعن به، وللرفع من شأن المفضل بن محمد الضَّبي.

وقد وردت هذه القصة بشكل آخر، وردت أنها وقعت في أيام المهدي، روي أن جماعة من العلماء "كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بـ"عيساباذ" وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية، فدخل، فمكث مليًّا،

1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 754".

ص: 315

ثم خرج إلينا، ومعه حماد والمفضل جميعًا، وقد بان في وجه حماد الإنكار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما، فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفًا لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدًا محدثًا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب، فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال:

دع ذا وعد القوم في هَرِمِ

ولم يتقدم له قبل ذلك قول: فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئًا، إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يروى في أن يقول شعرًا، فعدل عنه إلى مدح هرم وقال:"دع ذا"، أو كان مفكرًا في شيء من شأنه فتركه وقال:"دع ذا"، أي دعْ ما أنت فيه من الفكر وعدّ القول في هرم، فأمسك عنه. ثم دع بحماد، فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل، فقال: ليس هكذا قال زهير يأمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشده:

لمن الديار بقنة الحجر

أقوين مذ حجج ومذ دهر؟

قفر بمندفع النحائت من

ضفوى أولات الضال والسدر

دع ذا وعد القول في هرم

خير الكهول وسيد الحضر

قال: فأطرق المهدي ساعة، ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ أميرَ المؤمنين عنك خبرٌ لا بد من استحلافك عليه. ثم استحلفه بإيمان البيعة وبكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه، فحلف له بما توثق منه. قال له: أصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقر له حينئذ أنه قائلها. فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه"1.

1 الأغاني "6/ 89 وما بعدها"، الخزانة "4/ 128 وما بعدها"، "بولاق".

ص: 316

فأنت ترى أن هذه القصة تكاد تكون القصة السابقة نفسها، لولا ما أدخل عليها من ذكر اسم المهدي بدل الرشيد ومن تزويقات، وهي أقرب إلى الواقع من حيث الزمن من الأولى، فقد أدرك حماد أيام خلافة المهدي. أما من حيث الصحة أو الكذب، فربما كانت من وضع أعداء حماد عليه، أو من وضع المتعصبين للمفضل الضبي المرجحين علمه على علم حماد.

وفي القصة الثانية موطن شك أيضًا، فالمعروف أن خلافة المهدي كانت سنة "158هـ"، وأنه اتخذ داره بعيساباذ بعد تولِّيه الخلافة، وقد كان وفاة حماد سنة "156هـ"، أي قبل توليه إمارة المؤمنين. فيظهر أنها من الموضوعات التي وضعت على حماد، ربما وضعها أصحاب المفضل لتعظيم أمر صاحبهم، وللحط من شأن حماد. وقد كان المفضل يكره حمادًا الراوية، ويطعن في علمه، بسبب تنافس الرجلين على الزعامة في العلم.

وأكثر هذه التهم التي وجهت إلى علم حماد وإلى جهله بالعربية، وبالعروض، إنما هي تهم وجهها إليه أهل البصرة، عصبية لمدينتهم ورجالهم، وما اتهام ابن سلام ويونس بن حبيب لحماد، بالتهم المذكورة، سوى ترديد لهذه العصبية الضيقة، وللخصومة على الزعامة التي كانت بين المدينتين. ويونس بن حبيب الذي يحمل على حماد، ويتهمه باللحن، قد أتهم نفسه بتهمة اللحن، اتهمه خصومه أهل الكوفة بالطبع، ونجد مثل هذه الاتهامات من تجهيل العلماء بعضهم بعضًا بقواعد العربية وبالوقوع في اللحن، في صفحات الكتب الباحثة في المناظرات وفي التراجم، وفي كتب الأخبار والأدب، حتى يكاد يكون من الصعب علينا العثور على عالم، نقول إنه سلم من سهم من سهام النقد والتجريح.

ويظهر أن المنافسة على الزعامة في العلم بالشعر الجاهلي، جعلت المفضل الضبي ينال من حماد، ويظهر أثر هذه المنافسة فيما ينسب إلى الضبي من أقوال ذكر أنه قالها في حماد مثل قوله:"قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا" فقيل له: "وكيف ذلك أيخطئ في رواية أم لحن؟ قال: "ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم

ص: 317

ناقد، وأين ذلك؟ "1.

وابن الأعرابي الذي يروي انتقاص المفضل الضبي لحماد، هو على ما يذكر ربيب المفضل، كانت أمه تحته2، فلا أستبعد تأثره بحنق الضبي على حماد، بسبب المنافسة التي كانت بينه وبين حماد.

وقد اتهم حماد الزندقة، كما اتهم بها حماد عجرد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وعلي بن الخليل، وصالح بن عبد القدوس، وبشار، وأبو نُواس. وقد وصف الجاحظ الزنادقة بقوله:"ربما سمع أحدهم ممن لا معرفة عنده ولا تحصيل له، أن الزنادقة ظرفاء، وأنهم عقلاء وأدباء، وأنه عباد وأصحاب اجتهاد، وأن لهم البصائر في دينهم، والبذل لمهجهم، وأن هناك علمًا وتمييزًا، وإنصافًا وتحصيلا، فيسري إليهم مسرى المهر الأرن، ويحن إليهم حنين الواله العجول، ويتصبب فيهم صبابة العاشق المتيم، ويرى أنه متى اتهم بهم، فقد قضى لهم بذلك كله، فلا يزال كذلك حتى يسهل في طباعه، ويرجح عنده أن يزعم أنه زنديق". وذكر أنه "ما منهم في الظاهر إلا نظيف البزة، جميل الشكل، ظاهر المروءة، فصيح اللهجة، ظريف التفضيل والجملة، والله أعلم ببواطنهم وضمائرهم. قال أبو نواس، وكان أيضًا زنديقًا يعد فيهم:

تيه مغنٍّ وظرف زنديق3

وكان حماد صديقًا لحمادين آخرين هما حماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وكانوا "يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار، ويتعاشرون معاشرة جميلة، وكانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة"4. وقد هجا حماد بن الزبرقان حمادًا الراوية، فقال:

نعم الفتى لو كان يعرف ربه

ويقيم وقت صلاته حمادُ

هدلت مشافره الدنان فأنفه

مثل القدوم يسنها الحداد

1 ياقوت، إرشاد "4/ 140"، "تحقيق مركليوث"، الأغاني "6/ 89".

2 الفِهْرِسْتُ "108 وما بعدها".

3 ثمار القلوب "176 وما بعدها"، ديوان أبي نُواس "89".

4 الأغاني "6/ 74 وما بعدها"، الحيوان "4/ 447 وما بعدها".

ص: 318

وابيضَّ من شرب المدامة وجهُهُ

فبياضه يوم الحساب سوادُ1

غير أن علينا باعتبارنا من المؤرخين أن نحترز احترازًا شديدًا في تقبل كل ما يرون من الأخبار، ولا سيما في المسائل الشخصية، وفي القضايا التي تكتنفها الخصومات في مثل هذه الحالة. فقد كان لحماد خصوم كثيرون من أهل هذا الشأن، وقد حسدوه على تقدمه وشهرته كما كان هو يحسد غيره ولا شك إن تقدم عليه. والإنسان مهما تقدم وترفع، فإنه لا يستطيع أن يرد نفسه من العاطفة، ولا سيما عاطفة الدفاع عن النفس وإثبات الشخصية والتنافس مع الآخرين. وقد كان المفضل الضبي -كما ذكرت- في جملة خصوم حماد، وهو من رءوس رواة الشعر في تلك الأيام، وهو نفسه لم يكن من الناجين من هذه التهمة التي اتهم بها حماد.

غير أن لا يعني أن حمادًا كان صادقًا في كل ما قاله وفي كل ما رواه، فوضعه للشعر، وصنعه له، وحمله على القدماء من المسائل المتواترة التي لا سبيل إلى نكرانها. إنما أريد هنا أن أنبه على ضرورة التأني والتقصي في أثناء مجابهتنا لمثل هذه الأخبار، لنخرج ما قد بولغ أو زيد فيه، حتى يكون حكمنا حكمًا محايدًا، أو قريبًا من الواقع.

وكما استدعى خلفاء بني أمية حمادًا للاستفادة منه في الشعر، كذلك استدعاه خلفاء بني العباس الأوائل، كالمنصور والمهدي، ليروي لهما ما كان يحفظه من الشعر والأخبار، وليتحدث إليهم فيما أشكل عليهم من غريب الشعر وقد استدعاه الخليفة المنصور مرة، فأحضر من البصرة. غير أن صِلاته بهم لم تكن -على ما يظهر- على نحو صلاته بالأمويين، حيث حسب عليهم. واستدعي إلى المهدي، كما ذكرت ذلك. ونقرأ في رواية أن حمادًا قال لإياس بن مطيع، وقد ذكر صِلاته بالعباسيين:"دعني فإن دولتي كانت في بني أمية، وما لي عند هؤلاء خير"2، مما يخبر أنه كان مجفوًا عند بني العباس، وذكر أنه قال لمروان بن أبي حفصة:"ذهب ويحك ما كنت تعهد"3. وقد يكون لتقدم حماد

1 الحيوان "4/ 445".

2 الأغاني "6/ 81"، "8/ 253".

3 "ذهب ويحك ما كنت تعهد، ذاك زمان، وهذا زمان" الزجاجي، مجالس العلماء "28"، الخزانة "4/ 130"، "بولاق".

ص: 319

في العمر دخل في هذا البعد، فقد كان قد جاوز السبعين من العمر في أيام المهدي، والعمر يؤثر بالطبع في مثل هذه الاتصالات، التي تحتاج إلى همة ونشاط، وجواب حاضر وبديهة، ورد على منافسين وحساد.

وعاش حماد فشهد سقوط دولة بني أمية، إذ توفي سنة "156هـ"، وذكر أنه أبطل روايته فيما دسه على غيره من الشعر1.

ومن شعر حماد قوله:

إذا سرت في عدل فسر في صحابة

وكندة فاحذرها حذارك للخسف

وفي شيمة الأعمى زيار وغيلة

وقشب وإعمال لجندالة القذف

وكلم شرٌ على أن رأسهم

حميدة والميلاء حاضنة الكسف

متى كنت في حيي بجيلة فاستمع

فإن لهم قصفًا يدل على حتف

إذا عتزموا يومًا على خنقِ زائرٍ

تداعوا عليه بالنباح وبالعزف2

وقوله مخاطبًا الشاعر أبي عطاء السندي:

فما صفراء تكنى أم عوف

كأن رُجَيلتها منجلان

وروي أن أبا العطاء أحس بدس حماد له، فأجابه:

أردت زرارة وأزن زنا

بأنك ما أردت سوى لساني

أي: أردت جرادة، وأظن ظنًّا بأنك ما أردت إلا أن تستخرج رطانتي، وكان في لسانه لكنة شديدة ولثغة3.

ويعد ابن كناسة أبو يحيى محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى الأسدي "207هـ" في جملة الرجال الذين اتصلوا بحماد ورووا عنه. ونجد في الأغاني جملة أخبار رويت عن حماد في الشعر والأخبار. وابن كناسة نفسه من علماء

1 إرشاد، لياقوت "4/ 137 وما بعدها"، شرح المفضليات "2/ 8"، "لايل"، "مقدمة"، الأغاني "5/ 164 وما بعدها"، الفِهْرِسْتُ "140"، بروكلمن "1/ 246".

2 الحيوان "2/ 266".

3 الحيوان "5/ 558".

ص: 320

أيامه بالعربية وأيام الناس والشعر، وقد سمع هشام بن عروة، وسلمان الأعشى، وروى عنه أحمد بن حنبل ومحمد بن إسحاق الصاغاني1. كذلك كان أبو أيوب المديني في جملة من رأى حمادًا وروى عنه2.

ومن أصحاب حماد: سالم بن أبي السمحاء3، والشاعر عمار بن عمرو بن عبد الأكبر المعروف بذي كناز، وهو من الشعراء المجان المعاقرين للشراب المتهتكين القائلين للشعر الطريف المضحك المستخدمين لسخف فيه لأجل الإضحاك4، وابن عياش5، والحسين بن يحيى6، ومعاوية بن بكر الباهلي7.

ومن أشهر رواة الكوفة بعد حماد خالد بن كلثوم الكلبي، وله صنعة في الأشعار المدونة على القبائل8. وكان لغويًّا راوية لأشعار القبائل وأخبارها، عارفًا بالنساب والألقاب وأيام الناس. له كتاب "أشعار القبائل" يحتوي على عدة قبائل9.

وأما خلف الأحمر، الذي توفي بعد حماد، سنة "180هـ" على رواية، فذكر العلماء أنه "لم ير قط أعلم بالشعر والشعراء من خلف الأحمر. كان يعمل الشعر على ألسنة الفحول من القدماء فلا يتميز عن مقولهم، ثم تنسك فكان يختم القرآن كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا جزيلا على أن يتكلم في بيت من الشعر شكُّوا فيه فأبى"10. وقيل عنه "كان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم

1 الأغاني "1/ 135".

2 الأغاني "3/ 266".

3 الأغاني "5/ 262".

4 الأغاني "7/ 56 وما بعدها".

5 الأغاني "7/ 67".

6 الأغاني "8/ 285".

7 الأغاني "11/ 7".

8 الرافعي "1/ 383".

9 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 352".

10 المستطرف "1/ 60"، "وكان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا، يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم"، الفهرست"80"، "أخبار خلف الأحمر"، إنباه الرواة "1/ 348 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 554"، المُزْهِر "2/ 403".

ص: 321

وله من الكتب: كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"1. واسمه خلف بن حيان، وعرف بأبي محرز، وكان مولى لأبي موسى الأشعري، وقيل مولى بني أمية، وأصله من خراسان2. وقيل مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أعتقه وأعتق أبويه، وكانا فرغانيين3، وقد ذكر ابن قتيبة أن في شعر العلماء تكلف، وهو رديء الصنعة، ليس فيه شيء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الأصمعي، وشعر ابن المقفع، وشعر الخليل، خلا خلف الأحمر، فإنه كان أجودهم طبعًا وأكثرهم شعرًا4. وكان عالِمًا بالغريب والنحو والنسب والأخبار، شاعرًا كثير الشعر جيده، ولم يكن في نظرائه من أهل العلم أكثر شعرًا منه. وكان يقول الشعر وينحله المتقدمين، ويكثر قول الشعر في وصف الحيات، وأراجيزه في ذلك كثيرة5.

وقد ذكر عنه أنه كان يتلاعب بالشعر الجاهلي، فيزيد فيه وينقص. يروى أنه زاد البيت الأول والثالث من قصيدة زهير بن أبي سلمى "رقم4" في الديوان6. ونسب بعضهم إليه صنع المرثية التي رثى تأبَّطَ شَرًّا بها أقاربه7. وقد نسب بعض العلماء إليه صنع لأمية الشَّنْفَرى8، والمشهورة بلامية العرب التي أولها:

أقيموا بني أمي صدور مطيِّكم

فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ

وروي عن الأصمعي قوله: سمعت خلفًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها:

خيلٌ صيامٌ وخيل غير صائمة

تحت العجاج، وأخرى تعلك اللجما9

1 الفِهْرِسْتُ "80"، المعارف "544"، تهذيب اللغة، للأزهري"40 وما بعدها"، "طبقات، لابن سلام "6".

2 الفِهْرِسْتُ "80".

3 المعارف "544"، المُزْهِر "2/ 403"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673".

4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 16".

5 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673 وما بعدها"، ياقوت، إرشاد "11/ 66"، نزهة الألباء "37"، الآمالي، للقالي "1/ 154"، الزبيدي، طبقات "113".

6 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 65".

7 المصدر نفسه "1/ 104"، "حاشية رقم1".

8 الأمالي، للقالي "1/ 157"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 106".

9 الرافعي "1/ 381".

ص: 322

وله قصائد أخرى نص على بعضها العلماء وبينوا أنها مصنوعة، وقد وضع شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا1، وقال الجاحظ: إنه هو الذي أورد على الناس نسيب الأعراب، وهذا النسب من أرق الشعر قاطبة وما أحراه أن يكون مصنوعًا2. ولما توفي خلف رثاه أبو نُواس بشعر فيه:

أودى جميع العلم مذ أودى خلف

من لا يعدّ العلم إلا ما عرف

قليذمٌ من العيالم الخسف

كنا متى نشاء منه نغترف

رواية لا تجتنى من الصحف3.

وهو أحد رواة الغريب واللغة والشعر ونقاده والعلماء به وبقائليه وصناعته. وله صنعة فيه. وهو أحد الشعراء المحسنين، ليس في رواة الشعر أحد أشعر منه.

وكان يبلغ من حذقه واقتداره على الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء، حتى يشبه بذلك على جلّة الرواة، ولا يفرقون بينه وبين الشعر القديم، من ذلك قصيدته التي نحلها ابن أخت تأبَّط شرًّا، التي أولها:

إن بالشعب الذي دون سلع

لقتيلا دمه ما يطل4

جازت على جميع الرواة، فما فطن بها إلا بعد دهر طويل بقوله:

خبر ما نابنا مصمئل

جلّ حتى دقَّ فيه الأجل

فقال بعضهم:

جل حتى دق فيه الأجل

من كلام المولدين. فحينئذٍ أقر بها خلف"5.

1 المُزْهِر "2/ 403".

2 الرافعي "1/ 381 وما بعدها".

3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673"، الحيوان "3/ 154".

4 وتنسب أيضًا إلى تأبَّط شرًّا، ديوان الحماسة "2/ 312"، العقد الفريد "6/ 157"، الأغاني "6/ 87"، "إن بالشعب إلى جنب سلع"، الأمالي "1/ 156"، أمالي المرتضى "2/ 280"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 674".

5 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 348 وما بعدها".

ص: 323

كان خلف الأحمر رأس البصرة في رواية الشعر وفي البصر به. كما كان حماد زعيم الكوفة في هذا العلم. وكان خلف نفسه ممن أخذ هذا العلم عن حماد، فهو من أحد تلامذته ورواته وسامعيه. وكان المقدم عند أهل البصرة، حتى كانا لا يصدرون الرأي في شعر دونه، ،إذا اختلف علماؤهم في شيء منه، عرضوا خلافهم عليه للبت فيه1. وروي أنه كان أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية، فسمع منه2.

وقيل عنه: إنه كان شاعرًا مجيدًا جيد الشعر كثيره، لم يكن في نظرائه أحد يقول مثله الشعر3. ووضع على شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا موضوعًا وعلى غيرهم، وأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة. وكان خلف أخذ النحو عن عيسى بن عمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو. "ولم ير أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه، وكان يضرب به المثل في علم الشعر، وكان يعمل على ألسنة الناس، فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه، ثم نسك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا عظيمًا خطيرًا على أن يتكلم في بيت شعر شكُّو فيه، فأبى ذلك. وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية، لأن كان قد أكثر الأخذ عنه. وبلغ مبلغ لم يقاربه حماد. فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم"4. وروي عن خلف قوله: "كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب، وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني، ويدخله في أشعارها، وكان فيه حمق"5.

ويصعب في الواقع تصديق هذه الرواية المنسوبة إلى خلف الأحمر، فلم يكن حماد بإجماع المنافسين له على شيء من الفضلة والحمق، حتى نصدق ما ورد في هذا الخبر الآحاد، الذي هو خبر من أخبار رواة البصرة، بل نرى من الأخبار

1 الرافعي "1/ 381".

2 ابن الأنباري، نزهة "58 وما بعدها".

3 المعارف "544".

4 المُزْهِر "2/ 403".

5 الأغاني "6/ 92"، "9/ 124".

ص: 324

الواردة عنهم العكس، نرى فيه الفطنة والخبث إلى آخر أيامه. ثم إنه كان أقدم وأشهر وأعرف وأحفظ من خلف الأحمر، وهو في معرفة الشعر وتمييزه أمرس من صاحبه خلف، فلا يعقل فوات ما نحله خلف القدماء على حماد. وقد كان الرواة أنفسهم يتعجبون من مقدرة حماد على التمييز بين الصحيح والفاسد من الشعر، وعلى إحاطته بأساليب الجاهليين في نظم القريض، وعلى إتقانه تلك الأساليب، حتى صار من الصعب على عشَّاق الشعر التمييز بين ما كان يصنعه حماد على ألسنة الشعراء الجاهليين وبين ما كان من نظمهم حقًّا. ولهذه الأسباب يصعب التصديق بهذا الخبر، ورأى أنه من وضع أهل البصرة، وضعوه على حماد، كرهًا له وللكوفيين. ورواته هم من البصريين.

وما خبر توبة خلف الأحمر، وخروجه إلى أهل الكوفة، ليعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، والتي أدخلها أهل الكوفة في دواوينهم، وأَبَو إصلاحها، أو حذفها، سوى قصة فيها الطعن والسخرية بعلم أهل الكوفة وبفهمهم للشعر، وفيه مدح وتفخيم لعلم خلف بالشعر، وإن كان لا يخلو من تجريح لخلف نفسه، وفيه مدح لعلم أهل البصرة ولصدقهم في رواية الشعر والأخبار. استهزاء إذن وتعريض بأهل الكوفة، ليس فوقه استهزاء، وضعه رجل فيه دعابة وتعصب وتحامل على الكوفيين.

وقد اختص خلف بالفروع التي اختص بها حماد بالكوفة، وبذلك جعل البصرة تنافس الكوفة فيها. اختص بالشعر القديم، وباللغة، وبشيء آخر مهم جدًّا هو وضع الشعر وحمله على ألسنة القدماء، فصار في هذا الباب بطل البصرة وممثلها، كما كان حماد بطل الكوفة وزعيم الوضَّاعين. وقد امتاز خلف على الأصمعي العالم البصري ومعاصره بقدرته على نظم الشعر، إذ كان هو نفسه شاعرًا متمكنًا في الشعر، متقنًا لفنونه، كان من حذقه واقتداره في الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء فلا يفرق بينه وبين القديم. أما الأصمعي، فلم يبلغ مبلغه فيه، وإن كان من علماء اللغة والأدب والنحو ومن حفظة الشعر ورواته.

وهناك روايات تنسب الصدق إلى خلف، ثم لا تكتفي بذلك حتى تجعله أعرف الناس وأعلمهم بالشعر. وروايات تذكر أنه كان أول من أحدث السماع بالبصرة، وأنه تعلم ذلك من حماد1.

1 ياقوت، إرشاد "4/ 179".

ص: 325

وكان الأصمعي، وهو من علماء البصرة، كما ذكرت، غير راضٍ عن خلف، إذ كان يغمز فيه، ويتهمه بالكذب. ويظهر أن ذلك بسبب المنافسة على الزعامة في العلم. روي عنه أنه قال في خلف:"رواة غير منقحين، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دواد الإيادي قالها خلف الأحمر. وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون، وبها يفتخرون"1. ويريد بهم أهل الكوفة، وذكر الأصمعي أيضًا أن خلفًا الأحمر "وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا، وعلى غيرهم، عبثًا بهم، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة"2.

وينسب إلى الأصمعي قوله أنه حضر مأدبة وأبو محرز خلف الأحمر، وابن مناذر معنا، فقال له ابن مناذر: يا أبا محرز أن يكن امرؤ القيس، والنابغة، وزهير ماتوا، فهذه أشعارهم مخلدة، فقس شعري إلى شعرهم. قال: فأخذ صفحة مملوءة مرقًا، فرمى به عليه فملأه، فقام ابن مناذر مغضبًا، وأظنه هجاه بعد ذلك"3. وهذه القصة -إن صحت- تشير إلى وجود غلظة في طبع خلف. وهناك أخبار أخرى تؤيد هذا الرأي4.

وقد أشار ابن النَّديم إلى كتاب لخلف الأحمر، وأسماه:"كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"5. وذكر ياقوت الحموي له كتابين: ديوان شعر حمله عنه أبو نواس، وكتاب "جبال العرب"6.

ومما يؤسف له حقًّا، هو أن حمادًا الراوية، أو غير حماد ممن رووا عنه، أو أخذوا عن غيره، لم يشيروا إلى الموارد التي أخذ حماد منها هذا الفيض من الشعر، كما أنهم لم يشيروا إلى الموارد التي استقى بقية رواة الشعر منها ما رووه

1 الموشح "201 وما بعدها".

2 مراتب النحويين "75".

3 الموشح "296"، الأغاني "11/ 17"، ياقوت، إرشاد "4/ 179".

4 "حدثني عمر بن شبة، قال: أنشد أبو عبيدة خلفًا الأحمر شعرًا له، فقال له خلف: يا أبا عبيدة، أخبئ هذه كما تخبئ السنور خرءها، الموشح "366 وما بعدها".

5 الفِهْرِسْتُ "74".

6 ياقوت، إرشاد "4/ 179".

ص: 326

من الشعر الجاهلي. ولو ذكروه لأفادونا ولا شك بذلك كثيرًا، إذ يكون في مقدورنا التوصل إلى معرفة الأشخاص الذين كان لهم فضل حمل هذه الثروة العظيمة من ذلك الشعر. ومما يؤسف له أيضًا هو أن معظم دواوين الشعراء الجاهليين لا يرتفع سندها إلى رواة يتقدم عهدهم على عهد حماد. ولو ارتفعت لاستفدنا منها بالطبع كثيرًا في معرفة أسماء رواة الشعر الجاهلي وحفاظه وجامعيه وكتبته قبل أيام حماد، ولعرفنا بذلك شيئًا عن الموارد التي أخذ منها هذا الراوية ذلك الكنز الثمين.

ولا بد من ذكر السكري في هذا المكان. وهو أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري اللغوي، المتوفى سنة "275هـ". فله مؤلفات عديدة عن الشعر، وشروح للدواوين. منها: شرح أشعار هذيل1، وديوان أبي كبير الهذلي بشرح السكري2، وكتاب أخبار اللصوص، جمع فيه أشعار اللصوص البدو المشهورين3، وأشعار اليهود4، وشرح ديوان زهير5، وديوان امرئ القيس، بروايته6، وشرح ديوان حسان، وقد نقل منه البغدادي7، وديوان الحطيئة، وهو روايته عن ابن حبيب8، وديوان أبي ذؤيب الهذلي9، وشرحه على ديوان عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات10، وديوان الأخطل، وهو روايته عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي11، وديوان الفرزدق12.

وقد أخذ السكري من الموارد التي ألفت قبله؛ كما أخذ من علماء المصرين: البصرة والكوفة، دون تعصب أو تحزب، وكان راوية البصريين13.

1 خزانة "2/ 317".

2 بروكلمن "1/ 84".

3 بروكلمن "1/ 85".

4 بروكلمن "1/ 84".

5 بروكلمن "1/ 96".

6 بروكلمن "1/ 100".

7 خزانة "3/ 333"، "4/ 44".

8 بروكلمن "1/ 168".

9 بروكلمن "1/ 169".

10 بروكلمن "1/ 193".

11 بروكلمن "1/ 208".

12 بروكلمن "1/ 213".

13 نزهة الألباء "144 وما بعدها".

ص: 327