المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دواوين الشعر الجاهلي: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع عشر

- ‌الفصل الرابع والأربعون بعد المئة:‌‌ الأعراب والعربيةواللحن

- ‌ الأعراب والعربية

- ‌اللَّحْنُ:

- ‌الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

- ‌الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

- ‌مدخل

- ‌خبر شعراء الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌الشَّاعِرُ:

- ‌عَدَدُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌إنشاد الشعر

- ‌مدخل

- ‌سُوقُ عُكَاظٍ:

- ‌يَثْرِبُ:

- ‌تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌المغلبون:

- ‌بَدْءُ الشَّاعِرِ:

- ‌أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ:

- ‌الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ:

- ‌التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ:

- ‌الْخَمْرُ والشِّعْرُ:

- ‌شَيطَانُ الشَّاعِرِ:

- ‌الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

- ‌مدخل

- ‌الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ:

- ‌الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

- ‌مدخل

- ‌التمليط:

- ‌الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

- ‌الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

- ‌الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

- ‌مدخل

- ‌نَقْدُ الشِّعْرِ:

- ‌أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا:

- ‌الشِّعْرُ والإِسْلامُ:

- ‌الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌رُوَاةُ الشِّعْرِ:

- ‌الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ:

- ‌التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ:

- ‌الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ:

- ‌الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

- ‌مدخل

- ‌بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ:

- ‌الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

- ‌مدخل

- ‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

- ‌الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

- ‌الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل:

- ‌فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ:

الفصل: ‌دواوين الشعر الجاهلي:

وقد حكك ونقح علماء الشعر ورواته، ما سمعوه وأخذوه من شعر، لأنهم وجدوا أنه في حاجة إلى تحكيك، أو أنهم رأوا أن فيه خللا، وأن عليهم واجب إصلاحه وتقويمه. أجروا مثل هذا التنقيح حتى في شعر الشعراء الإسلاميين، روي عن الأصمعي قوله: "قرأت على خلف شعر جرير، فلما بلغت قوله:

فيا لك يومًا خيره قبل شره

تغيب واشيه وأقصي عاذله

فقال: ويله! وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ قلت له: هكذا قرأته على أبي عمرو. فقال لي: صدقت وكذا قاله جرير، وكان قليل التنقيح، مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع. فقلت: فكيف كان يجب أن يقول؟ قال: الأجود له لو قال: فيا لك يومًا خيره دون شرِّه.

فاروه هكذا فقد كانت الرواة قديمًا تصلح من أشعار القدماء، فقلت: لا أرويه بعد هذا إلا هكذا"1.

وقد اضطر علماء الشعر إلى تنقيح ألفاظ في الشعر بسبب تصحيف أو تحريف وقع عليها بفعل النساخ، ومثل هذا التنقيح مستساغ الطبع، بل واجب لأنه فيه أعادة الشعر إلى الصواب، على أن ينص على الأصل الذي كان مكتوبًا به، والتصحيح الذي أدخل عليه، وعلى السبب الذي حمل العالم على إجرائه عليه.

1 ديوان جرير "480"، المرزباني، الموشح "125"، بروكلمن "1/ 65".

ص: 340

‌دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي:

ودواوين الشعراء الجاهليين، الموجودة عندنا هي كلها وبغير استثناء من جمع علماء الشعر الإسلاميين. فلا يوجد من بينها ديوان واحد ذكر أنه كان من جمع أهل الجاهلية. وقد شرع بصنع هذه الدواوين في العصر الأموي. وبلغت العناية بها ذروتها في القرن الثالث للهجرة. وقد أبدى علماء العراق من موالي وعرب تفوقًا كبيرًا على غيرهم من علماء الأمصار الإسلامية في هذا الباب.

وقد نسب إلى ابن عباس قوله: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله،

ص: 340

فاطلبوه في الشعر فإنه ديوان العرب"1. إذا صح أن هذا الكلام الذي رواه عكرمة عن عبد الله بن عباس هو من كلامه نكون قد حصلنا لأول مرة على لفظة "الديوان"، بالمعنى المفهوم من اللفظة في عرف علماء الشعر والناس. وذكر أن لفظة الديوان قد وردت في حديث: "لا يجمعهم ديوان حافظ"2. وإذ صح هذا الحديث وثبت، يكون ورود اللفظة فيه قبل ورودها في كلام ابن عباس، ومعنى هذا أنها كانت معروفة عند أهل الجاهلية، غير أن ورودها في هذا الحديث لا يعني ديوان شعر، وإنما الجمع والإحصاء، وبمعنى كتاب وسجل تدون فيه الأشياء.

وروي أيضًا أن الخليفة عمر سأل الصحابة عن هذه الآية: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3، فخاضوا في معناها، فخرج رجل ممن كان حاضرًا فلقي أعرابيًّا، فقال التخوف: التنقص، وكان ذلك الأعرابي من هذيل، فقال له: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:

تخوف الرحل منها تامكًا قردًا

كما تخوف عود النبعة السفن

فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم4.

ويقال لمجموع الشعر المدون في دفتر أو كتاب "ديوان الشعر". فيقال "ديوان الشاعر" و"دواوين الشعراء"، و"ديوان فلان"، و"ديوان طيء"، و"ديوان الأنصار"، و"ديوان الشعراء الجاهليين"، إلى غير

1 "وأخرج أبو بكر الأنباري في كتاب الوقف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب، المُزْهِر "2/ 302"، "2/ 470"، الأخبار الطوال "332"، "إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرا"، العمدة "1/ 30"، تاجُ العَروسِِ "9/ 204"، "دون".

3 [النحل الآية: 46] .

4 تفسير الطبري "14/ 77"، تفسير النيسابوري، "14/ 70 وما بعدها"، وورد فيه أن اسم الشاعر: زهير.

ص: 341

ذلك. ويقصدون بذلك مجموعة أشعار جمعت في مجموع. وذكر بعض علماء اللغة أن الديوانَ الدفتر، ثم قيل لكل كتاب، وقد يخص بشعر شاعر معين مجازًا حتى جاء حقيقة فيه. فمعانيه خمسة: الكتبة ومحلهم والدفتر وكل كتاب ومجموع الشعر". والديوان في الأصل الكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية. وأول من وضعه عمر، ويرى علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن كسرى كان قد رتب الدواوين لكتّابه ولمعاملاتهم، فلما جاء الإسلام، وظهرت الحاجة إلى تنظيم العمل. أمر الخليفة عمر باتخاذ الدواوين1.

وإذا حملنا قول أهل الأخبار أنه قد كان عند النعمان بن المنذر "ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته"2، وقولهم إن النعمان ملك العرب كان قد أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج، وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار3، على محمل الأخبار التي ظهرت في أيام الأمويين، التي صنعها وروَّجها بين الرواة حماد الرَّاوية وأضرابه فإننا نثبت بذلك وجود الدواوين بالمعنى المفهوم من الديوان في أيام حماد، وقبل أيامه. ولدينا أخبار أخرى تفيد أن الدواوين قد عرفت قبل أيام حماد.

ويظهر من قول ابن سلام: "وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون. وقال ابن عوف عن ابن سيرين، قال: قال عمر بن الخطّاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب

"4 أن الدواوين لم تكن موجودة، وأن الشعر لم يكن مكتوبًا في صدر الإسلام، ولهذا ضاع أكثر الشعر الجاهلي بسبب انهماك حفَّاظه في الحروب

1 تاجُ العَروسِِ "9/ 204"، "دون "، غرائب اللغة "229".

2 طبقات الشعراء "10"، المُزْهِر "2/ 474".

3 الخصائص "1/ 393"، تاجُ العَروسِِ "2/ 70"، "طنج"، اللسان "3/ 142". "طنج".

4 ابن سلام، طبقات "10".

ص: 342

وهلاك بعضهم فيها، ومنها حروب الردة، التي هلك فيها جمع من حفاظ الشعر من مسلمين ومن مشركين.

ويظهر مثل ذلك من رواية يرجع سندها إلى ابن سلام تذكر أنه "كان الرجلان من بني مروان يختلفان في الشعر فيرسلان راكبًا فينخ ببابه يعني قتادة بن دعامة، فيسأله عنه ثم يشخص"1، ويظهر من هذه الرواية إن صحت أن قتادة، كان من الحافظين للشعر، وقد عرف بأنه كان صاحب علم بأيام العرب وأنسابها وأحاديثها2، وله أخبار في تفسير القرآن3، ونعت بأنه كان من الحفاظ، قال عنه السيوطي:"ولم يأتِنا عن أحد من علم العرب أصح من شيء أتانا عن قتادة وهو من التابعين، روي عن أنس وابن المسيب، والحسن البصري، وروى عنه سعيد بن أبي عروبة5. وقد ضرب الجاحظ به المثل في الحفظ، إذ قال: "كان يقال، زهد الحسن، وورع ابن سيرين، وعقل مطرف، وحفظ قتادة، وكلهم من البصرة"6. ويظهر أنه كان يروي الإسرائيليات7. وجمع سليمان بن عبد الملك بين قتادة والزهري، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. فقال القحذمي8: لا، ولكنه8 تعصب للقرشية، ولانقطاعه كان إليهم، ولروايته فضائلهم9. وقد عرف بالنسب10، وهو أحد رواة رسالة عمرو بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في أصول القضاء11.

1 ابن سلام، طبقات "17 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 334".

2 ابن سلام، طبقات "18".

3 المُزْهِر "1/ 29".

4 المُزْهِر "2/ 334".

5 المصدر نفسه "حاشية1".

6 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 242"، ثمار القلوب "90".

7 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 104، 258"، عيون الأخبار "2/ 179".

8 القحذمي: أبو عبد الرحمن بن هشام بن قحذم القحذمي، من أهل البصرة توفي سنة "222"، لسان الميزان "6/ 227".

9 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 243".

10 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 356"، الحيوان "3/ 210".

11 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 48".

ص: 343

وروى الجاحظ "إن رجلا قتل أخوين في نقاب، أحدهما بعالية الرمح، والآخر بسافلته. وقدم في ذلك راكب من قبل بني مروان على قتادة يستثبت الخبر من قبله، فأثبته"1. وهو يروي عن ابن عباس2، وعن أبي موسى3، ويظهر من الأخبار المنسوبة إليه أنه من طراز القصاص والذين يروون الأخبار من دون نقد4.

وورد أن الخطاط الشهير خالد بن أبي الهيجا، وهو أول من كتب المصاحف في الصدر الأول، وكان من أحسن الخطاطين في زمانه، كتب "المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك"5. وإذا صح هذا الخبر، نكون قد وقفنا على جمع قديم للشعر وهو في مقدمة المجموعات القديمة للشعر.

لكننا نجد في رواية تذكر أن حمادًا الراوية سرق جزءًا من أشعار الأنصار، فقرأه فاستحلاه وحفظه، فمن ثم صار يطلب الأدب ويحفظ الشعر6. وهي رواية أشك في صحتها، يظهر أنها من موضوعات أعداء حماد، ولو صحت لكانت دليلا على وجود ديوان شعر ضم شعر الأنصار. كما نجد في خبر استدعاء الوليد بن يزيد له وإرساله إليه بمائتي دينار، وأمره عامله يوسف بن عمر أن يحمله إليه على البريد، وقوله في نفسه:"لا يسألني إلا عن طرفيه: قريش وثقيف: فنظرت في كتابي قريش وثقيف. فلما قدمت إليه سألني عن أشعار بلى"7، دلالة على وجود ديوانين كانا عند حماد أحدهما ديوان شعر قريش، والآخر ديوان شعر ثقيف. غير أننا لا نستطيع التأكد من صحة هذا الخبر، وإن كنت لا أستبعده أيضًا، لظهور التدوين قبل هذا العهد، في أيام معاوية مثلا.

وإذا صح ما ذكره ابن النَّديم من قوله: "قال أبو العباس ثعلب جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك ورد

1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "3/ 27".

2 الحيوان "1/ 180".

3 الحيوان "1/ 296".

4 الحيوان "5/ 536، 537"، "4/ 293 وما بعدها".

5 الفِهْرِسْتُ "15"، "خطوط المصاحف".

6 الأغاني "5/ 163".

7 الأغاني "6/ 94".

ص: 344

الديوان إلى حماد وجنّاد"1، فيكون معنى ذلك، أنه قد كان عند حماد وجناد ديوانان أو دواوين للشعر، استعارهما منهما الوليد، وجمع منهما ديوان العرب وأشعارهم، ثم أعاد الديوانين إلى صاحبيهما، وتكون بذلك قد وقفنا على وجود لفظة "ديوان" بالمعنى الاصطلاحي المعروف في أيام الأمويين ووثقنا من وجود دواوين الشعر في تلك الأيام.

ولم أجد في الدواوين التي وصلت إلينا في كتب الأدب إشارات إلى اقتباس رواة الشعر وحفظته وجماعه والمعنيين به من هذا الديوان ولا وصفًا لمحتوياته ولما كان بين دفتيه من قصائد وأشعار. ولو وصل إلينا شيء من هذا، لأفادنا ولا شك كثيرًا في التعرف على ذلك الديوان الملكي الذي يجب أن نعده أول ديوان شعر عربي وصل خبره إلينا بكل تأكيد حتى الآن.

ويذكر أن بعض شعراء العصر الأموي كانوا يملكون دواوين شعر لشعراء جاهليين. ذكر مثلا أن الفرزدق كان يمتلك نسخة من ديوان الشاعر زهير بن أبي سلمى"2.

وقد أطلق القدماء مصطلح "دفاتر أشعار العرب" على مدونات الشعر. والدفتر جماعة الصحف المضمومة3، وقسم البغدادي هذه الدفاتر إلى قسمين: دواوين ومجاميع. فالدواوين هي دواوين الشعراء، والمجاميع مثل أشعار بني محارب للشيباني والمفضليات للمفضل الضبي وأشعار الهذليين للسكري، وأشعار لصوص العرب للسكري، ومختار شعر الشعراء الست: امرئ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة وشرحها للأعلم الشنتمري وغيرها4.

ويظهر أن أول اختبار مدوّن للشعر عند العرب كان القصائد المعروفة بالمعلقات اختارها حماد الراوية، ثم سار من جاء بعده مثل المفضل الضبي، وأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، ثم من جاء بعدهما على منهجه في اختيار وانتقاء الشعر والقصائد وجمعها في مجموعات. وقد ذكر الجمحي أن حمادًا

1 الفِهْرِسْتُ "140".

2 بلاشير "106".

3 تاجُ العَروسِِ "3/ 209"، "دفتر"، المصون "4".

4 خزانة الأدب "1/ 9 وما بعدها"، "بولاق".

ص: 345

"كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها. وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار"1.

ولم أجد في الكتب المطبوعة التي تحدثت عن حماد ما يفيد اشتغال حماد بتدوين الشعر وإثباته في دواوين. وفي الفِهْرِسْت عبارة تقطع بعدم ورود كتاب ولا ديوان كان من تأليف حماد أو جمعه، إذ يقول: ولم ير لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس، وصنفت الكتب بعده"2. ويفهم بالطبع من كلام ابن النَّديم هذا أن حمادًا كان راوية حسب، يروي للناس ما حفظه من شعر دون أن يعتني هو نفسه بإثباته لما يحفظه في حروف وكلمات. غير أنه يجب الاحتراز كثيرًا في الأخذ برواية ابن النَّديم هذه، إذ لا يعقل إهمال حماد ترتيب ما كان يحفظه من شعر كثير، وتدوينه وإملاءه. وقد أهمل ابن النَّديم أسماء كتب عديدة لمؤلفين معروفين، كما ذكر أسماء علماء لم يشر إلى مؤلفات لهم، مع أن غيره أشار إلى مؤلفاتهم، وقد وصلت بعض منها إلينا وطبعت، فلا أستبعد أن يكون قول ابن النَّديم هذا من القبيل. ومما يقوي هذا الرأي ويؤيده، ما ورد في مختارات ابن الشجري عن أبي حاتم السجستاني من وجود كتاب لحماد الراوية، إذ قال: "قال أبو حاتم هذا آخرها وفي كتاب حماد الراوية زيادة، وقوله: قال السجستاني: وفي كتاب حماد الراوية زيادة بعد هذا البيت أربعة أبيات، كتبتها ليعرف المصنوع"3. وقد أورد ابن الشجري قولَي السجستاني عند إيراده شعر الحطيئة. وكان السجستاني قد أشار إلى كتاب حماد هذا، لوجود أبيات فيه لم يجدها في رواية الأصمعي التي اعتمد عليها لشعر الحطيئة. وقد أورد تلك الزيادات، ذاكرًا أنها مع ذكره لها من المصنوعات المردودات4.

وفي عبارة ابن النديم: "ولم يرَ لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس

1 طبقات، لابن سلام "14".

2 الفِهْرِسْتُ "ص135"، "أخبار حماد".

3 مختارات ابن الشجري، القسم الثالث "ص12، 16"، "تحقيق حسن زناتي، "القاهرة 1926م".

4 الْمَورِدُ المذكورُ.

ص: 346

وصنفت الكتب بعده"1، هفوة، فقد ذكر ابن النديم نفسه حين كلامه عن "عوانة"، أن الخليفة "الوليد بن يزيد" "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها.... ورد الديوان إلى حماد وجناد"2، وفي هذه الإشارة دلالة على أنه كان لحماد ديوان، ثم نجده يذكر أنه كان لعوانة بن الحكم كتاب التأريخ، وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وقد توفي عوانة سنة "147هـ" أي قبل حماد المتوفى سنة "156م"3، ونجده يذكر لعبيد بن شرية الجرهمي كتاب الأمثال، ويذكر لصحار العبدي كتابًا في الأمثال كذلك، وقد عاشا قبل عوانة وحماد4.

ودواوين الشعر أنواع: فقد يكون الديوان مجموع شعر شاعر واحد. وقد يكون مجموع شعراء قبيلة، أو مجموع شعر قبائل، أو شعر جماعة مثل الأنصار، وقد يكون مجموع شعر شعراء، جمعت أشعارهم على شكل طبقات، أو فن امتازوا به، أو اختيارات أو أسباب أخرى تذكر في مقدمة الدواوين. ومن النوع الأول دواوين بعض الشعراء الجاهليين، مثل ديوان امرئ القيس، وديوان النابغة الذبياني، وديوان عنترة، وديوان المتلمس وغيرهم. وقد يجمع ديوان شاعر واحد عدة علماء، فيرد الديوان بروايات مختلفة. وقد تختلف النسخ في ترتيب أبيات القصيدة، وفي عدد القصائد، وقد تزيد بعضها أشعارًا، وقد تنقص بعض منها أشعارًا، وقد تختلف نسخ الديوان الذي هو من جمع عالم واحد، بسبب أن العلماء كانوا يملون علمهم إملاء على تلامذتهم، في مجالس إملائهم، فيقوم تلامذتهم بتدوين ما يملى عليهم. ويحدث أن العالم يسمع كتابه من بعض طلابه أو من كتابه، فيصحح فيه، وقد يزيد عليه ما فات عن ذاكرته يوم إملائه في المرة الأولى، فيأمر بتدوينه، وقد يحذف منه شيئًا، لم يرض عنه، فتتعدد بذلك النسخ، ويحدث ذلك في الكتب الأخرى ومن هنا تتعدد الروايات للدواوين أو للكتاب، مع أن جامعه أو مؤلفه رجل واحد.

وقد يأخذ الطالب هذا الديوان، ثم يزيد عليه ما يسمعه من شيوخ آخرين،

1 الفِهْرِسْتُ "ص135"، "أخبار حماد"، "140"، "الاستقامة".

2 الفِهْرِسْتُ "140"، "أخبار عوانة".

3 الفِهْرِسْتُ "140".

4 الفِهْرِسْتُ "138".

ص: 347

وقد يعلق عليه ويزيد على شرحه، شروحًا سمعها من رجال آخرين، وبذلك تتولد نسخ جديدة، تختلف عن النسخ الأم1.

وقد جمع العلماء دواوين الشعراء، وقد وصل بعض منها، وفقد البعض الآخر. وقد ذكر "العيني" أنه كان حصل على ما ينيف على مائة ديوان شعر، من بينها ديوان امرئ القيس، وديوان النابغة الذبياني، وديوان علقمة بن عبدة التميمي، وديوان زهير بن أبي سلمى، وديوان طرفة بن العبد، وديوان عنترة بن شداد العبسي، وديوان الأعشى ميمون، وديوان الحطيئة، وديوان أبي دؤاد، وديوان كعب بن زهير، وديوان لبيد العامري، وديوان الشنفرى، وديوان الحارث بن حلِّزة، وديوان أبي ذؤيب الهذلي، وديوان أبي كبير الهذلي، وديوان ساعدة بن جؤية الهذلي، وديوان أبي خراش الهذلي، وديوان أبي المثلم، وديوان صخر الغي، وديوان المتنخل، وديوان أبي العيال، وديوان السموءل بن عادياء، وديوان سحيم عبد بني الحسحاس، وديوان عمرو بن قميئة، وديوان عمرو بن كلثوم، وديوان أوس بن حجر، وديوان النمر بن تولب، وديوان أبي الطمحان القيني2، وغير ذلك من دواوين لم أشر إليها. ومما يؤسف له أنه لم يذكر أسماء رواة هذه الدواوين.

ومن النوع الثاني، دواوين القبائل، أو أشعار القبائل، وقد ضمت شعر شعراء قبيلة أو شعر بعض من شعرائها، ممن اشتهر وعرف، وتحتوي الإضافة إلى الشعر كلامًا يتصل بالشعر وبالشاعر وبالمناسبة التي قيل الشعر فيها، وبنسب الشاعر وقبيلته، على نحو ما نجده في الدواوين الخاصة، فتكون بذلك وثائق مهمة جامعة لأمور شتى من حياة الجاهليين. وقد سميت هذه المجموعات بأشعار القبائل، مثل: أشعار الأزد، وأشعار حمير، وأشعار الرباب، وأشعار بني عامر بن صعصعة، وأشعار فهم، وشعر بني يشكر، وأشعار بني عوف بن همام، وشعر هذيل3. وأشعار تغلب للسكري، وقد رجع إليه البغدادي4.

1 راجع في هذا الباب مصادر الشعر الجاهلي، الباب الخامس وما بعده. "ص479 فما بعدها".

2 "4/ 596"، "حاشية على الخزانة".

3 مصادر الشعر الجاهلي "ص543 وما بعدها".

4 خزانة "1/ 304".

ص: 348

وقد هلك أكثر ما جمع من أشعار القبائل، ولم يصل إلينا مطبوعًا من هذه المجموعات إلا ديوان هذيل، وأكثر شعراء هذا الديوان إسلاميون. وقد نال شعراء هذيل بذلك حظًّا من العناية، كما نشرت لشعراء هذه القبيلة جملة دواوين1.

وقد أطلق ابن النديم جملة "أشعار العرب" على معنى ديوان أشعار العرب، فذكر مثلا أن الأصمعي، عمل "قطعة كبيرة من أشعار العرب ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"2، وذكر أن خالد بن كلثوم الكلابي، كان من رواة الأشعار والقبائل، وله صنعة في الأشعار والقبائل، وله من الكتب كتاب الشعراء المذكورين وكتاب أشعار القبائل، ويحتوي على عدة قبائل3. وذكر أن أبا عمرو الشيباني "206هـ" كان عالمًا بأشعار القبائل، وقد أخذ العلماء عنه دواوين أشعار القبائل، وكان قد جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة4. وذكر أيضًا أنه قد كان في بيت أبي عبيدة "210هـ""211هـ""208هـ""ديوان العرب"5، ويظهر أنه قصد به ديوانًا ضم أشعار القبائل. فهو مجموع أشعار شعراء.

ومن النوع الثالث، أي الكتب التي جمعت أشعار طبقة معينة من طبقات الشعراء أو المجتمع، ما ذكره ابن النديم من أن أبا العباس ثعلب، صنع قطعة من أشعار الفحول وغيرهم، منهم الأعشى والنابغتان وطفيل والطِّرِمَّاح6. ومن أن أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري، وهو ممن أخذ عن ثعلب، كان قد عمل عدة دواوين من أشعار العرب الفحول، منه شعر زهير، والنابغة، والجعدي، والأعشى7. وقد عمل محمد بن حبيب قطعة من أشعار العرب، وكتابًا سمّاه:"كتاب أخبار الشعراء وطبقاتهم"8، وألف ابن سلام "231هـ"

1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 82 وما بعدها".

2 الفِهْرِسْتُ "89".

3 الفِهْرِسْتُ "104".

4 الفِهْرِسْتُ "107".

5 الفِهْرِسْتُ "85".

6 الفِهْرِسْتُ "117".

7 الفِهْرِسْتُ "118".

8 الفِهْرِسْتُ "161".

ص: 349

كتابًا في طبقات الشعراء، عرف بـ "طبقات الشعراء"، وهو مطبوع معروف، ولعمر بن شبة كتاب في الطبقات اسمه:"كتاب طبقات الشعراء"1.

هذا ونقرأ في كتاب "الفهرست" لابن النديم، وفي مؤلفات أخرى أن من العلماء من ألف كتبًا في القبائل، مثل "كتاب الأوس والخزرج" لأبي عبيدة2. وكتاب إياد، وكتاب كنانة، وكتاب بني نهشل، وكتاب بني محارب، وكتاب بني الحارث، وكتاب بني مرة، وأشعار حمير، وكتاب بني القين بن حسر، وكتاب بني حنيفة وغيرها من كتب كان الآمدي قد رجع إليها وأخذ منها. وقد درست هذه الكتب، ولم يتحدث الآمدي بشيء عما احتوته، لذلك لا نستطيع أن نتحدث عن موضاعاتها، بيد أن الآمدي يشير أحيانًا، إلى مواضع اقتبس منها بعض الأشياء، لها صلة بالشعر والشعراء، مما يحملنا على القول بأن الكتب المذكورة كانت في الشعر: في شعر القبائل، وفيمن نبغ بينها من شعراء، كما يشير إلى أمور أخذها من هذه الموارد، التي لم يشر إلى أسماء مؤلفيها، تدل على أنها خاصة بأخبار القبائل وأنسابها، ونظرًا إلى ورود أسماء قسم من هذه المؤلفات التي لم يذكر الآمدي أسماء مؤلفيها في "الفهرست" لابن النديم، وفي موارد أخرى نقلت منها وأشارت إلى أسماء مؤلفيها، فإن في الإمكان التعرف بهذه الطريقة على أسماء مؤلفاتهم التي استقى أخباره منها في مواضع أخرى.

وعلى كثرة ما ألف من دواوين، فإننا لا نملك منها سوى قسم قليل من ذلك الكثير. ويرى "بلاشير" أن الدواوين القديمة المهمة لا تحتوي وسطيًّا أكثر من عشرين صفحة، وأن أطولها كدواوين النابغة وزهير وامرئ القيس لا تتجاوز أبدًا الثلاثين صفحة في الأصل، غير أن المتأخرين زادوا فيها قصائد ومقطعات عثروا عليها في موارد أخرى، فتضخمت تلك الدواوين حتى صارت أضعاف ما كانت عليه في الأصل3.

وجمع بعض علماء الشعر أشعار طوائف من المجتمعات مثل شعر اللصوص،

1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 44".

2 الفِهْرِسْتُ "86".

3 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "162".

ص: 350

فللسكري ديوان دعاه: أشعار لصوص العرب. ومثل شعر الصعاليك، وشعر الشعراء المغتالين، وأخبار من نسب إلى أمه من الشعراء، وأخبار المتيمين من الشعراء في الجاهلية وفي الإسلام، إلى غير ذلك من مؤلفات في أخبار الشعراء وفي شعرهم1.

ويظهر أن مؤلفي الدواوين لم يحفلوا في أيامهم بموضوع شرح المناسبات التي من أجلها نظم الشعر، ولهذا جاءت خالية في الغالب من ذكر المناسبة، وهي إذا ذكرتها فإنما تذكرها بإيجاز واختصار. أما الشروح التي قد ترد في الديوان، فإنها شروح لغوية ونحوية في الغالب، لم تتمكن من تقديم صورة واضحة عن الشاعر وعن المناسبات التي من أجلها نظم الشعر. وقد انبرى علماء آخرون بشرح هذه الدواوين، إلا أن شروحهم لم تخرج أيضًا عن مألوف ذلك الزمن من الاهتمام باللغة والنحو وجمع الشواهد والنادر والغريب، فضاع التأريخ نتيجة لهذه الطريقة.

وقد ذكر ابن النديم أن شعر "امرئ القيس" قد عمله جملة علماء، منهم أبو عمرو الشيباني، والأصمعي، وخالد بن كلثوم، ومحمد بن حبيب، وأبو سعيد السكري الذي صنعه من جميع الروايات. وقد صنعه أبو العباس الأحول ولم يتمه وعمله ابن السكيت. ويلاحظ أن جامعي هذه الدواوين لم يشيروا إلى المورد الذي استقوا منه شعرهم. صحيح أن منهم من ذكر السند، إلا أنه لم يذكر كيف حصل المرجع الذي ينتهي السند عنده على هذا الشعر. ولم يحفل الرجال الذين تنتهي الأسانيد بهم بذلك، مع أن لذكر السند كاملًا أهمية كبيرة بالنسبة للمؤرخ. إذ نتمكن بهذا التشخيص من الوقوف على معين هذا الشعر.

وقد دوَّن ابن النديم جريدة بأسماء علماء الشعر الذين اشتغلوا بعمل دواوين الجاهليين. وقد استعمل لفظة "صنع" و "عمل"، و "صنعة" في معنى "جمع" و "ألف" و "تأليف"، واستعمل جملة "صنعه من جميع الروايات" بعد اسم الجامع وقبل اسم الشاعر للإشارة إلى أن جامع الديوان قد اعتمد على المجموعات

1 الخزانة "1/ 10"، "بولاق" راجع الفِهْرِسْت لابن النديم، حيث تراه يذكر أسماء مؤلفات عديدة بهذا الموضوع.

2 الفِهْرِسْتُ "229".

ص: 351

الشعرية التي صنعت قبله، وأوجد من مجموعها ديوانه. فقد تقدم رواية قصيدة على قصيدة، وقد تؤخر أخرى قصيدة متقدمة، فتقدم عليها قصيدة متأخرة، وقد يقدم ديوان بعض أبيات قصيدة، وقد يرتبها ديوان آخر ترتيبا آخر، لاعتماده على مورد آخر، روى القصيدة بصورة أخرى، وقد يذكر ديوان: شعرًا وقطعًا وقصائد أو قصيدة لا تكون موجودة في الدواوين الأخرى أو في بعض منها، ولهذا يأتي جامع جديد، تقع عنده تلك الدواوين، أو تكون عنده كتب شواهد ونوادر وأخبار، فيها من شعر الشاعر ما لم يرد في ديوانه فيضمه إليه، ويكون من المجموع ديوانًا جديدًا، برواية جديدة، تنسب إليه، كما فعل السكري بالنسبة لشعر امرئ القيس.

ومن أعرف من اشتغل بجمع أشعار القبائل: أبو عمرو الشيباني، وخالد بن كلثوم، والطوسي، والأصمعي، وابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب1. ونظرًا لحفظهم أشعار القبائل، حفظوا بالطبع أشعار الشعراء الجاهليين، وحملهم ذلك على جمع أشعارهم في دواوين خاصة. وقد أضاف ابن النديم عليهم، اسم ابن السكيت، وثعلب2. وكان الطوسي عدوًّا لابن السكيت، لأنهما أخذا عن نصران الخراساني، واختلفا في كتبه بعد موته. وكانت كتب نصران لابن السكيت حفظًا وللطوسي سماعًا3.

ولم يرتب صناع الدواوين الشعر على حسب الترتيب الزمني، وإنما رتبوه على ترتيب القوافي، أي وفقًا لترتيب أبحدية القوافي. وقد يسر هذا الترتيب للقارئ الرجوع إلى الشعر الذي يريده، لكنه حرمه من شيء ثمين جدًّا، هو معرفة زمن نظم الشعر. وللزمن أثر كبير في الوقوف على تطور شعر الشاعر، وعلى مدى تقدمه أو تأخره في نظم الشعر، كما حرمه من الوقوف على العوامل التأريخية التي أثرت على الشاعر وعلى مجتمعه فدفعته إلى نظم شعره. ومع وجود بعض المراجع المساعدة من مثل كتب الأخبار والأدب والشواهد، فإن هناك أمورًا تأريخية تخص الشعراء الجاهليين والشعر الجاهلي، بقيت خافية علينا، بسبب عدم

1 الفِهْرِسْتُ "229"، "المقالة الرابعة".

2 الفِهْرِسْتُ "230".

3 الفِهْرِسْتُ "112 وما بعدها".

ص: 352

اهتمام علماء الشعر آنذاك بموضوع الشعر ترتيبًا زمنيًّا، ولعدم اهتمامهم بذكر أسباب نظم كل بيت أو قطعة أو شعر، أو قصيدة، مع بيان الزمن الذي نظم الشاعر فيه شعره.

وقد ظهر قوم دونوا الشعر في الصحف، وقرءوه منها، ونظرًا لمكانة الحفظ عند العلماء، ولقياسهم علم الإنسان بمقدار حفظه، لا بما كان يشرحه أو يفسره من الصحف والكتب، لذلك لم ينظر إلى مدوني الصحف نظرة تجلة وتقدير، لأنهم في نظرهم قراء صحف لا غير. قال ابن قتيبة:"يرويه المصحفون والآخذون عن الدفاتر"1، ذكر ذلك في معرض الاستخفاف بعلمهم، لكونهم لا يميزون بين الشعر الصحيح من الفاسد، والرديء من الجيد، لأنهم يقرءون عن صحف، وينطقون بحروف وكلم مكتوبة، لا عن فهم ودراية مثل رواة الشعر، الذين خزنوا علمهم في أدمغتهم، فإذا سئلوا عن شيء أجابوا عن روية وفكر، لا عن صحيفة مكتوبة.

وقد ساعدت الكتب المؤلفة في أخبار القبائل مساعدة كبيرة في جمع الشعر الجاهلي، ونجد في كتاب "الفهرست" لابن النديم أسماء مؤلفات كثيرة، في القبائل، وفي أمور أخرى لها صلة بالشعر، ذكرها أثناء تحدثه عن الأشخاص الذين ذكرهم في كتابه. وقد هلكت أكثر المؤلفات المذكورة، ولكننا نجد نقولًا منها في بعض الكتب التي كتب لها البقاء والتي قدر لها أن تطبع.

ولا أجد في نفسي حاجة إلى ذكر الموارد الأخرى التي أفادتنا كثيرًا في جمع الشعر الجاهلي وفي الوقوف عليه، لأن لقارئ هذا الكتاب إلمامًا بها، قد يزيد على إلمامي بها. وعلى رأس هذه الموارد كتب الأدب، مثل مؤلفات الجاحظ، وكتاب الأغاني للأصبهاني، وكتب الأمالي والمجالس وغيرها، ففي هذه الموارد مادة قد لا نجدها في كتب الشعر، وقد ذكرت أسماء مصادر قديمة نقلت منها لا نعرف اليوم من أمرها شيئًا.

ولا بد من الإشارة أيضًا إلى كتب النحو والشواهد، فقد جاءت بأشعار جاهلية استشهد بها على إثبات قاعدة نحوية، أو شاهد رأي جاء به عالم لإثبات

1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 28".

ص: 353

رأيه في موضوع لغوي أو نحوي، وقد نص على اسم أو أسماء الشعراء في بعض الأحيان، ولم ينص على الأسماء في أحيان أخرى. وقد يمكن معرفة بعض الأشعار التي لم ينص على اسم قائلها، بالرجوع إلى الموارد الأخرى التي نسبتها إلى قائليها، غير أن الحظ لا يساعد في أحيان أخرى على معرفة اسم قائل الشاهد، لعدم وجوده في موارد أخرى. وقد يكون شاهدًا مفتعلًا، فلا يمكن التوصل إلى أصله بالطبع.

ص: 354