الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع
…
الفَصْلُ الخامِسُ والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: الشِّعْرُ المصنُوعُ
ليس البحث في معرفة المصنوع من الشعر، وفي أسباب وضعه، من البحوث الجديدة، التي أوجدها المستشرقون، أو من أخذ عنهم من الباحثين المحدثين، بل هو بحث قديم، أتقنه أهل الجاهلية، وأخذه عنهم أهل الإسلام. وفي هذا المعنى قال الشاعر الشهير الحطيئة:"ويل للشعر من الرواة السوء"1. فرواة الشعر، آفة بالنسبة للشعر وللشعراء، قد يزيدون فيه، وقد ينقصون، وقد يصحفون، وقد يفتعلون ويصنعون الشعر على ألسنة غيرهم، ولو لم يكن هذا المرض معروفًا في أيام الحُطَيئَة وقبلها لما ورد هذا القول عنه.
ومعنى انتحله وتنحله ادَّعاه لنفسه، وهو لغيره. يقال: انتحل فلان شعر فلان أو قوله ادعاه أنه قائله، وتنحله ادعاه وهو لغيره. قال الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوا
…
في بعد المشيب كفى ذاك عارا
وقيدني الشعر في بيته
…
كما قيد الأسرات الحمارا
"ويقال نحل الشاعر قصيدة، إذا نسبت إليه وهي من قبل غيره. ومنه حديث قتادة بن النعمان: كان بشير بن أبيرق يقول الشعر ويهجو به أصحاب
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 239"، "دار الثقافة، بيروت".
النبي صلى الله عليه وسلم وينحله بعض العرب"1. ولم يكن بشير أول من فعل ذلك بالطبع من العرب، فهناك غيره ممن سبقه وممن عاش في أيامه صنعوا صنيعه في نحل الشعر وإضافته إلى الشعراء لمآرب مختلفة. ويظهر من الشعر المتقدم المنسوب إلى الأعشى، أنه قد اتهم بانتحال الشعر، بأخذ شعر غيره وادعائه لنفسه، فنفى عنه تلك التهمة.
ويروى أن النعمان بن المنذر، كان يرى به هذا الرأي، فقد ذكروا أنه قال له: "لعلك تستعين على شعرك هذا؟ فقال له الأعشى: احبسني في بيت حتى أقول، فحبسه في بيت، فقال قصيدته التي أولها:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا
…
وشطَّت على ذي هوى أن تزارا
ثم ذكر فيها البيتين المتقدمين2. وورد أن الذي قال له ذلك، هو قيس بن معد يكرب الكندي3.
وكان السطو على الشعر، معروفًا في الجاهلية كما كان معروفًا في الإسلام.
قال الفرزدق:
إذا ما قلت قافية شرودًا
…
تنحلها ابن حمراء العجان
وقال ابن هرمة:
ولم أتنحل الأشعار فيها
…
ولم تعجزني المدح الجياد4
يقال تنحل الشاعر قصيدة، إذا نسبها إلى نفسه، وهي من قبل غيره.
قال يزيد بن الحكم:
ومسترق القصائد والمضاهي
…
سواء عند علام الرجال5.
1 تاج العروس "8/ 129"، "نحل"، اللسان "11/ 651"، "نحل"
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 180 وما بعدها"، ديوانه "رقم41".
3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 180"، "حاشية رقم 6".
4 تاج العروس "8/ 129"، "نحل"، اللسان "11/ 651"، "نحل".
5 تاج العروس "8/ 405"، "علم".
ويقال: إن "الأعشى"، وضع في شعره أن "هرم بن قطبة" حكم لعامر بن الطفيل على علقمة بن علاثة، وتزيد بذلك على "هرم"، وأشاعه بين الناس1. والتزيد تكلف الزيادة في الكلام وغيره. وورد أن من الشعراء الجاهليين من كان ينتحل شعر غيره، أو يجتلب منه. قال الراجز:
يا أيها الزاعم أني أجتلب
…
وأنني غير عضاهي أنتجب
كذبت إن شر ما قيل الكذب2
فهو ينكر أنه يجتلب الشعر من غيره. واجتلب الشاعر، إذا استوق الشعر من غير واستمده. قال جرير:
ألم يعلم مسرحي القوافي
…
فلا عيا بهن ولا اجتلابا
أي لا أعيا بالقوافي ولا اجتلبهن ممن سواي، بل أنا في غنى بما لدي منها3.
وقد نحل على الأعشى فنسب له الرواة ما ليس من شعره، مثل قصيدته التي قالها في مدح سلامة ذا فائش، فقد روى ابن قتيبة الأبيات الأربعة الأول منها، ثم قال: وهذا الشعر منحول، لا أعرف فيه شيئًا يستحسن إلا قوله:
يا خير من يركب المطي ولا
…
يشرب كأسًا بكف من نجلا4
وروي عن الخليل قوله: "إن النحارير من العرب ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللبس والتعنيت"5. وحمل الكلام على الغير شيء مألوف، كما أن أخذ شخص كلام غيره وادعائه لنفسه شيء مألوف كذلك. وقد أشار جهابذة العلماء إلى أن في الشعر مصنوعًا وفيه مفتعل موضوع. وهو كثير لا خير فيه ولا حجة في عربيته. وقد أنبرى له العلماء فنقدوا الشعر.
1 مصطفى صادق الرَّافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 365 وما بعدها".
2 المصدر نفسه "1/ 366".
3 تاج العروس "1/ 184"، "جلب".
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 15"، ديوان الأعشى "232 وما بعدها"، "القصيدة رقم 35".
5 المُزْهِرُ "1/ 171".
لاستخراج الصحيح منه من الفاسد، وتمكنوا قدر إمكانهم من ضبط بعض الفاسد المنحول ومن الإشارة إليه1. قال "ابن سلام:"وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم، أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء، أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الإشكال"2.
وقد ذكروا أن قومًا تداولوا هذا الشعر المصنوع "من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي"3. فمقياس الصحة في نظرهم، هو الرواية والأخذ عن أهل البادية، وقول علماء الشعر في الشعر، أما الشعر المدون والمنقول من الصحف، فلا قيمة له، مع أن التدوين أصدق وأكثر صحة من النقل والرواية، وإذا كانوا قد خافوا التزوير في التدوين، فإن التزوير في الرواية لا يقل خطرًا عن التزوير في التدوين. وقد عدُّوا الصحفيين، قومًا لا علم لهم بالشعر، وإنما هم نقلة، يقرءون ما هو مكتوب، وليس في القراءة دليل على علم4، وذلك لأنهم كانوا يصحفون في القراءة، ويلحنون، بينما الراوية الذي اعتمد على علمه وعلى حافظته وعلى ذوقه وطبعه، لا يصحف ولا يقع في اللحن، ولهذا قيل لهؤلاء الصحفيين المصحفين.
"قال خلاد بن زيد الباهلي لخلف بن حيان أبي محرز -وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله- بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تروى؟ قال له: هل تعلم أنت منها ما أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعرفوا من ذلك ما لا تعرفه أنت. وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. فقال له: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته،
1 المُزْهِرُ "1/ 171".
2 طبقات "14".
3 المُزْهِرُ "1/ 171".
4 المُزْهِرُ "1/ 174".
فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟ "1.
وقد افتخر رواة الشعر بأنفسهم، وزعموا أنهم أكثر فهمًا في النقد من رواة الحديث، قال يحيى بن سعيد القطان:"رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يروون مصنوعًا كثيرًا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون: هذا مصنوع"2. يعيبون رواة الحديث على روايتهم الحديث المصنوع، مع أن وضعهم للشعر لا يقل عن وضع رواة الحديث للحديث على لسان الرسول، ونقدهم له لا يرتفع كثيرًا عن نقد رجال الحديث للحديث.
وقد تعرض ابن سلام لموضوع إفساد الشعر ونحله، فقال: "وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل كل غثاء: محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير، فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها. ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به، فأحمله ولم يكن ذلك له عذرًا، فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ ألوف من السنين؟ والله يقول:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . وقال في عاد: {فهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . وقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} 3.
فهو يتهم ابن إسحاق بالجهل بالشعر، وهو جهل استغله صناع الشعر فجاءوا إليه بشعر غثاء فاسد، وبشعر مصنوع، فأدخله، وبشعر مفتعل وضع على ألسنة الماضين فقبله. فكان جهله من عوامل إفساد الشعر.
وهذا الشعر بيّن الفساد، يمكن لكل ذوي عقل رفضه، ولكن الذي أفسد الشعر وهجنه، هم علماء الشعر وصناعه من أصحاب الحرفة، الذين وضعوا على ألسنة الشعراء، شعرًا صعب حتى على نقدة الشعر رده إلى أصله، لأنهم وضعوه وصاغوه على ألسنة الشعراء صياغة محبوكة من نمط الشعر الصحيح المحفوظ عن أهل الجاهلية، ومن هنا هان عمل ابن إسحاق بالنسبة إلى عمل حماد الراوية وخلف الأحمر وغيرهما من صاغة الشعر.
1 ابن سلام، طبقات "3 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 172 وما بعدها".
2 المُزْهِرُ "1/ 175"، ذيل الأمالي "105".
3 طبقات "3 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 173 وما بعدها".
وقال ابن سلام: "فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال"1.
وروى ابن سلام خبرًا طريفًا من أخبار النَّحْل في الشعر، فقال:"أخبرني أبو عبيدة أن داود بن مُتَمِّم بن نُويرَة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي في الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته، فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا أنه يفتعله"2.
وتحاشيًا من الوضع، امتحنوا من كان يقدم عليهم، للأخذ منه، أو من كان يتصل بهم من الأعراب، حتى يتأكدوا من أمانتهم ومن علمهم بما سيسألونهم عنه. إذ ثبت عند العلماء بالشعر أن بعض الأعراب كانوا يفتعلون الشعر ويضعون الأخبار ويجيبون عن غير علم. وقد أفرد أبو العباس المبرد لبعض منهم بابًا خصصه بأكاذيب الأعراب. وبما كانوا يروونه من أساطير وخرافات3، ومع ذلك فقد فات عليهم الكثير من هذه الأكاذيب، ودخلت كتبهم، ويمكنك التعرف على البعض منه، من دون حاجة إلى بذل مشقة أو جهد.
وقد أورد علماء الشعر أمثلة على المصنوع من الشعر من ذلك ما ذكره أبو عبيدة من أنه أنشد بشار بن برد، البيت:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
…
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
1 طبقات "14".
2 طبقات "14"، المُزْهِرُ "1/ 175".
3 المُزْهِرُ "2/ 504"، "أكاذيب الأعراب".
وهو بيت وضعه أبو عمرو الشيباني على لسان الأعشى، فقال بعلمه بالشعر وبألفاظ العرب:"كأن هذا ليس من لفظ الأعشى"1، وقد كان بشار الشاعر المعروف حاذقًا بأشعار العرب ملمًا بأساليبهم، فأدرك بسليقته وبعلمه بشعر الأعشى أن هذا البيت ليس من شعره، وقد روى الرواة أن أبا عمرو هو الذي وضعه على لسان الأعشى، وأنه اعترف بصنعه له.
وقد جاء المعري في "رسالة الغفران" بأمثلة كثيرة من أمثلة الشعر المنحول الذي صنع على ألسنة الشعراء الجاهليين. كما أشار إلى التحوير والتغيير الذي أدخله "المعلمون في الإسلام" على الشعر "فغيروه على حسب ما يريدون"2.
وروي أن قريشًا كانوا أول من وضع الشعر من القبائل في الإسلام. نظروا إلى أنفسهم، فإذا حظهم في الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثروا منه في الإسلام. قال ابن سلام:"وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان"3. ولم يكتف القرشيون بإضافة الشعر إليهم، وباستكثاره، بل عملوا الشعر على لسان شعراء المدينة للغض منهم، وذلك لما كان بينهم وبين أهل يثرب من تحاسد يعود إلى ما قبل الإسلام. وقد ذكر أن "قتادة بن موسى" الجمحي هجا "حسان بن ثابت" ونحلها "أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"4، صنعوا الشعر الغث الضعيف وأضافوه إلى شعراء الأنصار للغض من منزلتهم في الشعر.
وقد أشار السيوطي إلى أشعار، ذكر أن علماء الشعر يروون أنها من صنع خلف الأحمر، صنعها على ألسنة الشعراء الجاهليين. من ذلك اللامية المنسوبة إلى الشنفرى5، والقصيدة التي فيها:
خيل صيام وخيل غير صائمة
…
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
1 الزجاجي، مجالس العلماء "235 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "317 وما بعدها".
3 طبقات "62".
4 الإصابة "3/ 217"، "7077".
5 طبقات النحويين، للزبيدي "178 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 176".
وقد نسبها للنابغة1. والقصيدة التي فيها:
قل لعمرو يا ابن هند
…
لو رأيت القوم شنا
لرأت عيناك منهم
…
كل ما كنت تمنى2
كما روى أبياتًا ذكر أنها من صنع حماد. من ذلك قصيدة نسبها لهند بنة النعمان، من أبياتها:
ألا من مبلغ بكرًا رسولا
…
فقد جد النفير بعنقفير
وقد قال الأصمعي، إنها مصنوعة، لم يعرفها أبو بردة، ولا أبو الزعراء، ولا أبو فراس، ولا أبو سريرة، ولا الأغطش، وهي مع نقيضة لها أخذت عن حماد الراوية3.
وروي عن الأصمعي قوله: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا نتفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء"4.
ومرد نحل الشعر عند ابن سلام: إما إلى عصبية قبلية، وإما إلى رواة شعر. أما عصبية القبائل، فقد دوّنت رأيه في سببها. وأما عن رواة الشعر، فأول المزيفين للشعر في نظره حماد الراوية، الذي قال عنه:"وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار. أخبرني أبو عبيدة عن يونس. قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئًا! فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحُطَيئَة في مديح أبي موسى. فقال: ويحك يمدح الحُطَيئَة أبا موسى، لا أعلم به، وأنا أروي للحطيئة. ولكن دعها تذهب بين الناس. وأخبرنا ابن سلام، قال: سمعت يونس يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد وكان يكذب ويلحن ويكسر"5. وحماد وأضرابه في نظر "ابن سلام"
1 المُزْهِرُ "1/ 177".
2 المُزْهِرُ "1/ 179".
3 المُزْهِرُ "1/ 180".
4 مراتب النحويين "72"، شوقي ضيف، العصر الجاهلي "174".
5 طبقات "14 وما بعدها".
مزيفون ماهرون يزيفون الشعر ويصنعونه، فهم أصحاب صنعة محترفون للتزييف. أما محمد بن إسحاق، فإنه في نظره نمط آخر، نمط رجل جاهل بالشعر، دفع إليه الناس المصنوع من الشعر وكل غثاء منه، فحمله، وأدخله في السيرة، وحمل الناس عنه الأشعار، وكان عذره أنه لا علم له بالشعر، إنما يؤتى به إليه فيحمله ويدونه، ولكنه لامه على هذا الاعتذار بقوله:"ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط. وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 1.....إلخ، وقد اتهمه غيره بأنه "كان يعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه السيرة فيفعل فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر، وأخطأ في النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتابه أهل العلم الأول "وأصحاب الحديث يضعفونه"2. وألحق بهذا الصنف من رواة الشعر ومدونيه جماعة الصحفيين، الذين لم يكونوا يميزون بين الشعر، ويحملون كل ما يعطى لهم، من شعر غث أو زائف، وقد يصحفون في تدوينه، لعدم وجود علم لهم به، فهم أيضًا في جملة من أفسد الشعر.
وابن سلام الجمحي، من علماء البصرة، وأكثر حملة الشعر البصريين يتحاملون عليه عصبية، منهم لمدينتهم، لأنه من أهل الكوفة، وكان أهل الكوفة يغضون أيضًا من شأن رجال العلم البصريين ويتحاملون عليهم. وكلٌّ ينسب إلى خصمه التزييف ونحل الشعر على ألسنة الشعراء المتقدمين، وكل منهم يتهم الآخر بالتهمة التي يوجهها لخصمه من التزييف والجهل.
ولم يكن ابن سلام أول من نبه إلى وجود النَّحْل في الشعر، ولم يكن هو أيضًا آخر من وضع رأيًا في النقد، فتوقف الناس بعده. فقد سبقه الأعشى وغيره إلى هذا الرأي. ثم جاء بعده علماء كانت لهم آراء قيمة في هذا الشعر وفي
1 طبقات "14"، الفِهْرِسْتُ "142".
2 الفِهْرِسْتُ "142".
شعرائه، نجدها مدونة في كتبهم، وفي الكتب التي اعتمدت عليها، وقد نبهت ملاحظات أولئك العلماء المستشرقين الذين ظهروا في القرن التاسع عشر فما بعد، فعمدوا إلى دراستها وتحليلها، واستنبطوا منها آراءهم التي أبدوها عن الشعر الجاهلي.
وقد نبه أبو العلاء المعري إلى وجود الشعر المصنوع في "رسالة الغفران" وأشار إليه وشخّص قسمًا منه، وذكر اسم صانعيه في بعض الأحيان، فذكر الشعر المنسوب إلى "آدم" مثلا:
نحن بنو الأرض وسكانها
…
منها خلقنا وإليها نعود
والسعد لا يبقى لأصحابه
…
والنحس تمحوه ليالي السعود
وقال على لسانه: "إن هذا القول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء، ولكني لم أسمع به حتى الساعة"1.
ويقول أبو العلاء مخاطبًا آدم: "وكذلك يروون لك -صلى الله عليك- لما قتل هابيلَ قابيلُ:
تغيرت البلاد ومن عليها
…
فوجه الأرض مغبر قبيح
وأودى ربع أهليها فبانوا
…
وغودر في الثرى الوجه المليح
وبعضهم ينشد:
وزال بشاشة الوجه المليح2
ثم يضع الجواب على لسان آدم، فيقوّله:"أعزز عليّ بكم معشر أبيني! إنكم في الضلالة متهوّكون! آليت ما نطقت هذا النظيم، ولا نطق في عصري وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله! كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك إلى الأرض"3.
1 رسالة الغفران "360".
2 رسالة الغفران "362 وما بعدها".
3 رسالة الغفران "ص364".
وسأل المعري آدمَ عن لسانه، ثم أجاب عنه بقوله:"إنما كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نقل لساني إلى السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله سبحانه وتعالى إلى الجنة، عادت عليَّ العربية، فأي حين نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ "1.
ثم تراه يتحدث عن الشعر المنسوب إلى الجن، وإلى أشعار أخرى، فتراه يردها وينتقدها، ويشير إلى وجود شعر مصنوع وضع على الإنس والجن. تراه يقول: "وكنت بمدينة السلام، فشاهدت بعض الوراقين يسأل عن قافية عدي بن زيد التي أولها:
بكر العاذلات في غلس الصبـ
…
ـح يعاتبنه أما تستفيق
ودعا بالصبوح فجرًا فجاءت
…
قينة في يمينها إبريق
وزعم الوراق أن ابن حاجب النعمان سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخ من ديوان عدي، فلم توجد. ثم سمعت بعد ذلك رجلًا من أهل استراباذ يقرأ هذه القافية في ديوان العبادي، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم"2. وقد تحدث أبو العلاء المعري في "رسالة الغفران" عن القصيد التي أولها:
ألِمّا على الممطورة المتأبدة
…
أقامت بها في المربع المتجردة
مضمَّخة بالمسك مخضوبة الشوى
…
بدرٍّ وياقوت لها متقلدة
كأن ثناياها -وما ذقت طعمها-
…
مجاجة نحل في كُميت مبردة
ليقرر بها النعمان عينًا فإنها
…
له نعمة في كل يوم مجددة
فقال إنها من الشعر المنحول، نحلت على النابغة ونسبت إليه. وقال على لسانه: "فيقول أبا أمامة: ما أذكر أني سلكت هذا القري قط. فيقول مولاي الشيخ زين الله أيامه ببقائه: إن ذلك لعجب، فمن الذي تطوع فنسبها إليك؟ فيقول إنها لم تنسب إلي على سبيل التطوع، ولكن على معنى الغلط والتوهم، ولعلتها
1 رسالة الغفران "361 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "146 وما بعدها".
لرجل من بني ثعلبة بن سعد1 فيقول نابغة بني جعدة: صحبني شاب في الجاهلية ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنه من ثعلبة بن عكابة، وصادف قدومه شكاة من النعمان فلم يصل إليه. فيقول: نابغة بني ذبيان: ما أجدر ذلك أن يكون! "2. فردّ هذا الشعر، وأنكر كونه من شعر النابغة، وبيّن بأسلوب جميل رأيه فيمن نحله عليه:
وتحدث عن الكلمة الشينية المنسوبة للنابغة الجعدي، التي يقول فيها:
ولقد أغدو بشرب أنف
…
قبل أن يظهر في الأرض ربش
معنا زقٌّ إلى سمّهة
…
تسق الآكال من رطب وهش
وبعد أن دوَّنها قال: "فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشين قط رويًّا، وفي هذا الشعر ألفاظ لم أسمع بها قط: ربش، وسمهة، وخشش"3.
وتراه يتحدث عن قصيدة نسبت للأعشى، فيقول على لسان سائل يسأل أعشى قيس في الجنة عن قوله:
أمن قتلة بالأنقاء
…
دارٌ غير محلولةْ
كأن لم تصحب الحي
…
بها بيضاء عطبولةْ
أناة ينزل القوسي
…
منها منظر هوله
إلى أن يكمل القصيدة، ثم يقول:"فيقول أعشى قيس: ما هذه مما رصد عني وإنك منذ اليوم لمولع بالمنحولات"4.
وفي "رسالة الغفران" مواضع أخرى كثيرة تعرض فيها المعري لنقد الشعر، ولبيان الصحيح منه من الفاسد، تجعل الكتاب من الكتب الجيدة القديمة التي نبهت إلى وجود الصنعة والنحل في الشعر الجاهلي، والتي مهدت الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين والمحدثين فتكلموا عن هذا الموضوع بلغة العصر الجديد.
1 رسالة الغفران "207".
2 رسالة الغفران "207 وما بعدها".
3 رسالة الغفران "208 وما بعدها".
4 رسالة الغفران "211 وما بعدها".
وما ذكره المعري في رسالته يمثل رأيه ورأي من تقدم عليه من علماء الشعر في مواضع الانتحال في الشعر الجاهلي وفي نقد الشعر.
ونبه الجاحظ في كتبه إلى وجود شعر منحول، وقد نص عليه، وأشار إلى اسم من نسب له، من ذلك قوله:
"وفي منحول شعر النابغة:
فألقيت الأمانة لم تخنها
…
كذلك كان نوح لا يخون
وليس لهذا الكلام وجه، وإنما ذلك كقولهم كان داود لا يخون، وكذلك كان موسى لا يخون"1.
والنحل في الشعر ليس بأمر غريب، إذ وقع في غير الشعر كذلك، وقع ذلك طلبًا للغريب وللنادر، "ذكر بعض مشايخنا رحمهم الله أنه رأى مصحفًا منسوبًا إلى أُبي خالف بعض حروفه حروف هذا المصحف، لكنا لا نأمن أن يكون ذلك من جهة بعض من يحب الافتخار بالغريب، فإن هذه بلية قد أضرت بالدين وأخلت بمصالح المسلمين، وطرقت الملحدين إلى الطعن في أركان الإسلام، وسهلت عليهم الشغب في أمره، وقد نرى من المفتئتين نواب الملوك، وعبيد أرباب الأموال، وأبناء الدنيا إذا لم يجدوا للقرآن وعلوم الدين عندهم موقعًا فيتقربون إليهم بغرائب الكتب، وإذا أعوزهم الغريب الذي يستذرع به أخذوا بعض الكتب المعروفة يزيدون فيها وينقصون، ويقدمون ويؤخرون ويعنونونه بعنوان بعيد ليتسببوا بذلك إلى استخراج شيء منهم.
فعلى هذا النحو لا يؤمن أحدهم أن يعمد إلى مصحف فيقدم منه سورًا ويؤخر أخرى، ويحرف ألفاظًا، ثم يزعم أنه مصحف علي أو عبد الله أو مصحف أبي، وليس غرض البائس من ذلك إلا أن يحمله إلى بعض الملوك فيقول: إن خزانة مثلك يجب ألا تخلو من نسخة من كل مصحف ليستخرج من حطامه شيئًا، ولا يبالي بما كان من جناية على الدين وأهله"2.
1 الحيوان "2/ 246".
2 مقدمتان في علوم القرآن "47 وما بعدها"، "أرثر جفري"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "15".
ولم يقع نحل الشعر عند العرب وحدهم، وإنما وقع عند غيرهم كذلك. فقد وقع عند اليونان وعند الرومان وعند الفرس والعبرانيين، وهو آفة لا تزال حية، منهم من يضع على ألسنة المتقدمين، ومنهم من يسرق قول غيره فينسبه نفسه، وقد ضيقت وسائل النشر والإذاعة من سرقة آراء وأقوال الغير، وتسجيلها باسم سارق نسبها لنفسه، غير أن مشكلة تعيين أصول الشعر الجاهلي والنحل القديم، لا تزال من المشاكل المستعصية، لأن الوسائل الحديثة لا تتمكن من إحياء من في القبور واستنطاقهم عن المنحول والمسروق!
وقد وضع ابن سلام قاعدة في كيفية قبول الشعر والأخذ به، فقال:"قد اختلف العلماء في بعض الشعر، كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه" وبقوله: "وليس لأحد، إذا اجتمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي"1. وقد أبدى ملاحظات قيمة في نقد الشعر، فأشار إلى المزيف منه، وأظهر تحفظًا في قبول بعض الأشعار، لأنها منتحلة، فلما تطرق إلى شعر طرفة قال فيه: وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله:
أقفر من أهله ملحوبُ
…
فالقطبيَّات فالذنوبُ
ولا أدري ما بعد ذلك"2. وذكر أن رواة الشعر وضعوا شعرًا كثيرًا على "طرفة" و "عبيد بن الأبرص"، وكانا من أقدم الفحول، وقد ضاع معظم شعرهما لذلك، فوضعوا عليهما الأشعار3.
وأنكر أن يكون النابغة قد قال:
فألفيت الأمانة لم تخنها
…
كذلك كان نوح لا يخونُ
وذكر أن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يقل هذا الشعر4، وله ملاحظات أخرى
1 طبقات "6".
2 طبقات "116".
3 طبقات "23".
4 ابن سلام "49 وما بعدها".
من هذا القبيل، تجدها في طبقاته، فقد شك في أكثر شعر عبيد بن الأبرص، ولم يثبت لديه من شعره إلا ثلاث قصائد1.
وطريقة ابن سلام في قبول الشعر وفي صحته، هو إجماع علماء الشعر واجتهادهم، فإذا قرر علماء الشعر قبول شعر ووثقوا به وثبتوه، صار مقبولًا في نظره، لأنهم هم الذي يميزون بين الصحيح وبين الفاسد، "وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون". فالعلماء هم صيارفة الشعر يستطيعون نقده، واستخراج الزائف منه ورميه، وهو لا يبالي بعد ذلك بما روى ابن إسحاق وأمثاله من شعر "لا خير فيه ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسب مستطرف"2.
أما ما روي من شعر على ألسنة ملوك حمير وأقيال اليمن وأذوائها، فإن العارفين بالشعر الجاهلي وبأساليبه وبروايته، يرون أنه شعر لا يطمأنّ إلى صحته، وضع على ألسنة من نسب إليهم. وقد رواه أناس من أهل اليمن عرف معظمهم برواية القصص والأساطير وعرف بعضهم بروايتهم القصص الإسرائيلي. أما المعروفون بأنهم حملة الشعر ورواته من القدامى، فلم يرووا شيئًا يذكر من ذلك الشعر، وأما رجال العلم بالنحو وبقواعد العربية، فلم يستشهدوا به في شواهدهم، مما يدل على أن لهم رأيًا فيه. وقد ذكر أهل الأخبار أن ابن مفرغ يزيد بن ربيعة، وكان يزعم أنه من حمير، وضع سيرة تبَّع وأشعاره3.
وكان أول من لفت الأنظار ومهد الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين الراغبين في دراسة الشعر الجاهلي العالم الألماني "نولدكه""Theodor Noldeke" في كتابه، Beitrage zur kenntniss der poesie der Alten Araber" الذي طبعه سنة "1864م". وقد تطرق في مقدمته إلى تأريخ ونقد الشعر الجاهلي، وإلى ما ورد عن مبدأ هذا الشعر، وعن ابتدائه بالرجز. وقد ذهب إلى أن هذا الشعر الجاهلي الواصل إلينا، والمحفوظ في الكتب، لا يمكن أن يرتقي إلى أكثر من السنة "500" للميلاد. ثم تطرق إلى التطور الذي أحاق بالأفكار والآراء والمعاني الواردة في
1 ابن سلام "76 وما بعدها، 116".
2 ابن سلام "5 وما بعدها، 40".
3 الأغاني "17/ 52".
الشعر المقال في أيام الأمويين، فأبعده من هذه الناحية عن الشعر الجاهلي، فعزاه إلى الحياة الجديدة التي دخل فيها العرب في هذا العهد، وإلى التغير الروحي الذي ظهر بين العرب نتيجة خروجهم من البوادي ودخولهم أرضين خصبة، ذات عمران وحضارة، وهو تغير يفوق في نظره أثر الدين الجديد، أي الإسلام في العرب. فبينما كان الشعر الجاهلي، شعر بدوي، ظهر وترعرع بين الأعراب وفي البوادي، وكان أبطاله ورجاله، يراجعون الإمارتين الصغيرتين: إمارة المناذرة وإمارة الغساسنة، نرى هذا الشعر ينمو ويظهر في قصور الخلفاء والولاة والحكام، وهي كثيرة، فيها البذخ والمال والترف والنعيم، وحياة هذه طرازها لا بد وأن تؤثر على مشاعر الشاعر، فتجعل شعره يختلف في معانيه وفي شعوره عن معاني وشعور الشعر الجاهلي، وإن حاول الشعراء جهدهم المحافظة على القوالب الجاهلية للشعر، والتمسك بجزالة ذلك الشعر1.
ثم تحدث في مقدمته هذه عن الصعوبات التي يواجهها المرء حين يريد فهم هذا الشعر، ثم أشار إلى عمل المستشرقين الذين سبقوه في نشر وترجمة ذلك الشعر إلى لغاتهم، ثم تحدث عن تضارب الروايات واختلافها في نصوصها وعن رواة الشعر الجاهلي وعن تداخل الشعر بعضه في بعض في بعض الأحيان، بحيث يدخل شعر شاعر في شعر غيره، أو ينسب شعر شاعر لغيره2، ثم عن تغيير وتحوير الأشعار المقالة بلهجات القبائل لجعلها موافقة للعربية الفصحى، وإن كانت هذه الفروق التي كانت بين اللهجات الشمالية لم تكن كبيرة عند ظهور الإسلام. وتحدث بعد ذلك عن الشعر الوثني وعن ورود أسماء الأصنام فيه، وعن تجنب الرواة إيرادها، أو تحويرها بعض التحوير، ثم تحدث عن تعمد الرواة نحل الشعر، وحمله على ألسنة الشعراء الجاهليين، وعلى ألسنة الماضين، وعلى ألسنة الجن والملائكة.
وتطرق أيضًا إلى رأي علماء العربية في الشعر الجاهلي، وفي المعلقات، ورأي "النحاس" فيها، ثم تحدث عن تصنيف علماء الشعر للشعراء إلى طبقات، وعن
1Beltrage، S. I. f..
2 المصدر نفسه "ص v111".
الأسس التي وضعوها في هذا التصنيف1.
وبعد هذه المقدمة التي أخذت "24" صفحة من الكتاب، ترجم الصفحات الأول من كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، إلى باب "العيب في الإعراب"، وانتهى منه بقول القائل:
قل لسُليمى إذا لاقيتها
…
هل تبلغن بلدة إلا بزاد
قل للصعاليك لا تستحسروا
…
من التماس وسير في البلاد
فالغزو أحجى ما خيلت
…
من اضطجاع على غير وسادِ
لو وصل الغيثُ أبناء امرئ
…
كانت له قبة سحق بجادِ
وبلدة مقفر غيطانُها
…
أصداؤها مغرب الشمس تناد
قطعتها صاحبي حوشية
…
في مرفقيها عن الزور تعاد2
ثم تطرق في كتابه إلى شعر يهود جزيرة العرب، ثم إلى شعر مالك ومُتمِّم ابنا نُويرة، فشعر الخنساء، ودوَّن بعض النماذج من الشعر.
وقد تهيأت للمستشرقين الذين جاءوا بعد "نولدكه" موارد جديدة لم تكن معروفة في أيامه، بفضل جهود العلماء الذين بعثوها، بإخراجها مطبوعة، بعد أن كانت مخطوطة، قابعة في زوايا النسيان، بعيدة عن متناول اليد، فزاد علمهم بالشعر الجاهلي، وأحاطوا بما فات وخفي عن علم ذلك المستشرق الكبير العالم، وكونوا لهم آراءهم عنه، نشروها في مقدمات الدواوين ومجموعات الشعر التي أخرجوها، أو في كتبهم التي وضعوها في الأدب الجاهلي، وفي مقالاتهم التي نشروها في المجلات. وقد ترجمت بعضًا منها إلى العربية، ولخصت بعض
1 Beltrage، s، ix وما بعدها.
2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "6/ 46". Beltrage، 1- 42.
منها، في الكتب العربية التي تناولت الأدب الجاهلي1.
وللمستشرق "آلورد""w. Ahlwardt" ملاحظات قيّمة عن الشعر الجاهلي من حيث الصحة والصنعة والأصالة2.
وقد تعرض "بروكلمن" لموضوع الشعر المنحول فأشار إلى أثر الرواية الشفوية في الوضع، وإلى موضوع التدوين وعدم وجوده في الجاهلية، وأثره في فقدانه على انتحال الشعر، ثم قال: "ومن ثم يعد خطأ من مرجليوث وطه حسين أن أنكرا استعمال الكتابة في شمالي الجزيرة العربية قبل الإسلام بالكلية، ورتبا على ذلك ما ذهبا إليه من أن جميع الأشعار المروية لشعراء جاهليين مصنوعة عليهم، ومنحولة لأسمائهم.
ولكن بديهيًّا أن الكتابة لم تقض قضاء كليًّا على الرواية الشفوية. فقد كان لكل شاعر جاهلي كبير على وجه التقريب راوية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس، وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده.
1 للوقوف على آراء بعض المستشرقين راجع الفصل الثالث من كتاب: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، تأليف الدكتور ناصر الدين الأسد "ص352 وما بعدها"، وكتاب تأريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي، تأليف الدكتور ريجيس بلاشير، تعريب الدكتور إبراهيم كيلاني "بيروت: دار الفكر".
Th. Nolde'ke، Die Semltischen sprachen، S. 47. Th. Noldeke، Punf Mo'allaqat، Wien، 1899، 1900، D. S. Margoliouth، The Origlne of Arabic Poetry، In Journal Royal Asiatic Society، 1925، pp. 417-449، Encyclopaedae of Religion and Ethics، Vol.، 8، p. 874، G. Richter، Zur Ent-stehungs Geschlchte der Altarablschen Quaside، In ZDMG.، XCII، 1938، W. Mulr، Ancient Arabic Poetry، In JRAS، 1875، Krenkow، The Use of the Writing for the Preservation of Ancient Arabic Poetry، Cambridge، 1022، E. Braunlich، Versuch elner Literargeschichtlichen betrachtungs-weise Altarabischer Poesien، In Der Islam، XXIV، 1937، S. 201-269، G. Von Grunebaum، Die Wirklichkeite der Fruharabischen Dlchtung، Wien، 1937، G. Von Grunebaum، Zur Chronologle der Friiharabischen Dictitung، In Orlentalla، VIII، 1939، py. 328 ?45، Ahlwardt، TLJ Diwans of the Six Ancient's Arabic Poets، London، 1870، R. Geyer، Beitrage zur Kenntnis Altarabischer Dichter، in Wiener Zeltschrift fur die Kunde des Morgenlandes، XVIII، 1904، S. 5، Delitzsch، Judisch-Arabische Poesien aus Vormuham-
medanischer Zeit، Leipzig، 1874.
2 W Ahlwardt، Bemerkungen iiber die Echthelt der Alten Arabische Gedichte،
Greifswald، 1872.
وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة إلا نادرًا.
وعن الرواة كانت تنتشر الدراية بالشعر في أوساط أوسع وأشمل، بعد أن يذيع في قبيلة الشاعر نفسه. ولهذا لم يكن التحرز عن السقط والتحريف، وإن لاحظنا أن ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحدّ على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث.
ولم يبدأ جمع الشعر العربي إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين، بيد أن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللُّغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرًا غريبًا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجمَّاع أنفسهم شعراء، قد ظنوا أنه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبًا عليهم أيضًا في بعض الأحيان أن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا أيضًا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد أراد حماد الراوية أن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لأصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم أنه وجد الشعر الذي كتب بأمر النعمان ودفن في قصره الأبيض بالحيرة، ثم كشف في أيام المختار بن أبي عبيد.
لقد غير الرواة بعض أشعار الجاهلية عمدًا، ونسبوا بعض الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أن يكون وضع أشعار قديمة، منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع إثباته.
على أنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دورًا ثانويًّا. وقد روى علماء المسلمين أشعارًا للجاهليين تشتمل على أسماء الأصنام وعبادتها، وإن أسقطوا أيضًا أبياتًا أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لأن الشعور الديني لم يكن غالبًا على نفوس العرب في الجاهلية"1.
وقد جاء المستشرق "كارلو نالينو" في محاضراته التي ألقاها بالجامعة المصرية في سنة 1910-1911م، بشيء جديد في طريقة التحدث عن الأدب العربي
1 بروكلمن "1/ 64 وما بعدها".
من الجاهلية حتى عصر بني أمية، فقد عرضه عرضًا جميلًا واضحًا، مستعملا ملاحظات أئمة العربية عنه، مع بيان ملاحظاته وآرائه فيه، وقد أحدثت محاضراته هذه أثرًا في كيفية دراسة الأدب العربي، لا بمصر وحدها، بل في الأقطار العربية التي كانت تتابع ما يحدث في مصر من تطور ثقافي1.
وهو وإن لم يأت في كتابه برأي جديد مثير، إذ كانت أفكاره وسطًا في الواقع بين القديم وبين الجديد، إلا أن طريقة عرضه لآرائه وأسلوبه في بحثه وفي تحدثه عن الشعراء، كانت طريقة جديدة غريبة بالنسبة لدارسي الأدب العربي في ذلك الوقت، ولَّدت شوقا في نفوس الدارسين للأدب العربي في ذلك الوقت إلى السير على الطريقة الغربية في نقد الأدب وفي تقبله وتحليله، وأولدت الشك في الوقت نفسه في الروايات القديمة المروية عن الأدب العربي، التي كان يتمسك بها القدماء تمسكهم بنصوص كتاب سماوي مقدس، باعتبار أنها رويات تتعلق بالماضي وبالتراث، ومن التجني على العربية والإسلام التعرض لها بأي سوء، وفي جملة ذلك الشك في صحتها والنيل منها وإلحاق الأذى بها.
وتطرق المستشرق الإنكليزي "مركليوث" في بحثه: "أصول الشعر العربي""the Origins of Arabic poetry" إلى الشعر الجاهلي، وقد ذهب إلى أن أكثر هذا الشعر منحول، صنع في الإسلام ووضع على ألسنة الجاهليين. وقد أورد فيه الأدلة والبراهين التي استدل بها على إثبات رأيه. وقد لخصت آراؤه هذه ونقلت إلى العربية، فلا أجد حاجة إلى البحث عنها، ما دام غيري قد سبقني إلى هذا العمل2.
وقد رأى بعض المستشرقين أن علماء اللغة أدخلوا تغييرًا على نصوص الشعر الجاهلي، لما وجدوا أن قواعدها لا تتفق مع القواعد التي استنبطوها من القرآن والحديث، أي من لغة قريش، ولذلك عدلوها ليكون إعرابها ملائمًا لما وضعوه من قواعد النحو، وهو رأي يتناقض مع رأي المستشرقين القائلين بأن القرآن إنما نزل بلغة عربية مبينة كانت فوق اللهجات وفوق اللغات، ولم ينزل بلهجة قريش،
1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية، "دار المعارف بمصر، سنة 1970م".
2 مصادر الشعر الجاهلي "352 وما بعدها"، ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "177 وما بعدها".
ورأيهم أن ما ورد من نزول القرآن بلسان قريش، إنما هو رأي ظهر في الإسلام، ظهر ببروز النزاع الذي كان بين الأنصار والمهاجرين، أدى إلى التعصب لقريش وإلى تقديمهم على كل العرب بحجة أن الرسول منهم، وأنه ولد بينهم، فيجب أن تكون لغته لغتهم، وأن يكون نزول الوحي بلسانهم، فهو رأي برز عن نوازع دينية وسياسية، مجدت قريشًا، لأن في تمجيدهم تمجيد على رأيهم لرسالة الإسلام1.
ونظرية وقوع التعديل والتغيير والإصلاح في أصول الشعر الجاهلي، رأي قال به علماء العربية قبل المستشرقين، إذ نجد في كتبهم إشارات إلى تعديل أو تهذيب أو تغيير أحدثه أبو عمرو، أو الأصمعي أو غيرهما على لفظة أو بيت، لاعتقادهم بعدم انسجام أصل ما غيروه مع المعنى أو مع قواعد اللغة، أو لمخالفته للعروض، أو لوقوع تصحيف، فصححوا ما صححوه، بدافع عدم إمكان صدوره من شاعر جاهلي قديم. وفي رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري، أمثلة كثيرة على ذلك، وقد خطأ الأقدام على التعديل، ودافع عن وقوع الزحاف والإقواء في الشعر الجاهلي، معتبرًا ذلك شيئًا لم يكن عيبًا في الشعر عند الجاهليين، لأنه كان أمرًا مألوفًا عندهم، وقد ذكرت رأيه في مواضع من هذا الكتاب.
وتتبع المرحوم مصطفى صادق الرافعي، ما جاء في التراث العربي عن الأدب العربي، فدونه في كتابه "تأريخ آداب العرب" تدوينًا يدل على إحاطة جيدة بما جاء في كتب الأسلاف من أخبار عن الشعر وأصحابه وعن انتحاله والعوامل التي دعت إلى الغش فيه، وإدخال ما ليس منه فيه، وقد خالف رأي من قال بتعليق "المعلقات"، ومخالفته هذه تعد فتنة بالنسبة لرواد الشعر والمعجبين به بالنسبة لذلك اليوم2. ويعد كتابه من الكتب القيمة المدونة بالعربية بالنسبة لتلك الأيام، فهو رصين حوى خلاصة ما ذكره السلف عن أدب العرب، وإذا نظرنا إلى عمره يوم ألفه وإلى أسلوب دراسته، نجد أنه كان من نوادر المؤلفين في ذلك العهد.
وأحدث كتاب الدكتور طه حسين: "في الشعر الجاهلي" رجة عنيفة
1 Nicholson، A Literary History of The Arabs، p. 134.
2 تأريخ آداب العرب "1/ 365-391"، "3/ 186 وما بعدها".
في مصر وفي البلاد العربية، لما جاء فيه من آراء خالفت المألوف والمتعارف عليه عند علماء العربية آنذاك الذين كانوا يسيرون على الجادة القديمة في دراسة أدب العرب، ولما تضمنه من عبارات اعتبرت نابية فيها تهجم على المقدسات. فشكي إلى الحكومة، ورفع أمره إلى القضاء، فكان أن غيَّر عنوانه بعض التغيير فصار:"في الأدب الجاهلي"، وحذف منه فصل، وأثبت مكانه فصل، وأضيفت إليه فصول1. وقد لقي الكتاب نقدًا شديدًا في مصر وفي خارجها، من جانب المحافظين الحروفيين، إذ رأوا فيه هدمًا للتراث العربي وللمألوف المتوارث، بينما لقي قبولا حسنًا من جانب الشباب والجيل الجديد، الذين تأثروا بالمؤثرات الثقافية الحديثة وأخذوا يجاهرون بنقد الأوضاع القائمة الجامدة، وسرعان ما دخل هذا النقد ميدان العراك الذين كان قد وقع آنذاك بين المحافظين وبين المصلحين الذين كانوا يدعون إلى إصلاح المجتمع بصورة عامة وإيقاظ العقل من سباته، والذي كانوا ينادون بإصلاح كل ما يخص هذه الحياة من مادة وروح.
ووجود شعر جاهلي منحول، أو وجود شعر منحول، صنع وصيغ على ألسنة الجاهليين بتعبير أصح، قول لا يختلف فيه أحد، لا يختلف فيه علماء العربية عن المستشرقين، ولا القدماء عن المحدثين، ولا المحافظون المتزمتون عن المدعين بالتقدمية والتجديد، فكلهم مجمعون على وجوده، وكل منهم أثبت وجوده بطرقه وبأساليبه التي كانت متبعة في زمانه في طرق النقد، فهم في هذه القضية متفقون تمامًا ولا خلاف بينهم فيه، اللهم إلا في شيء واحد، هو: سعة حجم المصنوع بالنسبة إلى حجم الصحيح من الشعر، فمنهم من يزيد في نسبة حجم المصنوع حتى يغلبه على الصحيح، بل يجعل الصحيح منه شيئًا ضئيلًا، بالنسبة إليه، ومنهم من يقلل هذه النسب إلى درجات قد يصيرها بعضهم دون الشعر الصحيح بكثير.
وأول أسباب نحل الشعر: العصبية التي عبر عنها ابن سلام بقوله: "قال ابن سلام: فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم،
1 "مقدمة الطبعة الثانية"، "القاهرة 1927م".
ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار"1. من ذلك ما فعلته قريش، الذين كانوا -كما يذكر أهل الأخبار- أقل العرب شعرًا وشعراء، فلما نظروا فإذا حظهم من الشعر قليل في الجاهلية، استكثروا منه في الإسلام2.
ومن هذا القبيل ما نسب إلى قدماء أهل اليمن من شعر، وما أضافوه من شعراء وشعر، فجعلوا للتبابعة شعرًا فيه تبجح بأعمالهم وبما قاموا به من فتوح هزت الدنيا في يومها امتدت من أقصى طرف من الأرض إلى أقصى طرفها الآخر من الصين إلى روما، وإلى آخر المعمور الممتد على البحر المظلم، وفيه إيمان بالله وبملائكته، وتبشير بظهور الرسول، وأسف شديد لأنهم ولدوا قبل زمانه، فلم يسعدهم الحظ بإدراكه، وهم لو أدركوه لكانوا أول المؤمنين به، وأول المدافعين عنه، وحيث حرموا من هذه النعمة، نعمة ملاقاته لإعلان إيمانهم به أمامه، فهم يدعون من يأتي بعدهم ممن سيدرك أيامه إلى الذب عنه والدخول في دينه. فيقول "الرائش" منهم، وهو الحارث، في شعر له، ذكر فيه من يملك منهم ومن غيرهم:
ويملك بعدهم رجل عظيم
…
نبي لا يرخص في الحرام
يسمَّى أحمدًا يا ليت أني
…
أعمر بعد مخرجه بعام3
وإذا عرفت أن هذا "الرائش"، كان قد حكم قبل "بلقيس"، وبلقيس معاصرة سليمان على زعم أهل الأخبار، وقد كان حكم سليمان في حوالي السنة "969"، قبل الميلاد4، أدركت كم سيكون إذن عمر هذا الشعر المنسوب إلى الحارث الرائش، الذي لقب بهذا اللقب، لأنه كان أول من راش الناس، أي أول من غزا من أهل اليمن، وأول من أصاب الغنائم والسبي، وأدخلها اليمن، فراش الناس5.
1 طبقات "14".
2 ابن سلام، طبقات "62"، الرافعي "1/ 367"، في الأدب الجاهلي "122".
3 المعارف "627".
4 Hastings، p. 686.
5 المعارف "626".
وبالمعنى المتقدم نطق التبع "تبع بن كليكرب"، حيث قال:
شهدتُ على أحمد أنه
…
رسولٌ من الله باري النسم
فلو مدَّ عمري إلى عمره
…
لكنت وزيرًا له وابن عم
ولم يكتف أهل الأخبار بكل هذا، بل زعموا أنه كان كسا البيت وأنه قال في ذلك:
وكسوت بيت الله غير كسائه
…
حذر العقاب ليرحم الرحمن
ومقالة الحبرين واليوم الذي
…
يتلى الكتاب وينصب الميزان1
وزعموا أن التبع "تبع بن حسان"، أو "تبع الأوسط" كسا البيت الحرام وأطعم الناس بمكة، وقوّلوه هذا البيت:
فكسونا البيت الذي حرم اللـ
…
ـه ملاء معضدًا وبرودا2
فالتبابعة هم أول من كسا البيت، وأول من آمن بالله وبرسوله، كانوا مسلمين قبل ظهور الإسلام، وقبل ميلاد الرسول بعشرات المئات من السنين.
ونسبوا لذي جدن الحميري الملك شعرًا، ذكر فيه الموت، حيث يقول:
لكل جنبٍ اجتبى مضطجع
…
والموت لا ينفع منه الجزع
اليوم تجزون بأعمالكم
…
كل امرئ يحصد مما زرع
لو كان شيء مفلتًا حتفه
…
أفلت منه في الجبال الصدع
ونسبوا له أشعارًا أخرى3. وذو جدن من أذواء اليمن، والأذواء بعضهم ملوك وبعضهم أقيال، والقيل دون الملك، والمقول: القيل أيضًا بلغة أهل اليمن. وقد ذكر صاحب "خزانة الأدب" أسماء عدد من الأقيال4. فذو جدن هذا شاعر، متفلسف يذكر الناس بالموت وبما بعد الموت، حيث تجزى كل نفس
1 المعارف "631".
2 المعارف "635".
3 الخزانة "2/ 287 وما بعدها".
4 الخزانة "289 وما بعدها".
بما كسبت، ويحصد كل امرئ ما زرعه بيديه في دنياه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ولن يفلت أحد من الموت، وهيهات له ذلك.
ونجد في شعر التبابعة أشعارًا في الحكم وفي الحث على مكارم الأخلاق، وفي حروبهم وفتوحات الإسكندر والفتوحات الإسلامية فيما بعد، فتوحات سبقت الفتوحات الإسلامية بمئات من السنين، حاول صانعوها المبالغة فيها، حتى صيروا الفتح الإسلامي وكأنه ذيل لتلك الفتوح القحطانية التي زرعت "حمير" في الصين وفي تركستان، صنعوا ذلك في الإسلام، لما تبجح عليهم العدنانيون بالإسلام وبلوغه الصين والمحيط الأطلسي.
وذكر أن الشاعر "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" الحميري1، كان ممن أذاع أسطورة "تبع"، وكان يتعصب إلى اليمن2، ولعله هو الذي وضع أكثر الشعر المنسوب إلى التبابعة، وكان عبيد بن شريَّة الجرهمي، ممن صنع الشعر على ألسنة التبابعة وغيرهم، وأضافه إليهم3. ونجد في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني وفي الإكليل، وهو من كتبه أيضًا، شعرًا كثيرًا يرويه على أنه من شعر التبابعة، ومن شعر عاد وثمود، وسادات حمير، وهو مصنوع من دون شك، صنعه المتعصبون لليمن من اليمانية، وقد كانت العصبية قد أخذت مأخذها في الإسلام. والهمداني نفسه من المتعصبين لليمن قبله. وأدخله في كتبه دون أن يسائل نفسه عن كيفية وصول ذلك الشعر من أفواه قائليه إليه، مع بعد الزمن وتقادم العهد، وتكلم أهل اليمن في القديم بكلام لا يشابه كلام الشعراء.
ويدخل في هذه العصبية الشعر المنسوب إلى الشعراء في هجاء قحطان أو عدنان أي في هجاء القحطانية أو العدنانية بتعبير أدق، من ذلك القصيدة التي صنعوها على لسان الأفوه الأودي الشاعر الجاهلي، الذي هو من مذحج، ومذحج من اليمن، التي أولها:
إن ترى رأسي فيه نزع
…
وشواي خلة فيها دوار4
1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 276"، الأغاني "17/ 51"، الخزانة "2/ 210، 514".
2 الأغاني "17/ 52".
3 von Kremer، Die Sudarabische Sage، S. VII، 78، Nicholson، A Literary History of the Arabs، p. 19.
4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 149"، العيني "1/ 421"، الأغاني "11/ 41"، معاهد التنصيص "2/ 159".
وهي قصيدة فيها هجاء لبني نزار ولبني هاجر، صنعت ولا شك في الإسلام، وقد زعم أن النبي نهى عن روايتها. وإذا كانت القصيدة مصنوعة، أو أن أبيات الهجاء منها مصنوعة على الأقل، كان حديث النهي عن روايتها مصنوعًا أيضًا، لأن هذا الصنع إنما وقع في الإسلام.
ومن فرسان العصبية اليمانية الشاعر حسان بن ثابت، فقد كان من المتحاملين على قريش، ومن المتعصبين ليثرب ولليمن على قريش ومعد. مع أن الرسول نهى عن أمر الجاهلية، فكان يجالس قريشًا وهو في إسلامه، وينشد الناس ما قالته الأوس والخزرج في قريش ليشفي بذلك غليله. وكان الخليفة عمر قد نهى أن ينشد الناس شيئًا من شعر الهجاء الذي كان بين الأنصار ومشركي قريش حذر تجديد الضغائن، ومع ذلك فإن عصبية حسان لمدينته ولليمن كانت تدفعه على مخالفة ما أمر به1.
ومن هذا القبيل ما فعلته قريش بشعر حسان. فقد "حمل عليه ما لم يحمل على أحد، لما تعاضهت قريش واستبت، وضعوا عليه أشعارًا كثيرة لا تليق به"2، وقد وضعت قريش وأشياعها المتعصبون للعدنانية أشعارًا أخرى على ألسنة بقية شعراء يثرب، أرادت من وضعها الحط من شأنهم، وإلحاق السخف والركة بشعرهم وبهم، وفعل غيرهم فعلهم في إضافة الشعر إلى من كانوا يكرهونه، للنيل منه، فنسبوا إليهم شعرًا سخيفًا مشينًا، أو فيه تحامل وقدح على بعض الناس، للإساءة إليهم بظهور هذا الشعر وانتشاره.
وقد ذكر ابن سلام أن قدامة بن عمر بن قدامة الجمحي، نحل شعرًا على أبي سفيان بن الحارث للنيل منه، وأن قريشًا تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان3. وورد أن قتادة بن موسى الجمحي هجا حسان بن ثابت بأبيات ونحلها أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب4.
وكان الأنصار يقظون، واقفون لقريش بالمرصاد، وكانت قريش يقظة كذلك، إذا سمعت شاعرًا مدح الأنصار ولم يمدحها استاءت منه. فلما قدم كعب بن
1 الاستيعاب "1/ 337 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
2 ابن سلام، طبقات "52".
3 ابن سلام، طبقات "62".
4 الإصابة "3/ 217"، "رقم 7077".
زهير يثرب معتذرًا عن كفره، معلنًا إسلامه أمام الرسول، مدح قريشًا وعرّض بعض التعريض بالأنصار لغلظتهم كانت عليه، تجهمته الأنصار وغلظت عليه، ولانت له قريش، غير أنها لم ترض عن مدحه، إذ وجدته قليلًا، وأنكرت عليه ما قال، إذ قالت له:"لم تمدحنا إذ هجوتهم، ولم يقبلوا ذلك منه"1. ولما قدم الحُطَيئَة المدينة أرصدت له قريش العطايا، فعلت ذلك ليخلص لها في المدح، وليصرف مدحه عن الأنصار2.
وندخل في هذه العصبية، العصبية إلى البيوتات، فقد كان قوم سعيد بن العاص بن أمية يذكرون أن سعيدًا كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظامًا له، وينشدون:
أبو أحيحة من يعتم عمته
…
يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد
ويذكر الزبيريون أن هذا البيت باطل مصنوع3.
ولم تتورع العصبية والخصومات من الكذب عمدًا على الناس ومن الطعن في الأنساب، فلما اعترض "مزرد" أخو الشمّاخ، وكان عريضًا، "كعب بن زهير" عزاه إلى "مزينة"، وكان "أبو سُلمى" وأهل بيته في غطفان، فقال كعب بن زهير شعرًا يثبت أنه من مزينة، "وقد كانت العرب تفعل ذلك، لا يعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها، إلا قال: أنا من الذين عنيت. كان أبو ضمرة يزيد بن سنان بن أبي حارثة لاحى النابغة فنمّاه إلى قضاعة"، فقال شعرًا يثبت أنه منها4. وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، أدت إلى وقوع النسابين في أخطاء بسبب هذه الأكاذيب.
وقد ساهم الخلفاء الأمويون في هذه العصبية، ساهموا حتى في التزام العلماء والشعراء. "جمع سليمان بن عبد الملك بن قتادة الزهري، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. فقال "القحذمي": لا، لكنه
1 ابن سلام، طبقات "20 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "24".
3 المُزْهِرُ "1/ 181".
4 ابن سلام، طبقات "21 وما بعدها".
تعصب للقرشية، ولانقطاعه كان إليهم، ولروايته فضائلهم"1.
وكان معاوية يتعصب لليمن على قيس، وذلك بسبب زواجه من "كلبية"، مع أنه من عدنان. حتى صار من فرط تعصبه لليمن لا يفرض إلا لهم، ولم يزل كذلك حتى كثرت اليمن وعزت قحطان، وضعفت عدنان، فبلغ معاوية أن رجلًا من اليمن قال: هممت أن لا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشام، ففرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس. وكان معاوية يغزي اليمن في البحر وتميمًا في البر، وفي ذلك يقول النجاشي شاعر اليمن:
ألا أيها الناس الذين تجمعوا
…
بعكا أناس أنتم أم أباعر
أيترك قيسًا آمنين بدارِهم
…
ونركب ظهرَ البحرِ والبحر زاخرُ
فوالله ما أدري وإني لسائلٌ
…
أهمدان تحمي ضيمها أم يحابرُ
أم الشرف الأعلى من أولاد حمير
…
بنو مالك أن تستمر المرائر
أأوصى أبوهم بينهم أن تواصلوا
…
وأوصى أبوكم بينكم أن تدابروا
فرجع القوم جميعًا عن وجههم، فبلغ ذلك معاوية، فسكن منهم. وقال: أنا أغزيكم في البحر لأنه أرفق من الخيل وأقل مئونة، وأنا أعاقبكم في البر والبحر ففعل ذلك2.
وأوجدت هذه العصبية كثيرًا من الشعر المصنوع، روي على أنه من شعر التبابعة، صنع ولا شك في الإسلام، حين بلغت العصبية العدنانية القحطانية ذروتها في أيام الأمويين فما بعد. فلما نظر اليمانيون إلى أنفسهم، وإذا بالحكم لغيرهم. وقد كانت لهم دولة قبل الإسلام، ثم إذ بهم يحكمهم من كان دونهم في الجاهلية، أخذتهم العزة، ودفعتهم العصبية على الاحتماء بالماضي، وإعادة ذكرياته، وما كان لهم من مآثر، ولأجل توكيد ذلك وتثبيته، لجئوا إلى الشعر، ولم يكن لهم شعر في الجاهلية بهذه العربية التي نعرفها، لأنها لم تكن عربيتهم، فصنعوا شعرًا كثيرًا بهذه العربية، نسبوه إلى التبابعة، وارتفعوا به إلى عهود جاوزت الحد المألوف الذي حدده علماء الشعر، لتأريخ ظهور "القصيد" عند
1 البَيَانُ والتَّبْييُن "1/ 243".
2 الخزانة "1/ 466 وما بعدها".
الجاهليين، تجد الكثير منه مدونًا في الكتب التي تتعاطف مع اليمانية، مثل كتب الهمداني، ونشوان بن سعيد الحميري.
ولما كان هذا الشعر هو ذكريات أيام اليمن الماضية وأحوالها القديمة، وفي أخبار ملوك حمير وأعمالهم، اتخذ أسلوب القص والفخر، فكثرت أبيات القصائد أحيانًا، وارتبطت الأبيات في المعاني بعضها ببعض، نظرًا لاقتضاء طبيعة القص والأساطير ذلك، وهو يفيدنا من ناحية الوقوف على الأساطير اليمانية القديمة التي أوجدتها مخيلتهم عن تأريخهم القديم، وفي تطور أسلوب القص في الشعر.
ويظهر من عبارة الآمدي: "وهي أبيات تروى لامرئ القيس بن حجر الكندي، وذلك باطل، إنما هن لامرئ القيس الحميري، وهي ثابتة في أشعار حمير"1، أنه قد كان لحمير ديوان فيه أشعارهم، أو أن قومًا منهم أو من غيرهم جمعوا شعر حمير، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من أن يكون هذا الجمع قد وقع في الإسلام، وأن ما فيه من شعر جاهلي، هو من الشعر والمصنوع.
ومن العصبيات عصبية قريش على ثقيف. فقد كانت بين قريش وبين ثقيف خصومة، بسبب طمع أهل مكة في الطائف، وشراء سادات قريش الملك في الطائف لاستغلاله، مما جعل ثقيفًا يكرهون أهل مكة. ثم عامل آخر، ظهر في الإسلام، وهو كره أهل العراق للحجاج، مما جعلهم يذمونه ويذمون ثقيفًا معه. فزعموا أن قومه من بقايا ثمود، وذلك في أيام الحجاج. "رووا أن الحجاج قال على المنبر يومًا: تزعمون أنَّا من بقايا ثمود، وقد قال الله عز وجل:{وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 2. وذكر "الجاحظ"، زعم الناس هذا في أصل ثقيف، وذكر أن مثل ثمود كمثل بني الناصور، فقد هلكوا في الجاهلية، كما هلك غيرهم من الأمم البائدة، وذكر أن هناك من قال إن أصل "بني الناصور" من الروم3.
وقد وجدت العصبية مرتعًا خصبًا بين الموالي والعبيد، فساهموا فيها أيضًا، فلما رأى جرير "الحَيُقطان" يوم عيد في قميص أبيض وهو أسود، قال:
1 المؤتلف والمختلف "9"، "عبد الستار أحمد فراج".
2 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 187 وما بعدها".
3 البَيَانُ والتَّبْييُن "1/ 187".
كأنه لما بدا للناس
…
أير حمار لُفّ في قرطاس
فلما سمع بذلك الحيقطان وكان باليمامة، دخل إلى منزله فقال شعرًا افتخر فيه بالنجاشي وبالسودان، وبلقمان وبأبرهة وذم قريشًا ومضر، وتحامل عليهما، ففرحت اليمانية به، وأخذت تحتج به على العدنانية، واحتج بها العجم والحبش على العرب1.
ويلاحظ أن الحبش قد تعصبوا أيضًا على العرب في الإسلام، وتفاخروا بملوكهم وبأبرهة، وقد كان لازدراء الأغنياء لهم، وتسخير أصحاب المال لهم في أداء الأعمال الحقيرة، ونظرتهم إليهم نظرة ازدراء وتحقير، فلم يصاهروهم، ولم يروا أنهم أكْفَاء لهم، مثل العجم على الأقل، أثر في إثارة هذه الضغينة في نفوسهم وفي وقوفهم موقف الضد من العرب. وقد تعرض الجاحظ لذلك، فقال:"وقد قالت الزنج: من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكْفَاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدًا". ثم روى على لسانهم ما قاله بعض الشعراء مثل النمر بن تولب، ولبيد من مدح أبرهة، ثم أعقب ذلك بذكر من برز وظهر من الزنوج2.
ومن أسباب النَّحْل دوافع نشأت عن عاطفة دينية، رأت أن في نحل الشعر على ألسنة الجاهليين، عملًا ليس فيه ضرر ولا إساءة، بل فيه منفعة من ناحية التوعية الدينية والحث على التدين والتزهد، وعمل الخير والإيمان بدين الله، فروت الأشعار على ألسنة المتقدمين في التبشير بظهور الرسول، قبل ميلاده بأمد، وفي الحث على نبذ الوثنية والإيمان بإله واحد. نظم على لسان القحطانيين وعلى لسان العدنانيين، الذين عاشوا قبل الإسلام، كما نظم على ألسنة الجن والهواتف والكهنة.
ومن هذا القبيل ما قيل من شعر في التوحيد وفي الذّبِّ عن الإسلام على لسان أبي طالب وغيره، وفي مدح قريش، وجعلها القبيلة المختارة التي اصطفاها الله من بين سائر العرب ففضلها على العالمين، بأن جعلها الصفوة، وجعل لسانها اللسان الذي نزل به القرآن، فعل أصحاب الصنعة ذلك لنوازع مذهبية، ولعصبية
1 رسائل الجاحظ "1/ 182 وما بعدها"، "فخر السودان على البيضان".
2 رسائل الجاحظ "1/ 197 وما بعدها"، "فخر السودان على البيضان".
قبلية سياسية، ذات صلة بالعواطف الدينية، فلم يكن ليهون على أهل يثرب مثلا التسليم بسيادة قريش عليهم، فكان ما كان من وضع قريش الحجج التي تؤيد قريشًا في الجاهلية، وتجعلهم أفضل العرب على الإطلاق، وما كان الأنصار ليقبلوا ذلك بالطبع، فأوجد صناعهم فخرًا وسبقًا لهم على قريش، بأن قالوا إنهم الأنصار وأنهم نصروا رسول الله منذ سمعوا بالإسلام، فلما سمع أبو قيس بن الأسلت وهو من الأوس، مقالة أبي طالب:
ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم
…
وقد قطعوا كل العُرى والوسائل
حين أرادوا منه تسليمهم النبي، وأرسل إليهم قصيدة ينهى فيها قريشًا عن الحرب، ويأمرهم بالكفِّ عن رسول الله، إذ يقول:
يا راكبًا إما عرضت فبلغن
…
مغلغلة عني لؤي بن غالب
وهي قصيدة طويلة دوَّنها ابن هشام في سيرته1، إذا قرأتها خرجت منها أن صاحبها إنما أراد من صنعها على لسان ابن الأسلت إظهار أن أهل يثرب كانوا أول من من دافع عن الرسول والإسلام، وأنهم كانوا أول المؤمنين به، إذ كفرت قريش بدين الله. مع أنه مات مشركًا، ولم يثبت أنه دخل في الإسلام2.
والقصيدة بعد من صنع أناس من الأنصار، لعلهم كانوا من صلبه، وجدوا أن من السهل وضع الشعر على لسانه، فقد كان شاعرًا معروفًا، وكان من سادة يثرب ومن الوافدين على مكة، وله فيها أصحاب ودالة، وفي صنع هذا الشعر فخر للأنصار عظيم، فنسبوا له تلك القصيدة، وجعلوها جوابًا لاستغاثة أبي طالب في قصيدته التي قال ما قال فيها في حق قريش وفي تعنتها تجاه الرسول والإسلام.
ومن هذا القبيل، تطويلهم القصيدة المنسوبة إلى أبي طالب التي قيل إنه قالها في النبي، وهي:
1 سيرة "1/ 180"، "حاشية على الروض".
2 الإصابة "4/ 160"، "رقم 944"، الاستيعاب "4/ 159 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
…
ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فقد زيد فيها وطوِّلت، بحيث صار لا يعرف أين منتهاها1. وقد أورد ابن هشام أشعارًا نسبها إلى أبي طالب منها قصيدته التي رد فيها على قريش حين عرضت عليه تسليم النبي لهم، على أن يعطوه في مقابله عمارة بن الوليد، وقد دوَّنها ابن هشام، وذكر أنه ترك منها بيتين أقذع فيهما2. ومنها قصيدة:
ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم
…
وقد قطعوا كل العُرى والوسائل
وهي قصيدة طويلة، قال عنها ابن هشام:"وبعض أهل العلم ينكر أكثرها"3.
ومن هذا القبيل ما وضع من شعر في الأحداث التي وقعت بين المسلمين والمشركين في أيام الرسول، مثل معركة بدر وبقية المعارك، فقد وضع الناس شعرًا كثيرًا على لسان المسلمين والمشركين، ونجد ابن هشام يقول في تعليقه على شعر لأبي أسامة معاوية بن زهير، وكان مشركًا، وقد مر بهبيرة بن أبي رهم، وهو منهزم:"وهذه أصح أشعار بدر"4، ونجد ابن هشام، يعلق ويصحح ويشكك في صحة بعض هذا الشعر الذي أخذه من ابن إسحاق وقد طعن على ابن إسحاق لأنه أخذ مثل هذا الشعر فأدخله في السيرة، مع أنه شعر مصنوع5.
ومن هذا القبيل ما روي من أهل امرأة من حضرموت ثم من "تنعة" صنعت لرسول الله كسوة، أرسلتها مع ابنها كليب بن أسد بن كليب إلى رسول الله، فأتاه بها وأسلم، فدعا له، فقال حين أتى النبي:
من وشَزِ برهوت تهوى بي عذافرة
…
إليك يا خير من يحفى وينتعل
تجوب بي صفصفًا غبرًا مناهله
…
تزداد عفوًا إذا ما كلت الإبل
1 ابن سلام، طبقات "60"، المُزْهِرُ "1/ 179".
2 ابن هشام "1/ 171 وما بعدها"، "حاشية على الروض".
3 ابن هشام "1/ 179"، "حاشية على الروض".
4 ابن هشام "2/ 115"، "حاشية على الرَّوض الأُنُف".
5 الرَّوضُ الأُنُفُ "2/ 107 وما بعدها".
شهرين أعملها نصًّا على وجل
…
أرجو بذاك ثواب الله يا رجل
أنت النبي الذي كنا نخبره
…
وبشرتنا بك التوراةُ والرسل1
والذي نعرفه أن لسان أهل حضرموت لم يكن في هذا العهد على هذا البيان والعربية، وإنما كان على عربية حضرموت، ولا أدري إذا كان هذا الرجل يعرف شيئًا عن التوراة والرسل، أو سمع باسم التوراة وبالرسل حتى يذكرها ويذكر رسل الله في هذا الشعر.
ومن هذا النوع ما روي من شعر الجن والهواتف: من مثل الشعر المبشر بقرب ظهور نبي، كما في قصة راشد بن عبد ربه السُّلمي التي رواها عن سبب إسلامه، وما سمعه من هاتف يصرخ من جوف الصنم، بظهور نبي2، أو من شعر آخر، قيل على ألسنة الجن، في أغراض مختلفة وهو كثير، من ذلك قولهم:
وقبر حربٍ بمكانٍ قفر
…
وليس قرب قبر حربٍ قبر
وقائله مجهول. فلما رأوا أن من الصعب إنشاده ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج، قيل لهم: إنه من شعر الجن. فصدقوا بذلك3.
وذكر أهل الأخبار اسم شاعر من الجن، قالوا له:"مالك بن مالك" الجني. فقد زعموا أن خريم بن فاتك الأسدي، خرج في بغاء إبل له، فأصابها بالأبرق، فقال: أعود بعظيم هذا الوادي، فإذا هاتف يهتف:
ويحك عذ بالله ذي الجلال
…
منزل الحلال والحرام
فقال خريم:
يا أيها الداعي فما تحيل
…
أرشد عندك أم تضليل
1 ابن سعد، طبقات "1/ 350"، "وفد حضرموت".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 317".
3 البَيَانُ والتَّبْييُنُ "1/ 65".
فقال الهاتف:
هذا رسولُ الله ذو الخيرات
…
جاء بياسين وحاميمات
محرمات ومحللات
…
يأمرنا بالصوم والصلاة
فقال خريم: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا مالك بن مالك، بعثني رسول الله على جن أهل نجد1.
وروى أهل الأخبار شعرًا لشاعر آخر من الجن اسمه "مالك بن مهلهل بن إياد" ويقال "دثار"، زعموا أنه أحد من أسلم من الجن، رووا له قصة مع رافع بن عمير التميمي المعروف بـ "دعموص الرمل"، لأنه كان أعرف الناس لطريق وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، وقعت له برمل عالج، لما قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن أن أوذى أو أهاج. فهتف به هذا الجني الشاعر، وأمره أن يذهب إلى يثرب، ليسلم أمام الرسول2.
ومن ذلك ما روي من حديث عن قُسّ بن سَاعِدة، وما رواه صاحب الحديث من صوت هاتف يقول:
يا أيها الرَّاقدُ في الليل الأحم
…
قد بعث الله نبيًّا في الحرم
من هاشم أهل الوقار والكرم
…
يجلو دجنات الليالي البهم
ثم قول صاحب الحديث للهاتف:
يا أيها الهاتف في دجى الظُّلم
…
أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بين هداك الله في لحن الكلم
…
من الذي تدعو إليه تغتنم
ثم جواب الهاتف عن سؤاله بقوله:
الحمد لله الذي
…
لم يخلق الخلق عبثا
ولم يخلنا سدى
…
من بعد عيسى واكثرث
أرسل فينا أحمدا
…
خير نبي قد بعث
صلى عليه الله ما
…
حج له ركب وحثّ3
1 الإصابة "3/ 333"، "رقم 7684"، "1/ 423"، "رقم 2246".
2 الإصابة "3/ 335"، "رقم 7692".
3 الخزانة "1/ 264"، "بولاق".
وللجن أشعار، ولها مع الإنس حوار. وللأعراب خاصة في الجن قصص وحكايات، وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب يتزيدون في هذا الباب1. والحديث عن الجن من الأحاديث التي يميل لسماعها الناس لما فيها من غريب وطريف واختراع، مالوا إلى سماعها في الجاهلية وفي الإسلام، ونجد لأبي المطراد "المطراب" "عبيد بن أيوب العنبري"، وهو شاعر إسلامي، وكان لصًّا قد جنى جناية فنذر السلطان دمه وخلعه قومه، قصص وأشعار كثيرة عن الجن والوحوش، أخبر: "في شعره أنه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي، ويأكل مع الظباء"2. ونجد في كتاب "الحيوان" وفي كتب الأخبار والأدب والسير طرفًا من أشعار الجن والغيلان والسعالي، وطرفًا من أخبارهم وأحاديثهم مع الإنس.
ومن هذا القبيل ما نسب إلى "جذع بن سنان" من شعر زعم أنه جرى له من الجن، وهو:
أتوا ناري فقلت منون أنتم
…
فقالوا الجن قلت عموا صباحًا
نزلت بشعب وادي الجن لما
…
رأيت الليلَ قد نشرَ الجناحا
أتيتهم وللأقدارِ حتم
…
تلاقي المرءَ صبحًا أو رواحا
وجذع شاعر جاهلي قديم، من غسان، وهو الذي ضرب به المثل بقولهم: خذ من جذع ما أعطاك. والشعر المذكور من أكاذيب العرب3.
وللأعشى إشارة إلى الجن، بقوله:
وسخر من جن الملائك سبعة
…
قيامًا لديه يعملون بلا أجر4
وفي شعره مواضع أخرى تعرض فيها إلى ذكر الجن.
وقد تحدث المعري عن "شعر الجن"، تحدث عنهم في رسالة الغفران
1 الحيوان "6/ 164".
2 الشِّعْرُ والشُّعرَاءُ "2/ 668"، الخزانة "3/ 213"، الحيوان "6/ 165".
3 وهي من قصيدة تجدها في الخزانة "3/ 6"، "بولاق".
4 الخزانة "2/ 6"، "بولاق".
فكلم أحدهم واسمه "الخيتعور"، أحد "بني الشيصبان"، فقال له:"أخبرني عن شعر الجن، فقد جمع منها المعروف بالمرزباني قطعة صالحة، فيقول ذلك الشيخ: إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وإنما لهم خمسة عشر جنسًا من الموزون قَلّمَا يعدوها القائلون، وإن لنا آلاف أوزان ما سمع بها الإنس"1. ثم يقول الجني له: إن في الجن شعراء، من لا يعدل "امرئ القيس" أضعفهم شعرًا، ثم يروي قصيدة للمتكلم معه، وهو "أبو هدرش"2.
وروى حديثًا في رسالة الغفران عن قصص تأبَّط شَرًّا مع الغيلان، ثم أجاب على لسانه، قال له:"أحق ما روي عنك من نكاح الغيلان؟ "، ثم أجاب على لسانه بقوله:"لقد كنا في الجاهلية نتقوَّل ونتخرَّص، فما جاءك عنا مما ينكره المعقول، فإنه من الأكاذيب". ثم روى الشعر المنسوب إليه، وهو:
أنا الذي نكح الغيلان في بلد
…
ما طلّ فيه سماكيّ ولا جادا3
وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب يعتقدون بالجن، وقد تصوروهم -كما سبق أن تحدثت عن ذلك- مثلهم، قبائل وعشائر، لهم ملوك وسادات فما كانوا يروونه عنهم وعن اتصالهم بهم، يمثل حقيقة في نظرهم، وكما كان يضعه الوضاعون من شعر على ألسنتهم، يقبل ويصدق عندهم، ويسمع إليه بتلهف، ولا سيما القسم الغريب منه، إذ كانوا يتلذذون بسماعه، ويذكر معه في العادة قصص لشرح المناسبة التي قيل فيها الشعر، على طريقتهم في رواية أخبار "الأيام". فالقصص المتعلق بالجن، باب من أبواب التسلية التي كان يتسلى بها أهل الجاهلية، بل بقي من القصص المستملح المطلوب سماعه حتى اليوم.
ومن هذا القبيل، ما ورد في أيام العرب من شعر، ففي هذا الشعر ما شاء الله من المنحول. نُحِلَ تمجيدًا لقبيلة أو لبطل من أبطالها، أو للغض من شأن قبيلة معادية، اشتركت معها في قتال، وفي أخبار هذه الأيام تعصب وتحزب، ولذلك يجب النظر إليها بحذر شديد.
1 رسالة الغفران "291".
2 رسالة الغفران "295 وما بعدها".
3 رسالة الغفران "359".
وشعر الشواهد من الأبواب التي فتحت المجال لنحل الشعر. قال عنه الرافعي: "وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو"1. وقد كانوا يستشهدون بأشعار الجاهليين والمخضرمين. ونظرًا لوجود عنصر التفوق والتغلب على الخصوم وإظهار العلم، ولوجود العصبية اندفع البعض إلى افتعال الشواهد والإتيان بالغريب وبما هو غير معروف. وقد اتهم الكوفيون بأنهم كانوا أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها، لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولا يقاس عليها. ولهذا وأشباهه اضطروا إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم، وتجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر. ومن أجل هذا كان البصريون يغتمزون على الكوفيين. فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكواميخ2. على أن البصريين، لم يكونوا ملائكة بالنسبة إلى افتعال الشواهد، فقد أدلوا فيه بدلوهم كذلك، وإن قيل: إنهم كانوا أقل فعلًا في ذلك من الكوفيين. ذكر أن سيبويه سأل اللاحقي هل تحفظ العرب شاهدًا على إعمال "فعل" الصفة؟ قال اللاحقي، فوضعت له هذا البيت:
حذر أمورًا لا تضير وآمن
…
ما ليس منجيه من الأعداء3
ومن ذلك ما رواه الزجاجي في: "مجالس العلماء"، من نزاع وقع بين الطبري وبين أبي عثمان في السكين: مذكر أم مؤنث، ومن استشهاد أبي عثمان بشعر رواه الفراء، هو:
فعيث في السنام غداة قر
…
بسكين موثقة النصاب
وجوابه: "لمن هذا ومن صاحبه؟ وما أراه إلا أُخرج من الكم، وأين صاحب هذا عن أبي ذؤيب حيث يقول:
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 370".
2 الرافعي "1/ 371".
3 المُزْهِرُ "1/ 180"، الرافعي "1/ 371 وما بعدها".
فذلك سكين على الحلق حاذق"1.
ومن ذلك ما ذكره خلف الأحمر على ألسنة القدماء في ورود لفظة "عشار" في كلام العرب، إذ روى هذه الأبيات:
قل لعمرو يا ابن هند
…
لو رأيت اليوم سنا
لرأت عيناك منهم
…
كل ما كنت تمنى
إذ أتتنا فليق شهـ
…
ـبا من هنا وهنا
وأتت دوسر والملـ
…
ـحاء سيرًا مطمئنا
ومشى القوم إلى القو
…
م أحادى ومثنى
وثلاثا ورباعًا
…
وخماسًا فأطعنا
وسداسًا وسباعًا
…
وثمانًا فاجتلدنا
وتساعًا وعشارًا
…
فأصبنا وأصبنا
لا ترى إلا كميا
…
قائلا منهم ومنا
"ودلائل الوضع في هذه الأبيات ظاهرة. وكان خلف الأحمر متهمًا بالوضع"2.
ويدخل في باب نحل الشعر عامل آخر، هو الاستشهاد بالشعر لتأييد الخلافات القائمة بين المذاهب في إثبات رأي، أو في تفسير آية، تفسيرًا يؤيد رأي ذلك المذهب. فقد زعم أن المعتزلة، قالت في تفسير الآية:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} ، أي علمه، وأنهم جاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر:
ولا بكرسي علم الله مخلوق3
وهو قول وإن روي عنهم وقيل، لا أدري، إذا كان قد صدر منهم، أو أنه صنع عليهم، وقد ورد في خبر أن عبد الله بن عباس، كان يقول: الكرسي: العلم. وأنه فسر الآية بهذا المعنى. على كل فقد فسر المفسرون لفظة
1 مجالس العلماء "ص129"، "الكويت 1962"، "عبد السلام محمد هارون".
2 الخزانة "1/ 82"، "بولاق".
3 الرافعي "1/ 373".
"الكرسي" تفاسير مختلفة، وذلك تحاشيًا من الوقوع في التشبيه، من كونه تعالى يجلس على كرسي شبه كراسينا، ولذلك مالوا إلى التأويل. وذكر في رواية أخرى، أن "ابن عباس" كان يرى أن الكرسي موضع القدمين، "ومن روي عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل"1.
ونظرًا إلى ما كان للمذهبية من أثر في الناس في ذلك العهد، فلا أستبعد احتمال الوضع على ألسنة المذاهب، لذا يجب الحذر من الإسراع في التصديق بصحة الشواهد المقالة على لسان مذهب، ونقدها نقدا علميًّا دقيقًا، بالتفتيش عنها في كتب أهل ذلك المذهب، فقد يجوز أن تكون قد وضعت عليهم وضعًا، ومثل هذا الوضع شيء معروف.
ومن أبواب نحل الشعر ما قيل على لسان آدم فمن دونه من الأنبياء من شعر. فقد زعموا مثلا أن قابيل حين قتل أخاه هابيل رثاه أبوه آدم، فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها
…
فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون
…
وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم:
أبا هابيل قد قتلا جميعا
…
وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرة قد كانك منها
…
على خوف فجاء بها يصيح2
ثم ما قيل على لسان الأمم البائدة، والشعوب الهالكة مثل عاد وثمود وقوم تبع، وطسم وجديس، وزرقاء اليمامة، من أشعار زعم أنهم قالوها، وهي من نظم القصاصين وأصحاب السمر والحكايات، وعشاق الأساطير والخرافات، لما وجدوا ميلًا عند الناس إلى الاستماع لمثل هذه الأشعار. فكانوا "يأتون بمثل تلك الأشعار على وهنها وتداعيها ويعزونها إلى القدماء، ثم يزعمون إنهم أخذوها من
1 تاج العروس "4/ 232"، "كرس".
2 تأريخ الطبري "1/ 145"، تفسير الطبري "1/ 122"، "طبعة بولاق".
الصحف، ويروونها للأمم البائدة وغيرهم"1. من ذلك ما نسبوه من شعر إلى "معاوية بن بكر"، وكان في أيام عاد، مقيما بظاهر مكة خارجًا من الحرم، زعموا أنه قاله لما استثقل طول مكث وفد "عاد" وفيه "لقمان بن عاد" عليه، وألهمه إلى قينتيه لتغنيا به أمام الوفد، وهو:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
…
لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إنّ عادا
…
قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو
…
به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير
…
فقد أمست نسائهم عياما
وإن الوحش تأتيهم جهارا
…
ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتهم
…
نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
…
ولا لُقُّوا التحية والسلاما
فأجابه جلهمة بن الخيبري:
أبا سعد فإنك من قبيل
…
ذوي كرم وأمك من ثمود
فإنا لن نطيعك ما بقينا
…
ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك آل رفد
…
وزمل وآل صد والعبود
ونترك دين آباء كرام
…
ذوي رأي ونتبع دين هود2
ومن ذلك ما نسبوه من شعر إلى "مرثد بن سعد بن عفير" زعموا أنه قاله حين سمع خبر هلاك عاد، إذ قال:
عصت عاد رسولهم فأمسوا
…
عطاشًا ما تبلهم السماء
وسير وفدهم شهرا ليسقوا
…
فأردفهم من العطش العماء
بكفرهم بربهم جهارًا
…
على آثار عادِهِمُ العفاء
ألا نزع الإله حلوم عاد
…
فإن قلوبهم فقر هواء
1 الرافعي "1/ 375 وما بعدها"، الخزانة "4/ 202"، "بولاق".
2 الطبري "1/ 220 وما بعدها"، "ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم"، تفسير الطبري "8/ 154"، جمهرة أشعار العرب "41".
من الخبر المبيّن أن يعُوه
…
وما تغني النصيحة والشفاء
فنفسي وابنتايَ وأم ولدي
…
لنفس نبينا هود فداء
أتانا والقلوب مصمدات
…
على ظلم وقد ذهب الضياء
لنا صم يقال له صمود
…
يقابله صداء والهباء
فأبصره الذين له أنابوا
…
وأدرك من يكذبه الشقاء
فإني سوف ألحق آل هود
…
وإخوته إذا جن المساء1
فلما هلكت هاد، فلم يبق منهم إلا "الخلجان"، قال:
لم يبق إلا الخلجان نفسه
…
يا لك من يوم دهاني أمسه
بثابت الوطء شديد وطسه
…
لو لم يجئني جئته أجسه2
ورووا شعرًا لأحد شعراء ثمود اسمه "مهوس بن عنمة بن الدميل" هو قوله:
وكانت عصبة من آل عمرو
…
إلى دين النبي دعوا شهابا
عزيز ثمود كلهم جميعا
…
فهم بأن نجيب ولو أجابا
لأصبح صالح فينا عزيزا
…
وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكن الغواة من آل حجر
…
تولوا بعد رشدهم ذنابا3
ويروي أهل الأخبار أنه قد كان لأهل الجاهلية شعر كثير قيل في عاد وثمود وأمورهم، يأتون به دليلًا على شهرة أمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام4. من ذلك ما أوردوه على لسان "أفنون" التغلبي، من قوله:
لو أنني كنت من عاد ومن إرم
…
غذيّ سخْل ولقمان وذا جدان5
ومن هذا القبيل ما نسب إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض" الجرهمي، وإلى "الحارث بن مضاض"، من شعر. وهو عند أهل الأخبار أحد المعمرين
1 الطبري "1/ 223 وما بعدها".
2 الطبري "1/ 224".
3 تفسير الطبري "8/ 159"، "بولاق".
4 الطبري "1/ 232".
5 الزجاجي، مجالس العلماء "42".
القدماء، زعموا أنه قال شعرًا لما أجلت "خزاعة""جرهم" عن الحرم، هو:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
…
صروف الليالي والجدود العواثر
وزعموا أنه مد في عمره إلى أن أدرك الإسلام1.
ونجد في شعر "النمر بن تولب" ذكر "لقمان"2. ونجد في أشعار شعراء آخرين إشارات إلى هؤلاء وغيرهم ممن كانت تذكرهم الأساطير وتروي أخبارهم الناس، على نحو ما نسمعه من العجائز عن قصص الماضين، وقد أشرت إلى أسماء بعض منهم في ثنايا هذا الكتاب.
وقد سبق أن ذكرت أن هذا النوع من الأساطير، لم يفت على بال بعض العلماء النقدة، وأنهم أشاروا إلى أنه من صنع جماعة من صناع الأساطير والقصص، فقد قال "ابن سلام":"وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل منه كل غثاء محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير والمغازي، قبل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به فأحمله، ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء، فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة وليست بشعر إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ ألوف من السنين؟ والله تعال يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي لا بقية لهم. وقال أيضًا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . وقال في عاد: {هَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . وقال: وقررنا بين ذلك كثيرًا"3.
ولكن أوسع وأظهر أبواب نحل الشعر، هو ما وضعه رواة الشعر على ألسنة الشعراء الجاهليين، وهو ما دعاه "الرافعي": ب "الاتساع في الرواية".
1 المرزباني، معجم "10"، ابن هشام، سيرة "1/ 82 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/80 وما بعدها".
2 الخزانة "4/ 441"، "بولاق".
3 المزهر "1/ 173"، "النوع الثامن: معرفة المصنوع".
ونقصد به ما صنعه الرواة من وضعهم قطعًا وقصائد على ألسنة الشعراء الجاهليين لم يقولوها، ومن إضافتهم أشعارًا على قصائد الجاهليين، أو إدخال شعر شاعر في شعر غيره: هوى وتعنتًا1. فهذا الباب هو أخطر أبواب نحل الشعر وأوسعها وأهمها، ويغطي معظم الشعر المنحول. صنعوه، لرواج سوق الشعر الجاهلي في تلك الأيام وللطلب الكثير الذي كان إذ ذاك عليه. وللربح الذي كان يجنيه حامله من روايته، مما حمل الرواة على وضع الشعر بصوغه على قوالب الشعر الجاهلي وعلى مضامينه وطرقه في التنقل في القصيدة، وقد أجاد فيه أساتذة الصنعة من أمثال "حماد" الراوية و "خلف" الأحمر، وليس في الرواة جميعًا من يدانيهما في الصنعة وإحكامها، فهما طبقة في التأريخ كله2.
ومن أمثلة المصنوع أبيات مطلعها:
قل لعمرو يا ابن هند
…
لو رأيت القوم شنا
أنشدها خلف الأحمر، وهي مصنوعة3.
ومن أمثلة التطويل في الشعر، ما فعلوه بأبيات الطيرة للحارث بن حلزة، وهي أربعة أبيات، ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة. والأبيات هي:
يا أيها المزمع ثم انثنى
…
لا يشك الحادي ولا الشاحج
ولا قعيد أعضب قرنه
…
هاج له من مربع هائج
بينا الفتى يَسْعَى ويُسعى له
…
تاح له من أمره خالج
يترك ما رقح من عيشه
…
يعيش منه همج هائج4
وروي أن قول الأعشى:
كتميل النشوان ير
…
فل في البقيرة وفي الأزارة
1 الرافعي "1/ 379".
2 الرافعي "1/ 383".
3 المزهر "1/ 178 وما بعدها".
4 الرافعي "1/ 384".
هو من قصيدة مصنوعة1. وروى "أبو عبيدة" عن "أبي عمرو"، أنه قال: والله ما كذبت فيما رويته حرفًا قط، ولا زدت فيه شيئًا إلا بيتًا في شعر الأعشى، فإني زدته، فقلت:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
…
من الحوادث إلا الشيب والصلعا2
وروي أن "حمادًا كان يقول: ما من شاعر إلا وقد حققت في شعره أبياتًا فجازت عنه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت. قيل له: وما البيت؟ فقال:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت"3.
فأنت أمام روايتين متناقضتين، رواية تنسب وضع البيت إلى "أبي عمرو بن العلاء"، ورواية تنسب وضع ذلك البيت إلى "حماد". وسبب التناقض العصبية ولا شك.
ويجب أن نضيف على الشعر المصنوع على ألسنة الجاهليين، الشعر الذي وضع على ألسنة الصعاليك واللصوص، فقد كان الناس يتسقطون أخبار هؤلاء ويتلذذون بسماع مغامراتهم وسطوهم، شأن الناس في كل وقت ومكان من الميل إلى التلذذ بسماع مثل هذه الأخبار، وهذا ما حمل صناع الأخبار والأساطير على وضع الشعر على ألسنة الصعاليك واللصوص لتزيين أخبارهم وترصيعها به، على طريقتهم في رواية أيام العرب وأخبارهم، وفي شعر هذه الطبقة شعر كثير مصنوع.
وهناك شعر وضع للتسلية وللهو من ذلك شعر الفسق والمجون، من ذلك ما نسب إلى "ابنة الخس" من قول، هو:
سلوا نساء أشجع
…
أي الأيور أنفع
أألطويل النعنع
…
أم القصير المردع
أم الذي لا يرفع
…
أم الأسك الأصمع
1 الزجاجي، مجالس العلماء "130".
2 الزجاجي، مجالس العلماء "235".
3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 383 وما بعدها".
في كل شيء يطمع
…
حتى القريص يصنع1
وابنة الخس، في زعم أهل الأخبار، جاهلية قديمة من إياد، أدركت القلمس، أحد حكام العرب، "ولها أسجاع كثيرة وشعر قليل. وكانت تحاجي الرجال" إلى أن حاجها رجل، فقال لها قولًا بذيئًا أخجلها، فتركت المحاجاة2. وأورد الشريف "المرتضى" لها أجوبة عن أسئلة معضلة محيرة، لتحزر جوابها، وذكر أجوبتها، رواية عن "ابن الأعرابي"3.
والشعر الذي نسبه "أبو محمد ثابت بن أبي ثابت" إليها، هو من الشعر المصنوع بالطبع، وضع على لسان "ابنة الخس"، وقد نص "تاج العروس" على أن قائله "جارية كانت جلعة"4، وهو من وضع المُجّان، الذين كانوا يتلذذون بسماع هذا النوع من المجون.
وكان "ابن أبي كريمة"، يصنع الشعر وينحله بعض شعراء البادية، كما صنع في قصيدة له في وصف الفأر، نحلها "يزيد بن ناجية" السعدي، "وكان لقي من الفأر جهدًا، فدعا عليهن بالسنانير"، وكان يصطنع شعر الفكاهة، ويحاكي فيه "الحكم بن عبدل" الأسدي5. وهناك كثير من أضرابه، ممن وضع الشعر للتسلية وللتفكهة على ألسنة الأعراب والشعراء الجاهليين.
وقد وضع "خلف الأحمر قصائد عدة على فحول الشعراء، ذكروا منها قصيدة الشنفري المشهورة بلامية العرب. وروي عن الاصمعي قوله: سمعت خلقًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها:
خيل صيام وخيل غير صائمة
…
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما6
1 كتاب خلق الإنسان "279"، "لابن أبي ثابت"، المخصص "2/ 31"، اللسان "8/ 271"، "قرضع"، "لم يذكر اسم قائله"، "8/ 358"، "ولم يذكر اسم قائله كذلك"، تاج العروس "5/460"، "قرصع"، "قاله أبو عمرو، وأنشد لجارية كانت جلعة"، "5/ 527"، "نعنع".
2 بلوغ الأرب "1/ 239".
3 أمالي المرتضى "1/ 220".
4 تاج العروس "5/ 527"، "نعنع".
5 البخلاء "282 وما بعدها"، "الحكم بن عبدل" من شعراء أيام الأمويين.
6 الرافعي "1/ 381".
ومما يدخل في هذا الباب أننا نجد بيتًا أو أبياتًا تنسب في أحد الموارد لشاعر، بينما نرى ديوانه خاليًا منه أو منها، من ذلك ما رواه "المعري"، من أنه لما كان ببغداد، شاهد بعض الوارقين يسأل عن قافية "عدي بن زيد" التي أولها:
بكر العاذلات في غلس الصبـ
…
ـح يعاتبنه أما تستفيق
وزعم الوراق أن بعض طلاب شعر هذا الشاعر سأل عن هذه القصيدة، وطلبت في نسخ من ديوان "عدي" فلم توجد. ثم سمع بعد ذلك رجلًا من أهل "استرباذ" يقرأ هذه القافية في ديوان "العبادي"، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم1. وذكر أشياء أخرى من هذا القبيل، تراها في كتاب أو في نسخة من نسخ ديوان الشاعر، بينما لا تراها في نسخ الديوان الأخرى، مما يدل على أن الدواوين لم تكن متفقة في النص، وأنها رويت بروايات مختلفة، وأن في بعضها ما يزيد على البعض الآخر2.
ونحل الشعر، وإن وقع وحدث، غير أن أمره لم يفت على بال العلماء المهرة الحاذقين، ودليل ذلك، ما نجده في كتبهم من الإشارات إلى المنحول والمصنوع من الشعر، ومن نصهم عليه، وإن فات عليهم بعضه، ومن نصهم على المنحول ومن ملاحظاتهم تلك أخذ المستشرقون والمحدثون من العرب آراءهم في الشعر الجاهلي، فما أورده "ماركليوث" مثلا من نقد على الشعر الجاهلي، أو ما أورده "الدكتور طه حسين" من رأي فيه، ليس فيه شيء جديد، وجديده الوحيد، هو في التهويل بمقدار المغشوش من هذا الشعر، أما من حيث المبدأ، أي من حيث وجود شعر منحول فاسد، في الشعر الجاهلي، فالقدماء والمحدثون والمستشرقون متفقون في ذلك، وخلافهم الوحيد، هو في مقدار نسبة الفاسد من الشعر بالنسبة إلى الصحيح.
فما قيل عن نحل الشعر إذن هو قول قديم. روي عن الأصمعي أنه قال: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس، فهو من حماد الراوية إلا نتفا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء"3. وروي عن "حماد" الراوية قوله:
1 رسالة الغفران "146 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "513".
3 مراتب النحويين، لأبي الطيب اللغوي "72".
"دخل علينا ذو الرمة الكوفة، فلم نر أحسن ولا أفصح ولا أعلم بغريب منه. فغم ذلك كثيرًا من أهل المدينة، فأرادوا الكيد له بامتحانه، فصنعوا شعرًا على ألسنة بعض الجاهليين، وأنشدوه إياه، فعلم ذلك "ذو الرمة" بعلمه وبمعرفته للشعر الجاهلي، أنه شعر مصنوع، فقال لهم: "ما أحسب أن هذا من كلام العرب"1.
وقد زيد في شعر "امرئ القيس" كثيرًا، وقد عده علماء الشعر من المقلين، وجعل بعضهم الصحيح من شعره نيفًا وعشرين شعرًا بين طويل وقطعة2. وفي جملة ما نسب إليه القصيدة المسمطة، وهي:
توهمت من هند معالم أطلال
…
عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصايف
…
يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف
…
وكل مسف ثم آخر مرادف
بأسحم من نوء السماكين هطال3
ونرى "ابن سلام" يقول: "ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد. والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك. فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير، ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة"4. ولما تحدث عن "عبيد بن الأبرص" قال: "عبيد بن الأبرص، قديم عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله:
أقفر من أهله ملحوب
…
فالقطبيات فالذنوب
1 الأغاني "16/ 117".
2 العمدة "1/ 105".
3 العمدة "1/ 176".
4 طبقات "10 وما بعدها".
ولا أدري ما بعد ذلك"1. فهو مع علمه الواسع بالشعر، واستشهاد العلماء بكلامه وبآرائه في الشعر، لا يعرف لعبيد غير هذا الشعر، مع العلم بأنه قد توفي سنة "231هـ"، وفي أيامه كان الناس يموتون في طلب الشعر الجاهلي. ونجد "ابن قتيبة" المتوفى بعده "270هـ"، يذكر له شعرًا مطلعه:
يا عين فابكي بني
…
أسد هم أهل الندامة2
ثم قوله مخاطبًا امرأ القيس:
يا ذا المخوفنا بقتل أبيه إذلالا وحينا
أزعمت أنك قد تلت سراتنا كذبا ومينا3
ثم قوله:
هلا سألت جموع كندة يوم ولّوا هاربينا4
وقد ذكر "ابن سلام" أن الرواة قد وضعوا على "عدي بن زيد"شعرًا كثيرًا، وعلل ذلك بقوله:"وعبيد بن زيد، كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فلان لسانه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد. واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله أبع قصائد غرر روائع مبرزات، وله بعدهن شعر حسن"5. ولابن قتيبة هذا الرأي فيه، حيث يقول: "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جدًّا، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة. وله أربع قصائد غرر"6. وذكر نقلا عن "أبي عبيد" عن "أبي عمرو بن العلاء" أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانيًّا من عباد الحيرة، قد قرأ الكتب"7.
1 طبقات "11، 31".
2 الشعر والشعراء "1/ 50"، ديوان عبيد "125".
3 الشعر والشعراء "1/52"، "ديوان عبيد "136".
4 الشعر والشعراء "1/58".
5 طبقات "31"، العمدة "1/ 104".
6 الشعر والشعراء "1/150".
7 الشعر والشعراء "1/ 154".
وقد تعرض القدماء لموضوع الشعر المقال على ألسنة الأمم القديمة وملوكها، فرفض "ابن سلام" ذلك الشعر، بقوله:"وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف، وذلك يدل على إسقاط عاد وثمود وحمير وتبع"1. إذن فما أضيف إلى هؤلاء وإلى أهل اليمن هو شعر منتحل.
ومن أصحاب البصر والنظر في الشعر: "خلف الأحمر". "وقد كان أبو عمرو بن العلاء وأصحابه لا يجرون مع خلف الأحمر في حلبة هذه الصناعة، أعني النقد، ولا يشقون له غبارًا، لنفاذه فيها، وحذقه بها، وإجادته لها"2. وعلمه بالشعر، جعله من كبار الوضاعين له على ألسنة الجاهليين.
وبعد، فإننا لا نستطيع بالطبع التصديق بصحة الشعر المنسوب إلى آدم والجن والتبابعة وأهل العربية الجنوبية وغيرهم ممن لا يعقل قولهم الشعر العربي، وإن نص على صحة ذلك الشعر، ورواه العلماء. أما سبب رفضنا قبول الشعر المنسوب إلى أهل العربية الجنوبية من ملوك وأقيال ورؤساء، فلأنهم كانوا يتكلمون ويكتبون كما هو ثابت لدينا من نصوصهم بلغة تختلف عن لغة الشعر المألوفة، ولو تصورنا أنهم كانوا ينظمون الشعر بلغة الشعر المعروفة، ويكتبون ويتكلمون بلغة أخرى، فإننا نكون قد قلنا برأي مخالف للمعقول وللمنطق، ونكون قد أوجدنا لهم لغة للشعر ولغة للنثر، وهو افتراض لا يمكن لأحد إثباته، ثم إن لغة التدوين تكون في العادة لغة الأدب عامة من شعر ومن نثر، لذا فإذا قفلنا بوجود شعر جاهلي للعرب الجنوبيين، قلنا يجب أن يكون هذا الشعر بلغتهم، لا بلغة هذا الشعر الجاهلي الذي نتحدث عنه.
وبعد، فلعل قائلًا يقول: وما فائدة الشعر الجاهلي إذن، إذا كان هذا شأنه فيه المنحول والفاسد، وما يشك في أصله والجواب: إن العلماء، وإن اختلفوا فيه، مجمعون ومتفقون على أن رواة هذا الشعر وحملته كانوا من أعلم الناس بالجاهلية: بأخبارها وبأيامها وبأنسابها، وبأنهم كانوا من أمرس الناس بالشعر الجاهلي وبطرقه ودروبه، فهم إن وضعوا ولفقوا، أو كيفوا، فإنهم لا يضعون عن جهل وعمى، بل عن علم وفهم بالجاهليين وبمذاهبهم في نظم
1 طبقات "11".
2 العمدة "1/ 117".
الشعر والتفسير، ولا سيما أن العهد بينهم وبين الجاهلية لم يكن طويلًا، وأن الأخذ عمن شهد الجاهلية أو أخذ منهم وسمع كان ممكنًا يسيرًا، ومن هنا كان ما رووه من شعر جاهلي مادة مهمة للمؤرخ مهما قيل في أمره.
ثم إننا حين نروي الشعر الجاهلي، فلا نرويه أو ننشده، أو نحفظه لأنه شعر مقدس، لا يجوز أن يمسه أحد بسوء، وأنه تراث خالد، إذا تعرض له إنسان أو تحرش به، فإنما هو يتعرض لأثر تأريخي قديم من آثار هذه الأمة، وإنما نرويه على أنه من مرويات العلماء، وأنه مهما قيل فيه وفي أصله، فإنه يحاول أن يصور لنا أحوال زمن سبق الإسلام، وهو زمن مهم جدًّا بالنسبة لنا، لاتصاله بالإسلام، ولقيام الإسلام عليه، ولكونه فصولًا متقدمة مجهولة من كتاب ناقص، ضاعت فصوله الأولى، هو كتاب في تأريخ العرب منذ القدم إلى هذا اليوم، فإذا فقدنا الأصول، فلا بأس بالتسلي بما نسبه المتأخرون على الأقل إلى المتقدمين، مهما كان بعد هذا المنسوب عن الصحة والحق، ومهما كانت نسبة الباطل فيه كبيرة، وحتى إذا كانت النسبة مائة بالمائة، وهي نسبة نبالغ فيها بالطبع، لا أعتقد أن أحدًا سيراها، مهما بلغ به الشك والحذر بالنسبة إلى أصالة الشعر الجاهلي، ومن هنا فإن النزاع الجائر حول صحة الشعر الجاهلي، والذي سيبقى مثارًا قائمًا، حتى يظهر أثر جاهلي مكتوب، وعندئذ فقد يحسم شيئًا من مواضع الخلاف المؤلفة لهذا النزاع، يجب ألا يحملنا على الابتعاد عن هذا الشعر، باعتبار أنه لا يمثل الجاهلية تمثيلًا صحيحًا، وأنه شعر مكذوب منحول، وإنما يجب أن يدفعنا -على العكس- إلى الاهتمام به، باعتبار أنه من أقدم الآثار التي وصلت إلينا، المدون في الإسلام. وأنها إن كانت منحولة، فإن نحلها على ألسنة الجاهليين، نحل قديم، يعتبر تأريخيًا من أقدم المنحولات الواصلة إلينا في المدونات الإسلامية، وأنها تمثل صنعة وصناعة صناع، حاولوا تقليد الماضي، على ما وصل خبره إليهم، فصاغوه على تلك الصياغة، فهو أثر أصيل لأقدم مصنوعات ومحاكاة وتقليد لآثار قديمة لها صلة بتأريخ العرب القديم.
وأرى في الوقت نفسه أن من الضروري وجوب تقصي الأخبار عن الشعر المصنوع، وتتبع المراجع للوصول إلى أقدم مرجع ورد فيه كل شعر مصنوع، وتسجيل الأبيات والقطع والقصائد التي ترد لأول مرة في أقدم مورد من الموارد، والنص على اسم المورد، وعلى سنده إن كان مذكورا، لنتمكن بهذه الدراسة
من الوصول إلى اسم صانع الشعر، أو الزمن الذي ظهر فيه ذلك الشعر إن كان الاسم مجهولًا، كما نقوم بتسجيل الموارد التي يرد فيها شعر الشعراء، وما اختلفت فيه بعضها عن بعض من حيث الألفاظ، أو ترتيب الأبيات، أو عددها، ثم أسماء من نسب إليهم تلك الأشعار، فقد ينسب الشعر الواحد إلى جملة شعراء، وتسجيل أسماء من روي ذلك، واسم المصدر، وبذلك نكون قد قمنا بدراسة علمية قيمة عن الشعر المصنوع وعن الشعر الأصيل الذي لم يشك في أصالته عالم من علماء الشعر، ثم نعرض النتائج للبحث بأساليب النقد الحديث لاستخراج الزائف منه، ولاستبعاد صدور بعضه من الشعراء الجاهليين، نفعل ذلك حتى في حالة عدم ورود رواية لعالم قديم تشك في صحة شعر، لأن سكوت العلماء عن الشك في شعر، لا يكون حجة على صحة ذلك الشعر.