الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الإيمان
[1]
قوله (صلى الله عليه وسلم): (إنما الأعمال بالنيات
…
) الحديث يرويه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه.
النية: العزيمة، وهي قصد القلب وتوجهه على الشيء. أشار صلى الله عليه وسلم بكلمة (إنما) إلى أن قوام الأعمال بالنيات وأن لا عبرة بالأعمال إذا خلت عن النيات؛ لأنها العاملة بركنيها إيجابا ونفيا، فبحرف التحقيق تثبت الشيء وبحرف النفي تنفى ما عداه وهذا كما يقال: إنما الأجساد بالأرواح، أي قيام الأجساد وحيويتها بالأرواح.
ولو قيل إنه أراد به [
…
] فله وجه محمل، كما يقال: إنما المرء بأصغريه. وليس في هذا القول تعريض بتهوين أمر النية وإنما فيه التنبيه على استخلاصها عن النقائص والإتيان بها على صفة الكمال.
وقوله (صلى الله عليه وسلم): (وإنما لامرئ ما نوى) يؤكد كلا المعنيين، ويشير إلى أن حس القبول منوط بحسن النية، ومقادير المثوبات على مراتب النيات في قوة العزيمة والتخلص عن شوائب الرياء، والتجرد عن دسائس الهوى.
وقوله صلى الله عليه وسلم (فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله) أي فمن كانت نتيه في الهجرة الهجرة إلى الله وإلى رسوله فهي كما نواها، فهجرته إلى الله وإلى رسوله. (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها): دنيا: مقصورة غير منونة؛ لأنها على بناء فعلي؛ فلا يجوز فيها التنوين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أو امرأة يتزوجها): لهذا القول سبب رواه جمع من أئمة الحديث في كتبهم عن عبد الله ابن مسعود- رضي الله عنه وهو أنه قال: هاجر رجل من مكة إلى المدينة بسبب امرأة يقال لها أم قيس فقالوا له هذا مهاجر أم قيس. فكأنه صلى الله عليه وسلم عرض بهذا القول توبيخا على صنيعه وتنبيها له على الإنابة عن ذلك، وتذكيرا لأهل الاعتبار.
أورد الشيخ هذا الحديث في عنوان كتابه تأسيا بجمع من العلماء استحبوا تقديم هذا الحديث في كتبهم تفاؤلا بحسن النية وتيمنا بهذا الحديث منهم البخاري رحمة الله عليهم.
[2]
حديث عمر بن الخطاب: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذ طلع علينا بين أوقات جلستنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينا: فعلى. أشبعت الفتحة فصارت ألفا، وبينما: زيدت عليها (ما). والمعنى واحد.
يقول: بينا نحن نرقبه أتانا. أي أتانا بين أوقات رقبتنا إياه.
وفيه: (إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب).
قد علمنا بهذا الحديث وبما ورد في معناه من الأخبار الصحيحة التي تنقطع العذر دونها؛ لحصول التواتر فيها أو في جنسها أن جبريل- عليه السلام كان يتمثل بشرا، وتلك الهيئة لم تكن مختصة به لما ثبت من نزول الملائكة يوم بدر ويوم حنين وفي غزوة الخندق وغزوة بني قريظة للنصرة متمثلين في صورة الرجال، وقد شهد التنزيل بأن الملك يتمثل بشرا، قال الله تعالى:{فتمثل لها بشرا سويا} .
ولكن هل لعموم الملائكة التجلي في صورة البشر أم لا؟ فسبيل ذلك التوقيف وإن كان العقل يجوزه، أو يحكم به؛ لأن الوقوف على أمثال ذلك مقطوعا به لا يحصل إلا من طريق النبي صلى الله عليه وسلم، ومقولات أبناء الضلالة في هذه المسألة بمعزل عن ذلك.
مذهب أهل الحق أن الملك إذا تجلى في صورة بشر فذلك بأمر الله- تعالى- وتكوينه لا بقوة الملك وتصرفه في ذاته وقدرته على ذلك واختياره فغنه مقدور مقهور لا يقدر على شيء من ذلك والله القادر على كل شيء.
ولو اعتبرت المناسبة بين الهيئة التي تراءى فيها الملك وبين الحالة التي كان عليها لسوغ أن يقال: شدة بياض الثياب لصفاء الأعمال وكمال النورانية، وشدة سواد الشعر مناسب لكمال القوة الملكية.
وفيه إشارة إلى طلب العلم في ريعان الإدراك، وعنفوان الشباب، وإلى إيثار النظافة والنقاوة للحضور في المجالس السادة.
قوله: (ووضع يديه على فخذيه): الضمير في يديه وفخذيه يعود إلى جبريل، عليه السلام، ولو ذهب مؤول إلى أن الضمير في فخذيه عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه لما يدل عليه نسق الكلام من قوله (وأسند ركبتيه إلى ركبتيه) غير أنا نذهب إلى الوجه الأول؛ لأنه أقرب إلى التوقير، وأشبه بسمت ذوي الآداب.
ونقوا: إن الراوي استغنى في الكلمتين الأوليين عن الإيضاح بإضافة الثانية إلى مظهر اتكالا على ما
في الركبتين من البيان؛ ثم إنه أجرى الكلمتين الأخريين على تلك الوتيرة معمولا في ذلك على فهم السامع الذي أخبرناه.
قوله صلى الله عليه وسلم في بيان الإيمان: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته
…
الحديث).
هذا حديث جامع لأصول الدين. ولو آثرنا إشباع القول في بيان مسائل الإيمان، واستقصينا البحث عن مواقع الخلاف بين أهل العلم وأهل اللسان؛ كنا قد تعدينا عن شريطة الإيجاز في البيان؛ ثم إن الحديث ذو شجون والأنفاس غير متناهية.
والأولى والأمثل لأمثالنا أن نكتفي بما اتفق عليه الأمينان:
أمين أهل الأرض، وأمين أهل السماء عليهما السلام.
ولقد رأينا أن نستكشف عن حقيقة معنى لفظ الإيمان من طريق الوضع والاشتقاق ليكون طالب معنى الحديث منه على بصيرة، فنقول: الإيمان مشتق من الأمن وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف، والتصديق والتحقيق هو الغرض المبتغى عنه عند الإطلاق؛ لأن ما اعتقده الإنسان وصوره في نفسه يدخل فيه الشك واليقين، وما سمعه يحتمل الصدق والكذب؛ لأن الأمر والنهي كل واحد منهما بالنسبة إلى المخاطب به قول يتردد بين الرد والقبول، فمن عرف حقا فأيقن به حتى يجد في نفسه استحالة أن يكون باطلا فكأنما آمن نفسه أن يعتريه فيه شك أو يصده عنه شبهة، ومن سمع خبرا واعتقد أنه صدق حتى لا يستشعر عن نفسه جواز أن يكون كذبا فكأنما آمن نفسه باعتقاد ما اعتقده فيما ألقى من أن يكون مكذوبا أو ملبسا عليه.
ومن بلغه أمر أو نهي فاعتقد فيه الطاعة حتى لا يرى لنفسه في الترك أو الإتيان مسلكا؛ فكأنما آمن نفسه باعتقاد ما اعتقده فيما أبلغ إليه من أن يكون مظلوما أو محمولا على ما لا يجب قبوله.
وعليه فقول المؤمن: آمنت: أي حق لي ما رأيته بقلبي وأدركته بعقلي وبدا لي صدق ما سمعته بأذني فآمنت نفسي عن الخطأ فيه والارتياب وآمنت الداعي لي إلى سبيل الرشاد عن التكذيب والشقاق بما أضمرت له وأظهرت له من التصديق والوفاق والإيمان بإثبات الباري سبحانه وإثبات وحدانيته وقدمه وعلوه عن سمات الحدوث، وتفرده بالإبداع والاختراع وإثبات أن وجود كل ما سواه كان بعد إيجاده، وأنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما يشاء، وإن كان تقتضيه العقول السليمة، ويستعد لقبوله الأوضاع الفطرية؛ فإن سبيل الوقوف على أسماء الله تعالى وصفاته وموجبات مرضاته وسخطه والاستعداد للمعاد في النشأة الثانية، وغير ذلك من الأمور التي لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيها بذاتها العقول هو التوقيف من عند الله بواسطة الأنبياء عليهم السلام، وإنما انتهى علم ذلك إليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقد بعثهم الله تعالى إلى عباده بذلك تنبيها لهم على ما ندبوا إليه للبعث بعد الموت. وقد أخبر الله تعالى أنه عالم بما هم عاملون له، وحاكم بما هم صائرون إليه، ولا يمكن أن يكون خلاف ما علم وحكم به، فلم يكن الإيمان بالله وحده ينفعهم دون الإيمان بما أخبر عنه الأنبياء عليهم السلام على ما ذكرنا؛ فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
…
الحديث).
فذكر الأصول الستة التي هي حق اليقين، ومناط الدين، وعروة العرفان، وذكر فيه القدر من [جملة
الأهواء المضاه [لأن مذهب القدرية يضاهي من بعض الوجوه مذهب الثنوية في القول بالأصلين وهما النور والظلمة فإضافة الخير في الفعل إلى النور وإضافة الشر إلى الظلمة، وفي تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالتصديق بهذه الجملة متمسك لمن يذهب إلى تكفير القدرية قياساً على ما يقدمه من الأصول. وأكثر السلف يتنزهون عن إطلاق القول بذلك وهو الصواب؛ لأنهم تشبثوا بشبه أسندوها إلى ظواهر بعض النصوص واستدلوا على إثبات ما ذهبوا إليه بتأويلات زائغة عن منهج الحق زينت لهم واستحكمت في نفوسهم وليس الأمر في التكذيب بما سواه من الأصول التي ذكرت في الحديث كذلك.
قلت: وفي سياق هذا الحديث على هذه الرواية- على ما روى في المصابيح- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر على وتيرة واحدة عطفاً للاسم على الاسم من غير فاصلة فلما انتهى إلى ذكر القدر كرر لفظ الإيمان فقال وأن تؤمن بالقدر خيره وشره ولم يقل والقدر خيره وشره نوع من التنبيه على المعنى الذي أشير إليه والله أعلم.
قوله عليه السلام فأخبرني عن الإسلام. الإسلام الانقياد للحق والإذعان له بقبول الشرائع والتزام الفرائض على أنها صواب وحكمة وعدل وهو في الحقيقي إظهار الطاعة لمن آمن به والإتباع لمن آمن به ولابد لإظهار الطاعة من أن يكون مسبوقاً بالتصديق على ما ذكرنا حتى يصح قبول الشرائع عن الله وعن رسوله فلهذا بدأ جبريل عليه السلام بالسؤال عن الإيمان ثم أردفه بالسؤال عن الإسلام مقترناً بفاء التعقيب ليفيد المعنى الذي أشير إليه، فسأل عما يقتضيه الإيمان بالله وبرسوله وبما أخبر الرسول عنه من إعلان كلمة التوحيد وقبول الأمر وإظهار الطاعة وهو الإسلام وأمهات أصوله الأركان الخمسة التي اخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال (فأخبرني عن الإحسان) وذلك أن المؤمن بالله ورسوله، وبما أخبر هو عنه إذا قام بقبول الأمر وإظهار الطاعة فينبغي أن يطالب نفسه بالاستقامة على حسب الطاقة ببذل المجهود في إخلاص العبادة لوجه الله الكريم ومجانبة الشرك الخفي والعبادة لله الذي لا تنبغي العبادة إلا له على [
…
] والتعظيم حتى كأنه ينظر إلى الله فرقاً منه وحياء وخضوعاً له وإجلالا وإلى ذلك أشار بقوله صلى الله عليه وسلم (اعبد الله كأنك تراه) ولقد وجدت في المتأخرين زماناً ومنزلة ممن أفضى به جهله بأصول الدين وعلوم الشريعة إلى القول بإثبات رؤية الله تعالى للأولياء وخواص المؤمنين في هذه الدار الفانية من يظن أن له متمسكا في قوله صلى الله عليه وسلم (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا قول زائغ ومذهب باطل لعدم التوقيف في جوازه ودلالة النص على خلافه وذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فإنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت) وقوله صلى الله عليه وسلم (الموت قبل لقاء الله) الحديث الأول رواه أبو أمامة والثاني الذي روته عائشة- رضي الله عنها وكلا الحديثين صحيح أخرجه مسلم في جامعة وهذا المتوهم الذي دحض في قوله أتته المحنة من قبل جهله بوجوه كلام العرب فظن أن في قوله (فإن لم تكن تراه) دليلا على جواز أنه يراه فلم يفهم المراد منه والنبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا القول إرشاد العباد إلى رعاية حق التعظيم في عبادته واستشعار الخوف منه والتوجه إليه على حال اليقين حتى كأنهم ينظرون إليه وإلى
هذا المعنى أشار أبي بن كعب- رضي الله عنه في قوله: (ففضت عرقا وكأني أنظر إلى الله فرقاً). وأراد بقوله (فإن لم تكن تراه) أن العبرة في تعظيم من عظمته وتأديب بين يديه برؤيته إياك وإطلاعه عليك لا برؤيتك إياه فاعبده على يقين من هذه الحالة (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا مثل قول القائل: فإن لم تكن تعلم الغيب فإن الله يعلمه فهل يلزم من هذا القول إثبات علم الغيب لأحد دون الله سبحانه ومن هذا القبيل في هذا الحديث ما يتعمق فيه المتشدقون أبعدهم الله فقد أبعدوا في المرمى ويقولون: إن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره عن الإيمان والإسلام صدقت وأمسك عن هذا القول حين أخبره عن الإحسان ولا يخلو هذا عن فائدة فرأيت أن أبينه لئلا يغتر به مغتر ولا يقدم على تأويله متكلف فيضر به نفسه ويفتتن به غيره ولقد فهمت قصدهم فيه ولم أر أن أتعرض لإيضاحه لما فيه من سوء الأدب. فأقول وبالله التوفيق إن هذا الحديث من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه مخرج في كتب الأئمة مسلم وأبي داود وأبي عبد الرحمن وأبي عيسى وسياقه في كتابي مسلم وأبي داود على هذا الوجه غير أن سؤاله عن الإسلام مقدم على سؤاله عن الإيمان وفي كتاب أبي عيسى وغيره: الأسئلة [
…
.] بترتيب [
…
.] في كتاب المصابيح [
…
.] لم يذكر في شيء من الحديث [
…
.] وانتهى إلى قوله: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ثم روى الراوي بعد ذلك عن عمر- رضي الله عنه أنه قال: في كل ذلك يقول: له: صدقت. وقد أخرج مسلم هذا الحديث في كتابه عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الأسئلة الثلاثة على هذا الترتيب عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر بعد جواب النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل قال صدقت في الأجوبة الثلاثة فتبين لنا أن جبريل عليه السلام أردف الأجوبة الثلاثة بالتصديق، وإنما وقع الترك فيما اعترض عليه المعترض من قبل بعض الرواة في هذا السياق، إذ قد صح ما ذكرناه بطرق مرضية وروايات صحيحة والعجب من جرأة من تخوض في مثل هذا القول بالظن والتخمين، والحديث الصحيح محكم بخلاف ما يشير إليه وكان من حق الإيمان أن ينتهي عن ذلك وإن لم يبلغه الحديث على ما نقلناه فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق في سائر ما يخبر به وهو معصوم عن العوج في أمر الدين غير منسوب إلى القصور والتقصير.
قوله عليه السلام (فأخبرني عن الساعة) قد علم جبريل عليه السلام أن علم الساعة مما استأثر الله به
وإنما سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع الأمة بما يجيب عنه فيعلموا أن العلوم المكنونة مع معرفة أماراتها بمعزل عن دركتها العقول فضلاً عن رجم الظنون فيقفوا على حد الأدب وينتهوا إلى معالم العبودية ولا يتطلعوا إلى
البحث عنه والخوض فيه وقد كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فانزل الله تعالى: (يسألونك عن
الساعة أيان مرساها). الآية وأنزل: (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله) الآية فلم يسأل عنها
بعد ورود التنزيل إلا متكلف أو متعنت [
…
.] أو جاحد وربما كان من الصحابة من خامر ضمائرهم
طمع إلى التطلع إليه فتحدثهم [
…
.] أن علم الساعة وإن كان مكتوماً عن الخلق فليس بمستنكر من فضل الله على نبيه [
…
..] قضاء ذلك [
…
..] فينهى منه إلينا فيبقى
البواطن نازعة إليه منازعة فيه وذلك في الطباع البشرية والنفوس مجبولة على التطلع إلى معرفة ما غيب عنه
وكل ما خفي] عليها فربما
…
[ويشير إلى هذا المعنى قوله سبحانه (ثقلت في السموات والأرض). وفي العرض ما بين رمل بيرتي إلى منقطع السماوة اسم بادية في طريق الشام وقال الأصمعي هي إلى أقصى عدن أبين الحائض عدنانين إلى موضع أطراف اليمن حتى تبلغ أطراف بوادي الشام، وهذا القول قريب الحدود التي بيناها بالبحار والأنهار ومنقطع البوادي وقال مالك بن أنس رحمه الله هي مكة والمدينة واليمن قلت وهذا القول لا يخالف ما ذكرناه، لأن المواضع التي بيناها بالحدود منضمة إلى الحجاز أو إلى اليمن والله أعلم.
(من الحسان)
[50]
حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن للشيطان لمة بابن آدم). الحديث. اللمة من الإلمام وهي الخطرة والزورة والأتية ومعناه النزول به والقرب منه أي يقرب من الإنسان] هذين [السبيلين: وقيل اللمة الهمة يقع في القلب والإيعاد في اللمتين من باب الإفعال ومن الناس من يتخبط فيهما فيرويهما على زنة الافتعال ومنهم من يرويه في اللمة الأولى على (الإفعال) وفي الثانية على (الافتعال) والرواية المعتد بها في الموعين على زنة الإفعال، والوعيد في الاشتقاق اللغوي كالوعد إلا أنهم خصوا الوعد بالخير والوعيد بالشر للتفريق بين المعنيين بهذين اللفظين ولما كان المبدوء بذكره في هذا الحديث لمة الشيطان ذكره بلفظ الإيعاد ثم أجرى اللفظ الآخر الذي هو من باب الوعد بالخير في اللمة الثانية مجرى الأول على سبيل الإتباع والازدواج مع حصول الاستغناء عن الفارق بين الوعد والوعيد بكلمة الخير والشر والذي يرى أنه من باب الافتعال فإنه لم يأت بشيء سوى أنه حرف اللفظ عن منهاج الرواية وغير المعنى، لأن الاتعاد يستعمل على وجهين على معنى قبول الوعد وعلى اتعاد القوم بعضهم بعضا في الشر يقال تواعد القوم أي وعد بعضهم بعضا في الخير واتعدوا إذا وعد بعضهم بعضا في الشر ولا وجه لإحدى الصورتين في هذا الحديث.
[52]
ومنه حديث عمرو بن الأحوص- رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع) الحديث.
قال البخاري إنما سمى حجة الوداع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال هل بلغت وقالوا نعم طفق يقول اللهم فاشهد ثم ودع الناس فقالوا هذه حجة الوداع.
قلت: وفي حديث أبي أمامة- رضي الله عنه أنه قال يوم حجة الوداع: يا أيها الناس أنصتوا فإنكم لعلكم لا تروني بعد عامكم هذا) وقد أشبعت القول (8/ب) في معنى حجة الوداع في كتابي الموسوم (بطلب الناسك في علم المناسك) فمن ابتغى الزيادة على ما أشرنا إليه فليطلبه هنالك من كتابنا ذلك.
قوله صلى الله عليه وسلم (ألا لا يجني جان] إلا [على نفسه) من حق هذا القول من طريق المعنى أن يجعل لا ينهي كيلا يخلو الكلام عن الفائدة؛ لأن الجاني إذا جني فإنما يجني على نفسه وبجنايتها يؤخذ في الدنيا والآخرة فكيف ينفي عنه الجناية، فالظاهر أن إثبات الياء في قوله (يجني) غلط من بعض الرواة أو تركوه على رسم الخط من غير حذف وكثيراً نجد من هذا الباب في كتب الحديث، ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن في بعض طرق هذا الحديث (ألا لا يجني جان إلا على نفسه)، وبيان ذلك: أن أهل الجاهلية كانوا يرون أخذ الرجل بجناية غيره من ذوي الرحم وأولي القرابة فربما قتل الوالد أو الولد فقتل أحدهما مكان الآخر وكذلك القريب والحميم فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجاني إنما يجني على نفسه لا على غيره فلا يؤخذ مولود بجناية والده ولا والد بجناية مولوده وإنما اقتصر على ذكر الوالد والولد؛ لأن نسبهما أقرب الأنساب وسببهما آكد الأسباب وهما الأصلان يتفرع عنهما الأنساب والقرابات فإذا جعل هذا الحكم منفيا عن الأصل فالبحري أن يكون منفيا عن الفرع والله أعلم.
الإيمان بالقدر
(من الصحاح)
[53]
من الصحاح (حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) والقدر: اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر والكيس: جودة القريحة وإنما أتى به في مقابلة العجز؛ لأنه هو الخصلة التي تفضي بصاحبها إلى الجلادة وإتيان الأمور من أبوابها وذلك نقيض العجز ولهذا المعنى كنوا به عن الغلبة فقالوا كايسته فكسته أي غلبته والعجز ههنا- عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله
بالتسويف فيه والتأخير له والعجز والكيس روى بالرفع والخفض عطفاً على كل أو على شيء والأوجه أن يكون في الكسر حرف خف بمعنى إلى وكلاهما جائز وفى الرواية الخفض أكثر والمعنى المراد من الحديث يقتضي أن يكون بمعنى الغاية؛ لأنه أراد بذلك أن أكساب العباد وأفعالهم كلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الذي يوصل صاحبه إلى البغية والعجز الذي يتأخر به عن درك البغية والله أعلم.
[54]
ومنه (حديث أبي هريرة رضي الله عنه احتج آدم وموسى)] 9/أ [الحديث. هذا حديث يتمسك به المجبرة ومنكر القدرية وكلا الفريقين على جرف هار من الإفراط والتفريط إذ لا يقدر أحد أن يسقط الأصل الذي هو القدر ولا أن يبطل الكسب الذي هو السبب، فإن ذلك من أصول الدين ومعالم الإيمان وليس معنى قول آدم عليه السلام: (كتب الله على) أي ألزمه إياي وأوجبه على فلم يكن لي في الشجرة كسب ولا اختيار وإنما المعنى: أن الله أثبته في أم الكتاب وكتب في اللوح قبل كونه أنه سيكون وحكم بأن ذلك كائن لا محالة لعلمه السابق في أمري فهل كان يمكن أن يصدر عنى خلاف علم الله السابق في فكيف تلومني على القدر المحتوم وتغفل السبب عن العلم السابق] الذي واقع [على معنى تدبير الربوبية وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله وراء الأستار فلا ينبغي لك أن تعود باللائمة على من تنصل وتاب وإنما يلام من جهل حق العبودية وأصر على الذنب أو لم يعترف به أو لم يتب عنه فبذلك جرت سنة الله في عباده فكان الاحتجاج من آدم- عليه السلام لدفع اللائمة لانكسار ما اجترحه من الزلة ثم إن القضية تشتمل على معان هي المحررة لدعوى آدم عليه السلام المقررة لحجته لم يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفاء بوضوحها واستظهاراً باشتهارها فمنها: أن هذه الحاجة منهما لم يكن في عالم الأسباب الذي لم يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والأكساب وإنما كان في العالم العلوي عند ملتقى الأرواح حيث تنكشف الحقائق وتضمحل الرسوم والأطلال فكانت تلك الملاقاة والمكالمة كملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم آدم وغيره من الأنبياء الذين ذكروا في حديث المعراج ومكالمته إياهم ومنها أن آدم احتج بذلك بعد اندفاع مواجب الكسب منه وارتفاع أحكام التكليف عنه، ومنها: أن اللائمة كانت
بعد سقوط الذنب ووجوب المغفرة والاستذراء بجناب القدس وسعة الرحمة حيث لم يبق للنكير موضع ولا للملامة مسلك فلهذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لآدم على موسى بالفلج (فقال صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى) أي غلب عليه بالحجة فلا تقبل إذاً هذه الحجة عن عموم المكلفين لخلو قضاياهم عن تلك المعاني التي اشتملت عليها قضية آدم وموسى- عليهما السلام وبعد هذا فليعلم الباحث عن هذا الحديث أنه وإن كان صحيحاً فإنه من جملة] الآراء [التي لا ينقطع] 9/ب [العذر دونها وقد ذكر بعض العلماء في مصنف له في الاعتقاد أن هذا الحديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي هريرة ولعله نسى أو لم يبلغه الحديث يومئذ بطرقه، وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي داود من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد رواه الطبراني في كتابه في مسند جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
[55]
ومنه (قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً). قلت: فسره ابن مسعود وهو الراوي للحديث فقال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت إطارة في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دماً في الرحم فذلك جمعها. والصحابة أعلم الناس بتفسير ما سمعوه وأحقهم بتأويله وأولاهم بالصدق فيما يحدثون به وأكثرهم احتياطاً للتوقي عن خلافه فليس لمن بعدهم أن يرد عليهم والله أعلم.
[56]
ومنه حديث عائشة رضي الله عنها (دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي .... الحديث) يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول قبل أن] أنزل [عليه في ولدان المؤمنين ما أنزل ويحتمل أنه لم يرتض هذا القول لما فيه من الحكم بالغيب والقطع بإيمان أبوي الصبي أو أحدهما إذ هو تبع لهما وفيه إرشاد للأمة إلى التوقف عند الأمور المبهمة والسكوت عما لا علم لهم به وحسن الأدب بين يدي علام الغيوب.
[75]
ومنه حديث علي- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة .. الحديث) المبهم الذي ورد عليه البيان من هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أنه بين أن القدر في حق العباد واقع على معنى تدبير الربوبية وذلك لا يبطل تكليفهم العمل لحق العبودية فكل من الخلق ميسر لما دبر له في الغيب فيسوقه العمل إلى ما كتب له من سعادة أو شقاوة فمعنى العمل: التعرض للثواب والعقاب.
[58]
ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا
…
الحديث) معنى قوله كتب أي أثبت عليه ذلك بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل فبالعينين وبما ركب فيهما من القوة الباهرة تجد لذة النظر وعلى هذا وليس المعنى أنه ألجأه إليه وأجبره عليه بل] 10/أ [ركز في جبلته حب الشهوات ثم إنه سبحانه يعصم بفضله ورحمته من يشاء ويقرب من هذا المعنى ما وقعت الإشارة إليه في حديث عمران بن حصين تلو هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم.
[59]
(وتصديق ذلك في كتاب الله (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وتسوية النفس إنشاء خلقتها على سواء من التدبير بحسب ما تقتضيه الحكمة ويستدعيه المصلحة وذلك بما ركب فيها من القوى التي جعلت مقومة للنفس وصارت النفس بها مستعدة لقبول الفهم والإلهام فألهمها فجوزها بالأمور الجبلية والقضايا الطبيعية، وتقواها بالنصوص الشرعية والأدلة العقلية، وقوله يكدحون أي يسعون والكدح السعي والعناء.
[60]
ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (جف القلم بما أنت لاق) يقال جف الثوب وغيره يجف بالكسر جفافاً وجفوفاً إذا ابتل ثم جف وفيه ندى فجعل جفاف القلم كناية عن جريانه بالمقادير وإمضائها والفراغ منها تمثيلاً بما عهدناه وذلك أبلغ في المعنى المراد منه؛ لأن الكاتب إنما يجف قلمه بعد الفراغ عما يكتب ولم نجد هذا اللفظ مستعملا على هذا الوجه فيما انتهى إلينا من كلام العرب إلا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فيمكن أن يكون من الألفاظ المستعارة التي لم يهتد إليها البلغاء فاقتضتها الفصاحة النبوية.
وأما ما ذكر عنه في هذا الحديث أنه قال (فاختص على ذلك أو ذر) فالصواب فاختص على ذلك بتخفيف الصاد من الاختصاء وكذلك يرويه المحققون من علماء النقل وقد صحفه بعض أهل النقل فرواه على ما هو في كتاب المصابيح ولا يكاد يلتبس ذلك إلا على عوام أصحاب الرواية أو على من انتهى الحديث إليه مختصراً كما هو في كتاب المصابيح فأما من كان معنيا بضبط الألفاظ وإتباع المعاني فلا يخفي عليه وجه الصواب إذا استوعب طرق هذا الحديث وقد روى هذا الحديث مستوفي في كتب أهل العلم من وجوه أحدها ما أخبرنا به الشيخ العالم المهذب ابن زينة في كتابه قال أنبا أبو الخير الباغبان إجازة قال أنبا سليمان بن إبراهيم إجازة أنبا أبو علي الحسن بن أحمد ابن شاذان البزار ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا محمد المثني قال ثنا عباد بن جويرية قال ثنا الأوزاعي قال حدثني الزهري] 10/ب [قال حدثني أبو سلمة قال حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني رجل شاب وإني أخاف العنت ولست أجد طولا أتزوج به النساء فإذن لي أن اختصي قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو دع.)
[61]
ومنه حديث عبد الله بن عمرو ري الله عنه أنه قال (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن
…
الحديث) ظاهر هذا اللفظ محمول على ضرب من التمثيل ومؤول على نوع من المجاز والمراد منه الاستظهار في القدرة وسرعة نفوذ الأمر والتصرف في القلوب على مقتضى العلم والمشيئة، وعلى نحو ذلك أوله المحققون من السلف والراسخون من علماء الأمة وقد أجرى بعض المؤولين الأصبع في هذا الحديث مجرى قول العرب (للراعي على ماشيته أصبع حسن) أي أثر حسن وذكروا فيه قول القائل:
ضعيف العصا بادي العروق تري له .... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
وهذا من باب التعسف في التأويل؛ لأنه لا يناسب نسق الكلام، قلت وليس هذا الحديث من جملة ما يتنزه السلف عن تأويله كأحاديث السمع والبصر واليد وما يقاربها في الصحة والوضوح فإن ذلك يحمل على ظاهره ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يشبه بمسميات الجنس ويحمل على معنى الاتساع والمجاز بل يعتقد أنها صفات لله سبحانه لا كيفية لها وإنما تنزهوا عن تأويل هذا القسم؛ لأنه لا يلتئم معه ولا يحمل ذلك على وجه يرتضيه العقل إلا ويمنع منه الكتاب والسنة من وجه آخر، وأما ما كان من هذا الضرب أعني قوله صلى الله عليه وسلم (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن) فإنه ليس في الحقيقة من أقسام الصفات ولكن ألفاظ مشاكلة لها في وضع الاسم فوجب تخريجه على ما يناسب تنسيق الكلام وعلى ما يقتضيه المعنى ليقع الفصل بين هذا الضرب وبين ما لا مدخل فيه للمجاز والاتساع والله أعلم.
[62]
ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما من مولود إلا يولد على الفطرة .... الحديث) الفطر الشق ومنه فطر ناب البعير والفطر الابتداء والاختراع (قال ابن عباس رضي الله عنه كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال احدهما أن فطرتها أي أنا ابتدأتها) وقول ابن العباس- رضي الله عنهما لا أدري ما فاطر السموات) أي لا أعرف مأخذ هذا اللفظ من الاشتقاق اللغوي والفطرة في اللغة] 11/أ [وأما معنى الحديث وتأويله فإن أقاويل أهل الملة مختلفة فيه وقد ذكر فيه عن علماء التأويل وأصحاب المعاني وجوه كثيرة في الإتيان على سائرها بياناً وتفصيلاً عدول عن مقدار الضرورة إلى ما لا تدعو إليه الحاجة في البيان وكل ذلك يرجع إلى أصلين من التأويل، أحدهما: أن المراد بالفطرة هو الدين الذي شرع لأول مفطور من البشر وهو التوحيد الذي لا تشريك فيه ولا تشبيه فالفطرة على هذا التأويل هو الإسلام] والمائلون إلى هذا [التأويل أكثر ممن ينسب إلى مذهب القدر. والآخر: أن يقال المراد بالفطرة ههنا ما فطر الله الخلق عليه من الهيئة المستعدة لمعرفة الخالق وقبول الحق والتمييز بين حسن الأمر وقبيحه بما ركبه في الناس من العقول وإلى هذا المعنى أشار بقوله سبحانه (فطرت الله التي فطر الناس عليها) والقائلون بالتأويل المبدوء بذكره يستدلون بهذه الآية فيما ذهبوا إليه من معنى الحديث، والآية تدل على غير ما ذهبوا إليه؛ لأنه سبحانه يقول:(لا تبديل لخلق الله) فلو كان الماد بالفطرة نفس الإسلام للزم من الحديث تبديل خلق الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فأبواه يهودانه
…
الحديث) فتبين إذا أن المراد بالفطرة في هذا الحديث هو المراد به في الآية وذلك ما يتوصل به إلى أن الدين عند الله هو الإسلام فالفطرة هي التي لا يتهيأ لأحد تبديلها وإن ذهب عنها ذاهب كانت هي بحالها حجة عليه وهي الحنفية التي وقعت لأول الخلق في فطر العقول.
ومعنى الحديث: أن المولود لو ترك على ما فطر عليه من العقل القويم والوضع المستقيم ولم يعترضه آفة من قبل الأبوين لم يختر غير هذا الدين الذي حسنه ظاهر عند ذوي العقول وهذا أصوب التأويلين وأولاهما بالتقديم لوجوه أحدها: ما ذكرناه من تأويل الآية ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) وهو حديث صحيح. وثالثها: أن الدين المعتد به من باب الإكساب لأنه يثاب على حسنه ويعاقب على قبيحه ولو كان من حكم الجبلة لم يكن كذلك. ورابعها: أن المولود لو ولد مسلماً لم يجعله الشرع تبعاً لأبويه الكافرين في كفرهما كيف وقد حكم الشرع على ولدان المشركين بحكم المشركين وهو أجنة في بطون أمهاتهم.
قلت:] 11/ب [وقد ذهب بعض السلف إلى أن المراد بالفطرة العهد الذي أخذ عليهم وهم في أصلاب آبائهم وذلك مفسر في قوله سبحانه (وإذا أخذ ربك) فلا يوجد أحد إلا وهو مقر بأن له صانعاً ودبراً وإن سماه بغير اسمه والحديث الذي أوردناه في الغلام الذي قتله الخضر يدفع ذلك وقد حملنا قوله صلى الله عليه وسلم فأبواه يهودانه وينصرانه في الوجه الذي نصرناه على فساد التربية وآفات النشوء والتقليد، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن المولود يولد على فطرة سليمة لم يجترح بنفسه سيئة تخرجه إلى دين فاسد وإنما يلحقه اسم اليهودية والنصرانية بعلة الجزؤية وحكم التبعية فيجعل ما كسبه والداه ككسبه ألا ترى أنه إذا خرج عن نفهما بالرق إلى من يملكه من المسلمين صار تبعاً له في الإسلام فإن قيل فإذا كان الكفر والإسلام يلحقان به لعلة الجزؤية وحكم التبعية فلم لم يقل فأبواه يسلمانه كما قال يهودانه فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أن فساد الدين ضرر يلحق الوالدان من قبل آبائهم وأمهاتهم فذكر الأديان الفاسدة ولم يذكر الدين الصحيح لأن ثبوته للولد بأبويه نفع وصلاح فإن قيل: أمر الغلام الذي قتله الخضر ينقض عليك هذا التأويل؛ لأنه لم يلحق بأبويه بحكم الجزؤية فالجواب أن ذلك الأمر مفارق عما نحن فيه؛ لأنه كان من العلوم المكنونة فعرف بعلم خاص أريه الخضر ولو ترك الأمر فيه على هيئة المكنون لم تفته علة الجزؤية ولم يخطأ حكم التبعية فإن قيل أورد أبو عيسى هذا الحديث في كتابه بغير لفظ الفطرة ولفظه (كل مولود يولد على الملة) فإني يوفق بين الفطر والملة على التأويل الذي نصرتموه.
فالجواب أن نقول: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بهذا اللفظ تارة أخرى وتأويله على هذا التقدير أن المولود يولد على حكم الملة لولا مكان أبويه فأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه. ويحتمل أن الصحابي أو غيره من رواة الحديث تلفظ بذلك ذهاباً إلى رواية الحديث بالمعنى.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء) تروى تنتج على بناء المفعول وعلى هذا البناء يستعمل تقول العرب نتجت الناقة على بناء المجهول تنتج نتاجاً إذا ولدت فهي متوجة كما يقال نفست المرأة فهي منفوسة وعلى هذا فالذي يجعل بهيمة جمعاء حالاً عن البهيمة فلم (....) فيه نظر؛ لأن المثل ضرب للمولود بالبهيمة المولودة وفي تلك] 12/أ [الصيغة البهيمة هي الوالدة المنتوجة وقريب من هذا قول المتنبي:
فكأنما نتجت قياماً تحتهم .... وكأنهم ولدوا على صهواتها
والوجه الأسد والقول الأقوم، أن يجعل بهيمة جمعاء مفعولا ثانيا ويدل على صحة هذا القول قول الشاعر:
فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى .... وإن يك إقراف فمن قبل الفحل
ومثله قول زهير:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم .... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
وقد روى لي البيت الأول على القافية المرفوعة وأنشد
وما أنا إلا مهرة عربية .... سليلة أفراس تجللها بغل
فإن نتجت مهراً كريما فبالحرى .... وإن يك إقراف فقد جره الفحل
وقد ذك الواحدى أن البيتين لابنة النعمان بن بشير الأنصاري- رضي الله عنه وأرى البيت الأول لغيرها فضمنته إلى قولها وذكرت فقد جره الفحل لتتفق القافيتان والله أعلم، ومن الدليل على صحة هذا الوجه من طريق الرواية رواية أبي داود في كتابه كما تناتج الإبل بهيمة جمعاء أي توالدها و (ما) في قوله كما تناتج هي الموصولة أي كالتي تناتجها الإبل ويروى على بناء الفاعل من الإنتاج وفيه نظر؛ لأنهم يقولون أنتجت الفرس إذا حان نتاجها وقيل إذا استبان حملها لم يستعملوه إلا على هذا الوجه فإن قيل أوليس في الباب القياسي له مساغ.
قلنا: فيه نظر لأنهم يقولون نتجت الناقة نتاجاً على بناء المجهول ونتجها أهلها نتجاً وزيادة الألف في البناء الأول خلاف المنقول؛ لأنه لم يبن إلا على هذا البناء ولم نجد استعمال القياس في هذا الباب مستفيضاً وزيادته في البناء الآخر أعني نتجها أهلها مستبعد؛ لأنه لا يفيد معنى آخر اللهم إلا أن يكون الإنتاج قد ورد بمعنى الإيلاد في لغة قليلة ولم تشتهر والله أعلم.
قلت: ولولا ما علينا من إتباع الرواية دون إتباع الخط لجوزنا أن تفتح التاء من أول الكلمة على خطاب الحاضر من قولهم نتجها أهلها نتجاً مع الدلالة التي فيه من نسق الكلام وذلك ما ورد في بعض طرق هذا الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم (هل تحس فيها من جدعاء) وفي الحديث له نظير ذكره أبو عبيد في كتابه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (هل تنتج إبل قومك صحاحاً آذانها) أي تولدها وتلي نتاجها فالناتج للإبل كالقابلة للنساء ويقال لصاحب النتاج الناتج على الاتساع ومنه قول الشاعر:
لا تكسع الشول بأغبارها .... إنك لا تدري من الناتج
والجمعاء هي السليمة من الآفة لاجتماع السلامة في أطرافها والمعنى البهيمة تولد سوية الأطراف سليمة من الجدع فلولا الناس وتعرضهم لها لبقيت] 12/ب [كما ولدت فالله أعلم.
[63]
ومنه: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات
…
الحديث)، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وعظ أصحابه ومن حضره من الوفود وغيرهم وذكرهم بأيام الله قام فيهم قياماً وفي حديث أوس بن حذيفة الثقفي رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف إلينا بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين قدميه من طول القيام). فقوله قام فينا كناية عن التذكير أي خطبنا وذكرنا بخمس كلمات وإنما سلكنا هذا المسلك في تأويله لما عرفناه من سنته في ذلك وإن اقتفينا ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى أنه قام بحفظ تلك الكلمات فينا؛ لأن القيام بالشيء هو المراعاة والحفظ له قال الله تعالى:(كونوا قوامين بالقسط) وقال سبحانه (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) وقوله (بخمس كلمات) أي بخمسة فصول، وهم يطلقون الكلمة ويعنون به الجملة المركبة المفيدة. ولهذا يسمون القصيدة كلمة وإحدى الكلمات منها:(إن الله تعالي لا ينام). والثانية: ولا ينبغي له أن ينام، والثالثة: يخفض القسط ويرفعه، والرابعة: يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل. والخامسة: حجابه النور
…
إلى آخر الحديث. قوله صلى الله عليه وسلم: يخفض القسط ويرفعه، فسر بعضهم القسط في هذا بالميزان، ويسمى الميزان قسطاً لما يقع به من المعدلة في القسمة وهذا أولى القولين بالتقديم لما في حديث أبي هريرة (يرفع الميزان ويخفضه فيجوز أن يكون المراد من رفع الميزان ما يوزن من أرزاق العباد النازلة من عنده وأعمالهم المرتفعة إليه. ويحتمل أنه أشار إلى أن الله كل يوم هو في شأن، وانه يحكم في خلقه بميزان العدل، وبين المعنى بما شوهد من وزن الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا التأويل يناسب الفصل الثاني أعنى قوله: (ولا ينبغي له أن ينام) أي كيف يجوز عليه ذلك وهو الذي يتصرف أبداً في ملكه بميزان العدل.
قوله (صلى الله عليه وسلم): (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار) عبارة عن مسارعة ملائكة الله الموكلين بأعمال العباد فيما أمروا به وسرعة خروجهم إلى محال الغرض في مصاعد السموات وقدرتهم على رفع الأعمال في أدنى ساعة؛] 13/أ [؛ لان الليل والنهار يتناوبان لا فاصلة بينهما والعبد يعمل ما دام الليل باقيا، فإذا انقضى أخذ في عمل النهار فمهما رفع إليه عمل الليل قبل أن يأخذ في عمل النهار وخرجت المسارعة في ذلك عن حد اللمحات فضلاً عن الأوقات والساعات هذا إذا جعلنا التقدير في قوله: (قبل عمل النهار) قبل أن يشرع العامل في عمل النهار أو قبل أن يصدر عنه ذلك، فأما إذا جعلنا تقديره قبل أن يرفع إليه عمل النهار، فالمراد منه أن عمل الليل لا يؤخر عن محل العرض حتى ينضم إليه عمل النهار بل يعرض كل واحد منهما على حدة إذ قد] وسد [كل واحد مهما إلى ملائكة يتعاقبون فيكم تعاقب الليل والنهار.
وهذا الوجه وإن كان أيضاً صحيحاً، فإنه لا يبلغ- في بيان عظم شان الله وبيان قوة عباده المكرمين وحسن قيامهم بما أمروا- مبلغ الوجه الأول ولكنهما يتقاربان في الفائدة وذلك أن هذا القول مرتب على قوله (صلى الله عليه وسلم):(ولا ينبغي له أن ينام) أي كيف ينبغي له ذلك والأرزاق نازلة بأمره والأعمال مرفوعة إليه بعلمه لا يخلو عن ذلك ليل ولا نهار.
قوله (صلى الله عليه وسلم): (حجابه النور) أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وأشعة عظمته وكبريائه وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول ويذهب
الأبصار وتتحير البصائر، ولو كشف ذلك الحجاب فتجلى بما وراءه من حقائق الصفات وعظمة الذات، لم يبق مخلوق إلا احترق ولا مقطور إلا اضمحل، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي وهو ههنا راجع إلى منع الأبصار من الإصابة بالرؤية له بما ذكر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل فعبر به عنه وروى (حجابه النور أو النار) وقد تبين لنا من أحاديث الرؤية وتوقيفات الكتاب على التجليات الإلهية أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث هي التي نحن بصددها في هذه الدار المستعدة المعدة للفناء دون التي وعدنا بها في دار البقاء، والحجاب المذكور في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه.
وفيه سبحات ومعنى (سبحات وجهه) أي جلالته كذا فسرها أهل اللغة وقال أبو عبيد: نور وجهه، وسبحات بم السين والباء جمع: سبحة كغرفة وغرفات، وقد قال بعض أهل التحقيق إنها الأنوار التي إذا رآها الراؤون من الملائكة سبحوا وهللوا لما يروعهم من جلال الله وعظمته] 13/ب [.
[64]
ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سخاء الليل والنهار) كل ذلك ألفاظ استعيرت لفضل الغنى وكمال السعة والنهاية في الجود وبسط اليد بالعطاء.
وفيه (لا تغيضها) من قولهم غاض من السلعة: أي نقص، وغضته أنا قال الله تعالى (وما تغيض الأرحام) أي وما تنقص.
وفيه (سحاء الليل والنهار) أي دائمة الصب في الليل والنهار وليس لهذا اللفظ ذكر على أفعل، ومثله: ديمة هطلاء، ولم يرد أهطل، وسح الماء يسح سحاً: أي سال من فوق وكذلك المطر والدمع، وما أتم هذه البلاغة وأحسن هذه الاستعارة فلقد نبه صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ من حيث الاشتقاق اللغوي على معان دقيقة وهو انه وصف يد الله في الإعطاء بالتفوق والاستعلاء، فإن السح إنما يكون من عل، ثم أشار إلى أنها هي المعطية عن ظهر غنى؛ لان الماء إذا انصب من فوق انصب بسهولة وعفو ثم إنه أشار إلى جزالة عطاياه سبحانه وغزارتها؛ لأن السح يستعمل فيما ارتفع عن القطر وبلغ حد السيلان يقال: مطر سحساح: أي يسح شديداً وأشار أيضاً إلى أنه لا مانع لعطائه؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب لم يستطع أحد أن يرده ثم وصف السح بالدوام تشبيهاً، على أن لا انقطاع لمادة عطائه.
[65]
منه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن دراري المشركين
…
الحديث.
الذراري: جمع ذزية وهي نسل الثقلين أخذت من ذرا الله الخلق يذرأهم: أي خلقهم وقد تركت
العرب همز الذرية كتركهم في روية وبرية. والذرية أصلها: الصغار وتقع في التعارف على الصغار والكبار ويستعمل للواحد والجمع وأصلها الجمع، وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (الله أعلم بما كانوا عاملين) فيحتمل أنه لم ينبأ عند حدوث هذا السؤال عن حقيقة أمرهم فتوقف فيه أو علم ولم يؤذن له في الكشف عنه رعاية لمصلحة العباد فأجاب عنه بما أجاب، أي: الله أعلم بما صائرون إليه، وبما هو كائن من أمرهم أيدخلون الجنة آمنين منعمين، ام يردون النار لابثين معذبين أم يتركون ما بين المنزلتين ويحتمل أنه علق أمرهم بما علم الله من عاقبة أمرهم لو تركوا فعاشوا حتى بلغوا الحنث والمعنى أن من علم الله منه أنه إن أمهل حتى بلغ الحنث عبده ثم مات على الإيمان أدخله الجنة ومن علم منه أنه يفجر ويكفر أدخله النار وفي هذا التأويل] 14/أ [- نظر لأنا ننفي في أصل الدين ومنهاج الشرع أن يعذب العصاة على معصية كانت تقع منهم لو طالبت بهم الحياة، فلأن ننفي ذلك عن الأطفال وهم أضعف منه وأقل قوة أحق وأجدر.
وبعد فاعلم: أن مبنى اختلاف التأويل في هذا الحديث على اختلاف المسلمين في ولدان المشركين فمنهم من يسكت عنهم ولا يقطع في أمرهم بشيء ومنهم من يعلق أمرهم بما علم الله منهم كما قدمناه ومنهم من يقول: إنهم مع آبائهم وأمهاتهم في النار كما هم يتبعونهم في كفرهم في هذه الدار ومنهم من يقول: إن المولود إذا كانت قبل أن يبلغ مبلغ الاختيار زال عنه ولاية الأبوين فيزول عنه ما كان فيه من تغيير الدين فيرجع إلى ما كان عليه من أصل الفطرة فيصير بذلك من أهل الجنة. ومنهم من يقول: إنهم لم يعملوا ما يثابون به ولم يجترحوا ما يعاقبون عليه ولا مقر في الآخرة إلا في إحدى الدارين، وإحداهما ينفيها العدل والأخرى يقضيها الفضل، فنقول: إنهم يدخلون الجنة لا على سبيل الاستقلال بل يكونون لأهلها كخدام الملوك في قصورهم ومنازلهم. ومنهم من يقول إنهم كائنون بين الجنة والنار لا منعمين ولا معذبين.
قلت والقول المبني على قاعدة أصول الدين هو أن لا يقطع في أمرهم بشيء وما عداه فإنه إما مستنبط بالرأي والقياس أو مأخوذ عن الأخبار الواهية وأمثال ذلك لا يلتقي إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بالنقل الذي ينقطع العذر دونه ولم يوجد هنالك، فوجب التوقف لعدم التوقيف.
(ومن الحسان)
[67]
حديث عمر رضي الله عنه حين سئل عن قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم) الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها
…
) للحديث
وقوله سبحانه {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} من ظهورهم بدل من بني آدم وهو بدل البعض من الكل وتقديره: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم، وقد ذهب كثير من أهل العلم في بيان الآية إلى أنه سبحانه أراد بذلك توليد بعضهم من بعض على ممر الزمان واحتجوا على من خالفهم في هذا التأويل بظاهر الآية وقالوا: لو كان المراد به أنه استخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لكان من حق القول أن يقول: (وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته) فإن قيل: بيان الآية في الحديث خلاف ما ذهبوا إليه فلهم أن يقولوا إنما يترك ظاهر الآية بالحديث لاسيما في مثل هذه القضية التي هي إخبار عن. 14/ ب الغيب إذا كان الحديث المبين للآية حديثا صحيحا يجب به العلم، [وحديث عمر]رضي الله عنه وإن كان حديثا حسنا، فإنه من جملة الآحاد، ثم إن الترمذي رواه في كتابه بإسناده عن مسلم بن يسار، عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وذكر أن مسلما لم يسمع من عمر- رضي الله عنه شيئا، وقال ذكر بعضهم بين عمر وبين مسلم رجلا، فلا يترك ظاهر الكتاب بمثل هذا الحديث، مع ما يمكننا من التوفيق بين الآية والحديث أن نقول: إنما اقتصر في الحديث على ذكر آدم دون الذرية؛ لأن هو الأصل، فاكتفى بذكر الأصل عن ذكر الفرع، فإن قيل: فقد روى أبو هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة) إلى تمام الحديث، وهو حديث صحيح، فلم ذهبتم في حديث عمر- رضي الله عنه إلى التأويل الذي ذكرتموه؟
فالجواب: أن حديث أبي هريرة لا تعلق له بالآية، ولم يذكر فيه حديث الميثاق والإشهاد، فإنما ذكر فيه أن الله مثل لآدم ذريته، وعرضهم عليه، وهذا غير ذلك.
وقد ذهب أهل هذا التأويل إلى أن المراد: بالإشهاد ما ركبه الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، فقال لهم {ألست بربكم} فكأنهم قالوا: بلى. فذهبوا في معناه إلى أنه تمثيل وتصوير للمعنى. وهذا الباب واسع في كلام العرب، موجود في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا الذي ذهبوا إليه في تأويل حديث عمر- رضي الله عنه تأويل حسن مستقيم، لولا مخالفته لحديث ابن عباس- رضي الله عنه وهو: ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان- يعني: عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، قال: ألست بربكم قالوا بلى شهدنا؛ أن يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين).
وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي عبد الرحمن النسائي، فهذا الحديث لا يحتمل من التأويل ما يحتمله
حديث عمر- رضي الله عنه لظهور المراد منه، ولا نراهم يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم إن حديث ابن عباس- رضي الله عنه من جملة الآحاد، فلا يلزمنا أن نترك به ظاهر الكتاب.
قلت: وإنما جدوا في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر هذا الحديث لمكان قوله- سبحانه- {أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} . فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار، حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين، فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا؛ كان منا من أصاب، ومنا من أخطأ، وإن كان عن استدلال، ولكنهم عصموا عندهم من الخطأ، فلهم أيضا أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة، وحرمناهما من بعد، ولو أمددنا بهما أبدا؛ لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول، فقد تبين أن الميثاق: ما ركب الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر؛ لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم عن قولهم: إنا كنا عن هذا غافلين؛ لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك، كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا عنه من الغيوب، ولهم في ذلك كلام كثير، اكتفينا عنه بهذا المقدار، والغرض منه توقيف الطالبين على مواضع الإشكال، وبيان هذا الحديث باستيعاب طرقه، والإتيان على ألفاظه المختلف فيها، والتوفيق بين الآية وحديث عمر- رضي الله عنه على ما ذكرناه متيسر والتوفيق بين الآية وحديث ابن عباس على الوجه الذي لا يعارضه حجة أخرى من الكتاب مشكل جدا، إلا أن نعلل الحديث بما عللوه به، أو نقول: يحتمل أن بعض الرواة ألحق به ذكر الآية، على سبيل البيان والتفسير، والله أعلم بتأويله. وأما قوله صلى الله عليه وسلم:(مسح ظهر آدم ..) فذهب بعض المؤولين إلى أن المسح كان من بعض الملائكة، وإنما أسند إلى الله؛ لأنه هو الآمر والمتصرف في عباده بما يشاء، وذلك مثل قوله:{الله يتوفى الأنفس حين موتها ..} وقوله سبحانه: {الذين تتوفاهم الملائكة} .
وذهب بعضهم إلى أنه من المساحة، فكأنه أراد أنه قدر وبين ما في ظهره من الذرية، وسبيل السلف في أمثال هذا الحديث أن يمروها كما جاءت إيمانا بظاهر القول واجتنابا عن التعرض لباطنه بالتأويل، مع نفي الكيفية؛ مخافة أن يلحقهم من ذلك درك، وهذا هو الأحوط والأصلح، ولولا الشفق على من يأبى إلا التأويل مع عدم المعرفة بوجوه كلام العرب وكثرة الخوض فيما لا دربة له به من علم الحديث فيدحض في مهواة الجهل لاكتفينا بنقل مذهب/ [15/ ب] السلف ثم لا خفاء أن المفهوم منه أحد المعنيين: إما الأخذ باليمين إظهارا للقدرة، أو التبريك في ظهر آدم، وفي لفظ اليمين تنبيه على تخصيص آدم بالكرامة والفضيلة (وكلتا يديه يمين).
ويحتمل أن يكون اليمين بمعنى القوة.
قال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد .... تلقاها عرابة باليمين
[68]
ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه (خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان ..) الحديث
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا كتاب من رب العالمين) فالأظهر أنه من باب المجاز الجاري مجرى الحقيقة، وذلك أن المتكلم إذا أراد تحقيق قوله، وتفهيم غيره، واستحضار المعنى له حتى كأنه ينظر إليه رأي عين صوره بصورة، وأشار إليه إشارته إلى المحسوس المشاهد، فالنبي صلى الله عليه وسلم كوشف بحقيقة هذا الأمر، وأطلعه الله عليه إطلاعا لم يبق معه خفاء، مثل المعنى الحاصل في قلبه بالشيء الحاصل في يده، هذا ونحن لا نستبعد أيضا إطلاق ذلك على الحقيقة، فإن الله- تعالى- قادر على كل شيء والنبي صلى الله عليه وسلم مستعد لإدراك المعاني الغيبية، ومشاهدة الصور المصوغة لها.
وقد سمعت من اشتهر في زماننا بالرسوخ في علم النظر، ثم أيد من مكاشفات الصوفية بما يعز مثله في الشاهد، يقول: من لم يعتقد أن لله عبادا يشاهدون في حال اليقظة ما لا يمكن لغيرهم أن يراه إلا في حالة النوم؛ لم يهتد إلى حقيقة الإيمان بالنبوة. وإذا كان من حق الإيمان ألا يقابل أمثال ذلك في إتباع الأنبياء بالنكير، ولا يستبدع الاطلاع على مثل هذه الأحوال والمكاشفة بنظائر هذه الآيات في حق خواص عباد الله، فكيف بمن هو سيد المرسلين، وأعلاهم رتبة، وأغزرهم علما، وأوفرهم حظا صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة صلاها على نبي من أنبيائه.
وأما قول الصحابة- رضي الله عنهم (خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان) فإنه أخبر بما
يقتضيه ظاهر قول الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغة في التصديق بما يقول، واستقصاء في تحقيق ما يخبر عنه، وهذا هو حق اليقين في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وواجب الأدب على السامع في استماع ما ينتهي منه إليه.
ومن أوتي بصيرة في أمر الدين، فليكن وثوقه بما يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أعرق من وثوقه بما يراه ويشاهده.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم أجمل على آخرهم) أجملت الحساب: إذا رددته عن التفصيل إلى الجملة. والمعنى: أن الإجمال وقع على ما انتهى إليه التفصيل، أو ضرب بالإجمال على آخر التفصيل، أو ختم بالإجمال على ذكر آخرهم، وهو من انتهى إليه التفصيل والحساب إنما يختم بذكر الجملة.
قوله: (ثم قال بيده) أي: أشار بيده إلى وراء ظهره.
والمعنى: أن هذا الأمر فرغ منه فصار بمنزلة ما تخلفه وراء ظهرك. والقول يستعمل من طريق المجاز والاتساع في كثير من الأفعال. يقال: قال برأسه: إذا أشار. وقال برجله: إذا ضرب بها أو مشى. وفي الحديث (فقال بثوبه) وفيه: (فقال برجله) وفيه: (فقال بالماء على يده).
(ومن الحسان)
[69]
حديث أبي خزامة عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، (أرأيت رقى نسترقيها ..) الحديث.
عرف الرجل أن من واجب حق الإيمان أن يعتقد أن المقدور كائن لا محالة، ووجد الشرع يرخص في الاسترقاء، ويأمر بالتداوي والاتقاء عن مواطن الهلكات، فأشكل عليه الأمر، كما أشكل على الصحابة، حين أخبروا أن الكتاب يسبق على الرجل، فقالوا: ففيم العمل؟ فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن جميع ذلك من قدر الله، وأن المتقي والمسترقي والمتداوي لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من ذلك إلا ما قدر لهم، وكما أن نفس هذا الفعل بقدر الله، فكذلك نفعه وضره بقدر الله، وكما أن التمسك بأعمال البر مأمور به مهما سبق من القضاء المبرم، فكذلك التعرض للأسباب الجالبة للمنافع، الدافعة للمضار مأمور به، أو مأذون فيه، إن لم يمنع عنها مانع شرعي، مع جريان القدر المحتوم، ولم يكن في هذا الحديث زيادة إشكال وإنما أوردناه لنبين اختلاف أهل الحديث في الصحابي الذي يروي هذا الحديث، فقد اختلفوا فيه جدا، فمنهم من يقول: عن ابن خزامة عن أبيه، وزعموا أن أبا خزامة هذا صحابي، وذكر بعضهم أن اسمه الحارث بن أبي خزامة، ولم نجد في ذلك نقلا يصلح للاعتماد، وقد وجدنا في كتاب المعارف: الحارث بن خزامة. ولعل الوهم اعترض لذلك القائل من هنا.
ومنهم من يقول: عن ابن خزامة بن معمر عن أبيه، والذي عليه الأكثرون من الرواة عن أبي خزامة بني الحارث بن سعد عن أبيه.
[70]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه (عزمت عليكم)
والمعنى، أقسمت عليكم.
[72]
ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله خلق خلقه في
ظلمة ..) الحديث يحتمل أن يكون المراد بالخلق هاهنا الثقلين، وهما الجن والإنس، ويحتمل أن يكون المراد به الإنس.
وأما قوله: (في ظلمة) أي كائنين ومترددين فيها، وذلك نحو قوله- تعالى-:{لقد خلقنا الإنسان في كبد} والمراد بالظلمة: ما جبلوا عليه من الأهواء المضلة والشهوات المردية، والأدخنة الثائرة من النفس الأمارة. وفيه تنبيه على أن الإنسان خلق على حالة لا تنفك من الظلمة، إلا من أصابه النور الملقى عليه. وقوله:(من نور) أي: من نور خلقه. قال الله- تعالى- {وجعل الظلمات والنور} فإضافته إلى الله- تعالى- إضافة إبداع واختراع، على سبيل التكريم، والإلقاء في أصل اللغة: هو طرح الشيء حيث نلقاه، ثم صار في التعارف اسما لكل طرح، والنور الملقى عليهم هو: ما بين لهم من الحجج النيرة والشواهد البينة والآيات الباهرة، ثم ما أيدها به من التعريف الإلهي والنور القدسي المنبعث من بصر القلب، فمن جعل مستعدا لقبول ذلك النور الإلهي بصفاء الجوهر وطهارة الطينة؛ تخلص من تلك الظلمة، فاهتدى، ومن لم يساعده ذلك ضل، وإلى مثل هذا المعنى أشير بقوله- سبحانه-:{الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة} . الآية وقوله: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} وقوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} ونحوها من الآيات.
[76]
ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية) الصنف: النوع والضرب وفتح الصاد لغة فيه. والمرجئة: مثل المرجية، يهمز ولا يهمز، مشتق من الإرجاء، وهو: التأخير. قال ابن قتيبة: المرجئة هم الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل؛ لأنهم يقدمون القول ويؤخرون العمل، وقد غلط فيه أناس قليلو المعرفة بالحديث، فألحقوا هذا التفسير بالحديث، وذلك موجود في بعض النسخ من المصابيح، وهو باطل لا أصل له، وهذا الحديث مما تفرد أبو عيسى بإخراجه، وسياقه في كتاب أبي عيسى، كما أوردناه، وهذا التفسير أيضا فيه نظر، وقد وجدنا الأكثرين من أهل المعرفة بالملل والنحل ذكروا أن المرجئة هم الفرقة الجبرية الذين يقولون بأن العبد لا فعل له، وإضافة الفعل إليه بمنزلة إضافته إلى الجمادات، كما يقال: جرى النهر، ودارت الرحى، والجبرية- بالتحريك- خلاف القدرية. قال أبو عبيد: هو كلام مولد.
قلت: وهذا يدل على أن المرجئة هي اللغة الغريبة، وتسكين الياء، الجبرية لغة فيها، وهو اصطلاح المتقدمين، وفي تعارف المتكلمين يسمون المجبرة وفي التعارف الشرعي المرجئة، وكانت القدرية في الزمان الأول ينسبون من خالفهم إلى الإرجاء، حتى غلط في ذلك جمع من أصحاب الحديث وغيرهم، فألحقوا هذا النبز بجمع من علماء السلف ظلما وعدوانا، [وإنما سموا المرجئة]؛ لأنهم يؤخرون أمر الله، فيرتكبون الكبائر وهم يذهبون في ذلك مذهب الإفراط، كما يذهب القدرية مذهب التفريط، وكلا الفريقين على شفا جرف هار.
وأما القدرية، فإنهم منسوبون إلى القدر، وهو ما يقدره الله من القضاء، يقال: قدرت الشيء أقدره أقدر قدرا، وقدرته تقديرا، فهو قدر، أي: مقدور، كما يقال: هدمت البناء فهو هدم، أي: مهدوم، ولك أن تسكن الدال منه، قال الشاعر:
ألا يا لقوم للنوائب والقدر .... وللمرء يأتي الأمر من حيث لا يدري
وهو في الأصل مصدر، والقدر والتقدير: تبيين كمية الشيء، وأصل دعوى القدرية: أنهم يزعمون أن كل عبد خالق فعله، ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله ومشيئته، وكل واحد من الفريقين يتشعب في أصل مذهبه على فرق كثيرة، والقدرية نسبوا إلى القدر؛ لأن بدعتهم وضلالتهم كانت من قبل ما قالوه في
القدر من نفيه، لا لإثباته، وهؤلاء الضلال يزعمون أن القدرية هم الذين يثبتون القدر، كما أن الجبرية هم القائلون بالجبر، فالجواب أن نقول: لم نثبت نحن هذا النبز من طريق القياس حتى تقابلونا بهذه الدعوى، وإنما أخذناه من النصوص الصحيحة، والتوقيف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله- سبحانه- {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [ومن بيان الآية] على ما في الحديث يبين لنا ذلك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:(وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للسائل: (بل شيء قضى عليهم).
[77]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (يكون في أمتي خسف ومسخ) وذلك في المكذبين بالقدر) وقوله صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة).
في أحاديث لا تعد كثرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: فيه (ليس لهما في الإسلام نصيب) ربما يتمسك به متمسك في تكفير الفئتين، والسبيل ألا يسارع إلى تكفير أهل الأهواء المتأولين؛ لأنهم لا يقصدون بذلك اختيار الكفر ولا الرضا به، وقد بذلوا وسعهم في إصابة الحق، فلم يقع لهم غير ما زعموه، فهم إذا [17/ ب] بمنزلة الجاهل، والتكفير لا يطلق إلا بعد البيان والجلاء، وهذا القول هو الذي يذهب إليه المحققون من علماء الأمة نظرا واحتياطا، وذلك ظاهر أمرهم الذي يهتدي إليه أهل الفتوى، وباطنه موكول إلى علم الله في آخرتهم، فنجري قولهم هذا مجرى الاتساع في بيان سوء حظهم وقلة نصيبهم من الإسلام، وذلك مثل قولك للرجل البخيل المتمول: ليس له من ماله نصيب، وإن كان يأخذ منه حظه من المأكل والملبس، وقد يطلق الكلمة على الشيء لنوع من التمثيل، ولا يقضي منها حقيقة حكمها عند التفصيل، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:(يكون في أمتي خسف ومسخ) وقوله صلى الله عليه وسلم (ستة لعنتهم لعنهم الله) وأمثال ذلك، فإنها تحمل على المكذب به، إذا أتاه من البيان ما ينقطع به العذر، أو على من يفضي به العصبية إلى تكذيب ما ورد فيه من النصوص، أو إلى تكفير من خالفه في هذا الاعتقاد، واستباحة دمه وماله.
والشارع يأتي بالقول المجمل في أبواب الوعيد؛ ليكون أبلغ في الزجر [وقد ذكر بعض من لم يميز في
نقله بين الصحيح والسقيم: أن الله رفع عن هذه الأمة الخسف والمسخ، وذلك- مع كونه لا يعتد به (....) القول به في هذا الكتاب، وأرى- والله أعلم- أن المكذبين (خلقا
…
) خلق الله، فمحقهم وعوقبوا بالمسخ].
وإنما سلكنا هذا المسلك في بيان هذه الأحاديث وتقرير معانيها على هذا النمط؛ لئلا يفضي بنا التجوز في البيان إلى التناقض، والذهاب إلى [ما يليق] بأصول العلم.
[78]
ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة .. الحديث) إنما قال لهم: مجوس هذه الأمة؛ لأنهم أحدثوا في الإسلام مذهبا يضاهي مذهب المجوس من وجه ما، وإن لم يشابهه من سائر الوجوه؛ وهو: أن المجوس يضيفون الكوائن في دعواهم الباطلة إلى إلهين اثنين، يسمون أحدهما: يزدان، والآخر: أهرمن، ويزعمون أن يزدان يأتي منه الخير والسرور، ويقولون ذلك في الأحداث والأعيان، فيضاهي مذهب القدرية قولهم الباطل في إضافة الخير إلى الله والشر إلى غيره، غير أن القدرية يقولون ذلك في الأحداث دون الأعيان، والأمران معا- يعني: الخير والشر- مضافان إلى الله تعالى- خلقا وإيجادا، وإلى العباد فعلا واكتسابا.
[80]
ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستة لعنتهم، لعنهم الله) وجدت في بعض النسخ من المصابيح وغيره من كتب أصحاب الحديث (وكل نبي مجاب) وعلى هذا (فكل نبي) مبتدأ مضاف و (مجاب) خيره، ولا يستقيم ولا يصح أن يجعل (كل نبي) عطفا [18/ أ] على ضمير المتكلم في (لعنتهم) ومن روى (مجاب) مجرورا على النعت فقد غلط في الرواية، وأحال في المعنى، والرواية المشهورة:(وكل نبي يجاب) على بناء المفعول- والجملة معترضة في كلا الصيغتين، ومعناه: إني دعوت عليهم، ومن شأن كل نبي أن يجاب في دعائه.
وفيه قوله: (الزائد في كتاب الله) أي: في القرآن، أو في حكم الله، وهو أن يدخل في جملته ما ليس منه، وفيه:(والمتسلط بالجبروت) جبروت: فعلوت، من التجبر، وإنما يطلق ذلك في صفة الإنسان على من يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها.
وفيه: (والمستحل لحرم الله) يريد به حرم مكة، عظم الله حرمته، ووجدت أناسا ممن لا عناية لهم بهذا العلم يضمون الحاء في (حرم الله) على أنها جمع حرمة، وهو تصحيف، ويحتمل أن يكون المراد من (المستحل) الذي يفعل فيه فعل المستحل، ويعامل عترة الرسول صلى الله عليه وسلم معاملة المستحل، ويجوز أن يراد به المستحل دينا واعتقادا، فإن قيل: كل من استحل شيئا حرمه الله عليه بعد بلوغ التحريم إليه كان كافرا بالإجماع، فما وجه تخصيص هذين المستحلين باللعن، إن ذهبتم إلى التأويل الأول، فما وجه لعنهما، وهما مسلمان؟
قلنا على كلا التقديرين فيه وجوه:
أحدها: أنه شدد القول في ذلك تأكيدا للحرمة، أو إلزاما للحجة، ومبالغة في الزجر، كقوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله من سب والديه) فلعن المجترئ على استحلال إحدى الحرمتين، لأن احديهما شرفت باسم الله، والأخرى نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
والثاني: أن زيادة البيان والتأكيد في التحريم والمبالغة في الوصية بحفظ الشيء موجبة لزيادة العقوبة على المستحل.
والثالث: أن هاهنا اجتمع حق التعظيم وحق الحرمة، فوجب على المكلف القيام بحفظه، والاجتناب عما يخل بحرمته لمعنيين، ولا يوجد ذلك في سائر المحرمات، فغضب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعرضه لغضب الله تعرضا بعد تعرض، ووجده مستحقا للعن فدعا عليه بالطرد والمقت في الأولى، والعقوبة في الأخرى؛ ليكون وبالا عليه، ونكالا لغيره.
وأما التارك للسنة، فهو الذي يعرض عنها بالكلية، أو الذي يترك بعضها استخفافا بها، أو قلة احتفال بها.
[82]
ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها (قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذراري المؤمنين؟ قال: من آبائهم) أي: معدودين من جملتهم؛ لأن الشرع يحكم بالإسلام/ 18 ب؛ بإسلام أحد الأبوين، ويأمر بالصلاة عليهم، وبمراعاة أحكام المسلمين فيهم، وكذلك حكم على ذراري المشركين بالاسترقاق، ومراعاة أحكام المشركين فيهم قبل ذلك، بانتفاء التوارث بينهم وبين المسلمين، فهم يلحقون في ظاهر الأمر بآبائهم، والله أعلم بما كانوا عاملين، وقد مر تفسير بقية الحديث فيما تقدم من الباب.