الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: ولم يرد (ألحم ولحم) بمعنى: لزم، ولو كان بمعنى اللصوق والالتزاز، لكان من حقه أن يقول (يلحم بعضهم ببعض)، ولو قال في تفسيره:(أي: يقتل بعضهم بعضا) - لكان أشبه بسياق اللفظ.
فإن قيل: (إنما يستعمل اللحم بمعنى: القتل، على بناء المفعول؛ فيقال: لحم الرجل؛ فهو ملحوم ولحيم)؛ قلنا: قد وجدناه في الحديث مستعملا على بناء الفاعل، وذلك في حديث أسامة- رضي الله عنه، ولفظ الحديث:(إن أسامة لحم رجلا من العدو) أي: قتله.
ويجوز أن يكون المراد من قوله: (يلحم بعضهم بعضا) أي: يقاتل؛ فيون عبر [70/أ](بالقتل) عن القتال، وكثيرا يرد القتل بمعنى القتال.
وقد وجدنا الرواية بفتح الياء والحاء، وإن كانت الرواية وردت بضم الياء وكسر الحاء- فالمعنى: يتقل بعضهم بعضا، أي: يجعله لحما.
ومنه: حديث عمر رضي الله عنه في صفة الغزاة: (ومنهم من ألحمه القتال).
ومن
باب المساجد ومواضع الصلاة
(من الصحاح)
[455]
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس- رضي الله عنه: (هذه القبلة).
المعنى: أن أمر القبلة قد استقر على ما شرعت لكم- من التوجه إلى هذا البيت استقرار لا يزيله النسخ.
وقول ابن عباس: (في قبل الكعبة) هو نقيض الدبر، والمراد منها: الجهة التي فيها الباب، والباء من (قبل) تحرك وتسكن.
[458]
ومنه: حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
قيل: لفظه خبر، ومعناه نهي؛ وذلك لأن ما عدا هذه المساجد الثلاثة متساو في الرتبة، غير متفاوت في الفضيلة؛ ففي أي صلى، كتب له مثل ما في غيره، وحمكم المساجد الثلاثة على خلاف ذلك؛ لما بين الله لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من مقادير تضعيف الثواب للمصلى في كل واحد منها.
وذهب جمع من العلماء إلى أن معناه الإيجاب فيما ينذر من الصلاة في المساجد؛ يقولون مهما نذر الإنسان أن يصلى في موضع من غير هذه المساجد الثلاثة- لا يلزمه الوفاء بذلك؛ بل يصلى حيث شاء، وإنما يلزمه ذلك في المساجد الثلاثة.
قلت: ويرجع معنى ذلك- أيضا- إلى ما ذكرنا من استواء الأماكن في حق المصلى، إلا المساجد الثلاثة؛ للمعنى الذي ذكرناه.
وقال بعض أهل العلم: هو ألا يرحل في الاعتكاف إلا إليها؛ وكان بعض السلف يرى أن الاعتكاف لا يصح إلا في هذه المساجد الثلاثة.
[458]
ومنه: حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).
إنما سمى تلك البقعة المباركة روضة؛ لمعنيين:
أحدهما: أن زوار قبره صلى الله عليه وسلم، وعمار مسجده من الملائكة والجن والإنس- مكبون فيها على ذكر الله وعبادته؛ إذا صدر منها فريق، حل بها آخرون، وقال صلى الله عليه وسلم:(إذا مررتم برياض الجنة، فارتعوا)، قيل: يا رسول الله: وما رياض الجنة؟ قال: (حلق الذكر).
والآخر: أن من شهدها- لمجاورة، أو زيارة، أو اعتكاف- أفضى به ذلك إلى روضة من رياض الجنة؛ ويقرب من هذا المعنى: قوله صلى الله عليه وسلم: (ومنبري على حوضي) أي: على حافته وعقره؛ فمن شهده مستمعا إلي أو متبركا بذلك الأثر شهد الحوض [70/ب].
ثم إنه صلى الله عليه وسلم نبه بهذا القول على المناسبة الواقعة بين المنبر والحوض، وهي: أن المنبر مورد القلوب الصادية في بيداء الجهالة؛ كما أن الحوض مورد الأكباد الظامية من حر القيامة، وهما متلازمان لا مطمع لأحد في الآخر دون انتفاعه بالأول، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن منبري هذا على ترعة من ترع الجنة)، والترعة: الباب.
ويقال: الروضة إذا كانت على مكان مرتفع، ويقال: الدرجة.
ويروى: (على ترعة من ترع الحوض)، والترعة: أفواه الجداول.
وقيل: ترعة الحوض مفتح الماء إليه؛ وذلك لصحة المناسبة بينهما.
هذا ونحن لا نقطع بشيء من هذه الأقاويل؛ بل نذهب فيها مذهب الاستنباط والتأويل، ونعتقد أن المراد منه على ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق وإن لم تهتد إليه أفهامنا، ولم تسع له عقولنا.
[465]
ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه: (أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد
…
الحديث).
بنو سلمة- بكسر اللام- بطن من الأنصار، وليس في العرب (سلمة) - بكسر اللام- غيرهم.
وفيه: (دياركم تكتب آثاركم).
أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم، أي: خطاكم التي تخطونها إلى المسجد؛ قال الله تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} أي: ما قدموه من الأعمال، وسنوه بعدهم من السنن، وكانت ديار بني سلمة على بعد من المسجد، وكانت المسافة تجهدهم في سواد الليل، وعند وقوع الأمطار، واشتداد البرد؛ فأرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد؛ فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة؛ فرغبهم فيما عند الله من الأجر على نقل الخطا إلى المسجد.
[468]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة- رضي الله عنه: (ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه! ما لم يحدث).
(يحدث) - بتخفيف الدال من الحدث، ومن شددها فقد أخطأ، وقد روى هذا الحديث أبو عيسى في (كتابه).
وفيه: (فقال رجل من حضرموت: وما الحدث، أبا هريرة؟ فقال: فساء أو ضراط). قلت: ولعل الرجل إنما استفسره؛ لأن الإحداث يستعمل على معنى إصابة الذنب؛ فاشتبه عليه المعنى؛ للاشتراك.
[476]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكا).
إن قيل: (ما وجه تخصيص يمين المصلي بأن عليها ملكا، وقد قال الله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد}).
قلنا: يحتمل أن المراد منه: الملك الذي يحضره عند الصلاة؛ من جهة التأييد، والإلمام بقلبه؛ لإيعاده بالخير- على ما ذكر في الحديث- والتأمين على دعائه، ويكون سبيل هذا سبيل الزائر من الإخوان الصالحين، والأضياف المكرمين، ومن حق ذلك أن يكرم فوق إكرام من يختص المرور ويدخل في خدمته.
ويحتمل أنه خص صاحب اليمين بالكرامة؛ تنبيها على ما بين الملكين من المزية؛ كما هي بين اليمين والشمال، وتمييزا بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ ولهذا نكره؛ كأنه أراد ملكا مكرما مفضلا، أو ملكا غير الذي يعلمون، والله أعلم.
[477]
ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعنة الله على اليهود والنصارى
…
الحديث).
معنى إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى صنيعهم هذا مخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء؛ تعظيما لهم.
والثاني: أنهم كانوا يتحرون [71/أ] الصلاة في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة؛ نظرا منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعا عند الله؛ لاشتماله على الأمرين: عبادة الله سبحانه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء.
وذهابا إلى أن تلك البقاع أحق البقاع بإقامة الصلاة، والتوسل بالعبادة فيها إلى الله؛ لاختصاصها بقبور الأنبياء.
وكلا الطريقين غير مرضية:
أما الأولى: فلأنها من الشرك الجلي.
وأما الثانية: فلأنها متضمنة معنى الإشراك في عبادة الله؛ حيث أتى بها على صيغة الاشتراك والتبعية للمخلوق.
والدليل على تقرير الوجهين: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! لا تجعل قبري وثنا يعبد؛ اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، والوجه الأول أشبه به.
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الصلاة في المقابر: فإنه لمعنيين:
أحدهما: لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود وإن كان القصدان مختلفين.
والثاني: لما يتضمنه من الشرك الخفي؛ حيث أتى في عبادة الله بما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له.
وهذا الحديث حجة على من يرى أن علة النهي عن الصلاة في المقابر هي النجاسة الحاصلة بالنبش؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود على صنيعهم ذلك، ثم نهى أمته عن الصلاة في المقابر، نهيا متسقا على ما ذكره من اليهود؛ أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ ومن الواضح المعلوم: أن قبور الأنبياء- عليهم السلام لا تنبش، ولو نبشت لم يزدها ذلك إلا طهارة، وقد نزه الله تعالى أقدارهم عن ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء، الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)، وثبت:(أنه صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)؛ فالنهي- في الحديث- على الإطلاق، من غير تفصيل بين المنبوش وغير المنبوش.
فعلمنا أن علة النهي ما ذكرناه.
والصلاة في المواضع المتبركة بها من مقابر الصالحين: داخلة في جملة هذا النهي، لاسيما إذا كان الباعث عليها تعظيم هؤلاء، وتخصيص تلك المواضع؛ لما أشرنا إليه من الشرك الخفي.
فأما إذا وجد بقربها موضع بني للصلاة، أو مكان يسلم المصلي فيه عن التوجه إلى القبور، فإنه في
فسحة من الأمر، وكذلك إذا صلى في موضع قد اشتهر بأن فيه مدفن نبي، ولم ير للقبر فيه علما، ولم يكن ما ذكرناه من العمل الملتبس بالشرك الخفي؛ إذ قد تواطأت أخبار الأمم على أن مدفن [71/ب] إسماعيل- عليه السلام في المسجد الحرام عند الحطيم، وهذاك المسجد أفضل مكان تتحرى الصلاة فيه.
[479]
ومنه: حديث ابن عمر- رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا): الحديث محتمل لمعان:
أحدها: أن القبور هي التي لا يصلى فيها؛ لأنها مساكن الأموات الذين سقط عنهم التكليف، وسد عنهم باب العمل، فأما البيوت: فصلوا فيها؛ إذ أنتم أحياء مكلفون ممكنون عن العمل.
وثانيها: أنكم نهيتم عن الصلاة في المقابر؛ فلا تتركوا الصلاة في منازلكم؛ فتكونوا قد شبهتم منازلكم بالمقابر.
وثالثها: أن مثل الذاكر والذي لا يذكر الله: ضرب بالحي والميت، والأحياء يسكنون البيوت، والأموات يسكنون القبور؛ فالذي لا يصلي في بيته جعل بيته بمنزلة القبر؛ كما جعل نفسه بمنزلة الميت.
ورابعها: وقد ذكره أبو سليمان الخطابي- أن يكون معناه: لا تجعلوا بيوتكم أوطانا للنوم لا تصلون فيها؛ فإن النوم أخو الموت.
وقد حمل بعض الناس قوله: (ولا تتخذوها قبورا): على النهي عن الدفن في البيوت؛ وذلك ذهاب عما يقتضيه نسق الكلام إلى ما ورد بخلافه إجماع الصحابة- رضي الله عنهم حيث دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة- رضي الله عنها.
(ومن الحسان)
[481]
حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(ما بين المشرق والمغرب قبلة): الحد الأول
من المشرق: مشرق الشمس في أطول يوم من السنة قريبا من مطلع السماك الرامح؛ وعلى هذا السمت، أول المغارب: مغرب الصيف، وهو مغيب الشمس عند مغرب السماك الرامح.
وآخر المشارق: مشرق الشتاء، وهو مطلع الشمس في أقصر يوم من السنة قريبا من مطلع قلب العقرب؛ وعلى هذا السمت: آخر المغارب: مغرب الشتاء، وهو مغيب الشمس عند مغرب قلب العقرب.
والظاهر: أن المعنى بـ (القبلة) في هذا الحديث- قبلة المدينة؛ فإنها واقعة بين المشرق والمغرب، وهي إلى طرف الغربي أميل.
وقد قيل: إنه أراد به: قبلة من اشتبه عليه القبلة؛ فإلى أي جهة صلى بالاجتهاد: كفته.
وقد قيل: المراد منه: توجه المتنقل على الدابة إلى أي جهة كانت.
وعلى هذين الوجهين: فالمراد من قوله: (ما بين المشرق والمغرب): قبلة الجهات الأربع، ويجوز ذلك على وجه الاتساع؛ لأن الأقطار كلها شرقيها وغربيها، وجنوبيها وشماليها- واقعة بين المشرق والمغرب.
وعلى [72/أ] هذا، فالحديث يحتمل وجها آخر، وهو أن نقول: ليس من جهة من الجهات ما بين المشرق والمغرب إلا وهي قبلة بحسب توجه المصلي إلى الكعبة من مكانه الذي هو فيه: فالمشرقي قبلته المغرب، والمغربي قبلته المشرق؛ وعلى نحو ذلك الجنوب والشمال.
[482]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طلق بن علي- رضي الله عنه: (وانضحوا مكانها بهذا الماء).
ذكر بعض العلماء في كتاب له: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (بهذا الماء) إشارة إلى جنس الماء، أي: انضحوا مكان بيعتكم بالماء.
وليس المعنى على ما توهمه؛ بل هو إشارة إلى ماء بعينه، وإنما أتى فيه؛ من حيث إن الحديث لم ينته إليه بتمامه؛ فأول الحديث على ما استبان له، ولا شيء في استخراج معنى الحديث كاستيفاء طرقه؛ لأن منه المرتقى إلى معرفة معناه؛ وقد روي في حديث طلق: أنه قال: (واستوهبناه فضل وضوئه، فدعا بماء؛ فتوضأ منه، وتمضمض، ثم صبه في إداوة، وقال: اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم، فاكسروا بيعتكم، ثم انضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدا، فقلنا: يا نبي الله! البلد بعيد، والماء ينشف؟ فقال: أمدوه من الماء؛ فإنه لا يزيده إلا طيبا).
فعلمنا بهذا السياق: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (بهذا الماء) إشارة إلى فضل وضوئه، لا إلى جنس الماء.
[483]
ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في الدور).
معناه: في المحلات. الدار- من جهة اللغة: تقع على العامر المسكون، والغامر المتروك، وهي من الاستدارة؛ وذلك لأن الواحد منهم كان يخط بطرف رمحه قدر ما يريد أن يتخذه دارا، ويدور حوله، ولذلك قيل:
الدار دار وإن زالت حوائطه .... والبيت ليس ببيت وهو مهدوم
وكانوا يسمون المحلة قد اجتمعت فيها قبيلة: دارا؛ ومنه الحديث: (ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد).
[488]
ومنه: حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد
…
الحديث)، التعاهد: بمعنى التعهد، وهو التحفظ بالشيء، وتجديد العهد به، وتعهدت فلانا، وتعهدت ضيعتي؛ وهو أفصح من (تعاهدت)؛ لأن [72/ب] التعاهد إنما يكون من اثنين.
وهذا الحديث رواه أبو عيسى في (كتابه)، عن أبي كريب، عن رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وفي روايته:(يعتاد المسجد).
ورواه- أيضا- عن ابن أبي عمر، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وفي روايته:(يتعاهد المسجد) فالاعتياد معاودته إلى المسجد كرة بعد أخرى؛ لإقام الصلاة، والتعاهد: التحفظ به، وتجديد العهد به كذلك، وكلاهما حسن، وأولى الروايتين بالتقديم على ما شهد لها البلاغة لا السند:(يعتاد المسجد).
[489]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه: (ليس منا من خصى ولا اختصى):
تقديره: ولا من اختصى، فحذفه؛ لدلالة ما قبله عليه؛ يقال: خصيت الفحل خصاء، أي: سللت خصيته، واختصيت: إذا فعلت ذلك بنفسك.
أي: ليس هو ممن يقتدى بهدينا، ويتمسك بسنتنا؛ إذا فعل ذلك بنفسه أو بغيره.
[490]
ومنه: الحديث الذي أسنده المؤلف إلى عبد الرحمن بن عائش الحضرمي مرسلا، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي- تبارك وتعالى في أحسن صورة .... الحديث).
هذا الحديث مستند إلى رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ روى ذلك عنه: معاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وأتم الروايتين رواية معاذ.
وقد أورد الطبراني هذا الحديث في (كتابه)؛ فرواه- بإسناده- عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: (احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع، فلما صلى الغداة، قال: إني صليت الليلة ما قضي لي، ووضعت جنبي في المسجد، فأتاني ربي في أحسن صورة
…
الحديث).
ورواه أبو عبد الله أحمد في (مسنده) عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن جهضم اليماني، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، (عن أبي سلام)، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، عن مالك بن يخامر؛ أن معاذ بن جبل قال: (احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس؛ فخرج سريعا، فثوب بالصلاة، وصلى، وتجوز في صلاته، فلما سلم قال: كما أنتم على مصافكم، كما أنتم! ثم أقبل علينا، فقال: إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة؛ إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي، حتى استيقظت فإذا أنا بربي- عز وجل في أحسن صورة
…
) وساق الحديث.
وأصح طرق هذا الحديث: ما رواه أبو عبد الله في (مسنده).
وإذ قد بينا أن الحديث يتعلق بحال أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤيا منام- فالآن نأخذ في بيانه على مقدار فهمنا، ومبلغ علمنا.
ونقول- قبل البيان: مذهب أكثر أهل العلم من السلف في أمثال هذا الحديث- إذا صح- أن يؤمن بظاهره، ولا يفسر بما يفسر به صفات الخلق، بل تنقى عنه الكيفية، ويوكل علم باطنه إلى الله سبحانه، يرى رسوله ما يشاء من وراء أستار الغيب مما لا سبيل [73/أ] لأحد إلى إدراك حقيقته بالجد والاجتهاد، فالأولى: ألا نتجاوز هذا الحد؛ فإن الخطب فيه جليل، والإقدام على مزلة اضطربت عليها أقدام الراسخين شديد، ولأن نرى أنفسنا أحقاء بالجهل والنقصان أزكى وأسلم من أن ننظر إليها بعين الكمال، وهذا- لعمر الله! - هو المنهج الأقوم، والمذهب الأحوط!
غير أن في زماننا هذا: اتسع الخرق على الراقع إذ كانت نعرة الخلاف في رءوس أكثر أبناء الزمان جملتهم، داعية الفتن المستكنة في نفوسهم على الخوض في هذه الغمرة، حتى لو ذكر لهم مذهب السلف، سارعوا إليه بالطعن، وقابلوه بالإنكار والاستكبار؛ إذا عجزوا عن التأويل لنهوض المراد، وقصورهم في علم البلاغة أفضى بهم ذلك إلى التكذيب على وجه الرد والإنكار، حتى صار العدول عن التأويل في هذا الزمان مظنة للتهمة في العقائد، وذريعة للمضلين إلى توهين السن؛ فأدت بنا هذه القضية إلى سلوك هذا المسلك الواعر، واختيار التأويل في القسم الذي نجد للتأويل فيه مساغا، وهذا الحديث من جملته.
وقد بينا أنه ذكر ذلك عن رؤيا منام، ورؤيا الأنبياء- عليهم السلام وإن كانت مصونة عن الاختلال: فإن فيها ما يبين بالتعبير والتأويل؛ فنقول- والله الموفق لإصابة الحق: قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة):
يحتمل- من طريق علم البيان- أن يكون (في أحسن صورة) حالا من الرائي وفيه احتمال: أن يكون حالا من المرئي.
وإذا حملناه على الوجه الأول: لم يبق فيه إشكال؛ وذلك مثل قول الرجل: (رأيت الأمير في أحسن هيئة)؛ وهو يريد: أني كنت في أحسن هيئة.
ولو رده إلى الرؤيا: فله وجه، ومعناه: أن رؤياي كانت في أحسن صورة؛ تقول: صورة الحال كذا، وصورة المسألة كذا.
ولو تنزه متنزه عن هذين التأويلين، ويقول: أنا أعتقد أن الله سبحانه متنزه عن الصورة التي نعرفها ونتصورها، ثم أكل معناها- في هذا الحديث- إلى علم الله الذي وسع كل شيء، فله التسليم، وباب الاعتراض عليه مسدود.
وفيه: (فيم يختصم الملأ الأعلى).
اختصم القوم، وتخاصموا: بمعنى، و (الملأ): الجماعة، وأكثر ما ورد في التنزيل ورد في جماعة يجتمعون على رأي، ولو ذهب ذاهب من حيث الاعتبار اللغوي، إلى أن (الملأ) هي الجماعة التي تملأ العيون رواء، والقلوب مهابة وبهاء فله وجه.
وأراد بـ (الملأ الأعلى): الملائكة؛ وصفوا بذلك: إما اعتبارا بمكانهم، وإما اعتبارا بمكانتهم [73/ب]، والمراد بـ (الاختصام): التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات؛ شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والحوار بما يجري بين المتخاصمين.
وفيه: (فوضع كفه بين كتفي).
السبيل: أن نحمل هذه الألفاظ على معنى التأييد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، والتخصيص له بمنزلة الفضل المقتضى لمزيد العلم؛ فإن من شأن المتلطف بمن يحنو عليه: أن يضع كفه بين كتفيه؛ تنبيها له على أنه يريد بذلك: تكريمه وتأييده.
وفيه: (حتى وجدت برد أنامله بين ثديي).
عبر بذلك على وجده من تنزل الرحمة على فؤداه، وانصباب العلوم الوجدانية إلى ساحة صدره، وللعرب- في هذا الأسلوب من الاستعارة والاتساع- مذاهب فسيحة، وطرق مشهورة، لا ينكرها أهل العلم بطرق كلامهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يخاطب بهذا القول وأمثاله رجالا ترسخت في العلم أقدامهم، وتأصلت في البلاغة أعراقهم؛ فلم يكونوا ليعدلوا عن سواء السبيل، ويخطئوا الغرض من الخطاب، وانتهت النوبة إلى أناس تأخروا عنهم في المنزلتين؛ فصاروا فرقتين:
فرقة: قابلت الحديث بالرد والإنكار.
وفرقة: صرفوه عن الوجه المستقيم.
ونعوذ بالله أن ننخرط في سلك إحدى الطائفتين.
ثم إنا لا ننكر على من تنزه عن تأويل هذا الحديث وأمثاله، ونمضه على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعيا
الأصل الذي ذكرناه، وهو نفي التشبيه بصفات العبيد؛ غير أن عليه أن يعلم؛ هذا الحديث لا يدخل في جملة أخبار الصفات التي لا محيد لأحد منها؛ لأن السبيل إلى إثبات ذلك القسم: النقل الصحيح المتواتر الموجب للعلم، وهذا الحديث من جملة الآحاد؛ ثم إنه من أحاديث الرؤيا، ومبنى الرؤيا- في الغالب من الأحوال- على التعبير والتأويل.
نسأل الله ألا يدفع بنا عن منهج الحق أي واد سلكناه؛ إنه الهادي إلى سواء السبيل!
وفيه: (فعلمت ما في السموات والأرض)، وفي إحدى الروايتين عن ابن عباس:(فعلمت ما في السموات والأرض)، وفي الأخرى:(فعملت ما بين المشرق والمغرب)، وفي رواية معاذ:(فتجلى لي كل شيء وعرفته).
وكل هذه الألفاظ راجعة إلى معنى سعة علمه الذي فتح الله به عليه.
وفي تلاوته- بعد هذا القول- قول الله سبحانه: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} - إشارة إلى أن الله تعالى أراه من آياته الكبرى، حتى علم ما في السماء والأرض؛ كما أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض [74/أ].
فإن قيل: (ما يمنعك أن تقول: إن الآية نازلة في بيان تلك الحالة، والمعنى: كما أريناك هذه الرؤيا- نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض؟).
قلنا: لو كان الأمر على ذلك، لكان من حق الآية: أن تكون نازلة عقيب هذه القصة، ولم يختلف العالمون بأسباب النزول، في كون هذه الآية من جملة ما نزل بمكة، وهذه الرؤيا التي ذكرناها إنما أريها بالمدينة؛ فيكون- إذا- وجه التوفيق بين الآية والحديث على ما ذكرناه.
وفيه: (ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى، يا محمد؟ قلت: في الكفارات).
على هذا السياق نقط (كتاب المصابيح)؛ وذلك وجدناه فيما رواه أبو قلابة، عن ابن عباس، وفي الرواية المعتد بها عن معاذ بن جبل، وفي رواية أخرى عن أبي قلابة، عن خالد بن اللجلاج: عن ابن عباس: (قلت: في الدرجات والكفارات).
فتبين لنا من الروايتين سقوط (الدرجات) عن رواية ابن عائش التي في (كتاب المصابيح)، وعن رواية أبي قلابة، عن ابن عباس.
ومعنى اختصام الملائكة في الدرجات والكفارات: تفاوضهم في فضل كل واحد من الجنسين، أعني: الدرجات والكفارات.
ويحتمل: أن يكون المراد منه: اغتباط الملائكة ببني آدم بهذه الفضائل؛ لاختصامهم بها، أو تقاولهم في فضل البشر، والسبب الموجب لذلك، مع تهافتهم في الشهوات؛ وتماديهم في الجنايات؛ وذلك لما أيدوا به من الكفارات والدرجات؛ فإن أحدهم إذا تقرب إلى ربه بالمشي إلى المساجد؛ لإدراك فضيلة الجماعة، أو جلس في المسجد بعد أداء الفريضة منتظرا لفريضة أخرى، أو أبلغ الماء حيث أمر بإبلاغه على وجه الإسباغ
في أوان يدخل منه على النفوس كراهية- فإن الله يمحو به خطاياه؛ لما فيه من مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى، ومصارعة الطباع البشرية، وإذا أطعم الطعام؛ ولم يطع الشح الذي جبل عليه، أو بذل السلام؛ تواضعا لمن هو مثله، وتوددا إلى عباد الله المؤمنين، أو قام بالليل؛ إيثارا للمكايدة على الاستراحة في جنب طاعة الله، فإن الله يرفع درجاته بذلك، ويمحو به خطاياه.
فإن سأل سائل عن الاختصام المذكور في الحديث: (هل هو الاختصام المذكور في الآية من قوله تعالى: {ما كان لي من علم الملأ الأعلى إذ يختصمون}، أم كل واحد منهما في قضية أخرى؟).
فالجواب- وبالله التوفيق- أن نقول: يحتمل أنهما في قضية واحدة؛ وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم من المفسرين [74/ب] وأصحاب الحديث؛ فذكروا هذا الحديث في تفسير الآية، غير أنهم لم يبينوا وجه التناسب بين الآية والحديث، وهو يسير على من يسره الله، وهو: أن الملائكة لما استقصروا الأوضاع البشرية؛ فلم يهتدوا إلى وجه الحكمة في تكريم آدم وسجودهم له، نبأهم الله تعالى عما أيدوا به من الدرجات والكفارات. على ما ذكرنا قبل فتقاولوا يف فضلا البشر واحتجوا على (من اشتبه عليه .... الحكمة في
…
الأرض
…
والدعاء بما .... الله لهم من الدرجات والكفارات).
فذكر الله تعالى في كتابه اختصامهم عند خلق آدم، ولم يبين فيه ما اختصموا فيه، ثم نبأ عنه نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فأخبر عنه في هذا الحديث.
والأظهر: أن نقول: الاختصام المذكور في الآية غير الاختصام المذكور في الحديث؛ وذلك لأن الاختصام المذكور في الآية: هو تقاول الملائكة في أمر السجود، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحتج على منكري نوبته بما أوحى الله تعالى إليه من قصة الملائكة وآدم على ما كان؛ ليكون علما لنبوته؛ فإنه لم يكن يعلم ذلك قبل الوحي، ولم يكن يقرأ كتبا؛ بل كان أميا بين قوم أميين، وأما الحديث: فإنه إخبار عن حال كوشف بها في المنام، فعلم ما لم يكن ليعلمه من تلقاء نفسه.
ومما يدل على التغاير بين الآية والحديث: أن في الآية نفي عن النبي صلى الله عليه وسلم العلم باختصام الملائكة وفي الحديث: لم ينف هو عن نفسه علم الاختصام، وإنما نفى عنه علم ما كانت الملائكة يختصمون فيه.
ومما يدل عليه- أيضا- كشف الآية عن اختصام قد مضى، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن اختصام لم يمض؛ إذ قال له ربه:(فيم يختصم الملأ الأعلى)؛ تنبيها على أن حال الاختصام باقية.
فإن قيل: فلعل التقدير: فيم كان يختصم الملأ الأعلى؟.
قلنا: يصح ذلك على ضرب من الاحتمال، والذهاب إلى ما يقتضيه الظاهر أولى؛ فإن التقدير إنما يحسن عند الضرورة إليه؛ لاختلال المعنى أو الدلالة؛ حال موجب ذلك، ولا ضرورة بنا إلى ذلك في هذا الحديث.
ومما يدل على استقامة الوجه الذي اخترناه: أن سورة (ص) مكي باتفاق المفسرين، والحديث دل على أن تلك الحالة أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بالمدينة؛ فحدث بها في صباحها بعد أن صلى الصبح.
فصح أن الذي ذهبنا إليه: أظهر الوجهين.
[491]
ومنه: حديث أبي أمامة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن على الله).
(كلهم) أي: كل واحد (ضامن على الله أي: ذو ضمان، وقيل: فاعل بمعنى مفعول، أي: مضمون. ومعناه: أن الله تعالى تكفل له بما ذكر من الجنة أو الأجر والغنيمة؛ فيوفيه إحدى [75/أ] الحسنيين. وإنما ذكر الشيء المضمون به في أول الثلاثة؛ ولم يذكره في الثاني والثالث؛ اكتفاء بما دل عليه المضمون به في الأول، وبيان ذلك: أن الذي يجاهد في سبيل الله إنما يبتغي الشهادة وثواب الجهاد في سبيل الله والغنيمة؛ فذكر صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى تكفل له بإحدى الحسنيين؛ فكذلك الذي يروح إلى المسجد: فإنه يبتغي فضل الله ورضوانه ومغفرته فهو ذو ضمان على الله ألا يضل سعيه، ولا يضيع أجره؛ بل يؤتيه من فضله ورحمته على حسب ما يليق به سبحانه إذا تكفل بشيء!
وفيه: (ورجل دخل بيته بسلام): الأكثرون يذهبون إلى أن الذي دخل بيته بسلام هو الذي يسلم على أهله إذا دخل بيته.
وقد ذهب بعض أصحاب المعاني: إلى أنه هو الذي يلزم بيته؛ طلبا للسلامة، وهربا من الفتن، ويكون المعنى: دخل بيته سالما من الفتن؛ كقوله تعالى: {ادخلوها بسلام} أي: سالمين من العذاب والعوارض والآفات.
قلت: وكأن في الوجه الأول- وإن كان ظاهرا من حيث اللفظ- عدولا من حيث المعنى عن طريق المناسبة، وشذوذا عن جوار المشاكلة والمجانسة.
وأرى الوجه الآخر أولى بالاختيار، لتناسب ما بين المعاني الثلاثة، وهي: الجهاد في سبيل الله، والرواح إلى المسجد لإقامة الفريضة، ولزوم البيت اتقاء الفتن.
وعلى هذا فالمضمون به: ضمان الله له، ورعايته، وجواره عن الفتن.
وعلى الوجه الأول: فالمضمون به: أن يبارك عليه وعلى أهل بيته؛ للحديث الذي يرويه أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال له:(يا بني، إذا دخلت على أهلك فسلم- يكون بركته عليك وعلى أهل بيتك).
[492]
ومنه: حديثه الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (من خرج من بيته متطهرا
…
الحديث): لم أر
أحدًا ممَّن يتعنى باستخراج معاني أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يتعرض لبيان هذا الحديث وأمثاله؛ فكأنهم يعدونه من جملة الواضحات، وأرى الأمر بخلاف ذلك؛ إذ الاعتبار في الأعمال البدنية- بعد إخلاص النية، والسبب الباعث عليها- بكد العامل ونصبه، وامتداد زمان الأعمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(أجرك على قدر تعبك).
وإذا حملنا الحديث على المعنى الذي يقتضي التسوية بين العملين- أعني: الخروج إلى الحج، والخروج إلى الصلاة المكتوبة- أفضى ذلك إلى إهمال أبواب كثيرة من الأعمال، ومخالفة أحكام جمة من السنن، وأدنى ما فيه أن القصاص إذا ألقوا على العامة ظواهر تلك الأحاديث من غير بيان [75/ب] وتفصيل دخل عليهم الدواخل من الشك والغرور والاكتفاء بيسير من العمل وغير ذلك مما لا يخفى على أرباب البصيرة بآفات النفوس وكنت أتعنى كثيرا باستنباط معاني أمثال هذا الحديث على وجه لا يخل بشيء من الأبواب التي ذكرناها فوقع لي أن النظائر التي يذكرها الشارع صلى الله عليه وسلم في أمثال ذلك أمثلة لبيان استكمال المثوبات واستيفاء الأجر من جهة التضعيف، لا لبيان المماثلة من سائر الوجوه.
وأمثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في فضل عشر ذي الحجة (يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة) أي ينتهي ثوابه ذلك من حيث التضعيف إلى هذا القدر، وبيان ذلك أن كل عمل له عند الله قدر مقدر من الثواب فهو مجازى عليه عشرا من ذلك القدر ثم فوق ذلك إلى ما لا سبيل إلى معرفته.
فقوله (يعدل صيام كل يوم بصيام سنة) أي ينتهي ثوابه من حيث التضعيف إلى مقدار من الثواب يوازي صيام سنة لم يدخله التضعيف. فبين صلى الله عليه وسلم مقدار الفضل الذي أوتيه هذا العامل بزمان العمل.
والمعنى: هذا العامل ينال من فضل ربه بهذا العمل في يوم واحد ما لو كدح فيه من طريق الكسب المجرد عن الفضل لم ينله إلا بصيام سنة.
ولما انتهيت إلى شرح هذا الحديث أعملت الفكر فيه أخرى فظفرت فيه بمعنى أظهر من الأول وهو أن نقول: شبه النبي صلى الله عليه وسلم أجر المتطهر الذي يخرج من بيته للصلاة المكتوبة بأجر الحاج المحرم من حيث أنه يستوفي أجر المصلين من لدن يخرج من بيته للصلاة المكتوبة بأجر الحاج إلى أن يرجع إليه وإن لم يكن
مصلياً في سائر تلك الأوقات كالحاج المحرم فإنه يستوفي أجر الحجاج من حين يخرج إلى أن يرجع إلى بيته وإن كان الحج بعرفة. وذلك مثل قولنا فلان كالأسد فلا يقتضي تشبيهه بالأسد من سائر الوجوه بل يحمل ذلك على الجرأة والشجاعة فكذلك قوله: (فأجره كأجر الحاج) لا يقتضي مشابهة الأجرين من سائر الوجوه بل من الوجه الذي ذكرناه، ثم إنه ضرب المثل بالحاج المحرم؛ لكون التطهر من الصلاة بمثابة الإحرام من الحج، فكما أن الصلاة لا تصح بغير طهر فكذلك الحج لا ينعقد بغير إحرام، ثم إن الحاج إذا كان في حالة الإحرام كان أجره أتم وسعيه أكمل، فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهرا كان ثوابه أوفر وسعيه أفضل، ومن تدبر هذا القول الذي [76/أ] ذكرناه في بيان هذا الحديث عرف السبيل إلى استنباط معاني ما ورد من الأحاديث في هذا الباب.
وفيه (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) يريد به صلاة الضحى وكل صلاة يتطوع بها فهي تسبح وسبحة. وفيه (لا ينصبه إلا إياها) ينصبه بضم الياء أي لا يزعجه ولا يحمله على الخروج إلا ذلك. وأصله من النصب وهو المعاناة والمشقة، يقال أنصبني هذا الأمر وهو أمر منصب. وإن كانت الرواية وردت بفتح الياء فمعناه لا يقيمه إلا ذلك، من قولهم نصبت الشيء نصبا إذا أقمته ورفعته. ولا أحقق ذلك رواية بل أوردته من طريق الاحتمال اللغوي.
وفي قوله (فأجره كأجر المعتمر) إشارة إلى أن فضل ما بين المكتوبة والنافلة والخروج إلى كل واحد منهما كفضل ما بين العمرة والحج والخروج إلى كل واحد منهما، فإن سأل سائل عن قوله صلى الله عليه وسلم (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) وعن قوله (أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة)؛ فقال كيف أمر بأداء النوافل في البيوت ثم وعد الثواب على الخروج إليها وكيف السبيل إلى الجمع بين الحديثين على وجه لا يلزم منه إخلاف ولا تضاد؟ فالجواب أن نقول يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم مختصا بصلاة الليل وإن كان ظاهر لفظه يقتضي العموم وذلك لأنه قال هذا القول بعد أن قام بهم ليالي من رمضان فلما رآهم يجتمعون إليه (ويتنحنحون ليخرج إليهم قال (ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم
…
الحديث).
فاكتفى عن ذكر صلاة الليل بما دل عليه صيغة الحال.
ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقعد في مصلاه حتى تطلع الشمس ثم يركع ركعتين وقد قال صلى الله عليه وسلم (من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر له خطاياه) وكان صلى الله عليه وسلم (إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين) وكان صلى الله عليه وسلم (يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا فيصلي فيه ركعتين) ولو كانت صلاته هذه في البيت خيرا لم يكن ليأخذ بالأدنى ويدع الأعلى والأفضل؛ وإذ قد ثبت هذا فنقول: الظاهر أنه أمرهم بالصلاة في بيوتهم لمعان ثلاثة أو لبعض تلك [76/ب] المعاني، أحدها: وهو آكد الوجوه أنه أحب أن يصلوا في بيوتهم عملا بالرخصة التي من الله تعالى بها على هذه الأمة ومخالفة لأهل الكتاب فإنه لم يكن لهم أن يصلوا إلا في كنائسهم وبيعهم.
والثاني: أحب أن يتنفلوا في بيوتهم لتشملها بركة الصلاة فيرتحل عنها الشيطان وينزل فيه الخير والسكينة ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا). والثالث: أنه رأى النافلة في البيت أفضل حذرا من دواعي الرياء وطلب
المحمدة الذي جبل عليه الإنسان، ونظرا إلى سلامته من العوارض والموانع التي تصيبه في المسجد، بخلاف البيت فإنه يخلو هنالك بنفسه فيسد مداخل تلك الآفات والعوارض. فعلى الوجه الأول والثاني إذا أدى الإنسان بعض نوافله في البيت فقد خرج من عهدة ما شرع له، وعلى الوجه الثالث فإنه إذا تمكن عن أداء نافلته في المسجد عارية عن تلك القوادح والعوارض لم تتأخر صلاته تلك عن صلاته في البيت فضيلة. وأرى في قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينصبه إلا إياها) إشارة إلى هذا المعنى وهو أن لا يشوب قصده ذلك شيء آخر فلا يزعجه إلا القصد المجرد لخروجه إلى الصلاة سالما عن الآفات التي أشرنا إليها.
وفيه (وصلاة على إثر صلاة كتاب في عليين) أي: عمل مكتوب في عليين أو مرفوع، وقد اختلف في معنى عليين فقيل هو اسم أشرف الجنان كما أن سجين اسم شر النيران، وقيل هو في الحقيقة اسم سكانها وقيل هو علم لديوان الخير الذي دون فيه أعمال الصالحين من ذوي التكليف منقول من جمع على فعيل من العلو وهذا أولى الأقاويل بالتقديم وإنما سمي عليون لأنه مرفوع في السماء السابعة تكريما وتبجيلا له أو لأنه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات في الجنة.
[496]
ومنه: حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد.
قلت: التناشد أن ينشد كل واحد من المتناشدين صاحبه [نشيدا] لنفسه أو لغيره وأكثر ما يوجد ذلك على وجه المباهاة والعصبية أو على وجه التفكه بما يستطاب من تزجية للوقت بما تركن إليه النفس ويستحليه الطبع [77/أ]؛ وأما ما كان منه في مدح الحق وأهله وذم الباطل وذويه أو كان فيه تمهيد لقواعد الدين أو إرغام لمخالفيه؛ فإنه خارج عن القسم المذموم وإن خالطه النسيب وتساوقه الغزل. وقد كان ينشد
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا القسم وهو في المسجد فلا ينهى عنه لما يعلم في إنشاده من الغرض الصحيح والقصد المستقيم. ولما كان زمان عمر- رضي الله عنه نهى حسان بن ثابت- رضي الله عنه أن ينشد الشعر في المسجد وإنما كان ذلك نظرا منه إلى مصلحة الجمهور فإن أكثر الناس إذا أطيل لهم في هذا المدح أفضى بهم ذلك إلى الاسترسال في الخلاعة والمجون حتى يسقط عنهم التمييز بين المعوج والمستقيم والتفريق بين الغرض الفاسد والصحيح؛ وقد كان رضي الله عنه عارفا بزمانه عبقريا في شأنه ألمعيا في رأيه مصيبا في اجتهاده ولما عارضه حسان يقوله (لقد أنشدته بين يدي من هو خير منك) سكت عنه ولم يكن بسكوته ذلك لوضوح حق كان قد خفى عليه أو بذكر أمر كان ناسيا له بل سكوته [كان] إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتأدبا دون الرواية عنه بترك المعارضة، وإلا فقد كان عمر رضي الله عنه أعمره على ما كان عليه من النهي عنه؛ والصواب ما رآه، والحق ما ذهب إليه.
وفيه (وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة)، تحلق القوم أي: جلسوا حلقة حلقة. وإنما نهى عنه لمعنيين أحدهما: أن تلك الهيئة تخالف اجتماع المصلين كما نهى عن تشبيك الأصابع عند الخروج إلى الصلاة وذلك في حديث كعب بن عجرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في الصلاة) كره صلى الله عليه وسلم أن يخالف هيئته هيئة المصلين، والآخر: أن الاجتماع للجمعة خطب جليل لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ منها وتحلق الناس قبل الصلاة موهم بالغفلة عن الأمر الذي ندبوا إليه والاهتمام بما سوى ذلك. وفي هذا توهين لأمر الدين وتعرض لسوء الظن.
[499]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث قرة بن إياس المزني- رضي الله عنه: (من أكلهما فلا يقربن مسجدنا)، اختلف أهل العلم في المراد عن قوله:(مسجدنا) فمن قائل: إن النهي يختص بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانه، ومن ذاهب إلى أن النهي متعلق بعموم المساجد، فيكون المراد عن قوله:(مسجدنا) أي
مسجد أهل ملتنا، وعلة النهي أن المسلمين يتأذون برائحتها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتطييب المساجد [77/ب] وذلك خلاف المأمور، وهذا الوجه أولى الوجهين بالتقديم، ثم إنا نرى النهي في حق المساجد الثلاثة آكد منه في غيرها لما لها من الفضيلة على غيرها، ولاسيما مسجد المدينة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان يشدد في النهي ويمنع مرتكبه عن حضور المسجد حتى قال صلى الله عليه وسلم: من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو قال فليعتزل مسجدنا.
[501]
ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل).
ربوض الغنم والبقر والفرس والكلب مثل بروك الإبل وجثوم الطير، والمرابض للغنم كالمعاطن للإبل واحدها مربض مثل مجلس، وأعطان الإبل: مباركها عند الماء لتشرب عللا بعد نهل، فإذا استوفت ردت على المراعي والأظماء)، وإحدها عطن، يقال له المعطن أيضا وجمعه معاطن، وفي غير هذا الحديث، (لا تصلوا في مبارك الإبل).
قلت: وقد تكلم على هذا الحديث جماعة من أهل العلم، فذهبوا في المبارك مذاهب مختلفة أضربنا عن تفصيل جملتها إذ لم نر في إيراده كثير فائدة ورأينا أن نذكر المختار منها فنقول- وبالله التوفيق: إن القوم كانوا أصحاب ماشية يفتقرون إلى القيام عليها لتعهدها وحفظها وحلابها، فإذا أدركتهم الصلاة [امتنعوا عن الصلاة فيها] لمكان النجاسة وإن وجدوا فيها مكانا طاهرا، فربما قاسوا حكم المكان الطاهر فيها على حكم المكان الطاهر في الحشوش، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرخص لهم في مرابض الغنم ونهاهم عن معاطن الإبل؛ فعلموا أن حكم تلك المواطن مفارق لحكم الحشوش في جواز الصلاة، ثم أشار إلى علة النهي عن الصلاة في مبارك الإبل بقوله (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين) والمعنى أنها كثيرة الشراد: شديدة النفار معها أخلاق جنية إذا نفرت لا يقوم لها شيء، وإذا صلى الإنسان في معاطنها لم يأمن أن تنفر فتقطع عليه صلاته، فعلمنا أن المنع من الصلاة في المعاطن لم يكن لم يكن لمكان أبوالها
وأبعارها وطهارة بعضها ونجاسة بعضها؛ لأن كل واحد من الجنسين مأكول اللحم فهما سيان في حكم الأبوال والأبعار، ولم يشترط في الصلاة في مرابض الغنم طهارة الموضع؛ لأنهم عرفوا ذلك بأصل الشرع.
ومن مباني ذلك الأصل حديث أنس- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وجعلت لي كل [78/أ] أرض طيبة مسجدا وطهورا) وإنما كانوا يتحرجون عن مجاورة النجس، فبين لهم الأمر فيها ورخص لهم بعضها لمكان الضرورة ونهاهم عن بعضها على وجه الكراهة لاحتمال أن تقطع الصلاة على من صلى دونها، وإنما قلنا إنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وليس في حديث أبي هريرة ذكر السؤال؛ لحديث البراء بن عازب- رضي الله عنه (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة) ومعنى قوله فإنها بركة أي خيرها مرجو وشرها مأمون يقدر كل أحد على استيفاء منافعها، ولا يشق رد صولتها على أحد لسكونها وضعف حركتها. ومن زعم أن النهي إنما ورد في المعاطن ولم يرد في المرابض؛ لأن المعاطن تكون في سهول الأرض [والمغاني الخوارة] فلا يبين فيها النجاسة لكثرة ترابها فإنه تعمق وأبعد في المرمى وكذلك من زعم أنه أراد به منازل المسافرين التي يحطون فيها رحالهم لأن من عادتهم أن يكون برازهم بالقرب منها فيوجد هذه الأماكن في الأغلب نجسة؛ لأن طهارة موضع الصلاة قد عرفت بأصل الشرع؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بعد النهي منها إلى علة النهي فقال:(إنها من الشياطين) فإن قال قائل زعمت أن علة النهي في أعطان الإبل ليست النجاسة فما تقول في المواضع المذكورة في حديث ابن عمر- رضي الله عنه قبل هذا الحديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في سبعة مواطن .. الحديث) أليست العلة في أكثرها النجاسة وقد عرف ذلك بأصل الشرع قلنا: قد بينا لك أن العلة في المعاطن لو كانت النجاسة لم يرخص لهم في المرابض أيضا؛ لأنهما سيان في هذا الحكم.
فأما العلة في المواطن الأخر المذكورة في الحديث فإنها مختلفة وسنذكر بيان ذلك فنقول وبالله التوفيق: أما المزبلة وهي موضع الزبل، والزبل: السرجين، من أخذ بظاهر اللفظ فإنه يذهب إلى أنه نهى عن الصلاة في الموضع النجس؛ لعدم الجواز وفيه نظر، إذ لو كان المراد منه ما زعم لكانت الحشوش أولى بالذكر؛ لأن الصلاة فيها غير محرمة إن وجد فيها مكان طاهر، ثم إن الأمكنة النجسة لا تنحصر في هذه المواضع المذكورة، فما فائدة الحصر وقد كان يكفيه أن ينهي عن الصلاة في الموضع النجس.
ومن سلك المسلك الذي سلكناه في معنى النهي عن أعطان الإبل فإن له أن يقول إنه نهى عن الصلاة في المزابل- وإن وجد فيه موضع خال عن الزبل أو بسط عليها بساط في المكان اليبس- لأن في ذلك
استخفافاً بأمر الدين [78/ب]؛ لأن من حق الصلاة أن تؤدى في الأمكنة النظيفة والبقاع المحترمة. وكذلك المجرزة؛ لأنها مسفح الدماء وملتقى القاذورات، واشتقاقها من الجزر، تقول: جزرت الجزور أجزرها- بالضم- إذا نحرتها وجلدتها، والمجزر بكسر الزاي موضع جزرها.
وكذلك القول في الحمام، لأنه مكثر الأوساخ، ومجتمع الغسالات؛ ثم إنه محل تعري الأبدان عن اللباس- وأما المقبرة فإن علة النهي فيها من وجهين، أحدهما: احتمال نجاسة المكان مع مجاورة النجس على ما ذكرناه في المجزرة والحمام؛ والآخر: اتخاذ القبور مساجد استنانا بسنة اليهود.
فإن قيل: فما وجه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم) الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)؟! قلنا: في إسناد حديث أبي سعيد هذا اضطراب؛ فلو ثبت فالوجه فيه تأكيد النهي فيها واجتماع العلل المعتد بها في النهي في هذين الموضعين على ما ذكرنا، وتقدير الكلام: الأرض الطيبة كلها مسجد؛ إلا المقبرة والحمام؛ فاختصر لعلم المخاطبين، وأراد بكونها مسجدا من وجه الاختيار، وطلب العزيمة، لا من وجه الرخصة والجواز. والاستثناء في هذين الموضعين من جملة الأرض لا يكاد يصح إلا على الوجه الذي ذكرناه ومن جعل علة النهي فيهما النجاسة فقد أحال؛ لأن المواضع النجسة غير منحصرة فيهما.
وأما علة النهي في قارعة الطريق فهي من وجهين: أحدهما احتمال نجاسة المكان، والآخر أن المصلي دونها لا يأمن أن يقطع المارة عليها صلاته، ولو صلى مصل في هذه المواطن وكان الموضع الذي يصلي فيه طاهرا جازت صلاته مع الكراهة؛ لمكان النهي من غير تقييد.
وأما علة النهي عن الصلاة على ظهر بيت الله؛ فإن بعض العلماء صرف النهي فيها إلى حال فقد السترة بين يدي المصلي على ظهر البيت، وقد ذهب بعضهم إلى خلاف ذلك، وقال: الحكم للبقعة لا للبناء، والذي يصلي فوقها متوجه إلى جزء منها، والصلاة فوقها كالصلاة في جوفها؛ وإذا صحت صلاة من يصلي بحضرة الكعبة فوق ابن قبيس، والكعبة تحته، وهو متوجه إلى ما فوقها من الجهة، فبالحري أن تصح صلاة من يتوجه إلى جزء منها؛ ثم إن النهي مطلق لم يقيد بعدم السترة.
قلت: ولست أدري بماذا عللوا النهي؟! والذي نهتدي إليه من علة النهي أن الصلاة على ظهر البيت تفضي إلى ارتقاء سطح البيت، وذلك مخل بشرط التعظيم، لمشابهته صنيع أهل العادة [78 م/أ] في استعلاء البيوت للتطلع والتفرج؛ ثم لخلوه عن الفائدة، ومن انتهى إليه هذا الحديث بطريق يصح الاحتجاج فعليه التسليم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ علم علة النهي أو لم يعلم. ولقد شاهدت من كرامة ذلك البيت المبارك أيام مجاورتي بها أن الطائر كان لا يمر فوقه، وكثيرا كنت أتدبر تحليق الطير في ذلك الجو، فأجدها مجتنبة عن محاذاة البيت، وربما انقضت من الجو حتى تدانت، فطافت به مرارا ثم ارتفعت. ومن آيات الله البينة في كرامة ذلك البيت أن حمامات الحرم إذا نهضت للطيران طافت حوله مرارا من غير أن تعلوها،