الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن
كتاب الصلاة
(من الصحاح)
[374]
حديث ابن مسعود- رضي الله عنه (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله
…
الحديث) قلت: ظاهر هذا الحديث غير مفتقر إلى التفسير على وضوحه وإنما يتفقر إلى التقرير لما يعترضه من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال وأحبها إلى الله ثم للاختلاف الذي يقع في الترتيب بين تفاصيلها ففي هذا الحديث (أي الأعمال أحب إلى الله قال الصلاة لوقتها) وفي حديث أبي ذر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي العمل خير قال إيمان بالله وجهاد في سبيل الله) وفي حديث أبي سعيد الخدري سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل قال: رجل مجاهد في سبيل الله)، وفي حديث عائشة (قلت يا رسل الله ألا نخرج فنجاهد معك فإنا ترى الجهاد أفضل العمل فقال لكن أحسن العمل وأجمله الحج حج مبرور) وروى عنه صلى الله عليه وسلم (أنه سئل ما أفضل الأعمال فقال جهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة).
ووجه التوفيق بين هذه الأحاديث: أن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب في كل منها بما علن أنه يوافق غرض السائل، أو أجاب بما كان ترغيبا للسائل فيما هو بصدده أو أجابه على حسب ما عرف من حاله توقيفا له على ما خفى عليه من باب الفضيلة أو إرشادا له إلى ما هو الأصلح له والأحرى به ففي حديث ابن مسعود علم أن السائل يسأل عن الأعمال البدنية المفروضة على الإنسان كالصلاة والزكاة والصوم والحج فقال الصلاة لوقتها.
وفي حديث أبي ذر علم أنه يسأل عن كل ما يتقرب به إلى الله فذكر الإيمان الذي هو من أعمال القلوب المعبر عنه بالألسنة وذكر الجهاد بعد الإيمان دون سائر الأعمال المفروضة لأحد المعنيين إما لاكتفائه بذكر الإيمان عنها؛ لأنها من لواحق الإيمان وتوابعه المنصوصة عليها أو لأنه أراد أن يعرف السائل موقع الجهاد من الدين فجعله في الخيرية مقترنا بالإيمان؛ لأنه السبب الداعي إلى الإيمان والخلة المظهرة لكلمة الله العليا لاسيما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان من أجل القربات وأعظم المثوبات؛ لاشتماله على إظهار الدين ونصرة [63/أ] الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى أقرب من الأول، وفي معناه حديث أبي سعيد الخدري.
وفي حديث عائشة أجاب على ما وجده ملائما لحال السائل وجعل الجعل أحسن من الجهاد نظرا إلى ضعف منتهن عن القيام به وإشارة إلى أن الحج أليق بهن وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إنما جهادكن الحج). وأما الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم (سئل ما أفضل الأعمال فقال جهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة) وأراه من رواية عبد الله بن حبشي رضي الله عنه فإنه يطلق على أفضل ما كان الرجل بصدده من الأعمال وقد يقول القائل خير الأشياء كذا ولا يريد تفضيله في نفسه على جميع الأشياء ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال ولواحد دون آخر وذلك مثل قول في موضع يحمد فيه السكوت ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال لواحد دون آخر وذلك مثل قولك في موضع يحمد فيه السكوت لا شيء أفضل من السكوت وقولك حيث يحمد الكلام لا شيء أفضل من الكلام وقد تعاضدت النصوص وتعاونت على فضل الصلاة على الصدقة ثم إن تجددت حال تقتضى مواساة مضطر أو يفتقر معا إلى الماء لإصلاح ذات البين فيكون الصدقة حينئذ أفضل من الصلاة هذا وقد ورد في أحاديث أخر ما يدل على فضل الحج على الجهاد تارة وعلى فضل الجهاد على الحج تارة أخرى.
ووجه التوفيق بينهما أن نقول الأمر في كل واحد من الحديثين مبنى على اختلاف أحوال العباد فمن أدركته فريضة الحج فالحج أفضل له؛ لأن ما هو فرض على الكفاية لا يقاوم ما هو فرض لعينه وإن لم يتعين عليه وكان من ذوي النجدة والبأس فالجهاد في حقه أفضل وإن كان ممن لا يسد مسدا ولا يغنى غناء بحيث لا يكون بالمسلمين حاجة إليه فالحج أفضل له وإذا استوت الحالان وكان في كل واحد من الأمرين متبرعا فلا شك أن الجهاد أفضل لعموم نفعه وشمول فائدته في صلاح العباد والبلاد وإلى مثل هذه الحالة أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النضير بن حارث القرشي العبدري- رضي الله عنه حيث قال: يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله قال (الجهاد والنفقة في سبيل الله).
قلت وكل ما لم يذكره من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال فالسبيل إلى استخراج معانيها على ما ذكرناه في تلك النظائر وقد أوضحت مبان هذا الحديث بابا معظما من علم المعاني لم تدبره من ذوي الفهم [63/ب] والله الواهب المنان الملهم للصواب.
[375]
ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) معنى هذا القول أن العبد إذا ترك الصلاة لم يبق بينه وبين الكفر فاصلة فعلية تؤنس منه؛ لأن إقامة الصلاة هي الخلة الفارقة بين الفيئين والحكم الحاجز بين الأمرين وإذا لم يكن بين المنزلتين منزلة أخرى والتهاون بحفظ حد الشرع كاد أن يفضى بصاحبه إلى حد الكفر عبر عنه بارتفاع البنيونة وقد علمنا بأصل الشرع أن المراد منه المقاربة والمداناة من الكفر لا الدخول فيه.
(ومن الحسان)
[376]
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت- رضي الله عنه (كان له على الله عهد) العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ومنه سمي الموثق الذي يلزم العباد مراعاته عهدا وعهد الله ما أوصاهم بحفظه فلا يسعهم إضاعته ثم سمي ما كان من الله تعالى على طريق المجازاة لعباده عهدا على نهج الاتساع؛ لأنه وجد في مقابلة عهده على العباد ولأن الله تعالى وعد القائمين بحفظ عهده أن لا يعذبهم وهو بإنجاز وعده ضمين وبأن لا يخلفه حقيق فسمي وعده عهدا؛ لأنه أوثق من كل عهد.
[379]
ومنه: حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة
…
الحديث) الضمير في قولهم (وبينهم) راجع إلى المنافقين وردت به الرواية ومعناه أن الصلاة هي الموجبة لحقن دمائهم ومراعاة ذمتهم فإذا تركوها برئت عنهم الذمة ودخلوا في حكم الكفار فنرى سفك دمائهم كما نرى سفك دماء من لا عهد له من الكفار ولا أمان أشار إلى أن المانع عن قتل المنافقين هي الصلاة، فإذا ارتفع المانع رجع الحكم إلى أصله كما أن المانع عن قتل المعاهدين هو العهد فإذا انقضى العهد الذي بيننا وبينهم أو أخل به النقض من قبلهم أبيحت لنا دماؤهم، وقيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لما استؤذن في قتل المنافقين:(إلا إني نهيت عن قتل المصلين) والله أعلم.