الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بني جمع، وكان من وراءهم من حلا الحرم والقادمين عليهم يمرون عليهم إذا دخلوا المسجد فربما أغلقوا تلك الأبواب إذا جن عليهم الليل فلم يستطع الزائر أن يجوس من خلال ديارهم في هجعة من الليل فيدخل المسجد فيطوف بالبيت؛ فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ليس لهم أن يصنعوا هذا الصنيع وأن يمنعوا عباد الله عن منسكهم ويحولوا بينهم وبين متعبدهم، وأباح للزائرين التمتع بالبيت المبارك في سائر الأوقات ونهى أصحاب الديار الواقعة حوله أن يحتجزوا دورهم، فموقع قوله صلى الله عليه وسلم: أي وقت شاء من ليل أو نهار هو المعنى الذي ذكرناه لإباحة الصلاة في أوقات نهينا عن الصلاة فيها.
قلت: وإنما خص بني عبد مناف بهذا الخطاب دون بطون قريش لعلمه بأن ولاية الأمر متأول إليهم، مع أنهم كانوا رؤساء مكة وساداتها وفيهم كانت السدانة والحجابة واللواء والسقاية والوفادة؛ فخصهم بالخطاب ليمتنعوا بأنفسهم عن هذا الصنيع، ويأخذوا على يدي من يبتغيه، ويحتمل أنه أشفق عليهم من الابتداع بمنع الناس عن الطواف ليخلو لهم المطاف والبيت؛ فحذرهم عن ذلك، وقد كان الأمراء من بني مروان ومن حج من الخلفاء من بني العباس يصنعون ذلك.
قلت: وهذا القول إن كان صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح فالأظهر أنه أشار به إلى الذي أراد أن يوليه أمر مكة، وهو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة، حين خروجه إلى حنين فلم يزل أميرا عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفة من بعده، فتوفي بمكة يوم توفي الصديق بالمدينة.
ومن
باب الجماعة وفضلها
(من الصحاح)
[723]
حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) قلت: قد روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا)، ووجه التوفيق بين الحديثين أن نقول: عرفنا من تفاوت الفضل في حديث ابن عمر- رضي الله عنه أن سماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم لحديثه ذلك كان بعد سماع أبي هريرة لما ذكرناه، لأن الزيادة في الفضل ينبغي أن تكون آخر الأمرين، فإن الله سبحانه يزيد عباده من فضله، ولا ينقصهم من الموعود شيئا، فالنبي صلى الله عليه وسلم حث المؤمنين بما ذكر من الفضيلة على صلاة الجماعة في حديث أبي هريرة على ما تبين له من أمر الله، ثم رأى أن الله تعالى من عليه وعلى أمته بالزيادة على الموعود، وذلك بجزئين على ما في حديث ابن عمر، فبشرهم به، وحثهم على الجماعة،
وهذاك اختلاف ترتيب لا اختلاف تناقض، وهذا الذي ذكرناه هو الضابط في التوفيق بين الأحاديث التي توجد من هذا القبيل، والتوفيق بين الأحاديث المختلفة في الوعيد أيضا على هذا النمط، لأن الحكيم إذا زجر العباد عن أمر بنوع من الوعيد [100 م/ب] ثم زجرهم بما يزداد عليه، فالسبيل في الحديثين أن يكون الناقص متقدما والزائد متأخرا على ما ذكرناه في الوعد فإنه أبلغ في المعنى المراد منه وأدعى للعباد إلى ترك الأمر المزجور عنه.
وأما وجه قصر أبواب الفضيلة على خمس وعشرين تارة وعلى سبع وعشرين أخرى، فإن المرجع في حقيقة ذلك إلى علوم النبوءة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك جملها وتفاصيلها، وسائغ من طريق التقريب والاحتمال أن يقال: وجد النبي صلى الله عليه وسلم الفوائد المختصة بصلاة الجماعة تارة على ما في حديث أبي هريرة وتارة على ما في حديث ابن عمر فأخبر عنها على ما كوشف به، وذلك مثل فائدة اجتماع المصلين؛ وفائدة صفوفهم، وفائدة الاقتداء وفائدة إظهار شعار الإسلام وغير ذلك، وبعد هذا فللفهم في هذه العرضة مضطرب واسع، ولكن الأولى بنا أن نقف حيث أوقفنا الله تعالى ونسلم الأمر فيه إلى من كاشفه الله بحقائقه صلى الله عليه وسلم بمبلغ ما خصه به من المعاني.
[723]
ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب
…
) الحديث، صواب هذا اللفظ يحتطب وهذا الحديث على السياق الذي في المصابيح أخرجه البخاري في كتابه في باب (إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت) ففي بعض نسخه يتحطب على وزن التفعل، وفي بعضها يحتطب من الاحتطاب فعلمنا أن الغلط وقع من بعض رواة الحديث إذ التحطب على زنة التفعل لم نجده مستعملا في شيء من كلامهم وإنما يقال حطبت الحطب واحتطبته أي جمعته، وهذا التغليظ يحمله بعض أهل العلم على العموم في ترك صلاة الجماعة، وليس الأمر على ذلك بل المعنى به أهل النفاق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن ليتخلف عن الصلاة خلفه بالعلل الداحضة إلا المنافقون وهم الذين لا صلاة لهم بالحقيقة، ولو أحرقت عليهم بيوتهم كان أحقاء بذلك ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه من التأويل قوله صلى الله عليه وسلم (أن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة
…
) الحديث رواه مسلم في كتابه عن أبي هريرة على هذا السياق، ورواه أيضا عن ابن مسعود- رضي الله عنه (1/أ) وفي روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة (لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال- يتخلفون عن الجمعة- بيوتهم)، وفيه:(لو يعلم أحدهم أنه عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين) العرق بفتح العين وسكون الراء:
مصدر قولك عرقت العظم أعرقه بالضم عرقا ومعرقا إذا أكلت ما عليه من اللحم. والعرق أيضا: العظم الذي أخذ عنه اللحم والجمع عراق بالضم، وهو المراد به في هذا الحديث، وإنما وصفه بالسمن إشارة إلى بقاء شيء من اللحم عليه، وفي كتاب مسلم عظما سمينا، ويحتمل أنه وصفه بالسمن لأنه استخلص من لحم سمين فيكون رخوا دسما، وأما المرماة قد فسرت بما بين ظلف الشاة من اللحم، وقد يفتح منه الميم، فإنه كان المراد منهما ما بين ظلفي الشاة فإنما وصفهما بالحسنتين ليكون مشعرا ببقاء محل الرغبة فيهما كما وصف العظم بالسمن؛ إذ المفهوم من المرماة: ما يرمى من الشاة فلا ينتفع بها، وقال أبو سعيد بن الأعرابي: المرماتان في هذا الحديث هما سهمان يرمي بهما فيحرز سبقه يقول: يسابق إلى إحراز الدنيا وسبقها ويدعى سبق الآخرة.
[724]
ومنه حديثه الآخر: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى
…
الحديث) الأعمى الذي ذكر في هذا الحديث هو ابن أم مكتوم لما روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث، وقد روي عن ابن أم مكتوم أنه قال:(أتيت النبي) صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني شيخ ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني، وبيني وبين المسجد شجر وأنهار فهل لي من عذر إذا أصلي في بيتي. فقال: تسمع النداء؟ قلت: نعم. قال: فأتها). وابن أم مكتوم اسمه عمرو وقيل عبد الله وقد اختلف في اسم أبيه والأكثرون على أنه قيس بن زائدة بن الأصم القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وأمه عاتكة بنت عنكثة المخزومية وفي حديثه هذا متمسك لمن يذهب إلى وجوب حضور الجماعة على الضرير
كوجوبها على الصحيح، ومن يرى ذلك فإنه [101/ب] يجعله بمنزلة اليسير الذي لا يهتدي إلى السبيل، وقد عارض هذا الحديث حديث عتبان بن مالك الأنصاري، وهو حديث صحيح وفيه أنه قال: يا رسول الله إني قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي لهم، فوددت أنك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتي فتصلي في مصلى فأتخذه مصلى قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سأفعل إن شاء الله .. الحديث، وبهذا الحديث تمسك من رأى خلاف القول الأول وليس قصدنا في بيان ذلك المناضلة عن أحد الفريقين فإن العلماء الذين أفضى بهم اجتهادهم إلى هذا الخلاف لأغنياء بوفور علمهم، ودقة نظرهم عن تصدي أمثالنا للذب عنهم وإنما القصد طلب التوفيق ونفي التضاد عن الحديثين على ما تكفلنا به ما أمكننا. فنقول التوفيق بينهما إنما يتيسر من وجهين:
أحدهما: أن نقول إنما رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعتبان أن يصلي في بيته؛ لأنه ذكر أن السبيل يحول بينه وبين مسجد قومه فلا يستطيع أن يعبر الوادي وهذا حكم يستوي فيه الصحيح والضرير ولو كان عتبان متعللا بإنكار البصر لم يفتقر إلى التعلل بوقوع الأمطار وسيلانها في الوادي.
والآخر: أن نقول أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم محتمل للوجوب ومحتمل للندب والاستحباب، وقد نظرنا في هذا الحديث وصيغته واختلاف طرقه وما يعارضه من حديث عتبان فرأينا حمله على الاستحباب أوجه فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صرف قوله عن قاعدة الجواب، حيث سأله أن يرخص له، فقال: هل تسمع النداء؟ ولم يصرح له بعدم الرخصة.
وفي غير هذه الرواية أنه قال فهل لي من عذر؟ قال: هل تسمع النداء؟ وكان من صريح القول أنه يقول ما لك رخصة أو ما أشبه ذلك فلم يرد الجواب على وتيرة السؤال بل قال: فأتها.
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتابه ولفظه (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة، قال: نعم: قال: فأجب).
قلت: فوجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نبأ ابن أم مكتوم بالرخصة في أول الأمر [102/أ] ثم دعاه إلى العزيمة نظرا له واختيارا للأصلح وإرشادا إلى ما هو الأليق بحاله وزمانه، فقد كان هو من فضلاء المهاجرين والسابقين الأولين وكان لا يرغب يومئذ عن إدراك فضيلة الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مغموص عليه بالنفاق أو جاهل بما له في ذلك أو عاجز عن الحضور.
وقد أشار مسلم في كتابه إلى تعليل هذا الحديث بإيراد حديث ابن مسعود بعده هو- رحمه الله حسن السياق للأحاديث مبين لعللها في مدارج الترتيب فروى بإسناده عن ابن مسعود أنه قال: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة). قلت: فلما ذكرناه من الوجوه لم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه على الرخصة بل كشف له عنها
ابتلي به من الزمانة، وأشار ثانيا إلى العزيمة لما عرف فيه من الجلادة وتفرس فيه من النجابة والصرافة والنجدة والشهامة وقد ظهر منه آثارها وتبين علاماتها بعد حين فخرج في خلافة عمر- رضي الله عنه مناهضا أعداء الله، فشهد فتح القادسية، وكان صاحب راية المسلمين يومئذ فمن قائل إنه استشهد هنالك، ومن قائل إنه انحاز إلى المدينة راشدا فتوفي بها- رضي الله عنه.
[731]
ومنه: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة. البخور بالفتح ما يتبخر به كالفطور والسحور وإنما خص العشاء الآخرة بالنهي؛ لأنها تؤدي عند إقبال الليل وارتكام الظلام وهدوء الأقدام وتهيؤ الناس للمنام واستيلاء الشيطان بالوسوسة واستحواذه على النفوس الشريرة يتمكنها عند ذلك من قضاء الوطر بخلاف صلاة الصبح فإنها دون إدبار الليل وإقبال النهار وحينئذ تنعكس القضية ويتحقق للنفوس حصول الحاجز بينها وبين ما تبتغيه، وفي معنى حديث أبي هريرة هذا حديث زينب بنت عبد الله الثقفية امرأة عبد الله ابن مسعود قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبا).
(ومن الحسان)
[733]
في حديث أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم (وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها) أراد