المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب السهو - الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي - جـ ١

[التوربشتي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المصنف

- ‌كتاب الإيمان

- ‌ باب: إثبات عذاب القبر

- ‌ باب الاعتصام بالكتاب والسنة

- ‌ كتاب الطهارة

- ‌ باب ما يوجب الوضوء

- ‌ باب آداب الخلاء

- ‌ باب السواك

- ‌ باب الوضوء

- ‌ باب الغسل

- ‌ باب أحكام المياه

- ‌ باب تطهير النجاسات

- ‌ باب التيمم

- ‌ باب الغسل المسنون

- ‌ باب المستحاضة

- ‌ كتاب الصلاة

- ‌ باب المواقيت

- ‌ باب تعجيل الصلاة

- ‌ باب الأذان

- ‌ باب فضل الأذان، وإجابة المؤذن

- ‌ باب المساجد ومواضع الصلاة

- ‌ باب الستر

- ‌ باب السترة

- ‌ باب صفة الصلاة

- ‌ باب: ما يقرأ بعد التكبير [

- ‌ باب الركوع

- ‌ باب السجود وفضله

- ‌ باب التشهد

- ‌ باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ باب الذكر بعد الصلاة

- ‌ باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

- ‌ باب السهو

- ‌ سجود القرآن

- ‌ باب أوقات النهي

- ‌ باب الجماعة وفضلها

- ‌ باب تسوية الصف

- ‌ باب الموقف

- ‌ باب الإمامة

- ‌ باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق

- ‌ باب من صلى صلاة مرتين

- ‌ باب صلاة الليل

- ‌ باب ما يقول إذا قام من الليل

- ‌ باب التحريض على قيام الليل

- ‌ القصد في العمل

- ‌ باب الوتر

- ‌ باب القنوت

- ‌ باب قيام شهر رمضان

- ‌ باب صلاة الضحى

- ‌ باب التطوع

- ‌ صلاة التسبيح

- ‌باب الجمعة

- ‌ باب وجوب الجمعة

- ‌ باب التنظيف والتبكير

- ‌ باب الخطبة والصلاة

- ‌ باب صلاة الخوف

- ‌ باب صلاة العيدين

- ‌ فصل الأضحية

- ‌ باب العتيرة

- ‌ باب صلاة الكسوف

- ‌ باب صلاة الاستسقاء

الفصل: ‌ باب السهو

غليانه، ومنه الأز، وهو: الإزعاج والتهييج والإغراء، وفي معناه قوله سبحانه:{تؤزهم أزا} أي: تهيجهم. تهيج القدر: إذا اشتد غليانها.

[692]

ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدث أحدكم في صلاته، فليأخذ بأنفه، ثم لينصرف) قلت: إنما أمره أن يأخذ بأنفه، ليخيل إلى غيره أنه مرعوف، وهي من المعاريض الفعلية، رخص له فيها وهدى إليها، لئلا يسول له الشيطان أن يمضي في صلاته، استحياء من الناس، وفيه أيضا تنبيه على إخفاء الحدث في تلك الحالة.

ومن‌

‌ باب السهو

(من الصحاح)

[697]

حديث أبي هريرة- رضي الله عنه (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلم من

ص: 270

الركعتين

) الحديث وفي إحدى طرق الصحاح: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

) فيحتمل أن أبا هريرة- رضي الله عنه حدث على كلتا الصيغتين، فقوله:(صلى بنا) أي: أمنا، يدخل فيه التعدية، فتفيد معنى قولنا: أمنا فجعلنا من المؤتمين بصلاته، وقوله:(صلى لنا) يصح أن يكون أقام اللام مقام الباء، ومن اللام الجارة صرب يورد أيضا لتعدية الفعل، ويصح أن يراد به: صلى من أجلنا لما يعود إليهم من فائدة الجماعة، ويصيبهم من البركة بسبب الاقتداء به، فحدث به تارة بالباء، وأخرى باللام، ويحتمل أن يكون من بعض الرواة، لتقارب أحدهما عن الآخر.

وبعد، فإنا نشرع إلى بيان ما يشكل من هذا الحديث فنقول: روي هذا الحديث عن أبي هريرة بطرق شتى، وألفاظ مختلفة، قد وجدتها متدانية المعاني إلا ما يختلف من ألفاظه في الصلاة التي سها فيها، فإن ابن سيرين رواه عن أبي هريرة، وفي روايته:(صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي: إما الظهر وإما العصر) هذا لفظ كتاب مسلم، ورواه البخاري أيضا عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ولفظه:(صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي- وأكبر ظني العصر- ركعتين) ورواه أيضا عن أبي سلمة عن أبي هريرة

ص: 271

قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر) ورواه مسلم بإسناده عن أبي سفيان مولى ابن أبي يعمد أنه قال: سمعت أبا هريرة يقول (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر) ورواه أيضا بإسناده عن أبي سلمة قال: حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين من صلاة الظهر، ثم سلم، فأتاه رجل من بني سليم

الحديث) ورواه من طريق آخر عن أبي هريرة قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الركعتين، فقام رجل من بني سليم

) واقتص الحديث.

ورواه أيضا بإسناده عن عمران بن حصين- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر، فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله (94/أ) فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، فكان في يده طول، فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضبانا يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم).

قلت: ولم نجد خلافا عن أهل العلم بالرواية أن كلا الحديثين- أعني حديث عمران وحديث أبي هريرة- في قضية واحدة، والحديث يقال له: حديث ذي اليدين، وهو خرباق السلمي، وإنما قيل له: ذو اليدين لطول فيهما، وربما قالوا: ذو الشمالين، ولعلهم أشاروا بذلك إلى ضعفهما، أو إلى قلة غنائهما، ويقال له: الأضبط، وهو الذي يعمل بيديه، ويكنى: أبا العريان، وإذ قد علمنا أن حديث عمران بن حصين وأبي هريرة هو حديث ذي اليدين، حكمنا من طريق الترجيح بأن الصلاة التي سها فيها النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي شاكا فيها. وقوله:(وأكبر ظني العصر) يؤيد ما ذهبنا إليه، ثم إنه روى عن خرباق السلمي إنها العصر.

وإذ قد تبين لنا أن حديث عمران بن حصين أثبت وأسلم من الشك، وجدنا ما روى عنه أنه سلم في ثلاث ركعات، أولى بالتقديم، فإن قيل: فما وجه التوفيق بين الاختلافات التي في حديث أبي هريرة، قلنا: وجه ذلك أن أبا هريرة كان شاكا في أول الأمر، ثم سمعه عمن شهد معه في تلك الصلاة، أو تذكر بعد أن نسى، فحدث به على القطع أنه العصر، أو كان متيقنا ثم اعترض له الشك بآخره: فقال: الظهر أو العصر. وأما رواية أبي سلمة عنه أنه الظهر من غير تردد، فوجه ذلك أنه روى: الظهر أو العصر، فسقط العصر عن بعض الرواة فلم يثبتها، والدليل على ذلك روايته عنه:(صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر) على ما روي عن غيره، ثم إنا فتشنا عن أقاويل أهل العلم في حكم هذا الحديث، فوجدنا أبا جعفر الطحاوي وأبا سليمان الخطابي- رحمة الله عليهما- قد نقرا عنه، وأشبعا القول فيه، وقد جد كل واحد منهما في تأويله على مصداق مذهبه ورفاق رأيه، ورأيت أن أحكي عن كل واحد منهما زبدة قوله.

فأما أبو جعفر، فإنه ذهب إلى أن ذلك كان قبل نسخ الكلام في الصلاة، قال: ومما يدل على نسخه

ص: 272

إجماع الأمة أن الإمام إذا سها، لم يكن لمن خلفه أن يكلمه، بل يسبح له، بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم فدل تعليمه بالتسبيح على أن الكلام منسوخ، وفي حديث عمران وأبي هريرة ما يدل على أن ذلك كان قبل استقرار الأحكام؛ لأن أبا هريرة قال: سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى إلى خشبة في المسجد، وقال عمران: مضى إلى حجرته، فدل هذا على أنه صرف وجهه عن القبلة، وبعد استقرار الأحكام لم يجز لأحد أن يفعل مثل ذلك في صلاته، ثم قال: فإن قيل: كان فعلهم هذا سهوا منهم، قلنا: فيجب إذا طعم ناسيا أو شرب أو باع أو اشترى في الصلاة ساهيا أن لا يخرجه ذلك من الصلاة، لأن ذلك فعل، والفعل كله في الصلاة إذا لم يكن من أفعالها كان مفسدا لها، إلا ما خص بدليل، قال: ومما يدل على أن ذلك كان قبل نسخ الكلام، أن القوم تكلموا من غير سهو، فقالوا: صدق يا رسول الله، صليت ركعتين، ثم قال: فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: هذا منسوخ وأبو هريرة قد حضر تلك الصلاة؛ وهو قد صحب رسول الله ثلاثا من أواخر أعوام الهجرة، ونسخ الكلام كان بمكة، قلنا: بماذا عرفتم أن نسخ الكلام كان بمكة، وزيد بن أرقم الأنصاري يقول: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت، وصحبة زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت بالمدينة، ولم يحضر أبو هريرة تلك الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذا اليدين استشهد يوم بدر، ذكر ذلك محمد بن إسحق، وقد روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما ما يوافق ذلك، وهو أنه قال، لما ذكر له حديث ذي اليدين فقال: كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين. وقال الطحاوي: إنما قول أبي هريرة: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بالمسلمين، وهذا جائز في اللغة، وقد روي عن النزال بن سبرة، أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف

الحديث) يريد النزال بقوله: قال لنا، أي: قال لقومنا؛ لأنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهد الطحاوي بأمثال ذلك من الكلام، وأما أبو سليمان الخطابي، فإنه قال في كتاب (معالم السنن): أما نسخ الكلام في الصلاة فإنه كان بمكة، ولا موضع له هاهنا.

قلت: وحديث زيد بن أرقم الذي احتج به أبو جعفر يحكم بخلاف ذلك، وهو حديث صحيح، وقد استدرك أبو سليمان قوله ذلك في كتاب الأعلام، فقال: إن نسخ الكلام في الصلاة إنما وقع بعد الهجرة بمدة يسيرة، وأبو هريرة راوي هذا الحديث متأخر الإسلام، وقد رواه أيضا عمران بن حصين وهو متأخر الإسلام أيضا.

قلت: وقد تبين من حديث زيد بن أرقم الأنصاري الخزرجي أن نسخ الكلام كان بعد الهجرة، غير أنا (95/أ) لم نطلع من حديثه على زمان معلوم، ولو نظرنا إلى حداثة سنه، رأينا أن زمان النسخ كان متأخرًا

ص: 273

جدا؛ لأن زيدا كان في أول زمان الهجرة صبيا، وقد قيل: إن أول مشاهده المريسيع، وهي في السنة الخامسة، وفيها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفت أذنك يا غلام) وقيل: كان ذلك في غزوة تبوك، فلعله شهد المريسيع، تبعا لغيره؛ لأن علماء النقل ذكروا أن زيدا كان يتيما في حجر عبد الله بن رواحة، فخرج به معه إلى مؤتة يحمله على حقيبة رحله، وغزوة مؤتة إنما كانت سنة ثمان من الهجرة، وروى عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه أنه قال:(كنا نرد السلام في الصلاة حتى نهينا عن ذلك) وأبو سعيد أيضا كان في أول الهجرة صبيا، وأول مشاهده الخندق، وهي بعد المريسيع، غير أنا عرفنا بحديث ابن مسعود:(كنا نتكلم في الصلاة، ونأمر بالحاجة، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم من الحبشة وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل في شيء؟ قال: لا، ولكن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة) فعلمنا بحديث زيد وأبي سعيد أن النسخ كان بعد الهجرة، وعلمنا بحديث ابن مسعود أنه كان قبل بدر؛ لأن ابن مسعود قدم من الحبشة، ثم شهد بدرا، وهذا وقد ذكر غير واحد من علماء النقل وأصحاب السير أن إسلام عمران وأبي هريرة كان عام خيبر وذلك في السنة السابعة من الهجرة، وذكر الخطابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عنده أنه قد أكمل صلاته، فتكلم على أنه خارج من الصلاة، وأما ذو اليدين، ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم فأمره متأول على أن الزمان كان زمان نسخ وتبديل وزيادة في الصلاة ونقصان، فجرى الكلام منه في حال قد يتوهم فيها أنه خارج عن الصلاة، وأما كلام أبي بكر وعمر ومن معهما، ففي بعض طرق هذا الحديث أنهم أومأوا أي: نعم، فدل ذلك على أن رواية من روى أنهم قالوا على المجاز والتوسعة، قلت: وفي هذا التأويل نظر لأن في بعض طرق هذا الحديث: قالوا: نعم يا رسول الله وقد رواه النسائي في كتابه بإسناده عن أبي هريرة- رضي الله عنه وفي حديثه: (ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق يا نبي الله)، فكيف نصرف معنى القول إلى المجاز، مع ثبوت ما ذكرناه، وأما رواية [95/ب] من روى أنهم أومأوا أي: نعم، فإنها لا تدفع ما تقدم من الرواية؛ لاحتمال أن يكون الإيماء مستندا إلى فعل بعض من حضر فأومى إليه وأجابه آخرون بصريح القول، مع أن تلك الرواية لم تبلغ من الاشتهار والاعتبار إلى حيث تعارض وتدافع بها الروايات التي اشتهرت واتضحت، وقال الخطابي: ولو صح أنهما قالوا بألسنتهم، لم يكن ذلك ضائرا؛ لأنه لم ينسخ من الكلام ما كان جوابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستدل بحديث أبي سعيد ابن المعلى، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يصلي فدعاه فلم يجبه، ثم اعتذر إليه، قال: كنت أصلي، فقال: (ألم تسمع الله يقول: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} . وفي قوله هذا أيضا نظر لأن تحريم الكلام في الصلاة أمر مجمع عليه، وهذا الحديث يعني حديث ابن المعلى محتمل لوجوه، فلا سبيل

ص: 274

إلى صرفه إلى أحد الوجوه إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، ولم يذكر عن أحد من الصحابة القول باستباحة الكلام على الوجه الذي يدعيه، وأقصى ما يذهب الذاهب إلى حديث أبي سعيد، أن يجعل إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم أولا له من إتمام الصلاة، ولا يلزم منه أن يقال: إن كلامه لم يكن ليخرجه من صلاته، فإن ذلك غير مفهوم عن الحديث، ثم إن الصلاة التي كان فيها، لم يذكر: أفريضة كانت أم نافلة، فربما يختلف الحكم باختلافها، والأغلب والأظهر أنها كانت نافلة، ثم إن حديث أبي سعيد إنما كان يصح الاستدلال له به مع هذه الاحتمالات: أن لو ثبت أن حديثه سبق قصة ذي اليدين، ولا سبيل إلى إثبات ذلك، كيف وهو مع هذا التأويل يدي أن قضية ذي اليدين كانت بعد نسخ الكلام بسنتين، وأبو سعيد المعلى مذكور في طبقته من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يبلغ الحلم، كالنعمان بن بشير، ومحمود بن الربيع ونظرائهما، فأنى يستقيم استثناء جواب الرسول صلى الله عليه وسلم من جملة المنسوخ بحديثه؛ بعد ثبوت أن نسخ الكلام في الصلاة كان قبل بدر، على ما ذكرناه من حديث ابن مسعود. هذا وفي بعض ما أتى به أبو جعفر أيضا نظر، وهو تأويله قول أبي هريرة: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صلى بنا) يعني: بالمسلمين، فالقول لا يكاد يستقيم في هذا الموضع والنظير الذي ذكره من قول النزال لا يعلم (96/أ) من حيث اللهجة العربية؛ لأن المفهوم عندهم من قولنا: صلى فلان، أي: أمنا ودخلنا معه في صلاته، وذلك بإزاء قول القائل: صليت خلف فلان، ولا يصح هذا القول ممن لم يكن داخلا في صلاته، كيف وفي بعض طرق هذا الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأما قول نزال: قال لنا، أي: لقومنا، فإنه قول قويم، وذلك أن قوله:(إنا وإياكم ندعى بني عبد مناف) منبئ عن شرف وفضيلة وخصوصية يشمل القوم كلهم فيشتركون فيه، ونزال من جملتهم: فقوله: قال لنا، أي: فينا ولأجلنا، ولو قلنا نحن: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلوا خمسكم) لصح ذلك، لاشتراكنا مع السامعين منه في الأمر والخطاب، ولو قلنا: صلى بنا صح، ورحم الله أبا جعفر، فإنه جاد مجد في التوفيق بين الأحاديث إذا أشكلت لاختلاف ما، ونفى التضاد عنها، وهو أكبر أهل المعاني إصابة في هذا الباب، وإنما حمله على هذا التعمق شدة المحافظة على ما نقل من الصحابة ومن بعدهم من السلف وبقى الإحالة عن أقوالهم، فنظر في هذا الحديث والروايات المختلفة فيه والأقاويل المتضادة، فلم ير التخلص منها مساغا بحيث لا يفضي به التأويل إلى رد شيء من السنة إلا من هذا الوجه، قلت: والحديث الذي رواه أبو جعفر عن ابن عمر، أن إسلام أبي هريرة كان بعد ما قتل ذو اليدين حديث لين عند أهل النقل، لأن مداره على عبد الله بن العمري، وهو ضعيف عندهم، وعبد الله العمري هو: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، لينه عبد الرحمن، ووثقه أبو جعفر على أصله في عدالة الرجل المسلم، ولما يؤيده من قول الزهري، فإنه كان يقول: إن ذا اليدين قتل يوم بدر، قال الطحاوي: وممن روى عنه ذلك الزهري مع حفظه وجلالة قدره في علماء الحديث وعلمه بالمغازي، قلت: وأكثر أهل النقل على أن ذا اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين، فأما الذي قتل ببدر، فهو ذو الشمالين، رجل من خزاعة، وأصحاب المقالة الأولى يزعمون أن ذا اليدين كان يدعى ذا الشمالين، فسماه (96/ب). النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين ومما يدل على ذلك حديث

ص: 275

أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوما فسلم في ركعتين، ثم انصرف فأدركه ذو الشمالين، فقال يا رسول الله، أنقصت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم تنقص ولم أنس. فقال: والذي بعثك بالحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأتم الصلاة والحديث على هذا السياق رواه الشافعي في كتابه.

قلت: ومما اختلف عن أبي هريرة في هذا الحديث أمر السجدتين فروى عنه أنه قال: لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قبل السلام ولا بعده، رواه النسائي في كتابه ورواه أيضا بإسناده عن ابن سيرين عن أبي هريرة بمثله، وروى النسائي أيضا بإسناده عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في وهمه بعد التسليم. قلت: وحديث ابن سيرين هذا لا يناقض حديثه الأول لاحتمال أن تكون الصلاة التي ذكر أنه سجد فيها غير الصلاة التي صلاها يوم ذي اليدين، ومع هذه الاختلافات التي رويناها عن كتب أهل العلم بالرواية فلا سبيل إلى بيان هذا الحديث وتقرير الحكم فيه على وجه يخلو عن المناقضة إلا من أحد الوجهين:

أحدهما: أن يجعل على أنه كان قبل ثبوت الأحكام واستقرار الشرائع على ما ذكره أبو جعفر، ولا يستقيم هذا القول إلا أن يقدر أن عمران بن حصين وأبا هريرة سمعاه عمن شهدها وليس في حديث عمران ما ينفي هذا التأويل، وفي بعض طرق حديث أبي هريرة ما ينفيه، وقد ذكرنا مع هذه الاختلافات التي ذكرناها في حديث أبي هريرة لو ادعى مؤول أن العبرة من تلك الروايات بما يوافق رواية غيره ويمكن معه التوفيق بينه وبين نظائره من الأخبار، وأن الراوي عن أبي هريرة أو الراوي عن غيره من رواة الحديث ربما سمع (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فوهم فيه فرواه (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) والذي يرويه (بينا أنا أصلي) فلعله سمع. (صلى بنا) فرواه كذلك على المعنى فلا حرج عليه في دعواه. وإذا كان الزهري مع جودة حفظه وغزارة علمه ومع اقتراب زمانه من زمان الوحي يقول: إن قصة ذي اليدين كان قبل بدر ثم أحكمت الأمور بعد ذلك فلا حرج على من بعده بقرون أن يبعد مرماه في التأويل، ليجمع بين هذه الأقاويل.

والوجه الآخر: أن ندع التعرض لتاريخ وفاة ذي اليدين للاختلاف الذي فيه، والتعليل بالزمان الذي شرع فيه نسخ الكلام لمدافعة ذلك إعلام الراويين ونقول هذا الحديث يشتمل على أحكام خصت بمن شهد تلك الصلاة فلم تقم الحجة عليهم يومئذ لأنها لم تكن شرعت قبل ذلك فعذروا في مبدأ أمر السهو فيما فعلوا وقالوا. أو كان الحكم فيما امتحنوا به يومئذ على ذلك ثم تغيرت أحكام تلك الحادثة بعد ذلك وهذا الوجه أسلم من النواقض. فإن قيل أو ليس السبيل الذي سلكه أبو سليمان في تأويله أقوم وأمثل؟!. قلنا رحم الله أبا سليمان فإنه وإن كان آية في جودة البيان وحسن التقرير، فقد ترك الحجة في تأويله هذا باقية عليه، وهو أنه أطلق القول بصحة ألفاظ هذا الحديث على اختلافها ثم امتنع عن العمل بما يقتضيه سائرها؛ فمنها قول الراوي وخرجت السرعان من أبواب المسجد ومنها قوله: فانطلق إلى خشبة معروضة في المسجد، ومنها قوله فدخل يعني النبي صلى الله عليه وسلم منزله، وفي رواية (فدخل حجرته)، وكل ذلك مما لا يرى به العمل في ضوء السهو فينفصم إذا عروة تأويله إذ ليس لأحد أن يعمل في حديث واحد ببعضه ثم يخالف بعضه الآخر.

ص: 276