المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - كتاب بدء الوحي - النكت على صحيح البخاري - جـ ١

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌تراجعات ابن حجر عن بعض اجتهاداته في فتح الباري

- ‌أسانيد الحافظ ابن حجر العسقلاني إلى صحيح الإمام البخاري

- ‌ترجمة ابن حجر رحمه الله

- ‌ترجمة بدر الدين الزركشي رحمه الله

- ‌ترجمة السخاوي رحمه الله

- ‌وصف النسخة المخطوطة لكتاب النكت

- ‌وصف النسخة المخطوطة لكتاب تجريد تعليقات الحافظ ابن حجر على التنقيح للزركشي

- ‌الفصل الأول في بيان شرطه فيه

- ‌الفصل الثاني في ترجمة المصنف

- ‌ ذكر نسبه ومولده:

- ‌ ذكر منشئه وطلبه الحديث [

- ‌ ذِكْرُ مَراتب مَشَايخه الذين أخذ عنهم:

- ‌ ذكر سيرته وشمائله وزهده وفضائله:

- ‌ ذكر ثناء مشايخه عليه:

- ‌ ذكر نُبَذٍ مِمَّا رُوِيَ مِنْ سَعةِ حِفْظِه وفَرْط ذكائه:

- ‌ ذكر تصانيفه والرواة عنه:

- ‌ ذكر وفاته:

- ‌ذكر الضوابط التي أشرت إليها

- ‌أولها: ضابط في تسمية من ذكر بكنيته، فإن لم يعرف له اسم بينته:

- ‌ حرف الألف:

- ‌ حرف الباء:

- ‌ حرف التاء:

- ‌ حرف الثاء:

- ‌ حرف الجيم:

- ‌ حرف الحاء:

- ‌ حرف الخاء:

- ‌ حرف الدال:

- ‌ حرف الذال:

- ‌ حرف الراء:

- ‌ حرف الزاي:

- ‌ حرف السين:

- ‌ حرف الشين:

- ‌ حرف الصاد:

- ‌ حرف الضاد:

- ‌ حرف الطاء:

- ‌ حرف الظاء:

- ‌ حرف العين:

- ‌ حرف الغين:

- ‌ حرف الفاء:

- ‌ حرف القاف:

- ‌ حرف الكاف:

- ‌ حرف اللام:

- ‌ حرف الميم:

- ‌ حرف النون:

- ‌ حرف الهاء:

- ‌ حرف الواو:

- ‌ حرف الياء:

- ‌فصل: في النساء

- ‌ثانيها: ضَابط في التعريف بمن ذكرَ بالبُنُوَة

- ‌ حرف الألف:

- ‌ حرف الباء:

- ‌ حرف التاء والثاء:

- ‌ حرف الجيم:

- ‌ حرف الحاء:

- ‌ حرف الخاء:

- ‌ حرف الدال والذال:

- ‌ حرف الراء والزاي:

- ‌ حرف السين: [

- ‌ حرف الشين:

- ‌ حرف الصاد والطاء:

- ‌ حرف العين:

- ‌ حرف الغين المعجمة:

- ‌ حرف الفاء:

- ‌ حرف القاف:

- ‌ حرف الكاف واللام:

- ‌ حرف الميم:

- ‌ حرف النون:

- ‌ حرف الهاء:

- ‌ حرف الواو:

- ‌ حرف الياء:

- ‌ثالثها: ضابط في التعريف بمن ذكر بنسب أو لقب

- ‌ حرف الألف: [

- ‌ حرف الباء:

- ‌ حرف التاء والثاء:

- ‌ حرف الجيم:

- ‌ حرف الحاء:

- ‌ حرف الدال والذال:

- ‌ حرف الراء والزاي:

- ‌ حرف السين:

- ‌ حرف الشين:

- ‌ حرف الصاد:

- ‌ حرف العين:

- ‌ حرف الغين:

- ‌ حرف الفاء:

- ‌ حرف القاف والكاف:

- ‌ حرف الميم:

- ‌ حرف النون:

- ‌فصل

- ‌رابعها: ضابط لِما يُخشَى اشتباهه ولا يؤمن التباسه من الأسماء وغيرها ضبطًا بالحروف

- ‌القسمُ الأول: ما يُشتبه بغيره في الكتاب:

- ‌ حرف الألف:

- ‌ حرف الباء:

- ‌ حرف التاء:

- ‌ حرف الثاء:

- ‌ حرف الجيم:

- ‌ حرف الحاء:

- ‌ حرف الخاء:

- ‌ حرف الدال:

- ‌ حرف الراء:

- ‌ حرف الزاي:

- ‌ حرف السين المهملة:

- ‌ حرف الشين:

- ‌ حرف الصاد:

- ‌ حرف العين:

- ‌ حرف الغين:

- ‌ حرف الميم:

- ‌ حرف النون:

- ‌ حرف الهاء:

- ‌ حرف الياء:

- ‌القسم الثاني: وهو ما لا يشتبه بغيره في الكتاب:

- ‌ الألف:

- ‌ الباء:

- ‌ التاء المثناة:

- ‌ الثاء المثلثة:

- ‌ الجيم:

- ‌الحاء

- ‌ الخاء الْمعجمة:

- ‌ الدال

- ‌ الذال:

- ‌ الراء:

- ‌ الزاي

- ‌ السين:

- ‌ الشين:

- ‌ الصاد:

- ‌ الضاد:

- ‌ العين:

- ‌القاف

- ‌ الغين:

- ‌الفاء

- ‌الميم

- ‌ الكاف:

- ‌ اللام:

- ‌ النون

- ‌ الهاء:

- ‌ الواو:

- ‌ الياء الأخيرة:

- ‌1 - كتاب بدء الوحي

- ‌2 - كتاب الإيمان

- ‌1 - باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ". وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ

- ‌2 - باب: دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ

- ‌3 - باب: أُمُورِ الإِيمَانِ

- ‌4 - باب: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ

- ‌5 - باب: أَيُّ الإسْلَامِ أَفْضَلُ

- ‌6 - باب: إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلَامِ

- ‌7 - باب: مِنَ الإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ

- ‌8 - باب: حُبُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الإِيمَانِ

- ‌9 - باب: حَلاوة الإيمَانِ

- ‌10 - باب: عَلَامَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ

- ‌11 - باب

- ‌12 - باب: مِنَ الدِّين الْفِرَارُ مِن الْفِتَنِ

- ‌13 - باب: قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنا أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ

- ‌14 - باب: مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعودَ في الْكُفْرِ كَمَا يَكرَهُ أَنْ يُلْقَى في النارِ مِن الإِيمان

- ‌15 - باب: تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ في الأَعْمَالِ

- ‌16 - باب: الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌17 - باب: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}

- ‌18 - باب: مَنْ قَالَ: إِنّ الإِيمَانَ هو الْعَمَلُ

- ‌19 - باب: إِذَا لم يَكُن الإسْلام عَلَى الْحقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الاِسْتِسْلامِ أَوِ الْخَوْف مِنَ الْقَتْلِ

- ‌20 - باب: السَّلَامِ مِنَ الإِسْلَامِ

- ‌21 - باب: كُفْرَانِ الْعَشِيرِ، وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ

- ‌22 - بابٌ: الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكفِّرُ صَاحِبُهَا بارْتِكابهَا إِلا بالشِّرْكِ

- ‌23 - بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ

- ‌24 - بَابٌ: عَلَامَات الْمُنَافِقِ

- ‌25 - بابٌ: قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌26 - بَابٌ: الْجِهَادُ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌27 - بَابٌ: تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌28 - بَابٌ: صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الإِيمَانِ

- ‌29 - بَابُ: الدِّينُ يُسْرٌ

- ‌30 - بَابٌ: الصَّلَاةُ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌31 - بَابُ: حُسْنُ إِسْلَامِ الْمَرْءِ

- ‌32 - بَابٌ: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ

- ‌33 - بابُ: زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ

- ‌34 - باب: الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلَامِ

- ‌35 - باب: اتِّبَاعُ الجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌36 - بَابُ: خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ

الفصل: ‌1 - كتاب بدء الوحي

‌1 - كتاب بدء الوحي

بسم الله الرحمن الرحيم

كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَولُ اللهِ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]

1 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ الله بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَان، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنمَا لِكلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".

قَالَ رحمه الله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

أقول: بدأ بالبسملة للتبرك؛ لأنها أول آية في المصحف، أجْمَعَ عَلى كتابتها الصحابة.

قَالَ: كيف كانَ بدء الوحي إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163].

أقول: هكذا وقع في رواية أبي ذر عن مشايخه الثلاثة، ليس فيه باب، والجملة حينئذٍ في محل رفع.

وقوله: (وقول الله) مرفوع عطفًا عليها، ووقع في رواية أبي الوقت وغيره بإثباته، ويجوز فيه وفِي نظائره وجهان:

ص: 155

الضم بلا تنوين، والتقدير باب كيف (1) بدء الوحي، ويكون قول الله مجرورًا عطفًا عَلى موضع الجملة، وهي كيف كَانَ بدء الوحي.

ثانيهما: الضم مع التنوين، وإعرابه واضح.

وحكى (2) الكرماني فيه وجهًا ثالثًا، وهو: أنه يجوز فيه عدم الإعراب، فيورد بصورة الوقف عَلى سبيل التعداد، وفيه بحث ولم تجئ به الرواية.

وذكر الآية الكريمة؛ لأن عادته أن يضم إلَى الحديث الذِي [26/ أ] عَلى شرطه ما ناسبه من قرآن، أو تفسير له، أو حديث عَلى غير شرطه، أو أثر عن بعض الصحابة والتابعين بحسب ما يليق عنده بذلك المقام.

وتراجم أبوابه غالبها أحاديث أو آثار أو تفاسير، وقلَّ ما يمر به في الحديث لفظة تناسق لفظ آية إلا ويورد تفسير تلك الآية.

ولأجل هذا أقول: ليس في الجوامع من احتوى عَلى علمي الكتاب والسنة مثله.

قوله: (بدء الوحي) هو بفتح الباء الموحدة والهمز، من الابتداء، وَقَالَ القاضي عِيَاض: يجوز الضم وتشديد الواو من البُدُوِّ: وهو الظهور، قُلْتُ: لكن لم تجئ به الرواية، وقد وقع [في] (3) بعض الروايات:(كيف كَانَ ابتداء الوحي)، فصح ما قلناه.

والوحي في اللغة: الإعلام في خفاء.

وِفي الشرع: كلام الله المُنَزَّل عَلى نبيٍّ من أنبيائه.

قوله: (حَدَّثَنَا الْحُمَيْدي) هو: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبد الله بن حُميد بن أسامة بن زُهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قُصَي القرشي الأسدي، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصي، ومع خديجة بنت خويلد ابن أسد زوج النبي صلى الله عليه وسلم أسد بن عبد العُزَّى، وهو منسوب إلَى جَدِّه حُميد.

(1) في الحاشية نسخة أخرى: "كيفية".

(2)

في الحاشية: "لم يحك، وإنما هو تجويز".

(3)

زيادة من "الفتح".

ص: 156

وهو إمام كبير، له تصانيف في الحديث والفقه، من رؤساء أصحاب ابن عُيَيْنَة، وصحب الشافعي، وأخذ عنه الفقه، ورافقه في طلب الحديث، وفِي الرحلة إلَى مصر، ورجع بعد وفاته إلَى مكة فأقام بِها إلَى أن مات سنة تسع عشرة ومائتين.

وقدم المصنف الرواية عن الحُميدي؛ لأنه قرشي مكي، وشيخه ابن عُيينة مكي، إشارة إلَى العمل بقوله صلى الله عليه وسلم:"قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا"(1)، وإشعارًا بأفضلية مكة عَلى غيرها من البلاد، ولأن ابتداء الوحي كَانَ منها؛ فناسب أن يبدأ بالرواية عن أهلها في أول بدء الوحي، ومن ثَمَّ ثنى بالرواية عن مالك؛ لأنه فقيه الحجاز مع سُفيان، ولأن المدينة تلو مكة في الفضل، وقرينتها في نزول الوحي.

قوله: (عن سفيان) كذا [26/ ب] في رواية أبي ذر، ولغيره:"ثَنا سفيان"، وهو ابن عُيينة بن أبي عمران أبو مُحَمَّد الهلالي الكوفي نزيل مكة، قالَ الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز.

(1) ورد من حديث عبد الله بن السائب. أخرجه: ابن أبي عاصم في "السنة"(1518، 1519)، وأخرجه أيضًا الطبراني في "المعجم الكبير" -كما في "الجامع الصغير" للسيوطي-، أما في "مجمع الزوائد"(10/ 25) فقد ذكر أنه عن علي، وهو خطأ، ولعل هناك سقطًا؛ لأن حديث علي أخرجه: البزار في "مسنده"، وحديث ابن السائب هو الَّذِي أخرجه الطبراني في الكبير، ولكنه في الجزء المفقود، ويدل عَلى ذَلِكَ أنه ذكر أن هذا الحديث من طريق أبي معشر، وحديث أبي معشر هو حديث عبد الله بن السائب، وليس حديث علي بن أبي طالب، ولأننا لم نجد في "مجمع الزوائد" حديث علي بن أبي طالب عند البزار، مما يؤكد وقوع سقط في مطبوعة "مجمع الزوائد"، ويتأكد ذَلِكَ عند مراجعة مسند علي بن أبي طالب في "المعجم الكبير" حيث لا يوجد هذا الحديث فيه.

أما حديث علي فأخرجه: البزار في "مسنده"(465)، وأبو نُعيم في "الحلية"(9/ 64)، وورد أيضًا من حديث سهل بن أبي حثمة، أخرجه: ابن أبي عاصم في "السنة"(1521).

ومن حديث عتبة بن غزوان، أخرجه: ابن أبي عاصم في "السنة"(1520).

ومن حديث أنس بن مالك، أخرجه: أبو نُعيم في "حلية الأولياء"(9/ 64).

ومن حديث أبي هريرة، أخرجه: ابن عدي في "الكامل"(5/ 162)، في ترجمة:"عُثْمان بن عبد الرحمن الجمحي".

وورد بلاغًا من حديث ابن شهاب، أخرجه: الشافعي في "المسند"(ص 278).

ص: 157

وكان سفيان يقول: إنه سمع من سبعين من التابعين، وهو آخر من روى عن الزُّهْري من الثقات، مات في رجب سنة ثمانٍ وتسعين ومائتين، فبدأ البُخَاريّ [به](1).

قوله: (ثَنا يَحيى بن سعيد الأنصاري) اسم جده: قيس بن عمرو، وهو من صغار التابعين، وشيخه مُحَمَّد بن إبراهيم التَّيْمي من آل الصديق، وهو تابعي وسط، وشيخه علقمة بن وقاص الليثي تابعي كبير.

ففي الإسناد عَلى هذا ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض، وَعَلى رواية أبي ذر يكون اجتمع في الإسناد أكثر الصيغ، وهي: التحديث والإخبار والسماع والعنعنة.

قوله: (سمعت عمر بن الخطاب عَلى المنبر يقول).

قَالَ مُحَمَّد بن إسماعيل التَّيْمي: لما كَانَ الكتاب معقودًا عَلى أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، طلب المصنف تصديره بأول شأن الرسالة، وهو الوحي، ولم ير أن يقدم عليه شيئًا، لا خطبة ولا غيرها، بل أورد حديث الأعمال بالنيات بدلًا من الخطبة.

قُلْتُ: ولهذه النُّكْتَة اختار سياق هذه الطريق؛ لأنها تضمنت أن عمر خطب بهذا الحديث عَلى المنبر، فلما صَلُحَ أن يدخل في خطبة الناس (2) كَانَ صالحًا أن يكون في خطبة الدفاتر، فكأنه قالَ: هذا كتاب قصدت به جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قَالَ:"إنما الأعمال بالنيات"، فإن كُنْتُ قصدتُ به وجه الله فَسَيُجزيني عليه ويُنْتَفع به، وإن كُنْتُ قصدتُ به غَرضًا من أغراض الدُّنْيَا فسيجازيني بنيتي؛ ولهذه النكتة حذف الجملة الدالة عَلى التزكية المحضة، وهي قوله:"فمن كانت هجرته إلَى الله ورسوله فهجرته إلَى الله ورسوله". وبقي الجملة المفردة، وهي قوله:"فهجرته إلَى ما هاجر إليه"، نبه عَلى ذَلِكَ بعض حفاظ الأندلس، وهو دقيق، وقد بسطته في الشرح الكبير (3).

(1) زيادة ليست بالأصل.

(2)

في الحاشية نسخة أخرى: "المنابر".

(3)

كتب في الحاشية: قف عَلى كلام الحافظ في شرحه الكبير في هذا المحل، فإنه أبدع فيه. راجع:"فتح الباري"(1/ 22 - 23).

ص: 158

وإذ تقرر أنه أقام هذا الحديث بدلًا من الخطبة [27/ أ]، ومن حق الخطبة أن يذكر المصنف فيها اصطلاحه، وكان من رأيه تجويز الرواية بالمعنى، والاختصار من الحديث، والاقتصار عَلى دلالة الإشارة غالبًا؛ فاستعمل جميع ذَلِكَ في هذا الحديث.

فإن قيل: ولِمَ لَم يبدأ الخطبة بالْحَمد؟

فالجواب: إن المقصود من الحمد: ذكر الله، وقد وجد بالبسملة، وكذا بالآية الأخرى الَّتِي في الترجمة.

قوله: (إنّما الأعمالُ بالنيات) هذا التركيب يُفيد الحصر بلا خلاف بين المحققين، والحصرُ: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.

وإنما اختلفوا في "إنَّما" هل تُفيد الحصر أو تأكيد الإثبات؟

وَعَلى إفادته؛ هل تُفيد النفي بالمنطوق أو بالمفهوم؟ إلَى غير ذَلِكَ من المباحث. والمختار: أنها تُفيد الحصر، لكن قد يصحبها قرائن تدل عَلى إفادتها حصرًا مخصوصًا.

والأعمال: جمع عمل، وهي في مقابلة الأقوال، والمراد: إعمال البدن؛ لأن النية عمل القلب، وليس بمرادٍ لئلا يلزم الدور.

والنيات: جمع نية، وهي: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالًا ومآلًا. قاله القاضي ناصر الدين البَيْضَاوي، قَالَ: وهذا اللفظ متروك الظاهر؛ لأن الذوات غير منتفية، فيعني أن تقدير:"إنَّما الأعمال بالنيات": لا عمل إلا بنية، والفرض أن ذات العمل الخالي عن النية موجودة، قَالَ: فالمراد نفي أحكامها كالصحة والفضيلة، قَالَ: والحملُ عَلى نفي الصحة أولَى؛ لأنه أشبه بنفي الشيء بنفسه، ولأن اللفظ يدل عليه بالتصريح عَلى نفي الذوات، وبقيت دلالته بالتبع عَلى نفي الصفات.

قُلْتُ: وهذا المحل يحتمل البسط، وقد أكثر الحُذَّاق من الكلام فيه، فاقتصرتُ عَلى كلام هذا القاضي لجودته وتحقيقه.

واستدل الطيبي عَلى صحة ما ذهب إليه من أن المقدَّر الصحة؛ بأن التقدير لو

ص: 159

كَانَ بـ: "مستقر" أو "حاصل"؛ لكان بيانًا للغة، والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث لبيان الشرع، فرجح جانب الحمل عَلى تقدير الصحة، ويتقوى أيضًا بأن "إنما" لا يخاطب بِها إلا من عنده تردد في الشيء، والذين خوطبوا بذلك هم أهل اللسان، فتعين أنهم إنما خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قِبَل الشارع، وهو [27/ب] الشرع، فتعين الحمل عَلى الشرع، والله أعلم.

وهذا كله إذا أحدث الأعمال عَلى عمومها، فأما إذا قُلْت: المراد بالأعمال هنا: الأعمال الشرعية دون غيرها؛ فيصح تقدير: "تستقر وتوجد"، ونحو ذلِكَ.

قوله: (وإنَّما لكل امرئ ما نَوى) هذا تأكيد للجملة الأولى ومقولها، ويحتمل أن يُراد من الأولَى: أن الأعمال لا تكون مسقطة للقضاء إلا إذا قارنتها النية، ومن الثانية: أنها إنما تكون مقبولة إذا قارنها الإخلاص.

وَقَالَ الخَطَّابي: أفادت هذه الجملة تعيين العمل بالنية الجازمة، والأولَى أفادت أن الأعمال لا تعتبر إلا إذا كانت بنية.

قوله: (فمن كانت هجرته إلَى دنيا يُصيبها) هو بالقصر بلا تنوين، والهجرة في الأصل: الترك، والمراد بِها هنا: ترك الوطن، وكان واجبًا عَلى من أسلم أن يُهاجر إلَى النبي صلى الله عليه وسلم، مفارقًا دار قومه، فلما فُتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجًا انقطعت هذه الهجرة، وبقيت الهجرة من دار الكفر عَلى حالها، وللهجرة معانٍ أُخَرُ ليست مرادة هنا، وسَيُشَار إلَى شيء منها بعد.

وقد قدمنا النُّكتة في حذفه أحد وجهي التقسيم، وهو قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، فلم يجئ في شيء من الروايات، وغلط الشارح الدَّاوُودِي ومن تبعه في إثباتها، والله أعلم.

قوله: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) ظاهره اتحاد الشرط والجزاء، وتغايرهما متعين، والجواب: أن تغايرهما لا يتعين باللفظ بل في المعنى، وحينئذٍ فيقدر أو يؤول، كما في قوله تعالَى:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71].

ص: 160

وأولَى ما قُدِّر في الحديث ما قَالَ أبو الفتح القُشَيري: فمن كانت هجرته لشيء نية وقصدًا فهجرته حكمًا وشرعًا.

ويعرب قوله: "نية" عَلى التمييز لا عَلى الحال؛ إذ الحال في مثل هذا لا يُحذف، بخلاف التمييز فإنه يجوز حذفه إذا دلت عليه القرينة، أو يُحمل عَلى إرادة المعهود كقوله:

* أنا أبو النجم وشعري شعري *

إذ يؤول عَلى إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب، والله أعلم.

وسنذكر في [28/ أ] كتاب الإيمان بقايا من فوائد هذا الحديث إن شاء الله تعالَى.

ص: 161

2 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها: أَن الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَل رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحْيَانًا يَأْتِيني مِثلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ -وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ- فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُني فَأَعِي مَا يَقُولُ".

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْته يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ في الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِن جَبِينه لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.

قوله: (حَدَّثَنَا عبد الله بن يوسف) هو: التِّنِّيسِيُّ، وهو من أَجَلِّ مَن يروي المُوَطَّأ عن مَالك.

قوله: (أن الحارث بن هشام) هو: المَخْزُومِيُ رضي الله عنه، وهو أخو أبي جَهْل -لعنه الله-.

قوله: (سأل) يُحتمل أنْ تكون عائشة حضرته إذْ سَأل عن ذَلِكَ، ويُحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك وأَوْرَدته في هذه السِّياقة بصورة الإرسال فيُحكم له بِحُكم الوَصْل؛ لأنه عَلى الأول ظاهر الاتصال، وَعَلى الثاني مُرْسَلُ صحابيٍّ، وقد ثبت الثاني في مسند أحْمَد (1)، ومُعجم البَغَوي وغيرهما.

قوله: (أحيانًا) مَنْصوب عَلى الظَّرْف.

قوله: (يأتيني مثل صَلْصَلَة الجَرَس).

يريد: أنه صَوت مُتَدارك يسمعه ولا يَتَبَيَّنه أول ما يَقْرعُ سمعه، ثم يفهمه بعد، ولهذا عَبَّر عنه بالشدة؛ لأنه يَشْغله عن حواسه، وفي حديث عُمر عند أبي داود (2): "كُنَّا

(1)"مُسند أَحْمَد"(6/ 158، 257).

(2)

كذا قَالَ، والصواب: أنه أخرجه التّرمِذيّ (كتاب التفسير، باب: سورة المؤمنون) برقم (3173)، والنسائي في "الكبرى"(كتاب الوتر، باب: رفع اليدين في الدعاء)(1/ 450)، وأَحْمَد في "المسند"(1/ 34).

ص: 162

نَسْمَعُ عِنْدَهُ مِثْلَ دَوِيِّ النَّحْلِ"، والفرق بينهما: أن الأول بالنسبة إلَى النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني بالنسبة للصَّحابة، فافْتَرق النسبة بحسب المَقَامين.

والصَّلْصَلة في الأصل: صوتُ وَقع الحديث بعضه عَلى بعض، ثم أُطْلِقت عَلى كل صوت له طَنِينٌ، وشبهه به نَظرًا إلَى مُماثلة الصوت مع قَطع النظر عن مُتعلقاته، وإلا فصوت الجَرَس نفسه يكره حسه.

قوله: (فيُفْصَم) بضم أوله عَلى البناء عَلى مَا لَمْ يُسَمَّ فاعله، ولغير أبي ذَرٍّ بفتح أوله وكسر الصاد، أي: يَقْلِع، والفَصْم: القطع من غير بَينُونة بخلاف القَصْم بالقاف.

قوله: (وَعَيْت) بفتح العين؛ أي: فَهِمْت، وهو مأخوذ من الوِعَاء؛ أي: جمعته كما يُجمع الشيء في الوِعَاء، وحَصَل من المجموع أنه لا يَفْهَمه ابتداء حَتى يُلْقِي إليه بالَهُ كُلَّه، وأنه لا يُقْلَع عنه إلا وقد فَهِم ما جاء به.

ولم يتعرض في هذه الصورة لكيفية حامل الوحي؛ لأن السُّؤال إنما وَقَع عن الوحي نفسه، وإنما ذَكره في الثاني لتحقق أنه يشبه كلام الإنس.

قوله: (رجلًا) أي: على مثال رجل، ومعناه: أن الملك ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم بتلك الصورة تأنيسًا. والزائد عَلى خلقه، إما أن يحتجب، وإما أن يضمحل ثم يعود [28/ ب]، وأشار إلَى ذلِكَ ابن عبد السلام، والأول أولى.

قوله: (فأعي ما يقول).

وَقَالَ في الأول: "وقد وعيت ما قَالَ"؛ لأن الوعي حصل في الأول عقب المكالمة قبل الفَصْم، وفِي الثاني حصل حال المُكالمة، ولا يتصور قبلها.

فإن قيل: بقي من صفات الوحي أشياء لم تُذكر: كالرؤيا الصالحة، والإلهام، والنَّفْث في الرُّوع، والكلام بلا واسطة كما في ليلة الإسراء، ومجيء الملك في صورته الَّتِي خُلق عليها؟

فالجواب: أن السؤال غير وارد؛ إذ لا صيغة حصر هنا، وَعَلى تقدير ذَلِكَ يجوز أن يكون في الرؤيا أيضًا لا يخرج في مجيئه بالوحي عن الصفتين المذكورتين، وأما ما عدا

ص: 163

ذَلِكَ فوقوعه نادر، وغالبه لم يتكرر فلم يذكره، أو أن المراد بالسؤال عن الوحي السؤال عن الموحى وهو القرآن، ومجيء الملك بالقرآن لا يخرج عن تلك الصفتين، والله أعلم.

قوله: (قالت عائشة) هو معطوف عَلى الإسناد الأول بغير أداة عطف، وهو جائز كما قَالَ ابن مالك، وقد أكثر المصنف في هذا الكتاب من استعماله، وقد أخرجه مالك في "الموطأ" كذلك (1)، وأفرده مُسْلِم (2) بالسياق مع أنه بسند الَّذِي قبله عنده أيضًا، فانتفى أن يكون من تعاليق البُخَاريّ كما جوزه الكرماني.

وكلام عائشة هذا يؤيد ما روت عنه صلى الله عليه وسلم من الشدة؛ لأن سيل العرق في اليوم الشديد البرد يدل عَلى حمل ثقل عظيم، كما قَالَ تعالَى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]. وفي حديث عائشة أيضًا أنها في قصة الإفك: "فأخذه ما كَانَ يأخذه من البُرَحَاء"(3)، وهو بضم الموحدة وفتح الراء والحاء المهملة، وهو: البُهْرُ (4) بضم الموحدة وإسكان الهاء، والعرق مثل الَّذِي يحصل للمحموم.

وفي حديث عبادة بن الصامت: "كَانَ إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وترَبَّد وجهه"(5). وهو بالراء وتشديد الموحدة؛ أي: تغير لونه.

وفِي حديث يَعْلَى بن أمية: "فرأيته وهو يَغَطّ"(6).

(1)"الموطأ"(كتاب القرآن، باب: ما جاء في القرآن)(ص 143).

(2)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الفضائل، باب: عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد) برقم (2333).

(3)

أخرجه البُخَاريّ في "صحيحه"(كتاب الشهادات، باب: تعديل النساء بعضهن بعضًا) برقم (2661)، وأيضًا في رقم (4141، 4750)، وَمُسْلِم في "صحيحه"(كتاب التوبة، باب، حديث الإفك) برقم (2770).

والبرحاء: شدة الأذى بسبب الحمى وغيرها.

(4)

البهر: تتابع النفس.

(5)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(كتاب الحدود، باب: حد الزنا) برقم (1690)، وفِي (كتاب الفضائل، باب: عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد) برقم (2334).

(6)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(كتاب الحج، باب: يفعل في العمرة ما يفعل في الحج) برقم (1789)، وأيضًا في رقم (4329، 4985)، وَمُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الحج، باب: ما يُباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يُباح) برقم (1180).

ص: 164

وكل ذَلِكَ حيث لا يأتي الملك في صورة الرجل، أما حيث يأتي في صورة الرجل فلا؛ ففي حديث أبي هريرة في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام أنه أتى في صورة أعرابي (1)، وفِي حديث أم سلمة أنها رأت جبريل في صورة دِحْيَة (2)، إلَى غير ذَلِكَ من الأحاديث.

وللحُميدي في "مسنده"(3)، عن ابن عيينة، عن هشام في حديث الباب [29/ أ]:"ويأتيني أحيانًا في مثل صورة الفتى فينبذه إلَيَّ فأعيه وهو أهونه عليَّ"، فتبين موقع أفعل في قوله:"وهو أشده عليَّ".

وفي هذا الحديث من الفوائد: أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وأن الصحابة كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمور الَّتِي لا تُدرك بالحس فيخبرهم بِها ولا ينكر ذَلِكَ عليهم.

قوله: (ليتفصد) بالفاء، أي: يسيل منه العرق كما يسيل الدم بالفصد، ومن قاله بالقاف فقد صحف. و (عرقًا): منصوب عَلى التمييز.

* تنبيه:

قَالَ الإسماعيلي: كَانَ المناسب أن يقدم الحديث الذِي بعد هذا؛ لأنه أليق بالترجمة.

وأقول: لا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة، فضلًا عن أنّا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامي الحجاز، فبدأ بمكة وثنى بالمدينة، ولا يلزم أن تتعلق جَميع أحاديث الباب ببدء الوحي، بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضًا، فاندفع الاعتراض.

(1) أخرجه البُخَاريّ في "صحيحه"(كتاب تفسير القرآن، باب: قوله تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} برقم (4777)، وَمُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان) برقم (9).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام) برقم (3634)، وفِي (كتاب فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحي) برقم (4980)، ومُسْلِم في "صحيحه"(كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أم سلمة) برقم (2451).

(3)

"مسند الحميدي"(1/ 124 - 125) برقم (256).

ص: 165

ثم ظهر لي جوابٌ آخر، وهو أن الأحاديث تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه الترجمة، ولما كانت الترجمة اشتملت عَلى الآية الكريمة، وهي قوله:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163]. كَانَ تقديم ما يتعلق بالآية الكريمة، فهو صفة الوحي وصفة حامله، إشارة إلَى أن الوحي إلَى الأنبياء لا تباين فيه، فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث "الأعمال بالنيات" الَّذِي تقرر أنه يتعلق بالآية أيضًا تعلقا قويًّا، والله الموفق.

ص: 166

3 -

حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمنينَ، أَنهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجعُ إِلَى خَدِيْجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّني حَتَى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُم أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّني الثَّانِيَةَ حَتَى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ". فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَالله مَا يَحْزُنُكَ اللهُ أَبَدًا، إِنكَ لتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَكانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكانَ شَيْخًا كبِيرًا قَدْ عَمِيَ- فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا ترى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ الله عَلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، يَا لَيْتَنيَ فِيهَا جَذَعٌ، لَيْتَني أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ ". قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِن يُدْرِكْني يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.

قوله: (حَدَّثنَا يَحيى بن بكير) هو: يحيى بن عبد الله بن بُكَير، نُسب إلَى جَدِّه لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد الفَهْمي فقيه المصريين.

ص: 167

و (عُقَيْل) بالضم عَلى التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب: وهو أبو بكر مُحَمَّد بن مُسْلِم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهْرَة الفقيه، نسب إلَى جد جدِّه لشهرته.

(الزُّهْرِي) نُسب إلَى جَدِّه الأعلى زُهْرَة بن كِلَاب، وهو من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، اتفقوا عَلى إمامته وإتقانه.

قوله [29/ ب]: (من الوحي) يحتمل أن تكون تبعيضية؛ أي: من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز.

و(الرؤيا الصالِحة) وقع في رواية مَعْمَر، ويونس عند المصنف (1):"الصادقة" وهي الَّتِي ليس فيها ضِغْث، وبدئ بذلك ليكون تَمهيدًا وتوطئة لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضًا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر.

قوله: (في النوم) لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مَجازًا.

قوله: (مثل فلق الصبح) نصب "مثل" عَلى الحال؛ أي: شبيهة (2) ضياء الصبح.

قوله: (حبب) لم يسم فاعله لعدم تَحقق الباعث عَلى ذَلِكَ، وإن كَانَ كُلٌّ من عند الله، أو لينبه عَلى أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذَلِكَ من وحي الإلهام.

و(الْخَلاء) بالمد: الخُلوة، والسر فيه: أن في الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له.

و(حراء) بالمد وكسر أوله، كذا في الرواية وهو صحيح، وفِي رواية الأصِيلي بالفتح والقصر، وقد حكي أيضًا، وحكي فيه غير ذَلِكَ جوازًا لا رواية، وهو: جبل معروف بمكة.

و(الغار) نقب في الجبل، وجمعه:"غِيرَان".

قوله: (فيتحنث) هِيَ بمعنى: يَتَحَنَّف؛ أي: يتبع الحَنِيفِيَّة، وهي: دين إبراهيم، والفاء

(1)(كتاب التفسير، باب: سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954)، وفِي نفس الكتاب (باب: قوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ) برقم (4956)، وأيضًا في (كتاب التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة) برقم (6982).

(2)

في نسخة في الحاشية: "يشبه".

ص: 168

تبدل ثاء في كثير من كلامهم، وقد وقع في رواية ابن هشام في "السيرة":"يتحنف"(1) بالفاء، والتحنث: إلقاء الحنث (2)، وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما.

قوله: (وهو التعبد) هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطَّيِّبي، ولم يذكر دليله.

نعم؛ في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير (3) ما يدل عَلى الإدراج.

قوله: (الليالي ذوات العدد) متعلق بقوله: يتحنث، وإبهام العدد لاختلافه، وهو بالنسبة إلَى المدد الَّتِي يتخللها مَجيئه إلَى أهله، وإلا فأصلُ الخلوة قد عُرفت مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كَانَ رمضان، رواه ابن إسحاق كما بينته في الشرح الكبير (4).

و"الليالي" منصوبة عَلى الظرف.

و"ذوات" منصوبة أيضًا، وعلامة النصب فيها كسر التاء.

و"ينزع" بكسر الزاي، أي: يرجع وزنًا ومعنى، ورواه المؤلف بلفظه [30/أ] في التفسير (5).

قوله: (لمثلها) أي: الليالي.

و"التزود": استصحاب الزاد، ويتزود معطوف عَلى يتحنث.

و"خديجة": هِيَ أم المؤمنين بنت خُويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ، يأتي أخبارها في مناقبها.

قوله: (حَتَّى جاءه الحق) أي: الأمر، وفِي التفسير (6):"حَتَّى فجئه الحق" بكسر الجيم، أي: بغتة.

قوله: (فجاءه) هذه الفاء تُسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مَجيء الملك ليس

(1)"سيرة ابن هشام"(2/ 68).

(2)

في نسخة في الحاشية: "إلفاء الحنث".

(3)

(كتاب التفسير، باب: سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ})(4954).

(4)

"فتح الباري" عند شرحه للحديث رقم (6982)(كتاب التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة).

(5)

(كتاب التفسير، باب: سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954).

(6)

(كتاب التفسير، باب: سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954).

ص: 169

بعد مجيء الوحي حَتَّى تعقب به، بل هو تفسير، ولا يلزم من هذا (1) أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل.

قوله: (ما أنا)"ما" نافية؛ إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء عليها، وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ، و"الباء" زائدة لتأكيد النفي؛ أي: ما أُحْسِن القراءة، فلما قَالَ ذلكَ ثلاثًا، قيل له:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي: لا تقرؤه بقوتك ولا بِمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو معلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم ومغمز الشيطان في الصغر، وعلَّم أُمَّتك حَتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أُمِّيَّة.

فإن قيل: فَلِمَ كرر ذَلِكَ؟

أجاب أبو شامة: بأنه يحتمل أن يكون قوله أولًا: "ما أنا بقارئ" عَلى الامتناع، وثانيًا: عَلى الإخبار بالنفي المحض، وثالثًا: عَلى الاستفهام، ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قَالَ:"كيف أقرأ".

قوله: (فغطني) بغين معجمة وطاء مهملة، وفِي رواية الطبري (2): بتاء مثناة من فوق، كأنه أراد: ضَمَّني وعَصَرني، والغَطُّ: حبس النفس، ومنه: غَطَّه في الماء، أو: أراد غمني: ومنه: الخنق، ولأبي داود الطيالسي في "مسنده" بسند حسن:"فأخذ بحلقي"(3).

قوله: (حَتَّى بلغ مني الجهد) روي بالفتح والنصب (4)؛ أي: بلغ الغط مني غايةَ وِسْعِي، وروي بالضم والرفع (5)؛ أي: بلغ مني الجُهد مبلغه.

وقوله: (أرسلني) أي: أطلقني، ولم يذكر الغط هنا في المرة الثالثة، وهو ثابت عند المؤلف في التفسير (6).

(1) بعدها بياض مقدار كلمة، وفِي "فتح الباري":"ولا يلزم من هذا التقدير".

(2)

"تاريخ الطبري"(1/ 531 - 532).

(3)

"مسند الطيالسي"(1/ 215)، برقم (1539).

(4)

أي: بفتح الجيم ونصب الدال.

(5)

أي: بضم الجيم ورفع الدال.

(6)

(كتاب التفسير، باب: سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954).

ص: 170

قوله: (فرجع بِها) أي: بالآيات أو بالقصة.

قو له: (فزمَّلُوه) أي: لَفُّوه، والرَّوْع -بالفتح-: الفزع.

قوله: (لقد خشيت عَلى نفسي) دل هذا مع قوله: "يرجف [30/ ب] فؤاده"(1) عَلى انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثَمَّ قَالَ: زملوني.

والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بِها عَلى اثني عشر قولًا:

أولها: الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحًا به في عدة طرق أوضحتها في الشرح الكبير، وأبطله أبو بكر ابن العربي، وحُقَّ له أن يبطل.

ثانيها: الهاجس، وهو باطل أيضًا؛ لأنه لا يستقر، وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة.

ثالثها: الموت من شدة الرعب.

رابعها: الوحي.

خامسها: دوام الوحي.

سادسها: العجز عن حمل أعباء النبوة.

سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب.

ثامنها: عدم الصبر عَلى أذى قومه.

تاسعها: أن يقتلوه.

عاشرها: مفارقة الوطن.

حادي عشرها: تكذيبهم إيّاه.

ثاني عشرها: تعييرهم إيّاه.

وأولَى هذه الأقوال بالصواب، وأسكنها من الارتياب: الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو معترض، والله الموفق.

قوله: (فقالت له خديجة: كلا) معناها: النفي والإبعاد.

(1) تصحفت في الأصل إلَى: "فراه"، والتصويب من الفتح.

ص: 171

و (يَحْزُنك) بفتح أوله والحاء المهملة والزاي المضمومة والنون: من الحُزْن، ولغير أبي ذر بضم أوله والخاء المعجمة والزاي المكسورة ثم الياء الساكنة: من الخِزْي، ثم استدلت عَلى ما أقسمت عليه (1) من نفي ذَلكَ أبدًا بأمر استقراري (2)، ووصفته بمكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلَى الأقارب أو إلَى الأجانب وإمّا بالبدن أو بالمال، وإما عَلى من يستقل بأمره أو من لمَّا يستقل، وذلك كله مَجموع فيما وصفته به (3).

و(الكَلّ) -بفتح الكاف-: هو من لا يستقل بأمره، كما قَالَ تعالَى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76].

وقولها: (وتكسب المعدوم) في رواية الكُشْمَيْهني: "ويُكسِبُ" بضم أوله، وعليها قالَ الخطابي: الصواب: المعدم (4) بلا واو؛ أي: الفقر؛ لأن المعدوم لا يكسب.

قُلْتُ: ولا يمتنع أن يطلق عَلى المعدم (5) المعدوم؛ لكونه كالمعدوم الميت الَّذِي لا تصرف له، والكسب: هو الاستفادة، فكأنها قالت إذا رغب غيرك أن يستفيد مالًا موجودًا رغبت أنت أن تستفيد رجلًا عاجزًا فتعاونه.

وقَالَ قاسم بن ثابت في "الدلائل": قوله: "يكسب المعدوم" معناه: ما يعدمه (6)[31/ أ] غيره ويعجز عنه يصيبه (7) هو ويكسبه، قالَ أعرابي (8): كَانَ أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم، وأنشد في وصف ذئب:

* كسوب المعدوم (9) من كَسْبِ وَاحدٍ *

أي: مما يكسبه وحده. انتهى

(1) تصحفت العبارة في الأصل: "ثم استدل عَلى عليه"، والتصويب من "الفتح".

(2)

في "الفتح": استقرائي.

(3)

في الأصل: "بِها"، والمثبت من الفتح.

(4)

في الأصل: "المعدوم"، والمثبت من الفتح.

(5)

في الأصل: "المعدوم"، والمثبت من الفتح.

(6)

في الأصل: "يقدمه"، والمثبت من الفتح.

(7)

في الأصل: "تضيفه"، والمثبت من الفتح.

(8)

بعدها بياض بالأصل قدر كلمة.

(9)

في الفتح: "كسوب كذا المعدوم".

ص: 172

ولغير الكُشْمَيْهَني: "ويكسب" بفتح أوله، قَالَ القاضي عِيَاض: وهذه الرواية أصح.

قُلْتُ: قد وجهنا الأولَى وهذه الراجحة، ومعناها تعطي الناس ما لا يجدونه (1) عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، يقال: كسبت الرجل مالًا وأكسبته بمعنى، وقيل: معناه يكسب المال المعدوم ويصيب منه ما لا يصيب غيرك، وكانت العرب تتمادح بكسب المال لاسيما قريشًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة مَحظوظًا في التجارة، وقصته في ذَلِكَ مع خديجة مشهورة. وإنّما يصح هذا المعنى هناك إذا ضم إليه ما يليق به من أنه كَانَ مع إفادته للمال يجود به في الوجوه الَّتِي ذكرت من المكرمات.

وقولها: (وتُعين عَلى نوائب الحق) هِيَ كلمة جامعة لإيراد ما تقدم ولما لَم (2) يتقدم.

وفي رواية المصنف في التفسير (3) من طريق يونس، عن الزُّهري من الزيادة:"وتصدق (4) في الحديث"، وهي من أشرف الخصال.

وفِي رواية هشام بن عروة، عن أبيه في هذه القصة:"وتؤدي الأمانة"(5).

وفي هذه القصة من الفوائد: استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزل به أمر استحب له أن يُطْلع عليه من يثق بصحبته وصحة رأيه.

قوله: (فانطلقتُ به) أي: مضيت معه، فالباء للمصاحبة.

و(ورقة) بفتح الراء.

قوله: (ابن عم خديجة) هو بنصب ابن (6) وتُكتب بألف، وهو بدل من ورقة، أو صفة، أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العُزى وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف؛ لأنه لم يقع عليه بين علمين.

(1) في الأصل: "ما اتخذونه"، والمثبت من الفتح.

(2)

في الأصل: "له"، والمثبت من الفتح.

(3)

"صحيح البُخَاريّ"(كتاب التفسير، باب: سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ})(4954).

(4)

في الأصل: "وفصل"، والمثبت من الفتح.

(5)

أخرجه: ابن سعد في "الطبقات الكبرى" في (ذكر نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم)(1/ 195).

(6)

في الأصل: "الباء"، والمثبت من "الفتح".

ص: 173

قوله: (تَنَصَّر) أي: صار نصرانيًّا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نُفَيل لما كرها عبادة الأوثان إلَى الشام وغيرها يسألونَ عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من الرهبان عَلى دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي صلى الله عليه وسلم[31/ ب] والبشارة به، إلَى غير ذلِكَ مما أفسده أهل التبديل.

وأما زيد بن عمرو فسيأتي خبره في المناقب (1) إن شاء الله تعالَى.

قوله: (فكان يكتب الكتاب العبراني ويكتب من الإنجيل بالعبرانية).

وفِي رواية يونس (2) ومعمر: "ويكتب من الإنجيل بالعربية"(3)، ولِمسلم:"وَكَانَ يكتب الكتاب العربي"(4)، والجميع صحيح؛ لأن ورقة يعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني كما كَانَ يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابتين واللسانين، ووقع لبعض الشراح هنا خبط فلا يعرج عليه، وإنما وصفَتْه بكتابة الإنجيل دون حفظه؛ لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن منتشرًا كنشر (5) حفظ القرآن الَّذِي خُصَّت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها:"أناجيلها صدورها".

قوله: (يا ابن عم) هذا النداء عَلى حقيقته، ووقع في مُسْلِم:"يا عم" وهو وَهْمٌ؛ لأنه وإن كَانَ صحيحًا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل عَلى أنها قالت ذَلِكَ مرتين، فتعين الحمل عَلى الحقيقة، وإنما جوزنا ذَلِكَ فيما مضى في العبراني والعربي؛ لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة واختلفت المخارج، فأمكن التعدد، وهذا الحكم يطرد في جَميع ما يشبهه.

وقالت في حق النبي صلى الله عليه وسلم: "اسمع من ابن أخيك"؛ لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلَى قُصي بن كِلَاب الَّذِي يَجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحقيقة في درجة أخوته، أو قالته عَلى سبيل التوفيق له عليه.

(1)(كتاب المناقب، باب: حديث زيد بن عمرو بن نُفيل) برقم (3827).

(2)

تصحفت في الأصل إلَى "يوسف".

(3)

"صحيح البخاري"(كتاب التفسير، باب: سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ})(4954).

(4)

"صحيح مسلم"(كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم) برقم (160).

(5)

في "الفتح": "متيسرًا كتيسر".

ص: 174

وفيه إرشاد إلَى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرِّف بقدره من يكون أقرب منه إلَى المسئول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: اسمع من ابن أخيك، أرادت بذلك: أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أبلغ في التعظيم.

قوله: (ماذا ترى؟ ) فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به في "دلائل النبوة" لأبي نُعيم بسند حسن إلَى عبد الله بن شداد في هذه القصة قَالَ:"فأتت به ورقة ابن عمها فأخبرته بالذي رأى"(1).

قوله: (هذا الناموس الَّذِي نَزَّل الله عَلى مُوسَى).

وللكُشْمَيْهَني: "أنزل الله"، وفِي التفسير:"أُنزِل"(2) عَلى البناء للمفعول. وأشار بقوله هذا إلَى الملك الَّذِي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم[32/أ] في خبره ونزله منزلة القريب لقرب ذكره.

(والناموس): صاحب السر كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء (3)، وزعم ابن ظفر وغيره أن الناموس: صاحب الخير (4)، والجاسوس: صاحب سر الشر، والأول الصحيح الَّذِي عليه الجمهور، وقد سوَّى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب، والمراد بالناموس هنا: جبريل عليه السلام.

وقوله: (عَلى موسى) ولم يقل: عَلى عيسى مع كونه نصرانيًّا؛ لأن كتاب موسى مشتمل عَلى أكثر الأحكام بخلاف عيسى، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أو لأن موسى بُعث بالنقمة عَلى فرعون ومن معه بخلاف عيسى، وكذلك وقعت النقمة عَلى يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر، أو قاله تَحقيقًا للرسالة؛ لأن نزول جبريل عَلى موسى متفق عليه بين أهل الكتابين بخلاف عيسى فإن كثيرًا من اليهود يُنكرونَ نبوته.

(1) دلائل النبوة (ص 169)، من طريق معمر، عن الزهري بنحو هذا اللفظ.

(2)

(كتاب التفسير، باب سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954).

(3)

(كتاب أحاديث الأنبياء، باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}) برقم (3392).

(4)

في الفتح: "صاحب سر الخير".

ص: 175

وأمَّا ما تحمل (1) له السُّهَيْلي من أن ورقة كَانَ عَلى اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقَانِيم فهو مُحال لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدَّل، عَلى أنه قد ورد عند الزُّبَيْر بن بَكَّار من طريق عبد الله بن مُعاذ، عن الزُّهري في هذه القصة أن ورقة قَالَ:"ناموس عيسى"، والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف.

نعم؛ في "دلائل النبوة" لأبي نُعيم بإسناد حسن إلَى هشام بن عروة، عن أبيه في هذه القصة: أن خديجة أولًا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته، فقال: لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه (2) ناموس عيسى الَّذِي لا يُعَلِّمه بنو إسرائيل أبناءهم. فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى، وتارة: ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة قَالَ لَها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له قَالَ له: ناموس موسى للمناسبة الَّتِي قدمناها، وكلٌّ صحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: (يا ليتني فيها جذع).

كذا رواية الأصِيلي، وعند الباقين:"يا ليتني فيها جَذَعًا" بالنصب عَلى أنه خبر كَانَ المقدرة، قاله الخطابي، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالَى:{انْتَهُوا [32/ب] خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171]. وَقَالَ ابن بري: التقدير هنا: يا ليتني جعلت فيها جذعًا، وقيل: النصب عَلى الحال إذا جعلت فيها خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله السُّهَيْلي، فضمير "فيها" يعود عَلى أيام الدعوة.

والجذع -بفتح الجيم والذال المعجمة-: هو الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلَى الإسلام شابًا ليكون أمكن لنصره، ولهذا تبين سر وصفه بكونه كَانَ كبيرًا أعمى.

(1) في الفتح: "تمحل".

(2)

في الأصل: "لا يأتيه"، والمثبت من الفتح.

ص: 176

قوله: (إذ يُخرجك) قَالَ ابن مالك: فيه استعمالٌ "إذ" في المستقبل كـ"إذا"، وهو صحيح؛ وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالَى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39]. هكذا ذكره ابن مالك، وأقره عليه غير واحد.

وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام بأن النحاة لم يغفلوه، بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذَلِكَ، وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة عَلى المعنى لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذَلكَ هنا أن في رواية البُخَاريّ في التعبير:"حين يُخرجك قومك"(1). وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولَى؛ لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي تحقيقًا لوقوعه أو استحضارًا للصورة الآتية في هذه دون تلك.

وفيه دليل عَلى جواز تمني المستحيل إذا كَانَ في فعل خير؛ لأن ورقة تمنى أن يعود شابًّا وهو مستحيل عادة، ويظهر لي أن التمني ليس مقصودًا عَلى بابه، بل المراد من هذا: التنبيه عَلى صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.

قوله: (أوَ مُخْرِجيَّ هُمْ) بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها، جمع: مُخْرج، و"هُمْ" مبتدأ مؤخر، و"مُخرجيّ" خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُخرجوه؛ لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج؛ لِمَا اشتمل عليه من مكارم الأخلاق الَّذِي تقدم من خديجة وصفتها (2)، وقد استدل ابن الدُّغُنَّة (3) بمثل تلك الأوصاف عَلى أن أبا بكر لا يُخرج.

قوله: (إلا عُودِي) وفِي رواية يونس في التفسير: "إلا أوذي"(4)، فذكر ورقة أن العلة في ذَلِكَ مَجيئه لهم بالانتقال عن [33/أ] مألوفهم؛ ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلَى ذَلِكَ؛ وأنه يلزمه لذلك مُنَاوَأتهم ومنابذتهم، فتنشأ العداوة من ثَمَّ.

وفيه دليل عَلى أن المجيب يقيم الدليل عَلى ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.

(1)(كتاب التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة) برقم (6982).

(2)

في الفتح: "وصفها".

(3)

هو ربيعة بن رفيع.

(4)

(كتاب التفسير، باب: سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954).

ص: 177

قوله: (وإن يُدركني يومك).

"إن" شرطية، والَّذِي بعدها مجزوم، زاد في رواية يونس في التفسير:"حَيًّا"(1)؛ ولأبي إسحاق: "إن أدركت ذَلكَ اليوم"، يعني: يوم الإخراج.

قوله: (مؤزَّرًا).

بالهمزة؛ أي: قويًا، مأخوذ من الأَزْر: وهو القوة، وأنكر القزاز أن يكون في اللغة مُؤَزَّر من الأَزْر، وَقَالَ ابن شامة: يحتمل أن يكون من الإِزَار، أشار بذلك إلَى تشميره في نصرته. قَالَ الأخطل:

قوم إذا حاربوا شدوا (2) مآزرهم

. . . . . البيت

قوله: (ثم لَم ينشب).

بفتح الشين المعجمة؛ أي: لم يَلْبَث (3)، وأصل النُّشُوب: التعلق؛ أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حَتَّى مات، وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق: أن ورقة كَانَ يمر ببلال وهو يُعَذَّب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلَى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام، فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يُقال: الواو في قوله: "وفتر الوحي" ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرًا بعد ذَلِكَ في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلَى علمه لا إلَى ما هو الواقع.

وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذَلِكَ ليذهب ما كَانَ صلى الله عليه وسلم وجده من الرَّوْع، وليحصل له التَّشَوُّف (4) إلَى العَوْد، فقد روى المؤلف في التعبير (5) من طريق معمر ما يدل عَلى ذَلكَ.

(1)(كتاب التفسير، باب سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954).

(2)

في الأصل: "شداد"، والمثبت من الفتح.

(3)

في الأصل: "يثبت"، والمثبت من الفتح.

(4)

في الأصل: "النشوز"، والمثبت من الفتح.

(5)

(كتاب التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة) برقم (6982).

ص: 178

* فائدة:

وقع في تاريخ أحمد بن حنبل، عن الشعبي: أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وَعَلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول، وابتداء وحي اليقظة وقع في بدء رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول {اقْرَأْ} ، و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط.

ص: 179

4 -

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيَّ، قَالَ -وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْي، فَقَالَ- في حَدِيثِهِ:"بَيْنَا أَنَا أَمْشِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلى قَوْلهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ".

تَابَعَهُ عَبْدُ الله بْنُ يُوسُفَ، وَأَبُو صَالِحٍ. وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ:"بَوَادِرُهُ".

قوله: (قَالَ ابن شهاب: وَأَخْبَرَنِي أبو سلمة).

إنّما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف عَلى ما سبق، فكأنه قَالَ [33/ ب]: أَخْبَرَنِي عروة بكذا، وَأَخْبَرَني أبو سلمة بكذا، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلق.

ودل قوله عن فترة الوحي وقوله (الملك الَّذِي جاءني بحراء) عَلى تأخر نزول: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، عن {اقْرَأْ} ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير (1) عن أبي سلمة، عن جابر، عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم ابن حزم بأن {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أول ما نزل، ورواية الزُّهْري هذه الصحيحة ترفع ذَلِكَ الإشكال.

قوله: (فرعبت منه) بضم الراء وكسر العين، وللأَصِيلي بفتح الراء وضم العين؛ أي: فزعت، دل عَلى بقية بَقيت معه من الفَزَع الأول ثم زالت بالتدريج.

قوله: (فقلت: زملوني زملوني) وفي رواية كريمة: "زملوني" مرة واحدة، وفِي رواية يونس في التفسير:"فقلت: دثروني"(2)، فنزلت {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2]؛ أي:

(1)"صحيح البخاري"(كتاب التفسير، باب سورة المدثر) برقم (4922)، وأيضًا في رقم (4924).

(2)

"صحيح البخاري"(كتاب التفسير، باب: سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954).

ص: 180

حذر من العذاب من لم يؤمن بك، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]؛ أي: عَظِّم، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ أي: من النجاسة، وقيل: الثياب: النفس، ويطهرها اجتناب النقائص، {وَالرُّجْزَ} هنا: الأوثان، كما سيأتي من تفسير الراوي عند المؤلف في التفسير (1)، والرجز في اللغة: العذاب، وسمى الأوثان هنا رجزًا؛ لأنها سببه.

قوله: (فحمي الوحي) أي: جاء كثيرًا، وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور؛ إذ لَم ينته إلَى انقطاع كلي فيوصف بالضد، وهو البرد.

قوله: (وتتابع) تأكيد معنوي، وفِي رواية الكُشْميْهَني وأبي الوَقْت:"وتواتر"، والتواتر: مجيء الشيء يتلو بعضه بعضًا من غير خلل.

قوله: (تابعه) الضمير يعود عَلى يحيى بن بكير (2)، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى (3)، وفيه من اللطائف قوله: عن الزهري سمعت عروة.

قوله: (وأبو صالِح) هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البُخَاري عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالِح عنه، ورواية عبد الله بن صالح، عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، عنه مقرونًا بيحيى بن بكير، ووهم من زعم أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحَرَّاني.

قوله: (وتابعه هلال بن رداد) بدالين مهملتين الأولى مثقلة، وحديثه في الزهريات [34/ أ] للذهلي.

قوله: (وَقَالَ يونس) يعني: ابن يزيد الأَيْلي.

و(مَعْمَر) هو ابن راشد.

(بوادره) يعني: أن يونس ومعمرًا رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عُقَيْلًا

(1) تصحفت في الأصل إلَى: "التعبير"، وهو في (كتاب التفسير، باب: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) برقم (4954).

(2)

في الأصل: "كثير"، والمثبت من الفتح.

(3)

"صحيح البخاري"(كتاب أحاديث الأنبياء، باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى}) برقم (3392).

ص: 181

عليه، إلا أنهما قالا بدل قوله:"يرجف فؤاده": "ترجف بوادره"(1)، والبوادر: جمع بادرة، وهي اللحمة الَّتِي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فالروايتان مستويتان في أصل المعنى؛ لأن كلًّا منهما دال عَلى الفزع، وقد بيَّنا ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عُقَيْل غير هذا في أثناء السياق، والله الموفق.

(1) في الأصل: "ترجف فؤاده" مكررة، والمثبت من الفتح.

ص: 182

5 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، في قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]. قَالَ: كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكان مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ -فَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا. فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، قَالَ: جَمعهُ لَكَ صَدْركَ وَتَقْرَأَهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}: ثُمَّ إِنّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كمَا قَرَأهُ.

قوله: (ثَنَا موسى بن إسماعيل) هو أبو سلمة التَّبُوذَكي، وكان من حُفَّاظ البصريين.

(ثَنَا أبو عوانة) هو الوَضَّاح بن عبد الله اليَشْكُري مولاهم البصري، كَانَ كتابه في غاية الإتقان.

و(موسى بن أبي عائشة) لا يُعرف اسم أبيه، وقد تابعه عَلى بعضه عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير.

قوله: (كَانَ مِما يعالج)(1) المعالجة: محاولة الشيء بمشقة؛ أي: كَانَ العلاج ناشئًا من تحريك الشفتين؛ أي: مبدأ العلاج منه و (ما) موصولة، وأُطلقت عَلى من يعقل مجازًا، هكذا قرره الكرماني وفيه نظر، لأن الشدة حاصلة له قبل التحريك، والصواب ما قاله ثابت السَّرَقُسْطي: أن المراد كَانَ كثيرًا ما يفعل ذلكَ، وورودهما في هذا كثير، ومن حديث الرؤيا: كَانَ مما يقول لأصحابه: "من رأى منكم رؤيا"(2).

(1) كذا في الأصل وفي "الفتح"، ولفظ الحديث:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مِمَّا يحرك شفتيه".

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(كتاب الجنائز) برقم (1386)، وَمُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الرؤيا، باب: في تأويل الرؤيا) برقم (2269).

ص: 183

ومنه قول الشاعر:

وأنا مِمَّا يضرب الكَبْشَ ضَرْبةً

على وجهِه يُلقي اللِّسَانَ مِنَ الفَم

قُلْتُ: ويؤيده أن رواية المصنف في التفسير من طريق جرير، عن موسى بن أبي عائشة لفظها: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه (1)، فأتى بهذا اللفظ مُجردًا عن تقدم العلاج الَّذِي قدره الكرماني، فظهر ما قاله ثابت.

ووجهة ما قَالَ غيره: أن (من) إذا وقع بعدها (ما) كانت بمعنى: ربما، وهي تُطلق عَلى الكثير كما تُطلق عَلى القليل، وفِي كلام سيبويه مواضع من هذا، منها قوله: اعْلَم (2) أنهم مما يحذفون كذا، والله أعلم.

ومنه حديث البراء: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مما يحب أن يكون عن يمينه" الحديث (3).

ومنه حديث سمرة: "كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم[34/ ب] إذا صَلَّى الصبح مما يقول لأصحابه: "من رأى منكم رؤيا".

قوله: (فقَالَ ابن عباس: فأنا أحركهما) جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا: زيادة البيان بالوصف عَلى القول، وعبر في الأول بقوله: كما كَانَ يحركهما، وفِي الثاني: برأيت؛ لأن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة؛ لأن سورة القيامة مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كَانَ في أول الأمر، وإلى هذا جنح البُخَاريّ في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك وُلِد؛ لأنه وُلِدَ قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك بَعْدُ، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم، والأول هو الصواب؛ فقد ثبت ذَلكَ صريحًا في مسند أبي داود الطيالسي، قَالَ: ثنَا أبو عوانة بسنده (4)، وأما سعيد بن جبير فرأى ذَلِكَ من (5) ابن عباس بلا نزاع.

(1)"صحيح البخاري"(كتاب التفسير، سورة القيامة، باب: قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} برقم (4929).

(2)

في الأصل: "علم"، والمثبت من الفتح.

(3)

أخرجه أحمد في "مسنده"(4/ 290).

(4)

"مسند الطيالسي"(ص 342)، برقم (2628).

(5)

تصحفت في الأصل إلَى: "فروى ذلِكَ عن".

ص: 184

قوله: (فحرك شفتيه)، وقوله:(فأنزل الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16]).

لا تنافِي بينهما، لأن تحريك الشفتين بالكلام يلزم منه تحريك اللسان؛ لأنه الأصل في النطق؛ إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذَلِكَ، وقد مضى أن في رواية جرير في التفسير:"يُحرك به لسانه وشفتيه"(1)، فجمع بينهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر إذا لُقِّن القرآن نازع جبريل القراءة ولم يصبر حَتَّى يتمها، مسارعة إلَى الحفظ؛ لئلا يتفلت منه شيء، قاله (2) الحسن وغيره.

وفِي رواية الطبري، عن الشعبي:"عجل يتكلم به من حبه إيّاه"(3)، وكلا الأمرين مراد، فأمر بأن ينصت حَتى يقضى إليه وحيه (4)، ووُعد بأنه آمِنٌ من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله تعالَى:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]. أي: بالقراءة.

قوله: (جَمعه لك صدرك) كذا في أكثر الروايات، وفِي رواية كريمة والحَمَّوي:"جمعه لك في صدرك"، وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس، وَقالَ في تفسير:{فَاتَّبِعْ} [الحجر: 18]، أي: فاستمع وأنصت، وفِي تفسير:{بَيَانَهُ} [القيامة: 19]؛ أي: علينا أن تقرأه.

ويحتمل أن يُراد بالبيان بيان مجملاته، وتوضيح مشكلاته، فيستدل به عَلى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو [35/ أ] الصحيح في الأصول، والكلام عَلى تفسير الآيات المذكورة أخرته إلَى كتاب التفسير فهو موضعه.

(1)"تفسير الطبري"(سورة القيامة، قوله تعالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}).

(2)

في الأصل: "قَالَ"، والمثبت من "الفتح".

(3)

"تفسير الطبري"(سورة القيامة، قوله تعالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}).

(4)

في الأصل: "يعي إليه وحده"، والمثبت من "الفتح".

ص: 185

6 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. ح وَحَدَّثنا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، وَمَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، نَحْوَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ في كلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.

قوله: (حَدَّثَنَا عَبْدَان) هو: عبد الله بن عُثْمان المَرْوَزِي.

(أنا عبد الله) هو: ابن المبارك.

(أنا يونس) هو: ابن يزيد الأَيْلِي.

قوله: (أنا يونس، ومعمر نَحوه) أي: أن عبد الله بن المبارك حدث به عَبْدَان، عن يونس وحده، وحدث به بشر (1) بن مُحَمَّد، عن يونس ومعمر معًا، أما باللفظ فعن يونس، وأما بالمعنى فعن معمر.

قوله: (عبيد الله) هو: ابن عبد الله بن عُتبة (2) بن مسعود الآتي في الحديث الَّذِي بعده.

قوله: (أجودَ الناس) بنصب أجود؛ لأنها خبر كَانَ، وقدَّم ابن عباس هذه الجملة عَلى ما بعدها -وإن كانت لا تتعلق بالقرآن- عَلى سبيل الاحتراز من مفهوم ما بعدها.

قوله: (وكان أجودُ ما يكون) هو برفع أجود، هكذا في أكثر الروايات، وأجود: اسم كَانَ، وخبره محذوف، وهو نَحو: أَخْطَب ما يكون الأمير في يوم الجمعة، أو هو مرفوع عَلى أنه مبتدأ مضاف إلَى المصدر، وهو ما يكون وما تصدر به، وخبره:"في رمضان"، والتقدير: أجود أكوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، وإلى هذا جنح البُخَاريّ في تبويبه في كتاب الصيام، إذ قَالَ:"باب: أجود ما كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان".

(1) تصحفت في الأصل إلَى: "يونس".

(2)

في الأصل: "نمير"، وهو خطأ.

ص: 186

وفِي رواية الأَصِيلي: (أجودَ) بالنصب عَلى أنه خبر كَانَ، وتعقب بأنه يلزمه منه أن يكون خبرها اسمها، وأجيب بجعل اسم كَانَ ضمير النبي صلى الله عليه وسلم و"أجود" خبرها، والتقدير: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره.

قَالَ النووي: الرفع أشهر والنصب جائز، وذكر أنه سأل ابن مالك عنه فخَرَّج الرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من وجهين، وذكر ابن الحاجب في أماليه للرفع خَمسة أوجه، توارد مع ابن مالك منها في وجهين وزاد ثلاثة، ولم يعرج عَلى النصب.

قُلْتُ: ويرجح الرفع وروده بدون "كَانَ" عند المؤلف في الصوم.

قوله: (فيدارسه القرآن).

قيل: الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد لمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع: إعطاء ما ينبغي [35/ ب] لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة، وأيضًا فرمضان موسم الخيرات، لأن نعم الله عَلى عباده فيه زائدة عَلى غيره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله تعالَى في عباده.

قوله: (فلرسول الله) اللام للابتداء وزيدت على المبتدأ تأكيدًا، وهي جواب قسم مقدر.

و(المرسلة)، أي: المطلقة؛ يعني: أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح.

وَقَالَ النووي: في الحديث فوائد؛ منها: الحث عَلى الجود في كل وقت والزيادة منها في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه زيارة الصلحاء وأهل الفضل وتكرار ذلِكَ إذا كَانَ المزور لا يكرهه، واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار؛ إذ لو كَانَ الذكر أفضل أو مساويًا لفعلاه، فإن قيل: المقصود تَجويد الحفظ، قلنا: الحفظ كَانَ حاصلًا والزيادة فيه خصل ببعض المجالس، وأنه يجوز أن يُقال: رمضان من غير إضافة، وغير ذَلِكَ مما يظهر بالتأمل.

قُلْتُ: فيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كَانَ في رمضان، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه، فلما كَانَ العام الَّذِي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة عليها السلام، وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب، والله الموفق للصواب.

ص: 187

7 -

حَدَّثَنا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ في رَكْب مِنْ قُرَيْشٍ -وَكانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ- في الْمُدَّةِ الَّتِي كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتوْهُ وَهُمْ بإيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنهُ نَبِيٌّ؟

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا.

فَقَالَ: أُدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ.

ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَني فَكَذِّبُوهُ. قَالَ: فَوَالله لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ.

ثُمَّ كانَ أَوَّلَ مًا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟

قُلْتُ: هو فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا.

قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ.

قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سُخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ في مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هو فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنه سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: بمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكرْتَ أَنهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟

ص: 188

فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ تَأَسَّى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا. فَقُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى الله. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.

وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ.

وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ يُخَالِطُ بَشَاشَةَ الْقُلُوب.

وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ.

وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ.

فَإِنْ كَانَ مَا تَقُوُل حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُ أَنهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَني أَعْلَمُ أَني أَخْلُصُ إِلَيْهِ لتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ.

ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله وَرَسُولهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرَيسِيِّينَ، وَ {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ،

ص: 189

وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللهُ عَلي الإِسْلَامَ.

وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ صَاحِبَ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلُ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ في النُجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِني رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ في النُّجُومِ مُلْكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ.

فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هو أَمْ لَا. فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ.

ثُمَّ كتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِب لَهُ بِرُوميَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ في الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى آتَاهُ كتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَبِي صلى الله عليه وسلم وَأَنهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ في الْفَلَاحِ وَالرَّشَدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتبايِعُوا لهَذَا النَّبِيَّ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ: إِنّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا له وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ.

رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.

قوله: (حَدَّثَنَا أبو اليمان) في رواية الأصيلي وكريمة: "حَدَّثَنَا الحكم بن نافع"، وهو هو كما قَالَ.

ص: 190

(أنا شعيب) ابن أبي حَمزة دينار الحمصي، وهو من أثبات أصحاب الزهري.

قوله: (أن أبا سفيان) هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

قوله: (هرقل) هو ملك الروم، وهرقل اسمه، وهو بكسر الهاء وفتح الراء، ولقبه: قَيْصَر، كما يلقب ملك الفرس: كِسْرَى، ونحوه.

قوله: (في ركب) جمع راكب، كصحب وصاحب: وهم أولو الإبل، العشرة فما فوقها.

والمعنى: أرسل إلَى أبي سفيان حال كونه في جملة الركب: وذلك لأنه كَانَ كبيرهم، فلذلك خصه بالذكر، وكان عدد الركب ثلاثين رجلًا، رواه الحاكم في "الإكليل"، ولابن السكن [36/ أ]:"نَحو من عشرين"، وسُمِّيَ منهم: المغيرة بن شعبة في "مصنف ابن أبي شيبة"(1) بسند مرسل، وفيه نظر؛ لأنه كَانَ إذ ذاك مسلمًا.

قوله: (وكانوا تُجَّارًا) بضم التاء وتشديد الجيم، أو كسرها والتخفيف جمع تاجر.

قوله: (في المدة) يعني: مدة الصلح بالحديبية، وسيأتي شرحها في المغازي، وكانت في سنة ست، وكانت مدتها عشر سنين كما في السيرة، ولأبي نُعيم في مسند عبد الله بن دينار: كانت أربع سنين، والأول أشهر، لكنهم نقضوا، فغزاهم في سنة ثَمان وفتح مكة.

و(كفار قريش) بالنصب مفعول معه.

قوله: (فأتوه)(2).

تقديره أرسل إليهم في طلب إتيان الركب فجاء الرسول بطلب إتيانهم فأتوه؛ كقوله تعالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60]. أي: فضرب فانفجرت، ووقع عند المؤلف في الجهاد (3): أن الرسول وجدهم ببعض الشام. وفِي رواية أبي نُعيم في "الدلائل" تعيين الموضع وهو غزة، قَالَ: وكانت وجه متجرهم، وكذا رواه ابن إسْحَاق في "المغازي" عن الزهري.

(1)"المصنف" لابن أبي شيبة (كتاب المغازي، باب: ما ذكر في كتب النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه)(7/ 347).

(2)

تصحفت في الأصل إلَى: "فأمره".

(3)

"صحيح البخاري" كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941).

ص: 191

قوله: (بإيلياء) بِهمزة مكسورة، بعدها ياء أخيرة ساكنة، ثم لام مكسورة، ثم ياء أخيرة، ثم ألف مهموزة، وحكى البَكري فيها القصر، قيل: معناه بيت الله، وفِي الجهاد عند المؤلف (1): أن هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حِمْص إلَى إيلياء شكرًا لله، زاد ابن إسحاق، عن الزهري: أنه كَانَ يُبْسَط له البُسُط ويوضع عليها الرياحين فمشى عليها (2)، ونَحوه لأحمد من حديث ابن أخي الزُّهري عن عَمَّه (3).

وكان سبب ذَلِكَ ما رواه الطَبَري (4)، وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة ملخصها: أن كسرى أغْزَى جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيرًا من بلاده، ثم استبطأ كسرى أميره، فأراد قتله وتولية غيره، فاطلع أميره عَلى ذلكَ فباطن هرقل، واصطلح معه عَلى كسرى، وانهزم عنه بجيوش فارس، فمشى هرقل إلَى بيت المقدس شكرًا لله عَلى ذلكَ، واسم الأمير المذكور شهر براز، واسم الغير الَّذِي أراد كسرى تأميره فرحان.

قوله: (فدعاهم في مَجلسه).

أي: في حال كونه في مجلسه، وللمصنف في الجهاد:"فأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فإِذَا هو جَالسٌ في مَجْلس ملكه وعليه تاج"(5).

قوله: (وحولَه) بالنصب لأنه ظرف مكان.

قوله: (عظماء) جمع عظيم [36/ ب]، ولابن السكن:"فأُدْخِلت عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان".

و(الروم) من ولد عيص بن إسْحَاق بن إبراهيم عليه السلام عَلى الصحيح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تَنُّوخ وبَهْرَاء وسَلِيح وغيرهم من غَسَّان، كانوا سكانًا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم.

(1)"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2940).

(2)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 19)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(23/ 428 - 429).

(3)

"مسند أحْمَد"(1/ 262).

(4)

راجع "تاريخ الطبري"(2/ 128).

(5)

"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941).

ص: 192

قوله: (ثم دعاهم) مقتضاه أنه أمر بإحضارهم، فلما حضروا استدناهم؛ لأنه ذكر أنه دعاهم فتنزل عَلى هذا، ولم يقع تكرار ذَلِكَ إلا في هذه الرواية.

و(التَّرْجُمَان) بفتح التاء المثناة وضم الجيم، ويَجوز ضم التاء إتباعًا، ورجحه النووي في "شرح مُسْلِم"، ويجوز فتح الجيم حكاهُ الجوهري في رواية الأصيلي وغيره.

"بترجمانه": يعني أرسل إليه رسولًا أحضره صحبته، والترجمان: وهو المعبر عن لغة بلغة، وهو مُعَرَّب، وقيل: عربي.

قوله: (فقال: أيكم أقرب نسبًا؟ ) أي: قَالَ الترجمان عَلى لسان هرقل، وإنما كَانَ أبو سفيان أقرب؛ لأنه من بني عبد مناف، وقد أوضح ذلِكَ المصنف في الجهاد بقوله:"قَالَ: ما قرابتك منه؟ قُلْتُ: هو ابن عمي، قَالَ أبو سفيان: ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري"(1). انتهى

وعبد مناف: الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم[وكذا](2) لأبي سفيان، وأطلق عليه ابن عم؛ لأنه نزل كلًّا منها منزلة جده؛ فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم أبيه: ابن عبد شمس بن عبد مناف.

وإنما خص هرقل الأقرب؛ لأنه أَحْرَى بالاطلاع عَلى أموره ظاهرًا وباطنًا أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، وظهر ذلِكَ في سؤاله بعد ذلِكَ:"كيف نسبه فيكم؟ ".

وقوله: (بهذا الرجل) ضمن "أقرب" معنى "أوصل"(3) فعَدَّاه بالباء، ووقع في رواية مسلم:"من هذا الرجل؟ "(4)، وهو عَلى الأصل.

(1)(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941).

(2)

زيادة من "الفتح".

(3)

مشتبهة في الأصل.

(4)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الجهاد، باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلَى هرقل) برقم (1773).

ص: 193

وقوله: (وهو الَّذِي يزعم) في رواية ابن إسحاق عن الزهري: "يدعي"(1)، وزعم: قَالَ الجوهري -وحكاه أيضًا ثعلب وجماعة-: هِيَ بمعنى قَالَ، كما ستأتي في قصة ضِمَام في كتاب العلم.

قُلْتُ: وهو كثير، ويأتي في موضع الشك غالبًا.

قوله: (واجعلوهم عند ظهره) أي: لئلا تستحيوا أن تواجهوه بالتكذيب إن كذب [37/أ]، وقد صرح بذلك الواقدي في روايته.

وقوله: (إن كَذَبني) بتخفيف الذال، أي: إن نَقَل إليَّ الكذب.

قوله: (قَالَ) أي: أبو سفيان، وسقط لفظ "قَالَ" من رواية كريمة وأبي الوقت فأشكل ظاهره، وبإثباتها يزول الإشكال.

قوله: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا) أي: ينقلوه.

(لكذبت عليه)، وللأصيلي:"عنه"، أي: عن الإخبار بحاله.

وفيه دليل عَلى أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق أو بالعرف.

وفِي قوله: "يأثروا" دون قوله: "يكذبوا" دليل عَلى أنه كَانَ واثقًا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك ذَلِكَ استحياءً وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا (2) فيصير عند سامعي ذَلِكَ كذابًا، وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك، ولفظه:"فوالله لو قد كذبت ما ردُّوا علي، ولكنني كنت امرأ سيدًا أتكرم عن الكذب وعلمت أنه أيسر (3) ما في ذَلِكَ إن أنا كذبتُ أن يَحفظوا ذَلِكَ عني، ثم يتحدثوا به، فلم أكذبه"(4).

(1) أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 129).

(2)

تصحفت في الأصل إلَى: "يرجوا".

(3)

تصحفت في الأصل إلَى: "وعليه أنه أتعسر"، والمثبت من "الفتح".

(4)

أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 129)، وابن عساكر في "تاريخه"(23/ 429).

ص: 194

قوله: (ثم كانَ أول) هو بالنصب عَلى الخبر، وبه جاءت الرواية، ويَجوز رفعه عَلى الاسمية.

قوله: (كيف نسبه فيكم؟ ) أي: ما حال نسبه؟ أهو من أشرافكم أم لا؟ فقال: "هو فينا ذو نسبٍ"، والتنوين فيه للتعظيم، وأشكل هذا عَلى بعض الشارحين وهذا وجهه.

قوله: (فهل قَالَ هذا القول منكم أحد قط قبله).

وللكشميهني والأصيلي بدل "قبله""مثله"، فقوله:(منكم) أي: من قومكم؛ يعني: قريشًا أو العرب، ويستفاد من أن الشفاهي تعم؛ لأنه لم يُرِد المخاطبين فقط، وكذا قوله بعد:"فهل قاتلتموه"، وقوله:"بماذا يأمركم".

واستعمل "قط" بغير أداة النفي وهو نادر، ومنه قول عمر:"صلينا أكثر ما كنا قط وآمنه ركعتين"(1)، ويحتمل أن يقال: إن النفي مضمن فيه، فكأنه قَالَ: هل قَالَ هذا القول أحدٌ أو لَم يقله أحد قط؟

قوله: (فهل كَانَ من آبائه ملك) ولكريمة والأصيلي ولأبي الوقت: "من" بزيادة "من" الجارة، ولابن عساكر بفتح "مَن" و"مَلَك" فعل ماضٍ، والجارة أرجح؛ لسقوطها من رواية أبي ذر، والمعنى في الثلاثة واضح [37/ب].

قوله: (فأشراف الناس اتبعوه؟ )

فيه إسقاط هَمزة الاستفهام وهو قليل، وقد ثبت للمصنف في التفسير ولفظه:"أيتبعه أشراف الناس؟ "(2)، والمراد بالأشراف هُنَا: أهل النَّخْوَة والتَّكَبر منهم لا كل شريف، حَتَّى لا يَرِد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال. ووقع في رواية أبي إسحاق:"تبعه منا الضعفاء والمساكين والأحداث فأما ذَوُو الأسنان (3) والشرف فما تبعه منهم أحد"(4).

(1) أخرجه البُخَاري في "صحيحه"(كتاب الحج، باب الصلاة بمنى) برقم (1656).

(2)

"صحيح البخاري"(كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ. . .}) برقم (4553).

(3)

في الفتح: "الأنساب"، وما في الأصل موافق لما في تاريخي الطبري، وابن عساكر.

(4)

أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 129)، وابن عساكر في "تاريخه"(23/ 430).

ص: 195

قوله: (سخطة) بضم أوله وفتحه، وأخرج بهذا من ارتد مكرهًا، أو لا لسُخطٍ لدين الإسلام، بل لرغبة في غيره لَحَظٍّ نفساني، كما وقع لعبيد الله بن جَحش.

قوله: (هل كنتم تتهمونه بالكذب) أي: عَلى الناس، إنما عدل إلَى السؤال عن التهمة عن السؤال عن نفس الكذب تقريرًا لَهم عَلى صدقه؛ لأن التهمة إذا اتفقت انتفى سببها، ولهذا عقب بالسؤال عن الغدر.

قوله: (ولَم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا).

أي: أنتقصه به، عَلى أن التنقيص هنا أمر نسبي، وذلك أن من يقطع بعدم غدره أرفع مرتبة ممن يجوز وقوع ذَلكَ منه في الجملة، وقد كَانَ معروفًا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر، وذلك لما كَانَ الأمر مغيبًا لأنه مستقبل أمن أبو سفيان أن يُنسب في ذَلِكَ إلَى الكذب، ولهذا أورده عَلى التردد، ومن ثَمَّ لَم يُعَرِّج هرقل عَلى هذا القدر منه، وقد صرح ابن إسحاق في روايته عن الزهري بذلك بقوله: قَالَ: "فوالله ما التفت إليها مني"(1).

قوله: (سجال) بكسر أوله أي: نَوْب، والسجل: الدلو.

و(الحرب): اسم جنس، ولهذا جعل خبره اسم جمع.

و(ينال) أي: يصيب، فكأنه شَبه المحاربين بالمُسْتَقِيَيْنِ يسقي هذا دلو وهذا دلو (2)، وأشار أبو سفيان بذلك إلَى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد، وقد صَرَّح بذلك أبو سفيان يوم أحد في قوله:"فيوم بيوم بدر، والحرب سجال"(3). ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذَلكَ، بل نطق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث أوس بن حُذيفة الثقفي لما كَانَ يحدث وفد ثقيف (4).

(1) أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 129)، وابن عساكر في "تاريخه"(23/ 430).

(2)

في الفتح: "هذا دلوًا وهذا دلوًا".

(3)

أخرجه البُخَاريّ في "صحيحه"(كتاب الجهاد، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب) برقم (3039)، وأيضًا (3986، 4043).

(4)

أخرجه أبو داود في "سننه"(كتاب الصلاة، باب: تحزيب القرآن) برقم (1393)، وابن ماجه في "السنن"(كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: في كم يستحب ختم القرآن) برقم (1345).

ص: 196

قوله: (بِماذا يأمركم) يدل عَلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم[38/أ] من شأنه أن يأمر قومه.

قوله: (يقول: اعبدوا الله وحده) فيه أن للأمر صيغة معروفة؛ لأنه أتى بقول: "اعبدوا" في جواب "ما يأمركم" وهو من أحسن الأدلة في هذه المسألة؛ لأن أبا سفيان من أهل اللسان، وكذلك الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مُقرًّا له.

قوله: (ولا تشركوا به شيئًا) وسقطت الواو من رواية المستملي، فيكون تأكيدًا لقوله:"وحده".

قوله: (واتركوا ما يقول آباؤكم) هِيَ كلمة جامعة لترك ما كانوا عليه في الجاهلية، وإنما ذكر الآباء تنبيهًا عَلى عذرهم في مُخالفتهم له؛ لأن الآباء قدوة عند الفريقين؛ أي: عبدة الأوثان والنصارى.

قوله: (ويأمرنا بالصلاة والصدق) وللمصنف (1) في رواية: "الصدقة" بدل "الصدق"، ورجحها شيخنا شيخ الإسلام (2)، ويقويها رواية المؤلف في التفسير:"الزكاة"(3)، واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع، ويرجحها أيضا ما تقدم من أنهم كانوا يستقبحون الكذب، فَذكْر ما لم يألفُوه أولَى.

قُلْتُ: وفي الجملة؛ ليس الأمر بذلك ممتنعًا كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة وقد كانا من مألوف عقلائهم، وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد (4) من رواية أبي ذر عن شيخه الكشميهني، والسرخسي، قَالَ:"بالصلاة والصدق والصدقة".

وفِي قوله: "يأمرنا" بعد قوله: "يقول: اعبدوا الله" إشارة إلَى المغايرة بين الأمرين لما ترتب عَلى مخالفها؛ إذ مُخالف الأول كافر، والثاني مِمَّن قَبِلَ الأولَ عاصٍ.

قوله: (وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها).

(1)(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941)، وفِي (كتاب الأدب، باب: صلة المرأة أمها ولَها زوج) برقم (5980).

(2)

هو سراج الدين البلقيني.

(3)

"صحيح البخاري"(كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ. . .} برقم (4553).

(4)

"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941).

ص: 197

الظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كَانَ عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة.

قوله: (لقلت: رجل تأسَّى بقول) كذا للكشميهني، ولغيره:"يتأسى" بتقديم الياء المثناة من تحت، وإنما لم يقل:"فقلت" إلا في هذا وفي قوله: "هل كَانَ من آبائه من مَلِك؟ " لأن هذين المقامين مقام فكر ونظر؛ بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل.

قوله: (فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه) هو معنى قول أبي سفيان: "بل ضعفاؤهم"، ومثل ذلك يتسامح به لاتحاد المعنى. [38/ ب]

وقول هرقل: (وهم أتباع الرسل) فمعناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة، لا أهل الاستكبار الذين أصرُّوا عَلى الشقاق بغيًا وحسدًا كأبي جهل وأشياعه إلَى أن أهلكهم الله تعالَى، وأنقذ بعد حين من أراد سعادتهم منهم.

قوله: (وكذلك الإيمان) أي: أمر الإيمان؛ لأنه يظهر نورًا ثم لا يزال في زيادة حَتَى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وصيام وغيرهما، ولهذا نزلت في آخر سِني النبي صلى الله عليه وسلم:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، ومنه:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]. وكذا جرى لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يزالوا في زيادة حَتَى كمل بهم ما أراد الله من إظهار دينه وتمام نعمته، فله الحمد والمنة.

قوله (حين يُخالط بشاشةَ القلوب) هكذا روي بالنصب، والقلوب: مضاف، أي: يخالط الإيمان انشراح الصدر، وروي:"بشاشةُ القلوب" بالضم، والقلوب مفعول؛ أي: يخالط بشاشة الإيمان -وهو شرحه- القلوب التِي يدخل فيها. زاد المصنف في الإيمان (1)[لا يسخطه أحد](2)، وزاد ابن السكن في روايته في "معجم الصحابة":"يزداد به عَجَبًا وفرحًا"، وفي رواية ابن إسحاق:"وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبًا فتخرج منه"(3).

قوله: (وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا الَّذِي ينال طالبه بالغدر بخلاف من طلب الآخرة، ولم يعرج هرقل عَلى الدسيسة الَّتِي دسها أبو سفيان كما تقدم.

(1)"صحيح البخاري"(كتاب الإيمان) رقم (51).

(2)

سقطت من الأصل، وأثبتناها من الفتح.

(3)

أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 129)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(23/ 430).

ص: 198

وسقط من هذه الرواية إيراد تقدير السؤال العاشر والَّذِي بعده وجوابه، وقد ثبت الجميع في رواية المؤلف الَّتِي في الجهاد (1)، وسيأتي الكلام عليه ثَمَّ إن شاء الله تعالَى.

* فائدة:

قَالَ المَازِري: هذه الأشياء الَّتِي سأل عنها هرقل ليست قاطعة عَلى النبوة، إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات عَلى هذا الشيء بعينه، لأنه قَالَ بعد ذلِكَ:"قد كنت أعلم أنه خارج، ولم كن أظن أنه منكم"، وما أورده احتمالًا جزم به ابن بَطَّال، وهو ظاهر.

قوله: (فذكرت أنه يأمركم) ذكر ذَلكَ بالاقتضاء، لأنه ليس في كلام أبي سفيان [39/أ] ذكر الأمر بل صيغته.

وقوله: (وينهاكم عن عبادة الأوثان) مستفاد من قوله: "ولا تشركوا به شيئًا واتركوا مما يقول آباؤكم"؛ لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان.

قوله: (أخلص) بضم اللام، أي: أصل، يقال: خلص إلَى كذا؛ أي: وصل.

قوله: (لتجشمت) بالجيم والشين المعجمة، أي: تكلفت الوصول إليه، وهذا يدل عَلى أنه كَانَ يتحقق أنه لا يسلم من القتل إن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستفاد ذَلكَ بالتجربة في قصة ضغاطر الَّذِي أظهر لَهم إسلامه فقتلوه، لكن لم يفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب إليه:"أسلم تَسْلَم"، وحمل الجزاء عَلى عمومه في الدُّنْيَا والآخرة لو أسلم لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى.

وقوله: (لغسلت عن قدميه) مبالغة في العبودية له والخدمة، وفي رواية عبد الله بن شداد، عن أبي سفيان:"لو علمت أنه هو لمشيت إليه حَتَّى أقبل رأسه وأغسل قدميه"(2)، وهي تدل عَلى أنه كَانَ بقي عنده بعض شك، وزاد فيها:"ولقد رأيتُ جبهته يتحادرُ عرقها من كرب الصحيفة"، يعني: لما قرئ عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي اقتصاره عَلى ذكر غسل القدمين إشارة منه إلَى أنه لا يطلب منه -إذا وصل

(1)"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941).

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 187)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 23).

ص: 199

إليه [سالِمًا](1) - لا ولاية ولا منصبًا، وإنما يطلب ما يحصل له به البركة.

وقوله: (وليبلغن ملكه ما تحت قدمي) أي: بيت المقدس، وكنى بذلك لأنه موضع استقراره، أو أراد الشام كله لأن دار ملكه كانت حمص، ومِمَّا يقوي أن هرقل آثر ملكه عَلى الإيمان وتمادى عَلى الضلال أنه حارب المسلمين في غزوة مُؤتَة سنة ثَمان بعد هذه القصة بدون السنتين، ففي مغازي ابن إسحاق:"وبلغ المسلمين لما نزلوا مَعَان من أرضَ الشام أن هرقل نزل في مائة ألف من المشركين"، فحكى كيفية الواقعة، وكذا روى ابن حبان في صحيحه، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضًا من تبوك يدعوه، وأنه قارب الإجابة ولم يجب.

فدَلَّ ظاهر ذَلكَ عَلى استمراره [39/ ب] عَلى الكفر، لكن يحتمل مع ذَلكَ أنه كَانَ يُضمر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفًا من أن يقتله قومه، لكن في "مسند أَحْمَد": أنه كتب من تبوك إلَى النبي صلى الله عليه وسلم: ["إني مُسْلِم"](2). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب، بل هو عَلى نصرانيته". فعلى هذا إطلاق صاحب "الاستيعاب" أنه آمن، أي: أظهر التصديق، لكنه لم يستمر عليه ويعمل بِمقتضاه، بل شح بملكه وآثر الفانية عَلى الباقية، والله الموفق.

قوله: (ثم دعا) أي: من وكل ذَلِكَ إليه، ولهذا عَدَّى الكتاب بالباء.

قوله: (دِحْيَة) هو ابن خَلِيفة الكَلْبي، صحابي جليل، كَانَ أحسن الناس وجهًا، وأسلم قديمًا، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر سنة ستٍّ بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلَى هرقل، وكان وصوله في المحرم سنة سبعٍ، قاله الواقدي، ومات دحية في خلافة معاوية.

و(بُصْرَى) بضم أوله والقصر: مدينة بين المدينة ودِمشق، وقيل: هِيَ حُورَان.

وعظيمها: هو الحارث بن أبي شَمِر الغَسَّاني، وفِي "الصحابة" لابن السكن: أنه أرسل بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلَى هرقل مع عَدِي بن حاتم، وكان عَدِي إذ ذاك نصرانيًّا، فوصل به هو ودحية معًا.

قوله: (من مُحَمَّد) فيه: السنة أن يبدأ الكاتب (3) بنفسه وهو قول الجمهور، بل

(1) مكانها بياض بالأصل، والمثبت من الفتح.

(2)

ليست في الأصل، وأثبتناها من "الفتح".

(3)

في الفتح: "الكتاب".

ص: 200

حكى فيه النحاس إجْمَاع الصحابة، والحق إثبات الخلاف.

وفيه: أن "مِن" الَّتِي لابتداء الغاية تأتي في غير الزمان والمكان، كذا قاله أبو حَيَّان، والظاهر أنها هنا لَم تخرج عن ذَلِكَ لكن بارتكاب مَجاز.

قوله: (عظيم الروم) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة؛ لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يُخْله من إكرام لمصلحة التألف.

قوله: (سلام عَلى من اتبع الهدى) في رواية المصنف في الاستئذان (1): "السلام" بالتعريف، وقد ذُكرت في قصة موسى وهارون مع فرعون (2)، وظاهر السياق أنها من جملة ما أمرا به أن يقولاه.

فإن قيل: كيف يُبدأ الكافر بالسلام؟

فالجواب: أن المفسرين قالوا ليس المراد من هذا التحية، إنما معناه سَلِم من عذاب الله من أسلم، ولهذا جاء بعده:{أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]. وكذا جاء في بقية هذا الكتاب: "فإن توليت فإن عليك إثم الأَرِيسِيِّين"، فمحصل الجواب: أنه لم يبدأ الكافر [40/أ] بالسلام، وهذا وإن كَانَ اللفظ يُشعر به لكنه لم يدخل في المراد؛ لأنه ليس ممن اتبع الهدى، فلم يُسَلِّم عليه.

قوله: (بدعاية الإسلام) هو بكسر الدال من قولك: دعا يدعو دعاية، نَحو: شكا يشكو شكاية، ولمسلم:"بداعية (3) الإسلام"(4)، أي: بالكلمة الداعية إلَى الإسلام: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله، والباء موضع إلَى.

وقوله: (أسلم تسلم) غاية في البلاغة، وفيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقي.

قوله: (يؤتك) جواب ثانٍ للأمر، وفِي الجهاد للمؤلف:"أسلم يؤتك"(5) بتكرار

(1)"صحيح البخاري"(كتاب الاستئذان، باب: كيف يكتب الكتاب إلَى أهل الكتاب) برقم (6260).

(2)

أي قوله تعالَى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47].

(3)

في الأصل: "بدعاية"، والمثبت من "الفتح"، و"صحيح مُسْلِم".

(4)

"صحيح مسلم"(كتاب الجهاد، باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلَى هرقل) برقم (1773).

(5)

"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941).

ص: 201

"أسلم"، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه كما في قوله تعالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136].

وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كَانَ مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو موافق لقوله تعالَى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} الآية [القصص: 54]. وسيأتي التصريح بذلك في موضعه في حديث الشَّعْبي في كتاب العلم (1) إن شاء الله تعالَى.

ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه، ومن جهة أن إسلامه يكون سببًا لإسلام أتباعه.

واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام (2) أن كل من دان بدين أهل الكتاب كَانَ في حكمهم في الذبائح والمناكحة؛ لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قَالَ له ولقومه:"يا أهل الكتاب"، فدل عَلى أن لهم حكم أهل الكتاب، خلافًا لمن خص ذَلِكَ بالإسرائيليين، أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية بعد التبديل، والله أعلم.

قوله: (فإن توليت) أي: أعرضت عن الإجابة إلَى الدخول في الإسلام، وحقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازًا في الإعراض عن الشيء، وهو استعارة تَبَعِيَّة.

قوله: (الأريسيين) هو جَمع أريسي، وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل، بفتح أوله مُخففًا، وقد نقلت همزته ياء كما جاءت به رواية الأصيلي وأبي ذر وغيرهما، قَالَ ابن سِيدَه: الأريس [40/ ب]: الأَكَّار، أي: الفلاح عند ثعلب، وعند كراع: الأريس، هو: الأمير، وَقَالَ الجوهري: هِيَ لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذَلِكَ.

لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد جاء مصرحًا به في رواية ابن إسحاق، عن الزُّهري بلفظ:"فإن عليك إثم الأَكَّارين"(3). زَادَ البَرْقَاني في روايته: "يعني الحراثين"، ويؤيده أيضًا ما

(1)"صحيح البخاري"(كتاب العلم، باب: تعليم الرجل أمته وأهله) برقم (97).

(2)

هو سراج الدين البلقيني كما سبق.

(3)

أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 130)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 19).

ص: 202

في رواية المدائني من طريق مرسلة: "فإن عليك إثم الفلاحين"، قَالَ الخطابي: أراد أن عليه إثم الضعفاء والأتباع إذ لم يسلموا تقليدًا له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.

قُلْتُ: وفي الكلام حذف دل عليه المعنى، وهو: فإن عليك مع إثمك إثم الأريسيين؛ لأنه إذا كَانَ عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه عَلى استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولَى، وهذا يُعد من مفهوم الموافقة.

ولا يعارض هذا قوله تعالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ لأن وزر الإثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من وجهين: جهة فعله، وجهة تسببه.

وقد ورد تفسير الأريسيين بمعنى آخر، قَالَ الليث بن سعد، عن يونس فيما رواه الطبراني في "الكبير" (1) من طريقه:"الأريسيون: العَشَّارون"، يعني: أهل المَكْس، والأول أظهر، وهذا إن صحَّ أنه المراد فالمعنى: المبالغة في الإثم، ففي الصحيح في المرأة الَّتِي اعترفت بالزنا:"لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لقبلت"(2).

قوله: (ويا أهل الكتاب. . . إلى آخره) وهكذا وقع بإثبات الواو في أوله، وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة من رواية الأَصِيلي وأبي ذر، وَعَلى ثبوتها فهي داخلة عَلى مقدر معطوف عَلى قوله:"أدعوك"، فالتقدير: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالًا لقول الله تعالَى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} .

* فائدة:

قيل: في هذا دليل عَلى جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو، وكذا بالسفر به. وأغرب ابن بَطَّال فادعى أن ذَلِكَ [41/ أ] نُسخ بالنهي عن السفر بالقرآن إلَى أرض العدو، ويحتاج إلَى إثبات التاريخ بذلك.

ويحتمل أن يُقال: إن المراد بالقرآن في حديث النهي عن السفر به: المصحف، وسيأتي الكلام عَلى ذلِكَ في موضعه، وأما الجنب فيحتمل أن يقال: إما لم يقصد التلاوة جاز.

(1)"المعجم الكبير"(8/ 18).

(2)

أخرجه مُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الحدود، باب: من اعترف عَلى نفسه بالزنا) برقم (1695).

ص: 203

عَلى أن في الاستدلال بذلك من هذه القصة نظرًا؛ فإنها واقعة عين لا عموم فيها، فتُقيد الجوازَ عَلى ما إذا وقع احْتِياج إلَى ذَلِكَ كالإبلاغ والإنذار، كما في هذه القصة، وأما الجواز مطلقًا حيث لا ضرورة فلا يتجه.

وقد اشتملت هذه الجملة القليلة الَّتِي تضمنها الكتاب عَلى الأمر بقوله: "أسلم"، والترغيب بقوله:"تسلم"، و"يؤتك"، والزجر بقوله:"فإن توليت"، والترهيب بقوله:"فإن عليك"، والدلالة بقوله:"يا أهل الكتاب"، وفي ذَلِكَ من الدلالة (1) ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلام صلى الله عليه وسلم.

قوله: (فلما قَالَ ما قَالَ) يحتمل أن يُشير بذلك إلَى الأسئلة والأجوبة، ويحتمل أن يشير بذلك إلَى القصة الَّتِي ذكرها ابن النَّاطُور بَعْدُ، والضمائر كلها تعود عَلى هرقل.

و(الصَّخب): اللغط، وهو: اختلاط الأصوات في المخاصمة، زاد في الجهاد:"فلا أدري ما قالوا"(2).

قوله: (فقلت لأصحابي) حين خلوت بهم (3).

قوله: (أَمِر) هو بفتح الهمزة وكسر الميم أي: عَظُمَ، وسيأتي في تفسير سبحان (4).

و"ابن أبي كبشة" أراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلَى جد غامض.

قَالَ أبو الحسن النسابة الجرجاني: هو جد وهب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه، وهذا فيه نظر؛ لأن وهبًا جد النبي صلى الله عليه وسلم اسم أمه عاتِكَة بنت الأَوْقَص بن مُرَّة بن هلال، ولم يقل أحد من أهل النسب: أن الأَوْقَص يكنى أبا كَبْشَة.

(1) في "الفتح": "البلاغة".

(2)

"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941)، ولكن وقع فيه:"ماذا قالوا".

(3)

قال في "الفتح": زاد في الجهاد حين خلوت بهم.

(4)

"صحيح البخاري"(كتاب التفسير، سورة بني إسرائيل، باب: قوله تعالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا. .}) برقم (4711).

ص: 204

وقيل: هو جد عبد المطلب لأمه، وفيه نظر أيضًا؛ لأن أم عبد المطلب سَلْمَى بنت عمرو بن زيد الخَزْرَجي، ولم يقل أحد من أهل النسب: أن عمرو بن زيد يكنى أبا كَبْشَة.

وقيل: هو أبوه من الرضاعة، واسمه الحارث بن عبد العُزَّى، قاله أبو الفتح الأزدي وابن مَاكولا.

وَقَالَ ابن قتيبة والخطابي: هو رجل من خُزاعة [41/ ب] خالف قريشًا في عبادة الأوثان فعبد الشِّعْرَى، فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة، وكذا قَالَ الزبير، قَالَ: واسمه وَجْز بن عامر بن غالب.

قوله: (إنه يَخافه) هو بكسر الهمزة استئنافًا تعليليًّا لا بفتحها؛ لثبوت اللام في الرواية الأخرى.

قوله: (ملك بني الأصفر) هم الروم، يقال: إن جدهم رُوم بن عِيص تزوج بنت ملك الحبشة، فجاء لون ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، وَقَالَ ابن هشام في التيجان: إنما لُقِّبَ الأصفر لأن جدته سارة زوج إبراهيم الخليل حَلَّته الذهب.

قوله: (فما زلت موقنًا) زاد في حديث عبد الله بن شداد، عن أبي سفيان:"فما زلتُ مرعوبًا من مُحَمَّد حَتَّى أسلمت" أخرجه الطبراني (1).

قوله: (حَتَّى أدخل الله عليَّ الإسلام) أي: فأظهرت ذَلِكَ اليقين، وليس المراد أن ذَلِكَ اليقين ارتفع.

قوله: (وكان ابن الناطور) هو بالطاء المهملة، وفي رواية الحَمَّوي بالظاء المعجمة، وهو بالعربية: حارس البُستان، ووقع في رواية الليث، عن يونس:"ابن ناطورا"(2). بزيادة ألف في آخره، فعلى هذا هو اسم أعجمي.

(1)"المعجم الكبير"(8/ 23).

(2)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 18).

ص: 205

* تنبيه:

الواو في قوله: "وكان" عاطفة، والتقدير: عن الزهري: أَخْبَرَنِي عُبيد الله فذكر الحديث، ثم قَالَ الزُّهري: وكان ابن النَّاطور يُحدِّث، فذكر هذه القصة، فهي موصولة إلَى ابن النَّاطور، لا معلقة كما زعم بعض من لا عناية له بهذا الشأن، وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أن قصة ابن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه، وكأنه لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها عَلى ذَلِكَ، وقد بين أبو نُعيم في "دلائل النبوة" أن الزهري قَالَ: لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان، وأظنه لم يتحمل عنه ذَلِكَ إلا بعد أن أسلم، وإنما وصفه بكونه سُقُفًّا؛ لينبه عَلى أنه كَانَ مطلعًا عَلى أسرارهم، عالِمًا بحقائق أخبارهم.

قوله: (صاحب إيلياء) أي: أميرها، وهو منصوب عَلى الاختصاص والحال، أو مرفوع عَلى الصفة، وهي رواية أبي ذر، والإضافة الَّتِي فيه تقوم مقام التعريف، وقول من زعم أنها في تقدير الانفصال في مقام المنع.

"وهرقل" معطوف عَلى "إيلياء"، وأطلق عليه الصحبة له: إما بمعنى التبع، وإما بمعنى الصداقة، ومنه استعمال صاحب في معنيين مجازي وحقيقي؛ لأنه بالنسبة [42/أ] إلَى إيلياء أمير، وذلك مَجاز، وبالنسبة إلَى هرقل تابع، وذاك حقيقة.

وقوله (سقفًّا) بضم السين والقاف، كذا في رواية غير أبي ذر، وهو منصوب عَلى أنه خبر كَانَ، و"يحدث" خبر بعد خبر، وفي رواية الكُشْميهني:"سُقِف" بكسر القاف عَلى ما لم يسم فاعله، وفِي رواية المُسْتَمْلي والسرخسي مثله لكن بزيادة ألف في أوله.

والأُسْقُف والسُّقُف: قيل إنه لفظ أعجمي ومعناه: رئيس دين النصارى، وقيل: عربي وهو الطويل في انحناء، وقيل ذَلِكَ للرئيس؛ لأنه يتخاشع، وَقَالَ بعضهم: لا نظير له في وزنه إلا الأسْرُب، وهو الرصاص، لكن حكى ابن سِيده ثالثًا: وهو الأُسْكُف للصانع، ولا يرد الأُتْرُج لأنه جمع والكلام في المفرد.

قوله: (حين قدم إيلياء) يعني: في هذه الأيام، وهي عند غلبة جنوده عَلى جنود

ص: 206

فارس وإخراجهم، وكان ذَلِكَ في السنة الَّتِي اعتمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة الحُدَيْبية، وبلغ المسلمين نصرة الروم عَلى فارس ففرحوا، وقد ذكر التّرمِذيَ وغيره القصة مستوفاة في تفسير قوله تعالَى:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} (1)[الروم: 4، 5]. وفِي أول الحديث في الجهاد (2) عند المؤلف الإشارة إلَى ذَلِكَ.

قوله: (خبيث النفس) أي: رديء النفس غير طيبها، أي: مهمومًا، وقد تستعمل في كسل النفس، وفِي الصحيح:"لا يقولن أحدكم خَبُثَت نَفسي"(3)، كأنه كره اللفظ.

والمراد بالخطاب: المسلمون، وأما استعمال ذَلِكَ في حق هرقل فغير ممتنع، وصرح في رواية ابن إسحاق بقولهم له:"لقد أصبحت مهمومًا"(4).

وَ (البَطَارقة) جَمع بِطْريق، بكسر أوله: وهم خواص دولة الروم.

قوله: (حَزَّاءً) بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة، أي: كاهنًا، يقال: حزا بالتخفيف يحزو حزوًا أي: تكهن.

وقوله: (ينظر في النجوم) إن جعلتها خبرًا ثانيًا [صح](5)؛ لأنه كَانَ ينظر في الأمرين، وإن جعلتها تفسيرًا للأول فالكهانة تارة تستند إلَى إلقاء الشياطين، وتارة تستفاد من أحكام النجوم، وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعًا ذائعًا إلَى أن أظهر الله الإسلام، فانكسرت شوكتهم، وأبطل الشرعُ الإعتماد عليهم.

(1) أخرجه الترمِذي في "جامعه"(كتاب التفسير، باب: سورة الروم) برقم (3193)، وَأحْمَد في "مسنده"(1/ 276، 304) من حديث ابن عباس.

وأخرجه أيضًا: الترمِذي في "جامعه"(كتاب التفسير، باب: سورة الروم) برقم (3194) من حديث نيار بن مكرم الأسلمي.

(2)

"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941).

(3)

أخرجه البُخَاريّ في "صحيحه"(كتاب الأدب، باب: لا يقل خبثت نفسي) برقم (6179)، وَمُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهة قول الإنسان خبثت نفسي) برقم (2250) من حديث عائشة رضي الله عنها.

وأخرجاه أيضًا في نفس المواضع عند البُخَاري برقم (6180)، وَمُسْلِم برقم (2251) من حديث سهل بن حنيف.

(4)

أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 129)، وابن عساكر في "تاريخه"(23/ 429).

(5)

مكانها بياض بالأصل، والمثبت من "الفتح".

ص: 207

وكان ما اطلع عليه هرقل من ذَلِكَ بمقتضى حساب [42/ ب] المنجمين: أنهم زعموا أن المولد النبوي كَانَ بقران العلويين ببرج العقرب، وهُمَا يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلَى أن تستوفي الثالثة بروجها في ستين سنة، فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور، وعند تَمام العشرين الثانية مجيء جبريل بالوحي، وعند تَمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية الَّتِي جرَّت فتح مكة وظهور الإسلام، وفِي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى.

وَمِن جملة ما ذكروه أيضًا أن برج العقرب مائي، وهو دليل مُلْكِ القوم الذين يختتنون، فكان ذَلِكَ دليلًا عَلى انتقال المُلْكِ إلَى العرب، وأما اليهودُ فليسوا مرادًا هنا؛ لأن هذا لمن سينتقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه.

فإن قيل: كيف ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية [أمر](1) المنجمين، والاعتماد عَلى ما يدل عليه أحكامهم؟

فالجواب: أنه لم يقصد ذَلِكَ، بل قصد أن يبين أن البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق، وَعَلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم أو مبطل إنسي أو جني، وهذا غاية ما [يشير إليه](1) عالم، أو يحتج به محتج.

قوله: (مُلْك الختان) بضم الميم وإسكان اللام، وللكُشميهني بفتح الميم وكسر اللام.

قوله: (قد ظهر) أي: غلب، يعني: دله نظره عَلى أن ملك الختان قد غلب، وهو كما قَال؛ لأن تلك الأيام كَانَ ابتداء ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، إذ صالح كفار مكة بالحديبية، وأنزل الله عليه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]؛ إذ فتح مكة سببه نقض قريش العهد الَّذِي كَانَ بينهم بالحُديبية، ومقدمة الظهور ظهور.

(1) مكانها بياض بالأصل، والمثبت من "الفتح".

ص: 208

قوله: (من هذه الأمة) أي: من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة عَلى أهل العصر كلهم فيه تَجَوُّز، وهذا بخلاف قوله بعد هذا:"ملك هذه الأمة قد ظهر"، فإن مراده به العرب خاصة، والحصر في قولهم:"إلا اليهود" هو بمقتضى علمهم؛ لأن اليهود كانوا بإيلياء -وهي بيت المقدس- كثيرين تحت الدولة مع الروم، بخلاف العرب فإنهم وإن كَانَ منهم من هو تَحت طاعة ملك الروم كآل غَسَّان لكنهم كانوا ملوكًا برأسهم.

قوله: (فلا يهمنك) بضم أوله من أهمَّ: أثار الهم.

وقوله [43/أ]: (شأنهم) أي: أَمْرهُم.

و(مداين) جمع مدينة، قَالَ أبو علي الفارسي: من جعله فعيلة من قولك: مدن بالمكان أي: أقام به؛ همزه كقبائل، ومن جعله مفعلة من قولك: دين؛ أي: ملك؛ لم يهمزه كمعايش. انتهى

وما ذكره في معايش هو المشهور، وقد روى خارجة عن نافع القارئ الهمز في معايش، وَقَالَ القزاز: من همزها توهمها من فعلية لشبهها بِها في اللفظ.

قوله: (فبينما هم عَلى أمرهم) أي: في هذه المشورة.

قوله: (أتي برجل لم يسم من أحضره).

و(ملك غسان) هو صاحب بُصْرَى الَّذِي قدمنا ذكره، وأشرنا إلَى أن ابن السكن روى أنه أرسل مِن عنده عَدي بن حاتِم، فيحتمل أن يكون هو المذكور، والله أعلم.

قوله: (عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم) فَسَّر ذَلِكَ ابن إسحاق في روايته فقال: "خرج بين أَظْهُرِنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتَّبعَه ناس وخالفه ناس، فكانت بينهم مَلاحمُ في مَواطنَ فتركتهم وهم عَلى ذَلِكَ"(1)، فبين ما أُجْمل في حديث الباب؛ لأنه مُوهِمٌ أن ذَلِكَ كَانَ في أوائل ما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (هُم يَخْتَتِنُون) في رواية الأصيلي: "مختتنون" بالميم، والأول أفيد وأشمل.

قوله: (هذا مُلك هذه الأمة قد ظهر).

(1) أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 129)، وابن عساكر في "تاريخه"(23/ 429).

ص: 209

كذا لأكثر الرواة بالضم والسكون، والقَابِسي بالفتح ثم الكسر، ولأبي ذر عن الكُشْميهني وحده:"يملك" فعل مضارع، قَالَ القاضي: أظنها ضمة الميم اتصلت بِها فتصحفت، ووجهه السهيلي في أماليه: بأنه مبتدأ وخبر، أي: هذا المذكور يملك هذه الأمة، وقيل: بجواز أن يكون "يملك" نعتًا، أي: هذا رجل يملك هذه الأمة، وَقَالَ شيخنا: يجوز أن يكون المحذوف هو الموصول عَلى رأي الكوفيين، أي: هذا الَّذِي يملك، وهو نظير قوله:

* وَهذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ (1) *

عَلى أن الكوفيين يجوِّزون استعمال اسم الإشارة بمعنى الاسم الموصول، فيكون التقدير: الَّذِي يملك، من غير حذف.

قُلْتُ: لكن اتفاق الرواية عَلى حذف الياء في أوله دَالٌّ عَلى ما قَالَ القاضي فيكون شاذًا، عَلى أني رأيت في أصل معتمد وعليه علامة السَّرْخسي: بباء موحدة في أوله، وتوجيهها أقرب من توجيه الأول [43/ ب]؛ لأنه حينئذٍ تكون الإشارة بهذا إلَى ما ذكره من نظيره في حكم النجوم، والباء متعلقة بـ"ظهر"، أي: هذا الحكم ظهر بملك هذه الأمة الَّتِي تختتن.

قوله: (برُومِية) بالتخفيف: وهي مدينة معروفة للروم.

و(حمص) مجرور بالفتحة مُنِعَ صرفه للعلمية (2) والتأنيث، ويحتمل أن يجوز صرفه.

قوله: (فلم يَرِم) أي: لَم يبرح.

(حَتَّى أتاه كتاب من صاحبه) وفِي رواية ابن إسحاق: أن هرقل أرسل دِحْيَة إلَى

(1) القائل هو الشاعر يزيد بن مُفَرَّع يُخاطب بغلته:

عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ

نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِيْنَ طَلِيقُ

وعدس: اسم دابته، وهي أيضًا كلمة تقال لزجر البغال.

وعباد: هو عَبَّاد بن زياد بن أبي سفيان.

وقد قال هذه الأبيات عندما أطلق سراحه من سجنه الذي وضعه فيه عبَّاد.

(2)

في الأصل: "العجمة"، والمثبت من الفتح.

ص: 210

ضَغَاطر الرومي، وَقَالَ: إنه في الروم أجوز قولًا مني، وإن ضغاطر المذكور أظهر إسلامه وألقى ثيابه الَّتِي كانت عليه ولبس ثيابًا بيضًا، وخرج عَلى الروم فدعاهم إلَى الإسلام، وشهد شهادة الحق، فقاموا إليه فضربوه حَتَّى قتلوه، قَالَ: فلما خرج دِحْيَة إلَى هرقل قَالَ له: قد قُلْتُ لك إنا نخافهم عَلى أنفسنا، فضغاطر كَانَ أعظم عندهم مني.

قُلْتُ: فيحتمل أن يكون هو صاحب رُومِية الَّذِي أبهم هنا، لكن يُعكر عليه ما قيل: إن دِحْية لم يَقْدِم عَلى هرقل بهذا الكتاب المكتوب في سنة الحُدَيْبية، وإنما قدم عليه بالكتاب المكتوب في غروة تَبُوك، فعلى هذا يحتمل أن يكون وقعت لضغاطر قصتان: أحدهما الَّتِي ذكرها ابن النَّاطُور، وليس فيها أنه أسلم، ولا أنه قُتل، والثانية الَّتِي ذكرها ابن إسحاق فإن فيها قصته مع دِحْيَة وأنه أسلم فقُتل، والله أعلم.

قوله: (وسار هرقل إلى حمص) لأنها كانت دار ملكه كما قدمناه، وكانت في زمانِهم أعظم من دِمِشْق، وكان فتحها عَلى يد أبي عُبيدة بن الجراح سنة ست عشرة بعد هذه القصة بعشر سنين.

وقوله: (وأنه نبي) يدل عَلى أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن هرقل كما ذكرنا لم يستمر عَلى ذَلِكَ بخلاف صاحبه.

قول: (فأذن) هو بالقصر من الإذن، وفِي رواية المستملي وغيره بالمد، ومعناه: أعلم.

و(الدَّسْكَرة) بسكون المهملة: القصر الذي حوله بيوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت الَّتِي حوله، وأذن للروم في دخولها، ثم اطلع عليهم فخاطبهم، وإنما فعل ذَلِكَ خشية أن يثبوا به كما وثبوا بضغاطر.

قوله: (والرَّشَد) بفتحتين.

(وأن يثبت ملككم) لأنهم إن تَمادوا عَلى الكفر كَانَ سببًا لذهاب ملكهم (1) كما عَرِف هو ذَلِكَ [44/ أ] من الأخبار السابقة.

(1) في الأصل: "ملكه"، والمثبت من الفتح.

ص: 211

قوله: (فتبايعوا) بالموحدة والمثناة من تحت، وللكُشْمَيْهني بمثناتين ثم موحدة، وللأَصيلي:"فنُبَايع" بنون وموحدة.

(لِهذا النبي) كذا لأبي ذر، والباقين بحذف اللام.

قوله: (فحاصوا) بمهملتين أي: نفروا، وشبههم بالحُمُر دون غيرها من الوحوش؛ لِمناسبة الجهل وعدم الفطنة، بل هم أضل.

قوله: (وأيس) في رواية الكُشْمَيهني، والأَصيلي:"ويئس" بياءين تحتانيتين وهُمَا بِمعنى (1)، والأول معلوم من الثاني.

قوله: (من الإيمان) أي: إيمانهم لما أظهروه، وإيمانه لأنه شح بملكه كما قدمناه، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه ويُسلم ويُسلموا بإسلامه، وإلا فقد كَانَ قادرًا عَلى أن يفر عنهم ويترك ملكه رغبة فيما عند الله، والله الموفق.

قوله: (آنفًا) أي قرينًا، وهو منصوب عَلى الحال.

قوله: (فكان ذَلِكَ آخر شأن هرقل).

أي: فيما يتعلق بهذه القصة المتعلقة بدعائه إلَى الإيمان خاصة؛ لأنه انقضى أمره حينئذٍ ومات، أو أنه أطلق الآخرية بالنسبة إلَى ما في علمه، وهذا أوجه؛ لأن هرقل قد وقعت له قصص أخرى بعد ذَلِكَ: منها ما أشرنا إليه من تَجهيزه الجيوش إلَى مُؤْتَة، ومن تجهيزه الجيوش أيضًا إلَى تَبُوك، ومكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم له ثانية، وإرساله إلَى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبٍ فقسمه بين أصحابه، وهو في رواية ابن حبان الَّتِي أشرنا إليها قبل.

وفِي المسند من طريق سعيد بن أبي راشد التَّنُّوخي رسول هرقل قَالَ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فبعث دِحْيَة إلَى هِرقل، فلما جاءه الكتاب دعا قسيسي الروم وَبطَارِقَتَها. . . فذكر الحديث، قَالَ: فتحيروا حَتَّى [إن](2) بعضهم خرج من بُرْنُسه، فقال: اسكتوا، فإنما أردت أن أعلم تمسككم بدينكم (3).

(1) في الفتح: "بمعنى: قنط".

(2)

ساقطة من الأصل، والمثبت من "الفتح"، و"مسند أَحْمَد".

(3)

"مسند أَحْمَد"(3/ 441 - 442)، (4/ 75).

ص: 212

وروى ابن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام: أن هرقل لما أراد الخروج من الشام إلَى القُسْطَنْطينية عرض عَلى الروم أمورًا: إما الإسلام، وإما الجزية، وإما أن يصالح النبي صلى الله عليه وسلم عَلى الشام ويبقي لهم ما دون الدَّرْب، فأبوا، وأنه انطلق حَتَّى إذا أشرفَ عَلى الدَّرْب استقبلَ أرض الشام، ثم قَالَ: السلام عليكم أرض سُورية -يعني: الشام- تسليم المودع، ثم [44/ ب] ركض حَتَّى دخل القُسْطَنْطِينية (1).

واختلف الإخباريون هل هو الَّذِي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر أو أبيه، والأظهر أنه هو.

* تنبيه:

لما كَانَ أمر هرقل في الإيمان عند كثير من الناس مستبهمًا؛ لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف عَلى نفسه، ويحتمل أن يكون استمر عَلى الشك حَتَّى مات كافرًا، وَقَالَ الراوي في آخر القصة:"فكان ذَلِكَ آخر شأن هرقل"، ختم البُخَاريّ هذا الباب الذِي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات، كأنه قَالَ: إن صدقت نيته انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر، فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن النَّاطُور في بدء الوحي لمناسبتها حديث الأعمال المصدَّر الباب به، ويؤخذ للمصنف من آخر لفظ في القصة براعة الاختتام، وهو واضح مما قررناه.

فإن قيل: ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟

والجواب: أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ الابتداء، ولأن الآية المكتوب بِها إلَى هرقل ملتئمة مع الآية الَّتِي في الترجمة، وهي قوله تعالَى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية [النساء: 163]. وَقَالَ تعالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13]. فبان أنه أوحى إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالَى:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران: 64].

(1) أخرجه الطبري في "تاريخه"(2/ 131).

ص: 213

* خاتمة:

أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصَّائغ الدمشقي، قَالَ: حَدَّثنِي سيف الدين فُلَيْح المنصوري، قَالَ: أرسلني الملك المنصور قَلَاون إلى ملك الغرب بهدية، فأرسلني ملك الغرب إلَى ملك الفِرِنْج في شفاعة فقبلها، وعرض علي الإقامة عنده فامتنعت، فقال لي: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقًا مصفحًا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، فقال: هذا كتاب نبيكم إلَى جدي قَيْصر، مازلنا نتوارثه إلَى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه مادام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه، ونكتمه عن النصارى ليدوم لنا الملك. انتهى

ويؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جواب هرقل قَالَ: "ثبت مُلكه"(1). والله أعلم.

قوله: (رواه صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، عن الزهري).

قَالَ الكرماني: يحتمل ذَلِكَ وجهين:

أن يروي البُخَاريّ عن [45/ أ] الثلاثة بالإسناد المذكور، كأنه قَالَ: أنا أبو اليمان، قَالَ: أنا الثلاثة، عن الزهريّ، وأن يروي عنهم بطريق آخر.

كما أن الزهري يحتمل أيضًا في رواية الثلاثة أن يروي لهم عن عبيد الله، عن ابن عباس، وأن يروي لَهم عن غيره. هذا ما يحتمل اللفظ، وإن كَانَ الظاهر الاتحاد.

قُلْتُ: هذا الظاهر كَافٍ لمن شم أدنى رائحة من علم الإسناد، والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لَها في هذا الفن، وأما الاحتمال الأول فأشد بعدًا؛ لأن أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان، ولا سمع من يونس، وهذا أمر يتعلق بالنقل المحض، فلا يلتفت إلَى ما عداه، ولو كَانَ من [أهل](2) النقل لاطلع عَلى كيفية رواية الثلاثة لهذا الحديث بخصوصه فاستراح من هذا التردد.

(1) في "الفتح": "ثبت الله ملكه".

(2)

زيادة من "الفتح".

ص: 214

وقد أوضحت ذَلِكَ في كتابي: "تغليق التعليق"(1)، وأشير إليه هنا إشارة مفهمة: فرواية صالح -وهو ابن كيسان- أخرجها المؤلف في كتاب الجهاد (2) بتمامها من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كَيْسَان، عن الزُّهْري، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وفيها من الفوائد الزوائد ما أشرتُ إليه في أثناء الكلام عَلى هذا الحديث من قبل، ولكنه انتهى عند قول أبي سفيان:"حَتَّى أدخل الله عَلَيَّ الإسلام"، زاد هنا: و"أنا كاره"، ولم يذكر قصة ابن النَّاطُور. وكذا أخرجه مُسْلِم (3) بدونها من رواية إبراهيم المذكور.

ورواية يونس -وهو ابن يزيد الأَيْلِي- عن الزُّهْري بهذا الإسناد أيضًا أخرجها المؤلف في الجهاد (4) مُختصرة من طريق الليث، وفي الاستئذان (5) مُختصرة أيضًا من طريق ابن المبارك كلاهما، عن يونس، عن الزهري بسنده بعينه، ولم يسقه بتمامه، وقد ساقه بتمامه الطبراني (6) من طريق عبد الله بن صالح، عن الليث، وذكر فيه قصة ابن النَّاطُور.

ورواية مَعْمَر، عن الزهري كذلك ساقها المؤلف بتمامها في التفسير (7)، وقد أشرنا إلَى بعض فوائد زوائد فيما مضى أيضًا، وذكر فيه من قصة ابن النَّاطُور قطعة مُختصرة عن الزُّهري ولم يسمه (8).

(1)"تغليق التعليق"(2/ 18 - 19).

(2)

"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلَى الإسلام) برقم (2941).

(3)

"صحيح مسلم"(كتاب الجهاد، باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلَى هرقل) برقم (1773).

(4)

"صحيح البخاري"(كتاب الجهاد، باب: قول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}) برقم (2804).

(5)

"صحيح البخاري"(كتاب الإستئذان، باب: كيف يكتب الكتاب إلَى أهل الكتاب) برقم (6261).

(6)

"المعجم الكبير"(8/ 16 - 19).

(7)

"صحيح البخاري"(كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. . .}) برقم (4553).

(8)

في "الفتح": "مرسلة".

ص: 215

فقد ظهر لك أن الثلاثة عند المصنف عن [غير](1) أبي اليمان، وأن الزهري إنما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عُبيد الله بن عبد الله، ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم [45/ ب] عن شيخ آخر لكان ذَلِكَ اختلافًا قد يُفضي إلَى الاضطراب الموجب للضعف، فلاح فساد ما ذكره من الاحتمال، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلَى الصواب، لا إله إلا هو.

(1) سقطت من الأصل، وزدناها من "الفتح".

ص: 216