الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
29 - بَابُ: الدِّينُ يُسْرٌ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ"
39 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ".
قوله: (باب الدين يسر).
أي: دين الإسلام ذو يسر، أو سمي الدين يُسرًا مبالغة بالنسبة إلَى الأديان قبله. لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذِي كَانَ عَلى من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم.
قوله: (أحب الدين) أي: خصال الدين؛ لأن خصال الدين كلها محبوبة؛ لكن ما كَانَ منها سمحًا -أي: سهلًا- فهو أحب إلَى الله، ويدل عليه ما أخرجه أَحْمَد بسند صحيح من حديث أعرابي لَم يسمه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم[يقول] (1):"خير دينكم أيسره"(2)، أو الدين جنس، أي: أحب الأديان إلَى الله الحنيفية.
والمراد بالأديان: الشرائع الماضية قبل أن تُبدل وتُنسخ.
و(الحنيفية): مِلَّة إبراهيم، والحنيف في اللغة: من كَانَ عَلى مِلَّة إبراهيم، وسُمي إبراهيم حنيفًا لميله عن الباطل إلَى الحق؛ لأن أصل الحنف: الميل.
و(السَّمْحَة): السهلة، أي: أنها مبنية عَلى السهولة؛ لقوله تعالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
(1) مكانها بياض بالأصل، والمثبت من "الفتح".
(2)
"مسند أحْمَد"(3/ 479).
وهذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب؛ لأنه ليس عَلى شرطه، نعم؛ وصله في كتاب الأدب [79 / أ] المفرد (1)، وكذا وصله أَحْمَد بن حنبل وغيره (2) من طريق مُحَمَّد بن إسحاق، عن داود بن الحُصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وإسناده حسن. استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصرًا عن شرطه، وقواه بما دل عَلى معناه لتناسب السهولة واليسر.
قوله: (حَدَّثَنَا عبد السلام بن مُطَهَّر) أي: ابن حُسَام البصري، وكنيته أبو ظَفَر بالمعجمة والفاء المفتوحتين.
قوله: (حَدَّثَنَا عُمر بن علي) هو المُقَدَّمي -بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة-، وهو بصري ثقة، لكنه مُدَلِّس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره.
وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مُسْلِم، وصححه وإن كَانَ من رواية مُدَلِّس بالعنعنة لتصريحه فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رَوَاهُ ابن حِبَّان في "صحيحه" من طريق أحْمَد [بن](3) المقدام أحد شيوخ البُخَاريّ، عن عُمَر بن علي المذكور قَالَ: سمعتُ مَعْنَ بن مُحَمَّد فذكره (4)، وهو من أفراد مَعْن بن مُحَمَّد، وهو مدني ثقة قليل الحديث، لكن تابعه عَلى شقه الثاني ابن أبي ذئب، عن سعيد، أخرجه المصنف في كتاب الرقاق بمعناه ولفظه:"سددوا وقاربوا"، وزاد في آخره:"والقصدَ القصدَ تبلغوا"(5)، ولم يذكر شقه الأول.
وقد أشرنا إلَى بعض شواهده، ومنها حديث عُروة الفُقَيْمي -بضم الفاء وفتح القاف-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إن دين الله يسر"(6).
(1)"الأدب المفرد"(كتاب حسن الخلق، باب: حسن الخلق إذا فقهوا) برقم (287).
(2)
"مسند أحْمَد"(1/ 236)، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(11/ 227)، وهو في "مسند عبد بن حُميد"(ص 199) برقم (569).
(3)
سقطت من الأصل، وزدناها من "الفتح".
(4)
"صحيح ابن حبان"(كتاب البر والإحسان، باب: ما جاء في الطاعات وثوابها) برقم (352).
(5)
"صحيح البُخَاريّ"(كتاب الرقاق، باب: القصد والمداومة عَلى العمل) برقم (6463).
(6)
"مسند أحْمَد"(5/ 69)، ولفظه:"إن دين الله عز وجل في يسر".
ومنها حديث بُرَيْدَة قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم هديًا قاصدًا، فإن من يشادَّ هذا الدين يغلبه"(1)، رَوَاهُمَا أحمد وإسناد كل منهما حسن.
قوله: (ولن يُشاد الدين. . . . إلا غلبه) هكذا في روايتنا بإسقاط الفاعل، وثبت في رواية ابن السَّكَن وفي بعض الروايات عن الأصِيلي بلفظ:"ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه"، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي، وأبي نُعَيْم، وابن حِبَّان وغيرهم (2).
و"الدين" منصوب عَلى المفعولية وكذا في روايتنا أيضًا، وأضمر الفاعل للعلم به، وحكى صاحب "المطالع" أن أكثر الروايات برفع "الدين" عَلى أن "يُشَاد" مبني لما لم يسم فاعله، وعارضه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب، ويُجمع بين كلاميهما بأنه بالنسبة إلَى روايات المغاربة والمشارقة.
والمُشَادَّة -بالتشديد-: المغالبة، يقال: شادَّه يُشَاده مُشَادَّة، إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عَجَز وانقطعَ فيُغلب، قالَ ابن المنير: في هذا الحديث عَلَم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع. انتهى
وليس المراد: منع طلب الأكمل في العبادة فإنه (3) من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلَى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلَى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يُصلي الليل كله ويغالب النوم إلَى أن غلبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلَى أن خرج الوقت المختار، أو إلَى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة.
(1)"مسند أحْمَد"(5/ 350، 361).
(2)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(كتاب البر والإحسان، باب: ما جاء في الطاعات وثوابها) برقم (352).
وأخرجه النّسَائي في "سننه الكبرى"(كتاب الإيمان وشرائعه، باب: الدين يُسر)(6/ 537)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (8/ 121).
(3)
في الحاشية نسخة أخرى فيها: "لأنه".
وقد يُستفاد من هذا: الإشارة إلَى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن ترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلَى حصول الضرر.
قوله: (فسددوا) أي: الزموا السداد، وهو الصواب، من غير إفراط ولا تفريط.
قوله: (وقاربوا) أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه.
قوله: (وأبشروا) أي: بالثواب عَلى العمل الدائم وإن قل، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به تعظيمًا له وتفخيمًا.
قوله: (واستعينوا بالغدوة) أي: استعينوا عَلى مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة، والغدوة -بالفتح-: سِير أول النهار، وَقَالَ الجوهري: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس.
و(الرَّوْحَة) بالفتح: السير بعد الزوال.
و(الدُّلْجَة) بضم أوله وفتحه وإسكان اللام سير آخر النهار، وقيل: سير الليل كله؛ ولهذا عبر فيه بالتبعيض؛ ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار، فهذه الأوقات [أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرًا إلَى مقصد فنبه عَلى أوقات](1) نشاطه؛ لأن المسافر إذا سار الليل والنهار جميعًا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة، وحُسن هذه الاستعارة [80 / ب] أن الدُّنْيَا في الحقيقة دار نَقْلَة إلَى الآخرة.
وقوله في رواية ابن أبي ذئب: "القصدَ القصدَ" بالنصب فيهما عَلى الإغراء، والقصد: الأخذ بالأمر الوسط.
(1) زيادة من "الفتح" ليستقيم الكلام.
ومناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التِي قبله ظاهرة من حيث إنها تضمنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك ألا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع، ثم عاد إلَى سياق الأحاديث الدالة عَلى أن الأعمال الصالحة معدودة من الإيمان، فقال: باب الصلاة من الإيمان.