الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة السخاوي رحمه الله
-
الشيخ العلامة الرحالة الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي الأصل، القاهري، الشافعي، نزيل الحرمين الشريفين.
كانت ولادته في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، وحفظ القرآن العظيم وهو صغير وجوَّده وصلى به في شهر رمضان، ثم حفظ عمدة الأحكام، والمنهاج، وألفية ابن مالك، والنخبة، وألفية العراقي، وشرح النخبة، وغالب الشاطبية، ومقدمة الشاوي في العروض.
وكلما أنهى حفظه لكتاب عرضه على شيوخ عصره، وبرع في الفقه، والعربية، والقراءات، والحديث، والتاريخ وغيرها، وشارك في الفرائض والحساب والميقات وأصول الفقه والتفسير وغيرها.
وأمَّا مقروآته ومسموعاته فكثيرة جدًّا لا تكاد تنحصر، وأخذ عن جماعة لا يحصون، حتى بلغت عدة من أخذ عنهم زيادة على أربعمائة نفس، وأذن له غير واحد بالإفتاء والتدريس والإملاء.
وسمع الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر، وأقبل
عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف، حتى حمل عنه علمًا جمًّا، واختص به كثيرًا، بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وحمل عنه ما لم يشاركه فيه غيره، وأخذ عنه أكثر تصانيفه، وأعانه على ذلك قرب منزله منه، وكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر.
وقرأ عليه الاصطلاح بتمامه، وسمع عليه جُلَّ كتبه، كعلوم الحديث إلا اليسير من أوائله وأكثرَ تصانيفه في الرجال وغيرها، كالتقريب، وثلاثة أرباع أصله، واللسان بتمامه، ومشتبه النسبة، وتخريج الزاهر، وتلخيص مسند الفردوس، والمقدمة، وأماليه الحلبية، والدمشقية، وغالب فتح الباري، وتخريج المصابيح، وابن الحاجب الأصل، وتغليق التعليق، ومقدمة الإصابة، وجملة يطول تعدادها، وفي بعضه ما سمعه أكثر من مرة، ولم يفارقه إلَى أن مات.
وأذن له في الإقراء والإفادة والتصنيف، وتدرب به في معرفة العالي والنازل، والكشف عن التراجم والمتون وسائر الاصطلاح وغير ذلك.
وجاب البلاد وجال، وجَدَّ في الرحلة، وارتحل إلى حلب ودمشق وبيت المقدس والخليل ونابلس والرملة وحماه وبعلبك وحمص، بحيث إن الذي سمع عنهم يكونون قريبَ مائةِ نفرٍ، بل زاد عدد من أخذ عنه من الأعلى والدون والمساوي على ألف ومائتين، والأماكن التي تحمل فيها من البلاد والقرى على الثمانين.
واجتمع له من المرويات بالسماع والقراءة ما يفوق الوصف، وهي تتنوع أنواعًا تنيف على العشر، حسبما ذكره مستوفى في ترجمته من تاريخه، وأعلى ما عنده من المروي ما بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتماسكة فيه عشرة أنفس وأكثر منه، وأصح ما بين شيوخه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه العدد المذكور.
واتصلت له الكتب الستة، وكذا حديث كل من الشافعي وأحمد والدارمي بثمانية وسائط، وفي بعض الكتب الستة كأبي داود من طريق آخر، وأبواب في النسائي ما هو سبعة، واتصل له حديث مالك وأبي حنيفة بتسعة.
وحج بعد وفاة شيخه ابن حجر مع والديه، ولقي جماعة من العلماء فأخذ عنهم: كأبي الفتح الأعز، والبرهان الزمزمي، والتقي ابن فهد، وأبي السعادات ابن ظهيرة، وخلائق.
ثم زار المدينة الشريفة، ورجع إلَى القاهرة ملازمًا للسماع والقراءة والتخريج والاستفادة من الشيوخ والأقران من غير فتور عن ذلك.
ولم يزل يجتهد في السماع ويرحل إلى الأقطار حتى وصل إلَى ما وصل إليه، وخصه بعض شيوخه على عقد مجلس الإملاء فامتثل إشارته، فأملى حتى أكمل تسعة وخمسين مجلسًا.
ثم توجه إلَى الحج في سنة سبعين فحج وجاور، وحدث هناك بأشياء من تصانيفه وغيرها، وأقرأ ألفية الحديث تقسيمًا وغالب شرحها لناظمها، والنخبة وشرحها، وأملى مجالس بالمسجد الحرام.
ولما رجع إلَى القاهرة شرع في إملاء تكملة تخريج شيخه للأذكار، ثم أملى تخريج الأربعين النووية وغيرها بحيث بلغت مجالس الإملاء ستمائة مجلس فأكثر.
وكذا حج في سنة خمسٍ وثمانين وجاور سنة ستٍّ، ثم سَنة سبعٍ وأقام منها ثلاثة أشهر بالمدينة النبوية، ثم في سنة اثنتين وتسعين وجاور سنة ثلاث، ثم سنة أربعٍ، ثم في سنة ستٍّ وتسعين وجاور إلى أثناء سنة ثمانٍ، فتوجه إلى المدينة النبوية فأقام بها شهرًا وصام رمضان بها، ثم عاد في شوالها إلى مكة، ومكث بها ما شاء الله، ثم رجع إلَى المدينة وجاور بها إلى أن مات.
وحمل الناس من أهلهما والقادمين عليهما عنه الكثير جدًّا رواية ودراية، وحصلوا من تصانيفه مع ملازمة الناس في منزله للقراءة دراية ورواية في تصانيفه وغيرها، بحيث ختم عليه ما يفوق الوصف من ذلك، وأخذ عنه من الخلائق ما لا يحصى كثرة، وشرع في التصنيف والتخريج قبيل الخمسين، وهلم جرًّا، وتصانيفه إليها النهاية في الشهادة له لمزيد علوه وفخره.
* ومن تصانيفه:
1 -
فتح المغيث بشرح ألفية الحديث.
وهو مع اختصاره في مجلد ضخم، وسبك المتن فيه على وجه بديع لا يعلم في هذا الفن أجمع منه ولا أكثر تحقيقًا لمن تدبره.
2 -
المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة. وهو كتاب جليل لم يسبق إلَى مثله، مفيد في بابه جدًّا.
3 -
القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع.
وهو في غاية الحُسْن.
4 -
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع.
5 -
عمدة المحتج في حكم الشطرنج.
6 -
المنهل العذب الرَّوِيّ في ترجمة قُطْبِ الأولياءِ النَّوَوَيِّ.
7 -
الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر.
8 -
التاريخ المحيط.
وهو في نحو ثلاثمائة ورقة على حروف المعجم، لا يعلم من سبقه إليه.
9 -
تلخيص تاريخ اليمن.
10 -
الفوائد الجلية في الأسماء النبوية.
11 -
الفخر العلوي في المولد النبوي.
12 -
ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف.
13 -
الإيناس بمناقب العباس رضي الله عنه.
14 -
رجحان الكفَّة في بيانِ أهل الصُّفَّةِ.
15 -
الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل.
16 -
القول المتين في تحسين الظن بالمخلوقين.
17 -
الإعلان بالتوبيخ على من ذم التاريخ، وهو نفيس جدًّا.
18 -
تحرير الميزان.
19 -
عمدة القارئ والسامع في ختم الصحيح الجامع.
20 -
غُنْية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج.
وغير ذلك.
وانتهى إليه علم الجرح والتعديل، حتى قيل: لم يكن بعد الذهبي أحد سلك مسلكه.
وقرض أشياء من تصانيفه غير واحد من أئمة المذهب، كالحافظ ابن حجر، والجلال المحلي، والشرف المناوي، والتقي الحصني، والعيني، والكافياجي، وتناقلها الناس إلى كثير من البلدان والقرى، وكتب الأكابر بعضها بخطوطهم، حتى قال بعضهم: إن لم تكن التصانيف هكذا وإلا فلا فائدة.
وكان شيخه شيخ الإسلام ابن حجر يحبه ويثني عليه، وينوِّه بذكره، ويعترف بعلو فخره، ويرجحه على سائر جماعته المنسوبين إلَى الحديث وصناعته، وكان من دعواته له قوله: والله المسئول أن يعينه على الوصول إلَى الحصول حتى يتعجب السابق من اللاحق.
ومما وصفه به بعض الحفاظ بعد كلام تقدم: "وهو -والله- بقية من رأيت من المشايخ، وأنا وجميع طلبة الحديث بالبلاد الشامية والبلاد المصرية وسائر بلاد الإسلام عيال عليه، ولا أعلم في الوجود له نظيرًا".
وقال غيره: "هو الآن من الأفراد في علم الحديث الذي اشتهر فيه فضله، وليس بعد شيخ الإسلام ابن حجر فيه مثله".
وقال غيره: "واسطة عقدها من العقد، الإجماع على أنه أمسى كالجوهر الفرد، وأصبح في وجه الدهر كالغُرة، حتى صارت الغرر مع جواهره كالذَّرَّة، بل جواد، جوده شهد له جريانه بالسبق في ميدان الفرسان، وحكم له بأنه هو الفرع الذي فاق أصله، البديع بالمعاني فلا حاجة للبيان، أضاء هذا الشمس فاختفت منه كواكب
الدراري، كيف لا وقد جاده الفيض بفتح الباري، نخبة العصر والدهر، وعين القلادة في طبقة الجود، لأنه عين السخاء وزيادة، فبدايته إليها النهاية، ومنهاجه أوضح طريق إلى الغاية، وهو الخادم للسنة الشريفة، والحاوي لمحاسن الاصطلاح والنكت المنيفة، فبهجته زهت بروضها، وروضته زهت ببهجتها".
وقال آخر: "هو الذي انعقد على تفرده بالحديث النبوي الإجماع، وإنه في كثرة إطلاعه وتحقيقه لفتوته بلغ ما لا يستطاع، ودونت تصانيفه واشتهرت، وثبتت سيادته في هذا الفن النفيس وتقررت، ولم يخالف أحد من العقلاء في جلالته ووفور ثقته وديانته وأمانته، بل صرحوا بأجمعهم بأنه هو المرجوع إليه في التعديل والتجريح، والتحسين والتصحيح، بعد شيخه شيخ مشايخ الإسلام ابن حجر، حامل راية العلوم والأثر".
وقال آخر: "لقد أجاد النقل من كلامي الله ورسوله الكريم القديم والحديث، وسارت يفضله الركبان، وبالغت في السير الحثيث".
ومدحه آخر بهذه الأبيات وهي:
يا سيدًا أضحى فريد زمانه
…
ودليلُ مَا قَدْ قُلْتُه الإِجماعُ
عندي حديثٌ مُسْنَدٌ ومُسَلْسَل
…
نُرْويه بالإِتْقانِ لا الوضاعُ
مَا في الزمانِ سواكَ يَلقى عَالِمًا
…
صَحَّتْ بِذاكَ إِجَازة وسَمَاعُ
الْخَيْرُ فيك تَواتَرَتْ أَخْبَارُه
…
وَهْوَ الصَّحِيْحُ وَليس فيه نِزَاعُ
يَا مَنْ إذا مَا قَدْ أَتَاه مُمَرِّض
…
يَشكو زَوَالَ الضُّرِّ وَالأَوْجَاعُ
ورُئي بَعْد موته على هيئة حسنة، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: حاسبني وغفر لي، وحشرني مع العلماء.
وترجمته في تاريخه ثلاثة كراريس على القطع الكامل.
قال الشيخ جار الله بن فهد المكي رحمه الله عقب تلك الترجمة: إن شيخنا صاحب
الترجمة حقيق بما ذكره لنفسه من الأوصاف الحسنة، والله العظيمِ لم أَرَ في الحفاظ المتأخرين مثله، ويعلم ذلك كل من اطلع على مؤلفاته أو شاهده، وهو عارف فقيه منصف في تراجمه، ورحم الله جدي حيث قال في ترجمته:
"إنه انفرد بفنه فطار اسمه في الآفاق، وكثرت مصنفاته فيه وفي غيره، طار صيته شرقًا وغربًا، شامًا ويمنًا، ولا أعلم الآن من يعرف علوم الحديث مثله، ولا أكثر تصنيفًا ولا أحسن، ولذلك أخذها عنه علماء الآفاق من المشايخ والطلبة والرفاق، وله اليد الطولى في المعرفة بالعلل، وأسماء الرجال، وأحوال الرواة، والجرح والتعديل، وإليه يشار في ذلك، ولهذا قال بعض العلماء: لم يأت بعد الحافظ الذهبي أحد سلك هذه المسالك، ولقد مات فن الحديث من بعده، وأسف الناس على فقده، ولم يخلف بعده مثله" انتهى.
وولي تدريس الحديث في مواضع متعددة، وعُرض عليه قضاء مصر فلم يقبله رحمه الله تعالَى.
وكان بينه وبين البرهان البقاعي والجلال السيوطي ما بين الأقران.
* وفاته:
توفي بالمدينة الشريفة حال مجاورته الأخيرة بها، وعمره إحدى وسبعون سنة، وصُلِّي عليه بعد صلاة الصبح يوم الاثنين بالروضة الشريفة، ووقف بنعشه تجاه الحجرة الشريفة، ودُفن بالبقيع بجوار مشهد الإمام مالك، وكانت جنازته حافلة، سنة اثنتين وتسعمائة، ولم يخلفه بعد مثله في مجموع فنونه (1).
(1) راجع ترجمته في "شذرات الذهب" لابن العماد الحنبلي (8/ 15 - 17) ، و"النور السافر عن أخبار القرن العاشر"(ص 10 - 12).