الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - باب: أُمُورِ الإِيمَانِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الآيَةَ.
قوله: (باب أمور الإيمان)، وللكُشْمَيْهني:"أمر الإيمان" بالإفراد عَلى إرادة الجنس، والمراد: بيان الأمور الَّتِي هِيَ الإيمان والأمور الَّتِي للإيمان.
قوله: (وقول الله) بالخفض، ووجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب يظهر من الحديث الَّذِي رواه عبد الرزاق (1) وغيره من طريق مُجاهد: أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فتلا عليه:{لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177] إلَى آخرها، ورجاله ثقات، وإنما لم يسقه المؤلف لأنه ليس عَلى شرطه، ووجهه: أن الآية حصرت التقوى عَلى أصحاب هذه الصفات، والمراد: المتقون من الشرك والأعمال السيئة، فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون، والجامع بين الآية والحديث: أن الأعمال مع انضمامها إلَى التصديق داخلة في مسمى البر، كما هيَ داخلة في مسمى الإيمان.
فإن قيل: ليس في المتن ذكر التصديق؟
أجيب: بأنه ثابت في أصل هذا الحديث كما أخرجه [49/ ب] مُسْلِم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الَّذي يذكر أصله وإن لم يسقه تامًا.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(11/ 128).
قوله: (قد أفلح المؤمنون) ذكره بلا أداة عطف، والحذف جائز، والتقدير: وقول الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، ويحتمل أن يكون ذكر ذلك تفسيرًا لقوله المتقون، أي: المتقون هم الموصوفون بقوله {قَدْ أَفْلَحَ} إلى آخرها.
وكأن المؤلف أشار إلَى إمكان عد الشُّعَب من هاتين الآيتين وشبههما، ومن ثَمَّ ذكر ابن حبان أنه عد كل طاعة عدها الله في كتابه من الإيمان وكل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، وحذف المكرر، فبلغت تسعًا وسبعين (1).
(1)"صحيح ابن حبان"(كتاب الإيمان، باب: فرض الإيمان)(1/ 193 - 194).
9 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيُمَانُ ابْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ".
قوله: (بضع) بكسر أوله، وحُكي الفتح لغة، وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلَى التسع، كما جزم به القزاز، وَقَالَ ابن سِيْدَه: إلَى العشر، وقيل: من واحد إلَى تسعة، وقيل: من اثنين إلَى عشرة، وعن الخليل: البضع: السبع.
ويرجح ما قاله القزاز ما رواه الترمِذيّ (1) بسندٍ صحيح أن قريشًا قالوا ذَلِكَ لأبي بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعًا (2).
* تنبيه:
وقع في بعض الروايات: "بضعة" بتاء التأنيث ويحتاج إلَى تأويل.
قوله: (وستون) لم تَختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذَلِكَ، وتابعه يحيى الحِمَّاني -بكسر المهملة وتشديد الميم-، عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو عوانة من طريق بِشْر بن عُمَر، عن سليمان بن بلال، فقال:"بضع وستون أو بضع وسبعون"، وكذا وقع التردد فيه في رواية مُسْلِم من طريق سُهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار (3)، ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه فقالوا:"بضع وسبعون"(4)، من غير شك، ولأبي عوانة في "صحيحه" من طريقه:"ست وسبعون أو سبع وسبعون".
(1)"جامع التّرمِذيّ"(كتاب التفسير، باب: سورة الروم) برقم (3191).
(2)
"تفسير الطبري"(سورة الروم، قوله تعالَى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ}).
(3)
"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها) برقم (35).
(4)
أخرجه أبو داود في "السنن"(كتاب السنة، باب: في رد الإرجاء) برقم (4676)، والترمذي في "جامعه"(كتاب الإيمان، باب: ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه) برقم (2614)، والنسائي في "الكبرى"(كتاب الإيمان وشرائعه، باب: ذكر شعب الإيمان)(6/ 532)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (8/ 110).
ورجح البيهقي رواية البخاري؛ لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمر عنه فتردد أيضًا، لكن يرجح بأنه المُتَيقَّنُ وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية التّرمِذيّ (1) بلفظ:"أربع وستون" فمعلولة، وَعَلى صحتها لا تخالف رواية البُخَاريّ، وترجيح رواية:"بضع وسبعون" لكونها زيادة ثقة لا يستقيم؛ إذ الَّذِي زادها لم يستمر عَلى الجزم بها لاسيما مع اتحاد المخرج [50/أ]، وبهذا تبين شفوف نظر البخاري.
قوله (شُعْبَة) بالضم أي: قطعة، والمراد: الخصلة أو الجزء.
قوله: (والْحَياء) هو بالمد، وهو في اللغة: تَغَيُّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وفِي الشرع: خُلُقٌ يبعث عَلى اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر:"الْحَياء خَيْر كله"(2).
فإن قيل: الحياء من الغرائز فكيف جُعِل شُعْبة من الإيمان؟
أجيب: بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تَخلقًا، ولكن استعماله عَلى وفق الشرع يحتاج إلَى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثًا عَلى فعل الطاعة، وحاجزًا عن فعل المعصية، ولا يقال: رُبَّ حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير؛ لأن ذَلِكَ ليس شرعيًّا.
فإن قيل: لِمَ أفرده بالذكر هنا؟
أجيب: بأنه كالداعي إلَى باقي الشُّعب، إذ الحَيِيُّ يخاف فضيحة الدُّنْيَا والآخرة فيأتمر وينزجر، والله الموفق.
* فائدة:
قَالَ القاضي عياض: تَكلَّف جماعة حصر هذه الشُّعب بطريق الاجتهاد، وفِي الحكم
(1)"جامع التّرمِذيّ"(كتاب الإيمان، باب: ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه) برقم (2614)، ولكن وقع فيه:"أربعة وستون بابًا".
(2)
أخرجه مُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان) برقم (37).
بكون ذَلِكَ هو المراد صعوبةٌ، ولا يقدح عدم معرفة ذَلِكَ عَلى التفصيل في الإيمان. انتهى
ولم يتفق من عد الشعب عَلى نَمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف عَلى بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه وما أذكره، وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن:
* فأعمال القلب: فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل عَلى أربع وعشرين خصلة:
1 -
الإيمان بالله ويدخل فيه الإيمان بذاته، وصفاته، وتوحيده بأن ليس كمثله شيء، واعتقاد حُدُوث ما دونه.
2 -
والإيمان بملائكته.
3 -
وكتبه.
4 -
ورسله.
5 -
والقدر خيره وشره.
6 -
والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المساءلة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار.
7 -
ومحبة الله.
8 -
والحب والبغض فيه.
9 -
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته.
10 -
والإخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق.
11 -
والتوبة.
12 -
والخوف.
13 -
والرجاء.
14 -
والشكر.
15 -
والوفاء.
16 -
والصبر.
17 -
والرضا بالقضاء.
18 -
والتوكل.
19 -
والرحمة.
20 -
والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير [50/ ب].
21 -
وترك التكبر (1) والعجب.
22 -
وترك الحسد.
23 -
وترك الحقد.
24 -
وترك الغضب.
* وأعمال اللسان: وتشتمل عَلى سبع خصال:
1 -
التلفظ بالتوحيد.
2 -
وتلاوة القرآن.
3 -
وتعلم العلم.
4 -
وتعليمه.
5 -
والدعاء.
6 -
والذكر ويدخل فيه الاستغفار.
7 -
واجتناب اللغو.
* وأعمال البدن: وتشتمل عَلى ثمانٍ وثلاثين خصلة:
* منها: ما يختص بالأعيان؛ وهي خَمس عشرة خصلة:
1 -
التطهر حسًا وحكمًا، ويدخل فيه اجتناب النجاسات.
2 -
وستر العورة.
3 -
والصلاة فرضًا ونفلًا.
4 -
والزكاة كذلك.
5 -
وفك الرقاب.
6 -
والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف.
7 -
والصيام فرضًا ونفلًا.
8 -
والحج والعمرة كذلك.
9 -
والطواف.
10 -
والاعتكاف.
11 -
والتماس ليلة القدر.
12 -
والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك.
13 -
والوفاء بالنذر.
14 -
والتحري في الأيمان.
15 -
وأداء الكفارات.
* ومنها: ما يتعلق بالأتباع؛ وهي ست خصال:
1 -
التعفف بالنكاح.
(1) في الفتح: "الكبر".
2 -
والقيام بحقوق العيال.
3 -
وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق.
4 -
وتربية الأولاد.
5 -
وصلة الرحم.
6 -
وطاعة السادة، أو الرفق بالعبيد.
* ومنها: ما يتعلق بالعامة؛ وهي سبع عشرة خصلة:
1 -
القيام بالإِمْرَة مع العدل.
2 -
ومتابعة الجماعة.
3 -
وطاعة أولي الأمر.
4 -
والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبُغَاة.
5 -
والمعاونة عَلى البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6 -
وإقامة الحدود.
7 -
والجهاد، ومنه المرابطة.
8 -
وأداء الأمانة، ومنه أداء الخُمُس.
9 -
والقرض مع وفائه.
10 -
وإكرام الجار.
11 -
وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله.
12 -
وإنفاق المال في حقه، وفيه ترك التبذير والإسراف.
13 -
ورد السلام.
14 -
وتشميت العاطس.
15 -
وكف الضرر عن الناس.
16 -
واجتناب اللهو.
17 -
وإماطة الأذى عن الطريق.
فهذه تسع وستون خصلة، ويُمكن عدها تسعًا وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلَى بعض مما ذكر، والله أعلم.
* تنبيه:
في الإسناد رواية الأقران، وهي رواية عبد الله بن دينار عن أبي صالح، لأنهما تابعيان، فإن وجدت رواية أبي صالح عنه صار من المْدَبَّج، ورجاله من سليمان إلَى منتهاه من أهل المدينة، وقد دخلها الباقون.