الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
22 - بابٌ: الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكفِّرُ صَاحِبُهَا بارْتِكابهَا إِلا بالشِّرْكِ
لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة"
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فَسَمَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ
30 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ: حَدَّثَنَا أيُّوبُ، وَيُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: ذَهَبْتُ لأنصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَني أبو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ:"إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ".
31 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبةُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنِ الْمَعْرُورِ، قَالَ: لَقِيتُ أَبا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنّي سَابَبْتُ رَجُلًا، فَعَيَّرتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أبا ذَرٍّ، أَعيَّرتَهُ بِأُمِّهِ إِنكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ".
قوله: (باب) هو منون، وقوله:(المعاصي) مبتدأ، و (من أمر الجاهلية) خبره، والجاهلية: ما قبل الإسلام.
وقوله: (ولا يُكَفِّر) بتشديد الفاء المفتوحة، وفي رواية أبي الوقت بفتح أوله وإسكان الكاف.
وقوله: (إلا بالشرك) أي: أن كل معصية توجد من ترك واجب أو فعل مُحرم فهي من أخلاق الجاهلية، والشرك أكبر المعاصي، ولهذا استثناه.
ومحصل الترجمة: أنه لما قَدَّم أن المعاصي يُطلق عليها الكفر مجازًا عَلى إرادة كفر النِّعْمَة لا كفر الجَحْد أراد أن يُبين أنه كفر لا يُخرج عن الملة، خلافًا للخوارج الذين يُكَفِّرون بالذنوب، ونص القرآن يرد عليهم، وهو قوله تعالَى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 ، 116]. فَصَيَّر ما دون الشرك تحت إمكان المغفرة، والمراد بالشرك في هذه الآية: الكفر؛ لأن من جحد نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مثلًا كَانَ كافرًا ولو لم يجعل مع الله إلهًا آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف، وقد يرد الشرك ويراد به ما هو أخص [73 / أ] من الكفر، كما في قوله تعالَى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1].
واستدل المؤلف أيضًا عَلى أن المؤمن إذا ارتكبَ معصية لا يكفر بأن الله أبقى عليه اسم الإيمان، فقال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، ثم:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].
واستدل أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما"، فسماهما مُسْلِمَيْنِ مع التوعد بالنار، والمراد هُنَا: إذا كانت المقاتلة بغير تأويل سائغ.
واستدل أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "فيك جاهلية"، أي: خصلة جاهلية، مع أن منْزلة أبي ذر من الإيمان في الذروة العالية، وإنما وَبَّخه بذلك عَلى عظيم منزلته عنده تحذيرًا له عن معاودة مثل ذَلِكَ؛ لأنه وإن كَانَ معذورًا بوجهٍ من وجوه العذر لكن وقوع ذَلِكَ من مثله يُسْتَعْظَم أكثر ممن هو دونه.
وقد وضح بهذا وجه دخول الحديثين تحت الترجمة، وهذا عَلى مقتضى هذه الرواية رواية أبي ذر عن مشايخه، لكن سقط حديث أبي بكرة من رواية المُسْتَملي، وأما رواية الأصيلي وغيره فأفرد فيها حديث أبي بكرة بترجمة:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات: 9] ، وكل من الروايتين جمعًا وتفريقًا حسنٌ.
والطائفة: القطعة من الشيء، يُطلق عَلى الواحد فما فوقه عند الجمهور.
وأما اشتراط حضور أربعة في رجم الزاني مع قوله تعالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} [النور: 2]، فالآية واردة في الجلد ولا اشتراط فيه، والاشتراط في الرجم بدليل آخر.
وأما اشتراط ثلاثة في صلاة الخوف مع قوله تعالَى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]، فذلك لقوله تعالَى:{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]. فذكره بلفظ الجمع وأقله ثلاثة عَلى الصحيح.
قوله: (حَدَّثَنا أيوب) هو السَّخْتياني.
و(يونس) هو ابن عُبَيْد.
(عن الحسن) هو ابن أبي الحسن البصري.
و(الأحنف بن قيس) مخضرم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم لكن قبل إسلامه، وكان رئيس بني تَميم في الإسلام، وبه يُضرب المثل في الحِلْم.
وقوله: (ذهبت لأنصر هذا الرجل) يعني: عليًّا، كذا هو في مُسْلِم من هذا الوجه (1)، وقد أشار إليه المؤلف في الفتن، ولفظه:"أريد نُصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2)، زاد الإسماعيلي في روايته:"يعني: عليًّا".
و(أبو بكرة) بإسكان الكاف هو الصحابي المشهور، وكان الأَحْنَف أراد أن يخرج بقومه إلَى علي بن أبي طالب ليقاتل معه يوم الجَمَل فنهاه أبو بكرة فرجع، وحمل أبو بكرة الحديث عَلى عمومه في كل مُسْلِمَيْنِ التقيا بسيفيهما حسمًا للمادة، وإلا فالحق أنه محمول عَلى ما إذا كَانَ القتال منهما بغير تأويل سائغ كما قدمناه، ويُخَص ذلِكَ من عموم الحديث المتقدم بدليله الخاص في قتال أهل البَغْي، وقد رجع الأَحْنف عن رأي أبي بكرة في ذَلِكَ، وشهد مع عَليٍّ باقي حروبه، وسيأتي باقي الكلام عَلى حديث أبي بكرة في كتاب الفتن إن شاء الله تعالَى.
(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما) برقم (2888).
(2)
"صحيح البُخَاريّ"(كتاب الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما) برقم (7083).
ورجال إسناده كلهم بصريون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وهم: أيوب، والحسن، والأَحْنَف.
قوله: (عن واصل) هو: ابن حَيَّان، وللأصيلي:"هو الأحْدَب"، وللمصنف في العتق:"حَدَّثنَا وَاصِلٌ الأَحْدَب"(1).
قوله: (عن المَعْرُور) وفي العتق: "سمعت المعرور بن سُويد"(2)، وهو بمهملات ساكن العين.
قوله: (بالرَّبذة) هو بفتح الراء والموحدة والمعجمة موضع بالبادية، بينه وبين المدينة ثلاث مَراحل.
قوله: (وعليه حُلَّة، وَعَلى غلامه حُلَّة) هكذا رَوَاهُ أكثر أصحاب شُعْبَة عنه، لكن في رواية الإسماعيلي من طريق مُعَاذ، عن شُعْبَة:"أتيتُ أبا ذر فإذا حلة عليه منها ثوب وَعَلى عبده منها ثوب"، وهذا يوافق ما في اللغة أن الحُلَّة: ثوبان من جنس واحد، ويؤيده ما في رواية الأعمش، عن المَعْرور عند المؤلف في الأدب بلفظ:"رأيتُ عليه بُرْدًا وَعَلى غلامه بُرْدًا، فقلتُ: لو أخذت هذا فلبسته كانت حُلَّة"(3).
وفي رواية مُسْلِم: "فقلنا: يا أبا ذر، لو جمعت بينهما كانت حُلَّة"(4).
ولأبي داود: "فقال القوم: يا أبا ذر، لو أخذت الَّذِي عَلى غلامك فجعلته مع الَّذِي عليك لكانت حُلَّة"(5).
(1)"صحيح البُخَاريّ"(كتاب العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون") برقم (2545).
(2)
"صحيح البُخَاريّ"(كتاب العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون") برقم (2545).
(3)
"صحيح البُخَاريّ"(كتاب الأدب، باب: ما ينهى عن السباب واللعن) برقم (6050).
(4)
"صحيح مُسْلِم"(كتاب الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه) برقم (1661).
(5)
"سنن أبي داود"(كتاب الأدب، باب: في حق المملوك) برقم (5157).
فهذا موافق لقول أهل اللغة؛ لأنه ذكر [أن](1) الثوبين يصيران بالجمع حُلَّة، ولو كَانَ كما في الأصل عَلى كل واحد منهما حُلَّة لكان إذا جمعهما يَصير عليه حُلَّتان.
ويُمكن الجمع بين الروايتين: بأنه كَانَ عليه بُرْد جيد تحته ثوب خَلِق من جنسه وَعَلى غلامه كذلك، وكأنه قيل له: لو أخذت البُرْد الجيد فأضفته إلَى البُرْد الجيد الَّذِي عليك، وأعطيت الغلام البُرْد الخَلِق بدله لكانت حُلَّة جيدة فتلتئم بذلك الروايتان، ويحمل قوله في حديث الأَعْمَش:"لكانت حلة"، أي: كاملة الجودة، فالتنكير فيه للتعظيم، والله أعلم.
وغلام أبي ذر المذكور لم يُسم، ويحتمل أن يكون أبا مُرَاوح مولَى أبي ذر، وحديثه عنه في الصحيحين (2).
قوله: (فسألته) أي: عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه؛ لأنه عَلى خلاف المألوف، فأجابه بحكاية القصة التِي كانت سببًا لذلك.
قوله: (ساببت) في رواية الإسماعيلي: "شاتمت"، وفِي الأدب للمؤلف: وكانَ بيني وبين رجل كلام" (3). وزاد مُسْلِم: "من إخواني" (4)، وقيل: إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولَى أبي بكر، روى ذَلِكَ الوليد بن مُسْلِم منقطعًا.
قوله: (فعيرته بأمه) أي: نسبته إلَى العار، زاد في الأدب:"وكانت أمه أعجمية فنلت منها"(5)، وفِي رواية:"قُلْتُ له: يا ابن السوداء"(6)، والأعجمي: من لا يفصح باللسان
(1) زيادة من "الفتح".
(2)
"صحيح البخاري"(كتاب العتق، باب: أي الرقاب أفضل) برقم (2518)، و"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال) برقم (84).
(3)
"صحيح البخاري"(كتاب الأدب، باب: ما ينهى عن السباب واللعن) برقم (6050).
(4)
"صحيح مُسْلِم"(كتاب الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه) برقم (1661).
(5)
"صحيح البخاري"(كتاب الأدب، باب: ما ينهى عن السباب واللعن) برقم (6050).
(6)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(باب: في حفظ اللسان، فصل: ومما يجب حفظ اللسان منه الفخر بالآباء وخصوصًا بالجاهلية والتعظيم)(4/ 288)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(10/ 464).
العربي، سواء كَانَ عربيًّا أو عجميًّا، والفاء في "فعيرته" قيل: هِيَ تفسيرية، كأنه بَيَّن أن التعيير هو السب، والظاهر أنه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير فتكون عاطفة، ويدل عليه رواية مُسْلِم:"قَالَ: أعيرته بأمه فقلت: من سب الرجال سبوا أباه وأمه"(1).
ويظهر لي: أن ذلِكَ كَانَ من أبي ذر قبل أن يعرف [تحريمه](2)، فكانت الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قَالَ كما عند المؤلف في الأدب:"قُلْتُ: عَلى ساعتي هذه من كبر السن؟ ! قَالَ: نعم"(3)، كأنه تعجب من خفاء ذلِكَ عليه مع كبر سنه، فذكر له وجه كون هذه الخصلة مذمومة شرعًا، فكان بعد ذَلكَ يساوي غلامه في الملبوس وغيره آخذًا بالأحوط، وإن كَانَ لفظ الحديث يقتضي اشتراط [المواساة لا](4) المساواة، وسنذكر ما يتعلق ببقية ذَلكَ في كتاب العتق حيث ذكره المصنف (5) إن شاء الله تعالَى.
(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه) برقم (1661).
(2)
مكانها بياض بالأصل، وزدناها من "الفتح".
(3)
"صحيح البخاري"(كتاب الأدب، باب: ما ينهى عن السباب واللعن) برقم (6050).
(4)
مكانها بياض بالأصل، وزدناها من "الفتح".
(5)
"صحيح البُخَاريّ"(كتاب العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون") برقم (2545).